(الصفحة 101)
في مناقبه عن التفسير الموجود الذي رواه الأسترابادي ، فيظهر من ذلك عدم انحصار السند بالأسترابادي ، ومع ذلك كلّه فلا يحصل للنفس اطمئنان بالكتاب المذكور ، خصوصاً مع ملاحظة اشتماله على ما لا يوجد في غيره من المعاجز الغريبة والقصص الطويلة .
وأمّا من جهة الدلالة : فربما يقال كما قيل بأنّ الرواية لا تدلّ على اعتبار أزيد من الوثاقة ; لأنّها وردت في مقام بيان ما هو الفارق بين عوامنا وعوام اليهود في تقليدهم علماءهم ، نظراً إلى أنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح ، وأكل الحرام والرشا ، وتغيير الأحكام ، والتفتوا إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله ، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله ، ومع هذا قلّدوهم، فلذلك ذمّهم الله ، ثمّ بيّن(عليه السلام) أنّ عوامنا أيضاً كذلك إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر ، والعصبيّة الشديدة ، والتكالب على الدنيا وحرامها ، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود «فأمّا من كان من الفقهاء» الخ ، فحاصل كلامه(عليه السلام) : أ نّه إنّما يجوز ممّن هو مورد الوثوق ومأمون عن الخيانة والكذب ، ولا دلالة له على اعتبار أزيد من الوثاقة بوجه(1) .
ولكنّه يرد على هذا القول بأنّ صدر الرواية وإن كان في مقام مذمّة اليهود ومذمّة عوامنا إذا كانوا مثل عوامهم ، إلاّ أنّ ذيلها وهو قوله(عليه السلام) : «فأمّا من كان من الفقهاء» الخ ، في مقام إفادة ضابطة كلّية وقاعدة عامّة لمورد جواز التقليد ، ومن الواضح أنّ القيود المأخوذة في هذه الضابطة لا تكاد تنطبق على أقلّ من العدالة المصطلحة ، ومع ملاحظة هذا الذيل المشتمل على الضابطة لا محيص عن الالتزام
(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 222 ـ 223.
(الصفحة 102)
باعتبار العدالة ; لعدم المنافاة بينه وبين صدره الوارد في مقام مذمّة اليهود ومذمّة عوامنا إذا كانوا مثلهم ، كما هو ظاهر .
ثمّ إنّه ربما يستدلّ على اعتبار العدالة ـ المستلزم لاعتبار العقل والإيمان بل البلوغ أيضاً ـ بأنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة الواصل ذلك إليهم يداً بيد عدم رضى الشارع بزعامة من لا عدالة له ، فضلا عمّن لا إيمان له أو لا عقل له ; فإنّ المرجعيّة في التقليد من أعظم المناصب الإلهيّة بعد الولاية ، وكيف يرضى الشارع الحكيم أن يتصدّى لمثلها من لا قيمة له لدى العقلاء والشيعة المراجعين إليه ، خصوصاً بعد ملاحظة عدم رضى الشارع بإمامة من هو كذلك في الجماعة ، حيث اشترط في إمام الجماعة العدالة ، فما ظنّك بالزعامة العظمى التي هي من أعظم المناصب بعد الولاية(1) .
ومرجع هذا الوجه إلى الأولويّة القطعيّة بالإضافة إلى اعتبار العدالة في الزعامة والمرجعيّة ، التي هي الفضيلة المتوسّطة بين منصب الولاية ، الذي يعتبر فيه العصمة ، وبين منصب الإمامة للجماعة الذي لا يكفي فيه أقلّ من العدالة المصطلحة ، فإذا كانت العدالة معتبرة فيه قطعاً ، فاعتبارها في المنصب الذي هو فوق هذا المنصب بدليل اعتبار الاجتهاد وملكة الاستنباط بطريق أولى .
لا يقال : الأولويّة ممنوعة ، والسند عدم اعتبار العدالة في الراوي الذي هو مستند المجتهد باعتبار روايته في الوصول إلى الحكم واستنباطه ، فإذا كان مجرّد الوثاقة كافياً في الراوي كما هو الحقّ ففي المجتهد أيضاً كذلك ، ويؤيّده عدم اعتبار أزيد من الوثاقة في السيرة العقلائيّة التي هي الأساس في باب التقليد ورجوع
(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 223
(الصفحة 103)
الجاهل إلى العالم ، كما مرّ مراراً(1) .
فإنّه يقال : قياس المرجعيّة بباب الراوي والرواية مع الفارق; فإنّه لا يعتبر في الراوي بما هو راو أزيد ممّا يعتبر في سائر الإخبارات والحكايات ; فإنّ الرواية مصداق من مصاديق الخبر والحكاية ، ولا يعتبر فيه عند العقلاء والشارع أزيد من الوثاقة الموجبة للاعتماد بصدق الراوي ، وعدم تعمّده للكذب و بيان خلاف الواقع . وأمّا المرجعيّة في الفتوى فهي من المناصب الإلهية ، ولها خصوصيّات وشرائط زائدة على الخصوصيّات المعتبرة عند العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالم ، فإذا كانت العدالة معتبرة في منصب الإمامة للجماعة مع أ نّه منصب جزئيّ لا يبلغ من الأهميّة منصب المرجعيّة بوجه ، فاعتبارها في المرجع بطريق أولى .
فالإنصاف تماميّة هذا الوجه وعدم جواز المناقشة في اعتبار العدالة في المجتهد الذي يرجع إليه للتقليد وأخذ الفتوى .
الخامس : الرجوليّة ، غير خفيّ أنّ السيرة العقلائيّة التي هي الأساس في باب التقليد والعمدة في جوازه ، لا فرق فيها بين أن يكون العالم الذي يرجع إليه الجاهل رجلا أو امرأة ، فلابدّ في إثبات الاختصاص بالرجل في الشرع من إقامة دليل رادع عن هذه الطريقة وإعمالها في الشريعة ، وما يمكن أن يكون رادعاً أُمور :
أحدها : مشهورة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال : قال أبو عبدالله جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) : إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا خ ل)(2) .
(1) في ص68 ـ 71 ، 92 ، 98 .
(2) ستأتي بكاملها في ص111 ـ 112.
(الصفحة 104)
وقد أُورد على الاستدلال بها لاعتبار الرجولية تارة بأنّ ذكر «الرجل» لا دلالة فيه على دخالته واعتباره ; لأنّ ذكره إمّا يكون لأجل كونه أحد المصاديق ، كما في قوله: «رجل شك بين الثلاث والأربع» وأشباهه ، وإمّا لأجل أنّ الغالب المتعارف في القضاء هو الرجوليّة ، بل لم تستعهد قضاوة النساء ولو في مورد واحد ، فأخذ عنوان الرجوليّة من باب الغلبة لا من جهة التعبّد وإفادة الحصر ، وأُخرى بأنّ الرواية واردة في باب القضاء ، ولم يقم دليل على ثبوت الملازمة بينه ، وبين باب الإفتاء فضلا عن الأولويّة ، كما لا يخفى(1) .
ويمكن الجواب عن الإيراد الأوّل بأنّ ذكر «الرجل» في مقام إلقاء الضابطة الكليّة وإفادة القاعدة العامّة ظاهر في الاختصاص والدخالة ، واحتمال كونه أحد المصاديق ، أو كون ذكره من باب الغلبة لا مجال له مع ظهور القيد في الاحتراز ، كما هو الأصل في باب القيود المأخوذة في الموضوعات .
وبالجملة مع احتمال مدخليّة القيد لا وجه لرفع اليد عن الظهور إلاّ أن يقوم دليل على العدم ، كما في المثال المذكور .
وأمّا الإيراد الثاني: فالظّاهر وروده ; فإنّ اعتبار الرجوليّة في القاضي الذي يرجع إليه المترافعان ـ ولازمه تحقّق التشافه ـ لا دلالة فيه على اعتبارها في المرجع الذي لا يكون المهم إلاّ آراؤه ونظراته ، وربما تكون مجموعة في رسالة منتشرة لايحتاج المقلِّد إلى الرجوع إلى شخصه طيلة حياته ، مع أنّ القاضي لابدّ وأن يكون رجلا حتى يمكن له حفظ التعادل ، ولا يقع متأثّراً عن دعوى المدّعي أو إنكار
(1) المورد هو المحقّق الإصفهاني في بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 68، والسيّد الخوئي في التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 225.
(الصفحة 105)
المنكر ، والنساء بعيدة عن المتانة وعدم التأثّر بمراحل ، وأين هذا من المرجعيّة التي لا يعتبر فيها شيء من ذلك ، فقيام الدليل على اعتبار الرجولية في القاضي لا يلازم الدلالة على اعتبارها في باب الإفتاء بوجه .
ثانيها : مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة . وفيها : ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا(1) .
ويرد على الاستدلال بها ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم الملازمة بين باب القضاء وباب الإفتاء ـ عدم الدلالة على اعتبار الرجولية في باب القضاء أيضاً ; فإنّ قوله(عليه السلام) : «من كان» مطلق لا اختصاص له بالرجال ، وضمير الجمع المذكور لايفيد ذلك بوجه ; لأنّ النظر إنّما هو إلى اعتبار المماثلة في الإيمان والاعتراف بالولاية والإمامة ، كما هو غير خفيّ .
ثالثها : قوله(عليه السلام) في رواية الاحتجاج المتقدّمة(2) : «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه» الخ ، فإن فرض الموضوع الفقيه المذكور باعتبار الجمع يمكن أن يقال بدلالته على الاختصاص ، وعدم سعة دائرة التقليد بنحو يشمل النساء أيضاً ، فتأمّل .
رابعها : وهو العمدة، الأولويّة القطعيّة للمقام بالإضافة إلى باب الإمامة للجماعة، الذي لم يرض الشارع فيه بإمامة المرأة للرجال في صلاة الجماعة ; فإنّه إذا لم يجز للمرأة التصدّي لمنصب الإمامة مع أ نّه من المناصب التي لا يبلغ من الأهمّيّة والعظمة منصب المرجعيّة والزعامة، فعدم جوازتصدّيهالذلك المنصب بطريق أولى .
(1) ستأتي في ص 110 ـ 111 .
(2) في ص82 ـ 83.
(الصفحة 106)
نعم ، نتيجة هذا الدليل عدم جواز رجوع الرجال إليها في أخذ الفتوى والعمل عليها ، وأمّا عدم جواز رجوع النساء أيضاً مع أ نّه يجوز لها الإمامة للنساء فلابدّ من الاستدلال له بعدم القول بالفصل في المقام قطعاً ; ضرورة أ نّه لم يحتمل أحد الفرق في المقام بين رجوع الرجال ورجوع النساء ، كما لا يخفى .
فانقدح من جميع ذلك اعتبار الرجوليّة في المرجعيّة ، خصوصاً مع وضوح مذاق الشارع بالإضافة إلى هذه الطائفة التي لا تكون الوظيفة المرغوبة منهنّ إلاّ التستّر والجهات الراجعة إلى الأُمور البيتيّة الداخلية ، لا الاجتماعية المطلوبة من الرجال .
السادس : الحرّيّة ، وقد حكي عن جماعة ، منهم : الشهيد الثاني(قدس سره) اعتبارها(1) ، بل نسب إلى المشهور(2) ، ونسبه صاحب العروة إلى القيل مشعراً بتردّده فيه ، بل ميله إلى العدم (3)، وهو الأقوى ; لعدم ثبوت الردع عن السيرة العقلائيّة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم ، بلا فرق بين أن يكون العالم حرّاً أو مملوكاً .
وقد مرّ مراراً أ نّها هي الأساس والعمدة في باب التقليد ورجوع العامّي إلى المجتهد في الأحكام الشرعيّة(4) ، ومجرّد كون المملوك غير قادر على شيء كما وصف الله ـ تبارك وتعالى ـ إيّاه بقوله عزّ من قائل : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَىْء}(5) لا دلالة فيه على عدم صلاحيّته للمرجعيّة ; فإنّ عدم القدرة مرجعه إلى عدم الاستقلال وافتقار أعماله وأفعاله إلى رضا المولى وإذنه أو إجازته ،
(1) الروضة البهية : 3 / 62 .
(2) مسالك الأفهام : 13/330 ، رياض المسائل : 9/244 .
(3) العروة الوثقى : 1/9 مسألة 22 .
(4) في ص68 ـ 69 ، 71 ، 92 ، 98 ، 103 .
(5) سورة النحل : 16/75 .
(الصفحة 107)
وعدم الاستقلال لا يلازم عدم الصلاحيّة لها ، كما أ نّه ليس منقصة موجبة للسقوط عن الوقار والأنظار ; لعدم مدخلية الرقيّة في تنقيص الجهات الكماليّة الدنيويّة أو الاُخرويّة ، كما هو ظاهر .
السابع : كونه مجتهداً مطلقاً ، لا خفاء في أنّ المجتهد المتجزّئ ـ بناءً على إمكان التجزّئ في الاجتهاد وجواز حصول مرتبة من ملكة الاستنباط بحيث يقتدر بها على استنباط بعض المسائل كما هو الحقّ ـ يجوز له بل يجب عليه أن يعمل على طبق آرائه ونظراته ، ولا يجوز له الرجوع فيما استنبطه أو فيما يقدر على استنباطه من المسائل ـ على الخلاف المتقدّم(1) ـ إلى الغير ; لعدم وجود ملاك التقليد فيه ; فإنّ مناطه رجوع الجاهل إلى العالم لا العالم إلى مثله ، خصوصاً مع اختلافهما في النظر واعتقاد خطأ الغير واشتباهه .
وأمّا جواز رجوع العامّي إلى المتجزّئ في خصوص ما استنبطه من الأحكام فمحلّ إشكال ، وقد صرّح صاحب العروة(قدس سره) بعدم الجواز(2) ، وهو ظاهر سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن دام ظلّه ; فإنّ ظاهر اعتبار كونه مجتهداً هو اعتبار كونه مجتهداً مطلقاً ، ولكنّه لابدّ في هذا الأمر ـ كسائر الأُمور المتقدّمة ـ من إقامة الدليل على ثبوت الردع عن السيرة العقلائيّة في محيط الشريعة بالإضافة إلى هذه الخصوصيّة ، ومع عدم ثبوته يكون مقتضى السيرة عدم الفرق بين المطلق والمتجزّئ ; ضرورة أنّ العقلاء يرجع جاهلهم في شيء إلى العالم بذلك الشيء ، ولا يعتبرون العلم بغيره أصلا ، بل ربما يرجّحون المتجزّئ على غيره فيما إذا كان
(1) في ص24 ـ 27 .
(2) العروة الوثقى : 1/9 مسألة 22 .
(الصفحة 108)
أعلم فيما استنبطه من المطلق ; لممارسته فيه وصرف عمره في الجهات والخصوصيّات الراجعة إليه .
وبالجملة : لا إشكال في عدم الفرق من جهة السيرة بين المطلق والمتجزّئ ، فلابدّ للقائل بالفرق من إقامة دليل على الردع .
فنقول : ما يمكن أن يكون رادعاً أُمور :
الأوّل : آية النفر المتقدّمة(1) الدالّة على اعتبار إنذار «الفقيه» وترتيب الأثر على قوله ورأيه .
وفيه : ـ بعد الغضّ عن عدم دلالة الآية على جواز التقليد بالكيفيّة التي هي محلّ البحث ، كما أسلفنا فيه الكلام مفصّلا(2) ـ :
أوّلا : أنّ غاية مفاد الآية حجّية قول الفقيه ، ولا دلالة لها على حصر الحجيّة فيه حتى تصلح للردع عن السيرة ، ومجرّد إثبات الحجيّة لرأي الفقيه لا ينافي ثبوتها لرأي غيره من المتجزّئ الذي استنبط واحداً أو اثنين من الأحكام الإلهيّة إلاّ إذا استفيد الانحصار ، والآية بعيدة عن إفادته .
وثانياً : أنّ المراد من «الفقيه» المذكور في الآية ليس إلاّ العارف بكثير من المسائل الفقهيّة ، لا خصوص المجتهد المطلق الذي يكون له ملكة استنباط جميع المسائل . وبعبارة أُخرى : النسبة بين عنوان «الفقيه» وعنوان «المجتهد المطلق» عموم وخصوص من وجه ; ضرورة أ نّه ربما لا يكون الفقيه مجتهداً مطلقاً ، كما فيما إذا لم تكن له تلك الملكة ، وربما لا يكون المجتهد المطلق فقيهاً ، كما فيما إذا لم يتصدّ المطلق للاستنباط أصلا ، وإن كانت الملكة حاصلة له .
(1 ، 2) ص71 ـ 77 .
(الصفحة 109)
ودعوى أنّ الملكة تتوقّف على الاستنباط فكيف يمكن حصولها بدونه؟ مدفوعة بأنّ الاستنباط يتوقّف على الملكة ، فلو كانت الملكة متوقّفة عليه لدار ، من دون فرق في هذه الجهة بين المطلق والمتجزّئ ، فكما أنّ الملكة في الثاني تكون متقدّمة على الاستنباط ، فكذلك في الأوّل ، وعليه : فلا دلالة للآية على اعتبار الاجتهاد المطلق بوجه .
الثاني : آية السؤال المتقدّمة(1) أيضاً ، ودلالتها على وجوب السؤال عن خصوص أهل الذكر ، وإن كانت ظاهرة باعتبار ظهور الوجوب في الوجوب التعييني عند دوران الأمر بينه وبين التخييري ، كما حقّق في محلّه من الاُصول(2) ، إلاّ أ نّه يرد على الاستدلال بها تارة : عدم دلالتها على حجيّة فتوى الفقيه ورأي المجتهد بوجه ، لا بلحاظ سياقها الظاهر في كون المراد بأهل الكتاب هم علماء اليهود والنصارى ، ولا بلحاظ ما ورد في تفسيرها من كون المراد به الأئـمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين(3) . واُخرى : عدم ملازمة الأهليّة للذكر للاجتهاد المطلق ; لما بيّنا من أنّ النسبة بين العنوانين عموم من وجه .
الثالث : رواية الاحتجاج المتقدّمة(4) المشتملة على قوله(عليه السلام) : «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه الخ» . وقد مرّ الكلام في سندها وما يتعلّق بالتفسير المنسوب إلى العسكري(عليه السلام)(5). وأمّا دلالتها ، فربما يقال : إنّ دلالتها على
(1) في ص 77 .
(2) اُصول فقه شيعه: 3/420 ـ 434.
(3) الكافي : 1 / 210 ، باب أنّ أهل الذكر . . . هم الأئمّة(عليهم السلام) .
(4) في ص82 ـ 83 .
(5) في ص99 ـ 101 .
(الصفحة 110)
الحصر مورد المناقشة ; لأنّ الرواية ليست بصدد بيان أنّ المقلَّد ـ بالفتح ـ يعتبر أن يكون فقيهاً ، وإنّما هي بصدد بيان الفارق بين علماء اليهود وعلمائنا ، وعوامهم وعوامنا ، وأنّ عوامهم مع أنّهم كانوا يعرفون علماءهم بأنواع الفسق والفجور ، والتفتوا إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز تقليده واتّباعه ، قد قلّدوهم واتّبعوا آراءهم ، ولذلك ذمّهم الله سبحانه . وأمّا عوامنا فلا يكونون مثلهم إلاّ إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر ، ومع ذلك لم يرفعوا يدهم عن تقليدهم ، فهم أيضاً مثل عوام اليهود ، فالرواية بصدد بيان الفارق من هذه الجهة وليست بصدد بيان اعتبار الفقاهة بوجه .
والجواب عن هذا الكلام ما ذكرنا سابقاً(1) من أنّ اشتمال الرواية على بيان قصّة علماء اليهود وعوامهم ، والفرق بين عوامنا وعوامهم لا يلازم عدم كون ذيلها متعرّضاً لبيان ضابطة كلّيّة وقاعدة عامّة لمن يجوز الرجوع إليه وتقليده في المسائل . والظاهر كونه مسوقاً لذلك وأ نّه بصدد بيان القاعدة حتى تكون هي المرجع في الباب ، ومن الواضح أنّ أخذ الفقاهة في الموضوع ظاهر في الخصوصيّة والمدخليّة ، وأنّه لا يجوز تقليد غير الفقيه والرجوع إليه في آرائه .
نعم ، يرد على الاستدلال بها ما ذكرنا في آية النفر من عدم ملازمة الفقاهة للاجتهاد المطلق ، وكون النسبة بين العنوانين عموماً من وجه .
الرابع : مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة (2)، المشتلمة على قوله(عليه السلام) : ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا
(1) في ص101 ـ 102 .
(2) تقدّمت في ص96 و 105 .
(الصفحة 111)
فليرضوا به حكماً(1) ; فإنّ المصدر المضاف وكذا الجمع المضاف يفيدان العموم ،
فاللازم حصول الملكة المطلقة التي يقتدر بها على استنباط جميع الأحكام من أدلّتها ، ودلالتها على الحصرواضحة بعد كونها بصدد بيان القيود المعتبرة فيمن يجوز أن يرضوا به حكماً.
ولكنّه يرد على الاستدلال بها ـ مع الغضّ عن الكلام في سندها ، وعن عدم دلالتها على حكم المقام; لورودها في باب القضاء الذي لا ملازمة بينه وبين باب الإفتاء ـ : أ نّه لا مجال لحمل الرواية على كون المراد بها هو معرفة جميع الأحكام والنظر في جميع المحلّلات والمحرّمات ; ضرورة امتناع المعرفة الفعليّة والنظر الفعلي في جميعها ، وحمل المعرفة والنظر على قوّة المعرفة وملكة النظر ـ مع أ نّه مناف لظاهر هذين اللفظين ـ مخالف لقوله : «روى حديثنا» ; فإنّه من الواضح أ نّه ليس المراد منه إلاّ الرواية الفعليّة ، لا الصلاحيّة للرواية والقابليّة لها ، كما لا يخفى .
فاللازم ـ بعد عدم كون المراد به هو رواية الحديث ولو واحداً ، والنظر في الحلال والحرام كذلك ـ حمل الرواية على كون المراد هو الذي ينطبق عليه عُرفاً أ نّه راوي أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) والناظر في حلالهم وحرامهم، والعارف بأحكامهم ، وهو يصدق بالنظر في جملة معتدّ بها من المسائل ومعرفة شيء كثير من أحكامهم ، وعليه : فلا دلالة لهذه الرواية أيضاً على اعتبار الاجتهاد المطلق أصلا .
ثمّ إنّه ربما يقال بأ نّه يعارض المقبولة في نفس موردها حسنة أبي خديجة
المعروفة المتقدّمة أيضاً ، المشتملة على قول أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق(عليهما السلام) : إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل
(1) الكافي : 1 / 67 قطعة من ح10 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 137 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 قطعة من ح1 .
(الصفحة 112)
منكم يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا خ ل) فاجعلوه بينكم ; فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه(1) .
نظراً إلى أنّها تدلّ على أنّ العلم ببعض أحكامهم وقضاياهم كاف في باب القضاء ; لظهور كلمة «من» في التبعيض ، ولا يمكن أن تكون بيانيّة ; لأ نّه ـ مع مخالفته لظاهر مثل هذا التعبير كما هو غير خفيّ ـ يلزم على هذا التقدير أن يقال : «أشياء من قضايانا» أو بنحو الجنس كما في قوله تعالى : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاَْوْثَـنِ}(2) .
وبالجملة : لا مجال للمناقشة في دلالة الرواية على كفاية العلم بالبعض نظراً
إلى كلمة «من» . ولا فرق من هذه الجهة بين ما ورد على طريق الشيخ(قدس سره) في التهذيب(3) من قوله: «من قضايانا» وما ورد على طريق الكليني(4) والصدوق(قدس سرهما)(5)من قوله(عليه السلام) : «من قضائنا» ; ضرورة أنّ كلمة «القضاء» بنحو الإفراد لا ظهور
فيها في خصوص الحكم في مقام الترافع ، بل هو بمعنى طبيعة الحكم وماهيّته ، فالاختلاف بينه وبين قوله : «قضايانا» إنّما هو في الإفراد والجمع كما هو
غير خفي ّ.
وبالجملة : فالحسنة تعارض المقبولة بحسب الظاهر .
(1) وسائل الشيعة: 27 / 13 ، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب1 ح 5 ، وقد تقدّمت قطعة منها في ص96 و 103 .
(2) سورة الحجّ : 22 / 30 .
(3) تهذيب الأحكام : 6 / 219 ح 516.
(4) الكافي : 7 / 412 ح4 .
(5) الفقيه : 3 / 2 ح1 .
(الصفحة 113)
ولكن مقتضى الجمع العرفي بين الروايتين ـ بعد عدم ظهور المقبولة في اعتبار المعرفة بجميع الأحكام كما عرفت ، وعدم دلالة الحسنة على تقدير التبعيض أيضاً على كفاية مجرّد العلم ببعض الأحكام ولو واحداً أو اثنين ; لأ نّه مضافاً إلى عدم المناسبة حينئذ بين الحكم والموضوع ، ضرورة أنّ مجرّد العلم بحكم واحد لا يوجب صلاحية العالم به لأن يصير حكماً ، يكون المتفاهم عرفاً من هذا التعبير بعد كون أحكامهم وعلومهم كثيرة جدّاً ، بل غير متناهية بالإضافة إلى غيرهم من البشر ، هو العلم بجملة معتدّ بها من أحكامهم كما في نظائر المقام ; فإنّه لا يقال لمن عنده درهم : إنّ عنده شيئاً من المال ، ولمن عرف مسألة واحدة من علم النحو مثلا أنّه لا يكون خالياً عن هذا العلم ـ أن يقال :
إنّه لابدّ من أن يكون عنده مقدار من أحكامهم بحيث يصدق عليه عنوان «الراوي لحديثهم» و«الناظر في حلالهم وحرامهم» و«العارف بأحكامهم» فلا معارضة بين الروايتين أصلا ، بل الجمع العرفي موجود ، ولكنّهما ـ كما مرّت الإشارة إليه مراراً ـ واردتان في باب القضاء الذي لا ملازمة بينه وبين باب الإفتاء ، مع عدم دلالتهما على اعتبار الاجتهاد المطلق الذي هو المدّعى في المقام .
وانقدح من جميع ما ذكرنا أ نّه لم يثبت الردع عن السيرة العقلائيّة الجارية على عدم الفرق بين المطلق والمتجزّئ في مقام الرجوع . نعم ، لو كان هناك إجماع على عدم الجواز بالإضافة إلى المتجزّئ في محيط الشريعة ، وإلاّ فمقتضى القاعدة والأدلّة عدم الفرق .
نعم ، لا يبعد أن يقال : إنّ المستفاد من مجموع الأدلّة المتقدّمة مع عدم خلوّ
شيء منها عن المناقشة سنداً أو دلالة اعتبار الفقاهة والنظارة ومعرفة جملة
معتدّ بها من الأحكام ، بحيث تنطبق عليه هذه العناوين بنظر العرف ، وأنّه
(الصفحة 114)
لايجوز تقليد المتجزّئ الذي لم يتجاوز استنباطه عن مسألة واحدة أو اثنتين أو الثلاث ونظائره .
الثامن والتاسع : من شرائط المفتي الذي يجوز الرجوع إليه وتقليده : الحياة والأعلميّة ، وسيأتي البحث عن كلّ واحد منهما مفصّلا إن شاء الله تعالى(1) ، فانتظر .
العاشر : أن لا يكون متولّداً من الزنا .
أقول : لم يقم دليل خاصّ على اعتبار هذا الأمر في المرجع ، ومجرّد كونه منقصة لا يقتضي ذلك ، مع أ نّه لو أُريد بها المنقصة الدينيّة ـ كما هو الظاهر ـ فلا نعني بها
إلاّ عدم الصلاحيّة لبعض الشؤون والمناصب ، وهو أوّل الكلام في المقام ; ضرورة أنّ البحث بعد فرض إسلامه وعدالته وترتّب أحكام المسلمين عليه ، وإن كان المراد بها المنقصة الدنيويّة الراجعة إلى انحطاط مقامه وشأنه بالإضافة إلى
غيره ، فكونها مانعة عن ذلك لم يدلّ عليها دليل ، وإلاّ يلزم عدم صلاحيّة مثل
الأعمى للمرجعيّة أيضاً .
نعم ، الدليل على ذلك الأولويّة القطعيّة الثابتة للمقام بالإضافة إلى الإمامة للجماعة ، فإذا ثبت أنّ الشارع لم يرض بإمامته لهم في الجماعة مع أ نّه منصب جزئيّ فكيف يرضى بصلاحيّته للرجوع إليه وزعامته ؟ مع أ نّه من المناصب المهمّة الإلهيّة كما لا يخفى .
الحادي عشر : أن لا يكون مقبلا على الدنيا وطالباً لها ، مكبّاً عليها ، مجدّاً في تحصيلها .
(1) في ص138 مسألة 5 و ص 189 مسألة 13 .
(الصفحة 115)
وهذه العناوين مقتبسة من العناوين المأخوذة في رواية الاحتجاج المتقدّمة(1) ، وظاهر الماتن ـ دام ظلّه ـ أنّ مفادها أمر زائد على العدالة ، وقد مرّ البحث عن سند الرواية مفصّلاً (2). وأمّا دلالتها ، فربما يقال بأنّ ما يمكن أن يستفاد منه أمر زائد على العدالة هو قوله(عليه السلام) : «مخالفاً لهواه» ; لأنّ سائر العناوين لا يدلّ على أزيد من العدالة بوجه .
وربما يورد عليه بأ نّه إن كان المراد به هي المخالفة للهوى ولو في المباحات الشرعيّة فلا مساغ للأخذ به ; لعدم تحقّق الاتّصاف بذلك في غير المعصوم(عليه السلام) إلاّ بنحو الشذوذ غايته ، وإن كان المراد المخالفة للهوى فيما نهى عنه الشارع فهو عبارة أُخرى عن العدالة ولا يكون أمراً زائداً عليها .
ولكنّ الظاهر أ نّ المراد به هي المخالفة للهوى في خصوص المباحات ، ولكن لا يصدق على من ارتكب مباحاً واحداً أو متعدّداً أ نّه لم يخالف هواه ; ضرورة أنّ المتفاهم عرفاً من ذلك أن يكون عبداً لهواه تابعاً له في كلّ ما يشتهيه ويتلذّذ به ، ومجرّد الإتيان بجملة من المباحات لا ينافي المخالفة له بوجه .
فالإنصاف أنّ هذه الجملة تدلّ على أمر زائد على العدالة ، ولا توجب انحصار الدائرة في أفراد يكونون في غاية القلّة والشذوذ ، فاللازم ـ بناءً على اعتبار سند الرواية ـ الالتزام بذلك ولا مانع منه ; فإنّ المرجعيّة من المناصب المهمّة الإلهيّة
مرجعها إلى الزعامة الكبرى والرئاسة العظمى في عصر الغيبة ، فالأحوط بملاحظة ما ذكرنا اعتبار هذا الأمر أيضاً .
(1) في ص82 ـ 83 .
(2) في ص99 ـ 101 .
(الصفحة 116)
[التخيير عند تساوي المجتهدين ، والعدول من الحيّ إلى الحيّ]
مسألة4: لا يجوز(1) العدول بعد تحقّق التقليد من الحيّ إلى الحيّ المساوي على الأحوط، ويجب العدول إذا كان الثاني أعلم على الأحوط 1.
1ـ أقول : ينبغي قبل الورود في هذه المسألة التكلّم في مسألة التخيير بين المجتهدين المتساويين في الفضيلة التي تعرّض لها سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ في المسألة الثامنة .
فنقول : إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة ، أو كان كلّ منهما محتمل الأعلميّة ، فلا إشكال في ثبوت التخيير بينهما من جهة التقليد فيما إذا لم تعلم المخالفة بينهما واحتملت الموافقة في الرأي والاعتقاد . وأمّا مع العلم بالمخالفة ، فالمعروف بين الأصحاب هو التخيير أيضاً ، وما قيل أو يمكن أن يقال في وجهه أُمور :
الأوّل : شمول إطلاقات أدلّة التقليد وحجّيّة فتوى المجتهد ورأيه لكلا المجتهدين وكلا الرأيين والنظرين ، ونتيجته ثبوت التخيير بينهما (2).
وأُورد عليه بأنّ فساد هذا الوجه مستغن عن البيان ; لأنّ إطلاق أدلّة الاعتبار لا يمكن أن يشمل المتعارضين ; لأنّ شمولها لأحدهما من غير مرجّح ، وشمولها لهما معاً يستلزم الجمع بين الضدّين أو النقيضين(3) .
ويمكن النظر في هذا الإيراد ـ مضافاً إلى ما صرّح به المورد في آخر كلامه من
(1) التعبير بـ «لايجوز» مطابق للطبعة الاُولى من التحرير ، والشرح ناظر إليه، وفي الطبعات الأخيرة وقع التعبير بـ «يجوز».
(2) درر الفوائد للشيخ عبد الكريم للحائري : 2 / 715.
(3) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 167 .
(الصفحة 117)
ثبوت معنى معقول للحجّية التخييريّة . غاية الأمر عدم الدليل عليه في مقام الإثبات ; فإنّ مرجع ذلك إلى إمكان شمول الدليل في ذلك المقام ، فينافي دعوى عدم الإمكان في هذا المقام ، كما هو ظاهر(1) ـ : بأ نّه لا مانع من شمول الإطلاقات بالنحو الذي سيأتي في البحث عن معنى الحجّية التخييريّة(2) .
الثاني : السيرة العقلائيّة الجارية على التخيير في مثل المقام ; فإنّهم لا يتوقّفون عن العمل بقول الطبيب مثلا ، وترتيب الأثر عليه ولو علموا بالمخالفة بينه وبين طبيب آخر في كيفيّة العلاج أو في أصل تشخيص المرض ، بل السيرة المتشرّعيّة أيضاً جارية على ذلك ; لأنّهم يرون أنفسهم مخيّرين عند تساوي أصحاب الآراء من الفقهاء والمجتهدين في العلم والفضيلة .
وأُورد عليه بأنّ جريان سيرة العقلاء على التخيير مع العلم بالمخالفة ممنوع ، ومثال الطبيب أقوى شاهد على ذلك; فإنّهم في مثله يحتاطون مع إمكان الاحتياط، أو يتوسّلون إلى وجود مرجّح لا محالة ، والسيرة المتشرّعيّة لم يحرز كونها متّصلة بزمان المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين; إذ لم يصل إلينا وجود مثل ذلك في زمانهم ، ولم يردع الأئمّة(عليهم السلام) عنه حتّى يكون ذلك كاشفاً عن الرضا والإمضاء ، ومن الجائز أن تكون السيرة ناشئة من فتوى المفتين من أصحابنا بالتخيير (3).
ويمكن دفع هذا الإيراد بأنّ اتّصال سيرة المتشرّعة بزمانهم(عليهم السلام) ورضاهم بذلك يستفاد من الإرجاع إلى أشخاص متعدّدين ، ورجوع المسلمين بأنفسهم إلى أصحابهم ، مع العلم بتساوي جمع منهم في الفضيلة وثبوت الاختلاف إجمالا .
(1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 170 .
(2) في ص122 ـ 124 .
(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 167 ـ 168 .
(الصفحة 118)
وبالجملة : بعد ما كان التقليد أمراً ثابتاً في زمن الأئمة(عليهم السلام) ـ كما تدلّ عليه الروايات الكثيرة(1) ـ لا مجال لدعوى اختصاصه بما إذا كان المفتي من الأصحاب محرز الأعلميّة، أو لم تعلم المخالفة بينه وبين غيره في الرأي والاعتقاد ، كما هو واضح.
فالإنصاف وجود السيرة المتشرّعيّة على ذلك واتّصالها بزمانهم بحيث يكون كاشفاً عن رضاهم ، بل التأمّل في تلك الروايات من حيث السؤال والجواب في بعضها يعطي مفروغيّة التخيير ، فتأمّل .
الثالث : دعوى الإجماع على ثبوت التخيير في المسألة، وتؤيّدها الشهرة المحقّقة بين الأصحاب على ذلك(2) .
وأُورد عليه بأ نّه إجماع منقول بخبر الواحد ، ولا يمكن الاعتماد عليه على أ نّ الاتّفاق غير مسلّم ; لأنّ المسألة من المسائل المستحدثة ، ولم يتعرّض لها الفقهاء في كلماتهم ، بل لو فرض العلم باتّفاقهم أيضاً لم يمكننا الاعتماد عليه ; لاحتمال استناد المجمعين إلى أحد الوجوه المذكورة في المسألة ، فلا يكون كاشفاً عن موافقة المعصوم(عليه السلام)(3) .
والجواب عن هذا الإيراد : أنّ نقل الإجماع في المقام إنّما يكون على نحو تكون المسألة مورداً للتسالم بين الأصحاب ، وأرسلها الناقل إرسال المسلّمات ، وفي مثل
(1) تقدّمت هذه الروايات في ص82 ـ 88 .
(2) مناهج الأحكام والاُصول: 302 سطر آخر ، رسالة في تقليد الأعلم للمحقّق الرشتي : 60 ـ 62 . وانظر مفاتيح الاُصول: 631 . وحكاه عن الشيخ(رحمه الله) في التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 106 ، لكن لم نعثر عليه في كتبه التي بأيدينا عاجلا . نعم ، يمكن استظهار الإجماع من رسالته في الاجتهاد والتقليد ، ضمن مجموعة رسائل: 70 .
(3) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 168 .
(الصفحة 119)
ذلك لا مجال لدعوى أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد لا يمكن الاعتماد عليه .
ودعوى كون المسألة من المسائل المستحدثة ، غريبة جدّاً ; لأنّها عبارة عن خصوص المسائل التي لم يكن لها موضوع في الأزمنة السابقة ، بل حدث موضوعها تكويناً في القرون المتأخّرة ، ومن المعلوم في المقام خلاف ذلك ، وعدم تعرّض الفقهاء في كتبهم لا دلالة فيه على كونها كذلك ; لأنّ عدم التعرُّض إنّما هو لوضوح الحكم في المسألة ، كما هو المرتكز في ذهن المتشرّعة ، بحيث لا يحتمل واحد منهم خلاف ذلك ، واحتمال الاستناد إلى أحد الوجوه المذكورة ـ مع ما عرفت من جريان السيرة العقلائيّة على خلافه ، وكون إرسالها على نحو إرسال المسلّمات ـ غير معتن به .
فالإنصاف أ نّه لا مجال للمناقشة في هذا الوجه ، بل هو العمدة في الباب .
الرابع : دعوى الإجماع ـ كما في كلام بعضهم ـ على أ نّ العامّي لا يجب عليه الاحتياط ، بل يجوز له الاستناد دائماً إلى فتوى المجتهد مع وجوده (1).
وأُورد عليه بأ نّه من الإجماع المنقول بخبر الواحد ; وهو ممّا لا اعتبار به ، مع أ نّه على تقدير تحقّقه وانعقاده لا يقتضي الالتزام بالتخيير ; لأنّ عدم العمل بالاحتياط كما يجتمع مع ثبوت التخيير في المقام ، كذلك يجتمع مع سقوط كلتا الفتويين عن الاعتبار ، واختيار العمل على وفق إحداهما من جهة تنزّل العقل إلى الامتثال الاحتمالي عند عجز المكلّف من الامتثال الجزمي ; بمعنى عدم لزوم الاحتياط عليه ،
وعدم ثبوت حجّة لديه ولو تخييراً(2) .
(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل: 48 ـ 49 ، مستمسك العروة الوثقى: 1 / 21.
(2) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 171 .
(الصفحة 120)
الخامس : عموم الأخبار العلاجيّة(1) ـ الواردة في الخبرين المتعارضين ، الدالّة على ثبوت التخيير في المتكافئين ، وفيما إذا لم يكن مرجّح في البين ـ وشمولها للمجتهدين المتساويين :
إمّا لأجل كون المقام من مصاديق موضوعها ; لأنّ مرجع الفتوى إلى الرواية . غاية الأمر أنّها رواية منقولة بالمعنى كما صرّح به المحدّث الجزائري(قدس سره) في عبارته التي سيأتي نقلها(2) .
وإمّا بدعوى إلغاء الخصوصيّة، نظراً إلى أنّ الفتوى وإن كانت مغايرة للرواية ، إلاّ أ نّه لا خصوصيّة للخبرين المتعارضين في الحكم بالتخيير ، بل يشمل تعارض مطلق الحجّتين المتكافئتين ولو لم تكونا خبرين، فتدلّ على ثبوت التخيير في المقام أيضاً(3).
والجواب عن هذا الوجه : أنّ دعوى كون الفتوى من مصاديق الرواية ـ غاية الأمر أ نّها رواية منقولة بالمعنى ـ ممنوعة جدّاً ، كما ستعرف في البحث عن جواز تقليد الميّت(4) ، كما أنّ دعوى إلغاء الخصوصيّة أيضاً كذلك ; لوضوح الفرق بين الفتوى والرواية ، فكيف يمكن تعميم الحكم بالتخيير الثابت فيها ، خصوصاً مع
كون الحكم في موطنه على خلاف القاعدة العقليّة ، المقتضية للتساقط في مورد التعارض وعدم وجود المرجّح ؟
(1) وسائل الشيعة : 27 / 106 ـ 124 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 .
(2) في ص192 ـ 193 .
(3) درر الفوائد للشيخ عبدالكريم الحائري : 2 / 714 ـ 715 .
(4) في ص192 ـ 193 .
|