(الصفحة 121)
مضافاً إلى أنّ لازم ذلك إعمال المرجّحات في ذلك الباب في المقام أيضاً ، فترجّح الفتوى المخالفة للعامّة مثلا على الفتوى الموافقة لهم ، وغير ذلك من المرجّحات ، ومن الواضح عدم ثبوت ذلك في باب الفتاوى والآراء ، فهذا الوجه غير صحيح .
السادس : خصوص موثّقة سماعة ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر ، كلاهما يرويه : أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة
حتى يلقاه(1) .
بتقريب أنّ مورد السؤال ليس الاختلاف في مجرّد نقل الرواية ، بل الاختلاف في الفتوى والنظر الناشىء من الاختلاف في الرواية ; فإنّ التعبير بالأمر والنهي إنّما يناسب مقام الإفتاء ولا يلائم مع نقل الرواية ; فإنّ الراوي بما هو راو ليس له الأمر والنهي ، فمورد الموثّقة اختلاف الفتوى والنظر ، وسياق السؤال يعطي عدم ثبوت مزيّة في البين واشتراك الرجلين في الجهات الموجبة للرجوع إليهما ، كما لا يخفى ، فالحكم بالسعة في الجواب المساوق للتخيير وارد في المقام (2).
والجواب : أنّ مورد السؤال وإن كان ما ذكر ، إلاّ أنّ الجواب لا دلالة فيه على التخيير بوجه ، بل مرجعه إلى لزوم التأخير إلى أن يلقي من يخبره ، وعدم ثبوت ضيق واستحقاق عقوبة عليه بالنسبة إلى التأخير حتى يلقاه ، فدلالته على عدم الاعتناء بكلا الرجلين وعدم الأخذ بشيء من النظرين وعدم ترتيب الأثر على الأمر والنهي أقرب من دلالته على التخيير ، والإنصاف أ نّه لا يستفاد من هذه
(1) الكافي : 1 / 66 ح7 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 108 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح5 .
(2) درر الفوائد للشيخ عبد الكريم الحائري : 2 / 714 ـ 715 .
(الصفحة 122)
الرواية حكم المقام نفياً وإثباتاً .
وقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ الحكم بالتخيير في المجتهدين المتساويين ـ نظراً إلى الإجماع وثبوت السيرة ـ ممّا لا مجال للمناقشة فيه أصلا .
نعم ، يبقى الكلام في معنى الحجّية التخييريّة ، فنقول :
ذكر بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريراته ـ أنّ الحجّيّة التخييريّة ممّا لا يعقل في مقام الثبوت ، ومحصّل ما أفاده في وجهه أ نّه يحتمل فيها وجوه أربعة :
أحدها : جعل الحجّية التخييريّة ; بمعنى جعل الحجّية على هذا وذاك ; وهو مسلتزم للجمع بين الضدّين أو النقيضين ; لأنّ مرجعه إلى أنّ الشارع قد اعتبر المكلّف عالماً بالحرمة وعالماً بعدمها ، أو عالماً بحرمة شيء وعالماً بوجوبه ، ولأجله لا تشمل أدلّة الحجّيّة لشيء من الفتويين .
ثانيها : جعلها بمعنى جعل الحجّيّة على الجامع بين الفتويين ; وهو عنوان أحدهما الذي هو عنوان انتزاعيّ ، وهو أيضاً غير معقول في المقام وإن كان متصوّراً في غيره ، ولأجله التزمنا في الواجبات التخييريّة بأنّ التكليف فيها إنّما تعلّق بعنوان أحدهما ، وأنّ الفعل المأتيّ به في الخارج فرد للواجب ومصداق له ، لا أ نّه الواجب بنفسه .
وجه عدم المعقوليّة في خصوص المقام ; أنّ مرجعه إلى ما ذكرنا من اعتبار المكلّف عالماً بالنقيضين أو الضدّين ، وهو غير متصوّر . مضافاً إلى أ نّه لو سلّم التصوّر في مقام الثبوت فلا ينبغي الترديد في عدم إمكانها بحسب الإثبات ; لأنّ الأدلّة لا تساعدها بوجه ; لأنّ مقتضاها حجّيّة فتوى كلّ فقيه متعيّنة لا حجّيّة إحدى الفتاوى .
(الصفحة 123)
ثالثها : جعلها بمعنى جعل الحجّيّة على كلّ منهما مشروطاً بعدم الأخذ بالآخر ، ليكون كلّ منهما حجّة تعيينيّة مشروطة بعدم الأخذ بالآخر ، وهو أيضاً كسابقه ; فإنّ مثل ذلك وإن كان متصوّراً في باب التكاليف ; لأ نّه من الترتّب من الجانبين ، وهو يلازم في الجواز مع الترتّب من جانب واحد ، إلاّ أنّ ذلك في الحجّيّة غير معقول ; لأنّ لازمه اتّصاف كلّ منهما بالحجّيّة الفعليّة إذا ترك المكلّف الأخذ بهما معاً ; لحصول شرط حجّيّة كلّ واحدة منهما ، وجعل الحجّيّة على كلتيهما مستلزم للمحال كما ذكر .
رابعها : جعلها بمعنى جعلها على كلّ منهما مشروطاً بالأخذ به ، وهذا أمر معقول بحسب مقام الثبوت ، ولا يترتّب عليه المحذور المتقدّم ، إلاّ أنّه لا دليل عليه في مرحلة الإثبات ; لأنّ ما دلّ على حجّية فتوى الفقيه لا يكون مقيّداً بالأخذ بها ، وعليه : فمقتضى إطلاقها وشمولها لكلتيهما هو الجمع بين النقيضين أو الضدّين كما عرفت(1) ، انتهى ملخّصاً .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى عدم انطباق الدليل على المدّعى ; لأنّ المدّعى هو عدم معقوليّة الحجّية التخييريّة في مقام الثبوت بوجه ، والدليل المشتمل على بيان الاحتمالات يدلّ على ثبوت المعقوليّة في هذا المقام على بعض الوجوه والاحتمالات ; وهو الاحتمال الرابع كما صّرح به ـ :
أوّلا : أنّ عدم مساعدة الأدلّة بحسب مقام الإثبات مع تسليم التصوّر في مقام الثبوت ، إنّما يتمّ لو كان الدليل على الحجّية التخييريّة هي الإطلاقات الواردة في أصل مسألة التقليد الدالّة على حجّية الفتوى ، وجواز الرجوع إلى المفتي . وأمّا
(1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 168 ـ 170 .
(الصفحة 124)
لو كان الدليل هو الإجماع القائم في خصوص المقام على التخيير ، أو السيرة العمليّة الجارية عليه في مثل المقام ، فلا مجال لهذه الدعوى أصلا ، وقد عرفت تماميّتهما ، وأنّ المستند للقول بالتخيير إنّما هو الإجماع والسيرة لا الإطلاقات .
وثانياً : أنّه يمكن أن يقال بالفرق بين حال التعارض في مثل المقام ، وبين حاله في مثل الخبرين ، نظراً إلى أنّ الطبيعة في حجيّة خبر الثقة إنّما أُخذت بنحو الوجود الساري ; لأنّ كلّ فرد من أفراد طبيعة الخبر مشمول لدليل الحجّيّة تعييناً ، ويجب على المجتهد الأخذ به وتصديق مخبره وترتيب الأثر عليه ، ولأجله لا يعقل أن يكون كلّ من المتعارضين فيه حجّة كذلك ، فلا مناص إلاّ القول بعدم شمول دليل الحجّية وإطلاقه لحال التعارض .
وأمّا في المقام ، فحجّية قول الفقيه إنّما أُخذت بنحو البدليّة ; ضرورة أ نّه لا يعقل أن يجعل قول كلّ فقيه حجّة بنحو الطبيعة السارية والوجوب التعييني حتى يكون المكلّف في كلّ واقعة مأموراً بأخذ قول جميع الفقهاء وترتيب الأثر عليه ، بل من الواضح أ نّه إذا أخذ بقول واحد منهم فقد أطاع ، وحينئذ فلا مانع من دعوى إطلاق دليل الحجّية وشموله لحال التعارض بخلاف الخبرين المتعارضين ، حيث لا يعقل شمول الإطلاق لهما لما عرفت .
فانقدح من ذلك أوّلا : معنى الحجّيّة التخييريّة في المقام ، وأنّ مرجعها ليس إلى جعل الحجّية بنحو يكون مشروطاً بالأخذ به ، بل إلى الحجّية البدليّة المساوقة لجواز الأخذ بكلّ من الفتويين . وثانياً : عدم اقتضاء شمول الإطلاق لأن يقع فيه قيد «الأخذ» وشبهه ، كما لا يخفى .
إذا عرفت ما ذكرنا يقع الكلام في أصل المسألة ; وهي مسألة العدول ، فنقول :
بعد ما ظهر لك ثبوت التخيير للعامّي ابتداءً تصل النوبة إلى البحث عن أنّ
(الصفحة 125)
التخيير الثابت هل يكون تخييراً بدويّاً فلا يجوز له العدول عمّن قلّده إلى الآخر المساوي له في الفضيلة ، أم استمراريّاً فيجوز له العدول عنه إليه؟ قولان : فالمحكي عن ظاهر التهذيب(1) وشرحه(2) والذكرى(3) عدم الجواز ، وعن غير واحد دعوى الإجماع عليه(4) ، واختاره شيخنا الأنصاري(قدس سره) في محكيّ رسالة الاجتهاد والتقليد(5) ، وحكي التصريح بجوازه عن المحقّق والشهيد الثانيين في الجعفريّة والمقاصد العليّة(6) تبعاً للمحكي عن النهاية (7)، واختاره المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في رسالة الاجتهاد والتقليد(8) ، وهو الظاهر ، وقد استدلّ له بوجهين :
أحدهما : الإطلاقات ; لأنّ ما دلّ على حجّية فتوى المجتهد وجواز الأخذ بها غير مقيّد بما إذا لم يرجع إلى غيره ، بل مقتضى إطلاقها الحجّية وإن رجع إلى الغير وأخذ بفتويه (9).
وأورد عليه بعض الأعلام في شرح العروة على ما في تقريراته بأنّه لا يعقل شمول الإطلاق للمتعارضين ; لأ نّه يستلزم الجمع بين المتنافيين ، ولا يشمل أحدهما المعيّن ; لأ نّه ترجيح بلا مرجّح ، ولا أحدهما غير المعيّن ; لأنّ الحجّية
(1) تهذيب الوصول : 293 .
(2) شرح تهذيب الوصول المطبوع مع تهذيب الوصول : 105 ، المبحث الرابع، طبع طهران .
(3) ذكرى الشيعة : 1 / 43 ـ 44 .
(4) قوانين الاُصول: 2 / 264 ، مستمسك العروة : 1 / 25 .
(5) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 86 .
(6) رسائل المحقّق الكركي: 1 / 80 ، المقاصد العليّة : 51 .
(7) حكى عنه في مفاتيح الاُصول : 617 .
(8) بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 148 .
(9) بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 154 ـ 155 .
(الصفحة 126)
التخييريّة ممّا لا يمكن المساعدة عليه(1) .
وأنت خبير بأنّ البحث في هذه المسألة ـ مسألة العدول ـ إنّما هو بعد الفراغ عن أصل التخيير وثبوته بدواً ومعقوليّة الحجّية التخييرية ، ضرورة أنّه مع عدم المعقولية أو عدم مساعدة الأدلّة على أصل التخيير ، لا مجال للبحث عن كونه استمراريّاً أو لا ، فدعوى أنّ الحجّية التخييريّة ممّا لا يمكن المساعدة عليه لا ارتباط لها بهذه المسألة ، كما هو واضح .
نعم ، يمكن المناقشة في التمسّك بالإطلاق في المقام بعدم كون المطلقات في مقام البيان من جهة الاستمرار وعدمه ، بل إنّما هي بصدد إثبات أصل التخيير وإن ذكر المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في مقام دفع هذه المناقشة ما لفظه : الإنصاف أ نّه ـ يعني الإطلاق في المقام ـ كسائر الإطلاقات التي يتمسّك بها في غير المقام ، واحتمال تعيّن الحكم بمجرّد الأخذ بأحد الخبرين أو إحدى الفتويين كسائر الاحتمالات التي لايُعتنى بها في رفع اليد عن الإطلاق .
والذي يقرّبه ; هو أ نّه لا شبهة في إطلاق أدلّة الترجيح والتخيير لما إذا أُخذ بأحد الخبرين فيما إذا جاءه خبر فعمل به ، ثمّ جاءه آخر أرجح أو ما يعادله ويساويه ، فكما لا شبهة في الحكم بالترجيح والتخيير هناك من دون احتمال الإهمال من حيث العمل بالخبر الأوّل ، فكذلك هنا ، مضافاً إلى أنّ مصلحة التخيير ـ كما في الخبر(2) ـ هو التسليم لما ورد عنهم(عليهم السلام) ، ومصلحة التسليم
(1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 120 .
(2) وسائل الشيعة : 27 / 108 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح6 وص112 ذ ح19 وص113 ح21 وص121 ح39 .
(الصفحة 127)
لا تختصّ بحال دون حال ، كما أفاد شيخنا الاُستاذ(قدس سره) (1) ونعم ما أفاد(2) .
ثانيهما : ـ وهو العمدة ـ الاستصحاب ، نظراً إلى أنّ المكلّف كان قبل الأخذ بفتوى أحدهما مخيّراً بين الأخذ بهذا أو ذاك ; لأنّ المفروض تساوي المجتهدين وحجّية فتوى كلّ واحد منهما ، فإذا أخذ فتوى واحد منهما واختارها نشكّ في أنّ فتوى الآخر هل تكون باقية على حجّيّتها التخييريّة ، أو سقطت عن الاعتبار بسبب الأخذ بالأوّل ، فيجري حينئذ استصحاب الحجّية التخييريّة ؟ ومقتضاه ثبوت التخيير في الآن اللاحق كما كان في الزمان السابق (3).
وناقش في جريان هذا الاستصحاب بعض الأعلام في «شرح العروة» على ما في تقريراته من جهات لا بأس بذكرها على سبيل الإجمال ، وبيان ما يرد عليها من الإشكال ليتّضح بذلك الحال ، فنقول ـ وعلى الله الاتّكال ـ :
الجهة الاُولى : أ نّه يعتبر في جريان الاستصحاب اتّحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة ، ولا يتحقّق هذا إلاّ ببقاء الموضوع ، مع أ نّه لم يحرز بقاؤه في المقام ; لأنّ الحكم بالتخيير إن قلنا : إنّ موضوعه من لم يقم عنده حجّة فعليّة ، فلا شبهة في أنّ ذلك يرتفع بالأخذ بإحدى الفتويين ; لأنّها صارت حجّة فعليّة بأخذها ، فلا يبقى موضوع لاستصحاب التخيير ، وإن قلنا : إنّ موضوعه من تعارض عنده الفتويان ، نظير «من جاءه حديثان مختلفان» الذي هو الموضوع للحكم بالتخيير في باب الخبر ـ على القول به ـ فهو أمر يرتفع بالرجوع إلى إحدى الفتويين ، فلو شكّ في بقاء الحكم بالتخيير وارتفاعه لم يكن مانع من استصحابه بوجه ، ولكن حيث إنّ
(1) كفاية الاُصول : 508 .
(2) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 154 ـ 155 .
(3) بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 148 ـ 153 .
(الصفحة 128)
الدليل في المقام إنّما هو الإجماع والسيرة وهما دليلان لبيان ، لا يبقى مجال لاستظهار أنّ الموضوع هل يكون على النحو الأوّل أو الثاني؟
وهذا بخلاف تعارض الخبرين ، حيث استظهروا أنّ الموضوع للحكم بالتخيير فيهما «من جاءه حديثان مختلفان» وهو باق بعد الأخذ بأحدهما قطعاً ، وأمّا المقام فأمر الموضوع دائر فيه بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، وفي مثله لا مجال للاستصحاب لا في الحكم ; لعدم إحراز بقاء موضوعه ، ولا في موضوعه بوصف الموضوعيّة ; لرجوعه إلى استحصاب الحكم ، ولا فيه بذاته ; لعدم الشكّ فيه ; لدورانه بين المقطوعين .
الجهة الثانية : أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى ; لأنّ الاستصحاب على تقدير تماميّته إنّما يجري فيما إذا كانت الحالة السابقة هو التخيير ، ولا يجري فيما إذا كان المجتهد الأوّل في زمان الأخذ بفتواه أعلم ، فأراد الرجوع إلى الغير الذي كان دونه في الفضل ، ثمّ بلغ مرتبة الأوّل بحيث صارا متساويين ; فإنّه حينئذ ليس للتخيير حالة سابقة حتى يستصحب ، كما هو واضح .
الجهة الثالثة : أنّ هذا الاستصحاب من الاستصحابات الحكميّة التي بيّنا في محلّه أنّها غير جارية ; للابتلاء بالمعارض دائماً .
الجهة الرابعة : أ نّه لو سلّمنا جريان الاستصحاب في الأحكام أيضاً ، لم يكن مجال للاستصحاب في المقام ; لابتلائه بالمعارض ، وهو استصحاب الحجّية الفعليّة للفتوى المأخوذ بها ; وذلك لأنّ المعنى المعقول من الحجّية التخييريّة هو أن يكون أمر الحجّية قد أوكل إلى اختيار المكلّف ; بأن يتمكّن من أن يجعل ما ليس بحجّة حجّة بأخذه فتوى أحد المتساويين .
وهذا المعنى لا يكون مورداً للاستصحاب ; لأنّ فتوى أحد المتساويين إذا
(الصفحة 129)
اتّصفت بالحجّيّة الفعليّة من جهة أخذ المكلّف بها ، وشككنا في جواز الأخذ بفتوى المجتهد الآخر ، يجري فيها استصحابان متعارضان : أحدهما : استصحاب جواز الأخذ بفتوى المجتهد الآخر ; لأ نّه مسبوق بالجواز على الفرض ، ثانيهما :استصحاب حجّية ما اتّصف بالحجّية الفعليّة بالأخذ به ، فاستصحاب بقاء التخيير معارض باستصحاب بقاء الحجّية الفعلية فيما أُخذ به .
وماعن الشيخ الأنصاري(قدس سره) من حكومة استصحاب التخيير على الاستصحاب الآخر(1) فممّا لا يمكن المساعدة عليه ; لعدم كون الحجّية الفعلية من الآثار الشرعيّة المترتّبة على بقاء الحجّية التخييريّة ، بل من الآثار العقليّة التي لا تترتّب على الاستصحاب بوجه .
ثمّ قال : والصحيح أنّ استصحاب الحجّية التخييريّة غير جار في نفسه ; لأ نّه بمعنى استصحاب الحجيّة الشأنية ; أعني الحجّية على تقدير الأخذ بها ، وهو من الاستصحاب التعليقي ، ولا نقول به حتّى إذا قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة في موارد الأحكام التخييريّة ، ومع عدم جريان الاستصحاب إذا شككنا في حجّية فتوى المجتهد الذي يريد العدول إليه ، لا مناص من الحكم بعدم حجّيتها ; لأنّ الشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدمها(2) .
أقول : ويرد على الجهة الأُولى :
أوّلا : ما أفاده المحقّق الاصفهاني(قدس سره) ما ملخّصه : أ نّه لابدّ من ملاحظة موضوع أدلّة التقليد اللفظيّة وغيرها . أمّا موضوع قضيّة الفطرة والجبلّة فهو الجاهل ، ومن
(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 87 .
(2) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 120 ـ 124 .
(الصفحة 130)
المعلوم أ نّه لم يرتفع جهله حقيقة بالرجوع إلى العالم ، بل هو على حاله ، وإنّما صار منقاداً له فيما يراه ، وكذا موضوع السيرة العقلائيّة ، وأمّا آية النفر(1) فهي تدلّ على حجّية الفتوى إذا كان التفقّه موقوفاً على إعمال النظر ، ومن الواضح أنّ مقابل الفقيه بهذا المعنى هو من ليس له قوّة إعمال النظر .
وأمّا آية السؤال(2) ، فموضوع وجوب السؤال وإن كان هو الجاهل في قبال العالم بالحكم الفعلي ; لِما مرّ منّا من أنّ ظاهرها السؤال لكي يعلموا بالجواب لا بأمر زائد عليه ، وبعد حصول العلم الشرعي بسبب الجواب لا موضوع لوجوب السؤال ، ومقتضاه عدم جواز العدول ; لعدم دليل على تقليد الغير بعد تقليد الأوّل ، إلاّ أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ; لأنّ موضوع وجوب السؤال وإن كان هو الجاهل بذلك المعنى ، لكن موضوع وجوب التقليد عملا كان أو التزاماً هو العالم بعد السؤال ، ولذا لو سأل شخصين من أهل الفتوى كان له العمل بفتوى أيّ واحد منهما ، وهذا الموضوع باق بعد العمل ، وإن لم يكن موضوع السؤال كذلك .
وأمّا مثل قوله(عليه السلام) : «فللعوام أن يقلِّدوه»(3) ، فمن الواضح أنّ العامّي في قبال ما فرضه مرجعاً وهو الفقيه ، فحاله حال آية النفر إشكالا وجواباً . وأمّا عنوان المتخيّر ، ومن ليس له طريق إلى مقصده ، ومن لم يختر ، ومن لم يأخذ بشيء ،
فكلّها عناوين ـ انتزاعية باجتهاد منّا في تنقيح موضوع الحكم بالتخيير ببعض المناسبات ـ لا دخل لها بما أُخذ شرعاً في موضوع الدليل(4) .
(1) سورة التوبة : 9 / 122 .
(2) سورة الأنبياء : 21 / 7 .
(3) تقدّم في ص83 .
(4) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 153 ـ 154 .
(الصفحة 131)
وثانياً : أ نّه لو سلّم عدم إحراز الموضوع بالإضافة إلى دليل التخيير الذي هو الإجماع والسيرة ، فذلك لا يمنع عن جريان الاستصحاب ; وذلك لأ نّه لو أُريد إجراء الاستصحاب في الحكم الكلّي الثابت بمقتضى الدليل ، فعدم إحراز الموضوع قادح في جريانه : وأمّا بعد انطباق الحكم الكلّي على مورد لأجل تحقّق موضوعه في ذلك المورد ، فإذا شكّ في بقائه فيه فلا مانع من إجراء الاستصحاب في خصوص المورد الذي ثبت فيه الحكم .
مثلا إذا دلّ الدليل على أنّ الماء المتغيّر أحد أوصافه بالنجاسة نجس ، وشكّ في بقاء النجاسة في الماء الخارجي الذي زال تغيّره من قبل نفسه ، وارتفع فيه الوصف العرضي الحاصل من قبل النجاسة ; فإن كان المراد استصحاب الحكم الكلّي الثابت لعنوان «الماء المتغيّر» إذا شكّ في بقائه من جهة ، فهذا لا يستقيم إلاّ مع حفظ الموضوع وبقاء عنوان «الماء المتغيّر» ، وأمّا إذا كان المراد انطباق هذا العنوان على الماء الخارجي الموجود في حوض مخصوص ، وصار ذلك الماء متّصفاً بالنجاسة ; لصيرورته مصداقاً لذلك العنوان ، فإذا شكّ في بقاء نجاسته لأجل زوال التغيّر من قبل نفسه ، واحتمال دخالة التغيّر فيه بقاءً ـ كدخالته حدوثاً ـ فأيّ مانع من جريان الاستصحاب بالإضافة إلى هذا الماء الخاصّ ؟
ولا وجه لدعوى عدم إحراز بقاء الموضوع بعد كون الموضوع للنجاسة هو نفس الماء الباقي بعد زوال التغيّر قطعاً ، وفي المقام أيضاً لا مانع من جريان استصحاب التخيير بالإضافة إلى شخص المقلّد ، الذي كان الحكم بالاضافة إليه بمقتضى دليل التخيير ـ وهو الإجماع والسيرة ـ هو التخيير ، وشكّ في بقائه من جهة احتمال كون التخيير بدويّاً لا استمراريّاً ، فبمعونة الاستصحاب يثبت الاستمرار ويجوز له الرجوع إلى المجتهد الآخر وإن كان قد رجع إلى المجتهد الأوّل ، كما لا يخفى .
(الصفحة 132)
وعلى الجهة الثانية : أنّها وإن كانت واردة على إطلاق عبارة مثل «العروة»(1) ، إلاّ أ نّه لا وجه لورودها فيما هو المهمّ ـ المفروض في المقام ـ من تساوي المجتهدين ابتداءً واستدامة .
وعلى الجهة الثالثة : أنّ الاستصحابات الحكميّة أيضاً جارية بمقتضى دليل الاستصحاب ، والتحقيق في محلّه .
وعلى الجهة الرابعة : عدم ابتلاء استصحاب التخيير بالمعارض ، لا لأجل عدم كون المعارض في رتبته وكونه محكوماً بالإضافة إليه ، كما ادّعاه الشيخ المحقّق الأنصاري(قدس سره) (2) ، بل لأجل أ نّه ليس هنا إلاّ استصحاب واحد ; وهو استصحاب الحجّية الثابتة بنحو البدليّة وصرف الوجود ; ضرورة أ نّه مع الرجوع إلى أحد المجتهدين لا تتبدّل عن البدليّة ولا تتّصف بالفعليّة ، فإذا قال المولى : «أكرم رجلا» فالواجب بمقتضى أمر المولى هو إكرام فرد من طبيعة الرجل بنحو البدليّة ، فإذا أكرم زيداً مثلا لا يصير إكرام زيد واجباً فعليّاً ، بل هو على ما كان من الوجوب البدلي ، وفي المقام كان الثابت مجرّد الحجّية البدلية ، والآن نشكّ في بقائها فتستصحب ، وليس هنا استصحاب آخر حتى يكون معارضاً له أو محكوماً بالإضافة إليه ، كما هو ظاهر .
ثمّ على تقدير وجود كلا الاستصحابين ، لا مناص عن الالتزام بما أفاده الشيخ(قدس سره) من حكومة استصحاب التخيير على استصحاب الحجّية الفعليّة ; لخصوص الفتوى المأخوذ بها ، وما أورده عليه : من أنّ عدم الحجّية الفعلية ليس
(1) العروة الوثقى : 1 / 7 مسألة 11 .
(2) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 87 .
(الصفحة 133)
من الآثار الشرعيّة المترتّبة على بقاء الحجّية التخييرية ، بل هو من الآثار العقلية التي لا تترتّب على الاستصحاب بوجه مخدوش ; بأنّ عدم ترتّب الآثار العقلية إنّما هو فيما إذا كان المستصحب من الموضوعات الخارجيّة التي لها أحكام شرعيّة ولوازم عقلية أو عادية .
وأمّا إذا كان المستصحب نفس المجعول الشرعي والأثر المضاف إلى الشارع ، فلا محالة يترتّب على استصحابه جميع الآثار ; لتحقّق موضوعها بتمامها ، فيترتّب على استصحاب وجوب صلاة الجمعة مثلا وجوب الإطاعة والموافقة ، الذي هو حكم عقليّ .
وفي المقام يكون التخيير المستصحب حكماً شرعيّاً ، قد دلّ عليه الدليل
من الإجماع أو السيرة كما هو المفروض ، فيترتّب عليه الآثار مطلقاً ولو كانت
عقلية ، ومن جملتها عدم الحجّيّة الفعليّة لخصوص الفتوى المأخوذ بها ،
كما لا يخفى .
فانقدح من جميع ما ذكرنا الجواب عن الجهات الأربع وتماميّة استصحاب التخيير بالنحو الذي ذكرنا ، ومقتضاه جواز العدول ، وقد مرّ أ نّه هو العمدة في الباب(1) ، والمهمّ للقائل بالجواز .
وأمّا أدلّة القول بعدم جواز العدول :
فمنها : الاستصحاب ، وتقريبه أ نّه تارة: تستصحب الحجّية الفعليّة الثابتة
في حقّ المقلّد بالأخذ بفتوى المجتهد الذي عدل عنه ، وأُخرى : يستصحب
الحكم الواقعي الذي استكشف من فتواه ، حيث تكون طريقاً إليه وكاشفة عنه ،
(1) في ص127 .
(الصفحة 134)
وثالثة : يستصحب الحكم الظاهري المجعول عقيب كلّ أمارة وطريق .
ومنها : فتوى الفقيه .
والجواب : أمّا عن استصحاب الحجّية فما عرفت من أ نّه ليس هنا إلاّ الحجّية الثابتة بنحو البدليّة ، واستصحابها ينتج جواز العدول وعدم تعيّن فتوى المجتهد الأوّل ، وأمّا الاستصحابان الآخران فسيأتي الجواب عنهما مفصّلا ـ إن شاء الله تعالى ـ في مسألة البقاء على تقليد الميّت(1) ، فانتظر .
ومنها : أنّ جواز العدول يستلزم العلم بالمخالفة القطعيّة العمليّة في بعض المواضع ، كما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب القصر على من سافر أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع ليومه ، والآخر بوجوب التمام فيه ، فقلّد المكلّف أحدهما فقصّر ، ثمّ عدل إلى الآخر فأتمّ ; فإنّه يستلزم العلم بتحقّق المخالفة وبطلان صلواته المقصورة أو غيرها إجمالا ، بل لو وقع ذلك في الصلاتين المترتّبتين ـ كما في الظهرين مثلا ـ يعلم تفصيلا ببطلان الثانية ، إمّا لبطلانها من جهة نفسها ، وإمّا لبطلانها من جهة بطلان الأُولى وعدم ترتّب الثانية عليها .
والجواب :
أمّا أوّلا : فبالنقض بموارد وجوب العدول ، كما إذا فرضنا أنّ المجتهد الثاني يكون أعلم ، أو أنّ الأوّل خرج عن صلاحيّة التقليد بموت ، أو جنون ، أو فسق مثلا .
وأمّا ثانياً : فبعدم انطباق الدليل على المدّعى ; فإنّ المدّعى عدم جواز العدول وتعيّن المجتهد الأوّل ، واتّصاف فتواه بوصف الحجّية فقط ، والدليل يدلّ على عدم جواز الاقتصار على مجرّد ترتيب الأثر على كلتا الفتويين ; للزوم المخالفة العمليّة
(1) في ص 211 ـ 214 .
(الصفحة 135)
القطعيّة إجمالا أو تفصيلا .
فلقائل أن يقول بلزوم إعادة أعماله السابقة على طبق فتوى المجتهد الثاني
حتى لا يلزم ذلك التالي الفاسد ، كما أنّ القاعدة أيضاً تقتضي ذلك ، إلاّ أن
يقوم دليل على صحّته وجواز الاجتزاء به ، كحديث لا تعاد(1) في خصوص
باب الصلاة ، حيث يدلّ على عدم وجوب إعادتها في غير الخمس المستثناة
فيه ، بناءً على عدم اختصاصه بالناسي ، والتحقيق في محلّه كالتحقيق في
باب القضاء من جهة كونه بأمر جديد ، ومن جهة موضوعه .
وبالجملة : فبطلان جملة من الأعمال ، وعدم جواز الاقتصار عليها لا يرتبط بمسألة جواز العدول وعدمه أصلا .
ومنها : دعوى الإجماع من المحقّق القمّي(قدس سره) ـ على ما حكي عنه ـ على عدم الجواز (2).
والجواب عنها واضح .
ومنها : قاعدة الاشتغال ; لحكم العقل بالتعيين في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مثل المقام ، وهي مسألة الحجّية ، فإنّ فتوى المجتهد الأوّل حجّة قطعاً ، وفتوى الثاني مشكوكة الحجّية . وقد اشتهر أنّ الشكّ في الحجّية مساوق للقطع بعدمها .
والجواب : أنّ هذه القاعدة إنّما تجري فيما إذا لم يكن هناك أصل شرعيّ مثبت للتخيير دالّ على ثبوت الحجّية لمشكوكها ، وقد عرفت جريان استصحاب التخيير
(1) الفقيه : 1 / 181 ح857 ، وعنه وسائل الشيعة : 4 / 312 ، كتاب الصلاة : أبواب القبلة ب9 ح1 .
(2) قوانين الاُصول: 2 / 264 .
(الصفحة 136)
وخلوّه عن جميع المناقشات(1) ، ولأجل هذه الجهة يفترق المقام عن المسألة الآتية ; وهي جواز الرجوع عن الميّت على تقدير جواز البقاء على تقليده ، حيث إ نّه لا يجري هناك استصحاب التخيير إلاّ في بعض فروضه ، كما إذا كان المجتهد الحيّ الذي يريد الرجوع إليه موجوداً في حياة المجتهد الميّت ، حينما أراد المكلّف
الرجوع إليه والأخذ بفتواه ، ومع عدم جريانه ـ كما في غير مثل هذا الفرض ـ لا محيص عن الرجوع إلى قاعدة الاشتغال وحكم العقل بأصالة التعيين . وأمّا في مثل المقام من موارد جريان استصحاب التخيير ، فلا يبقى مجال لتلك القاعدة العقلية ، كما هو واضح .
فانقدح من جميع ما ذكرنا جواز العدول إلى المجتهد الثاني ، وإن كان
مساوياً للأوّل في الفضيلة والعلم ، وأنّ الحكم بعدم الجواز بنحو الاحتياط الوجوبي ـ كما في المتن ـ مبنيّ على قاعدة الاشتغال ، وحكم العقل بأصالة التعيين
في موارد دوران الأمر بين التخيير والتعيين ، إمّا مطلقاً ، أو في خصوص باب الحجّية كما عرفت ، وقد ظهر لك أ نّه لا مجال للقاعدة إلاّ في موارد عدم جريان
استصحاب التخيير ، وأ نّه لا مانع من جريانه في المقام أصلا . هذا كلّه في العدول
إلى المجتهد المساوي .
ولو كان الثاني أعلم ، فإن قلنا بقيام الدليل على تعيّن تقليد الأعلم ، فالظّاهر وجوب العدول إلى الأعلم ، وإن قلنا بلزومه من باب قاعدة الاحتياط وحكم العقل بأصالة التعيين عند دوران الأمر بينه وبين التخيير ، فالظاهر جواز العدول دون وجوبه ، ولأجله يجتمع الحكم بجواز العدول إلى الأعلم مع الحكم بلزوم تقليد
(1) في ص 127 ـ 133 .
(الصفحة 137)
الأعلم من باب الاحتياط ، كما في «العروة»(1) . وأمّا سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ فيمكن الإيراد عليه بأ نّه لا يكاد يجتمع الحكم بعدم جواز العدول إلى المساوي بنحو الاحتياط اللزومي ، مع الحكم بوجوب العدول إلى الأعلم كذلك ، وكون أصل اللزوم أيضاً من باب الاحتياط اللزومي ، كما سيصرّح به في المسألة الآتية .
توضيح الإيراد : أنّ هنا تجري قاعدتا الاشتغال والاحتياط ، إحداهما في مسألة العدول ; وهي تقتضي عدم الجواز احتياطاً ، والأُخرى في مسألة تقليد الأعلم ; وهي تقتضي تعيّنه كذلك ، فإذا أراد العدول إلى خصوص الأعلم يكون مقتضى القاعدة الأُولى العدم ، ومقتضى القاعدة الثانية لزوم العدول ، وحيث لا مرجّح لإحداهما على الأُخرى ، فلا محيص عن الحكم بجواز العدول ، ولا يبقى مجال لوجوبه كما في المتن ، فتأمّل جيّداً .
(1) العروة الوثقى : 1 / 7 مسألة 12 .
(الصفحة 138)
[تقليد الأعلم والفحص عنه]
مسألة5: يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط، ويجب الفحص عنه، وإذا تساوى المجتهدان في العلم ، أو لم يعلم الأعلم منهما ، تخيّر بينهما. وإذا كان أحدهما المعيّن أورع ، أو أعدل ، فالأولى الأحوط اختياره، وإذا تردّد بين شخصين يحتمل أعلميّة أحدهماالمعيّن دون الآخر ، تعيّن تقليده على الأحوط 1.
1 ـ الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات :
المقام الأوّل : في تعيّن تقليد الأعلم وعدمه .
فنقول : لاخفاء في أنّ هذه المسألة ـ كأصل مسألة التقليد ـ لا تكون تقليديّة ; بمعنى أنّ الذي يحمل العامّي على الرجوع إلى الأعلم حينما يريد التقليد والرجوع إلى الغير ، ليس إلاّ حكم عقله وإدراكه ، وإلاّ فالحامل له عليه ليس فتوى المجتهد بلزوم الرجوع إلى الأعلم ; للزوم الدور ، فتأمّل . فإذا تعيّن عليه الرجوع إلى حكم عقله ، فإن احتمل تعيّن تقليد الأعلم واختصاص جواز الرجوع به ، فلا مناص له عن الرجوع إليه ; لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وحكم العقل بلزوم الاحتياط فيه والأخذ بالذي يحتمل فيه التعيّن ; لأ نّه بالأخذ به لا يكون الضرر والعقاب محتملا أصلا .
وأمّا مع الرجوع إلى غير الأعلم ، يكون احتمال العقاب الذي هو الموضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل موجوداً ، فهذه القاعدة العقليّة تحكم عليه بلزوم الرجوع إلى الأعلم .
(الصفحة 139)
وإن لم يحتمل تعيّن تقليد الأعلم ، ولم يقع في ذهنه هذا الاحتمال أصلا ، بل حكم عقله بالتساوي ، فلا يكون هنا أيّ ملزم على الرجوع إلى الأعلم ، بل يسوغ له أخذ فتوى غيره والرجوع إليه ، فإن حكم بلزوم تقليد الأعلم فالواجب حينئذ بمقتضى فتواه العدول عنه إلى الأعلم ، وإن لم تكن فتواه تعيّنه ، بل كان الرجوع إلى الغير جائزاً عنده ، وبقي العامي على تقليده للتالي ، فلا مجال لمؤاخذته بوجه أصلا ، كما لا يخفى . هذا بالنسبة إلى ما هو المستند للعامي والحامل له .
وأمّا بالنسبة إلى ما يستنبطه المجتهد من الأدلّة الاجتهاديّة ، فتارة: يظهر له منها أحد طرفي المسألة من التعيّن وعدمه ،وأُخرى:لا يظهر له ذلك ،بل يبقى متردّداً شاكّاً .
فإن بقي متردّداً فاللازم الحكم بالتعيّن من باب الاحتياط اللازم ، الذي يحكم به العقل عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب الحجّية ; ضرورة أ نّه مع وجود الأعلم واحتمال تعيّنه ، تكون فتوى غير الأعلم مشكوكة الحجّية ، والشكّ فيها يساوق القطع بعدمها .
ومنه يظهر أ نّه لا مجال لقياس المقام على الدوران بين التعيين والتخيير في باب التكاليف ، كما إذا دار الأمر بين عتق خصوص الرقبة المؤمنة ، والتخيير بينه وبين عتق الرقبة الكافرة ، حيث إنّه مجرى البراءة ; نظراً إلى أنّ أصل التكليف بالإعتاق معلوم ،والشكّ في كلفة زائدةوضيق آخر ;وهوعتق خصوص الرقبة المؤمنة ، فتجري البراءة العقليّة الناشئة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والمؤاخذة بلا برهان .
وذلك ، أي وجه بطلان القياس ما عرفت من أنّ الشكّ في مثل المقام إنّما هو في اتّصاف فتوى غير الأعلم بالحجّية ، وما لم يقم دليل عليها في هذا الحال نقطع بعدمها ، وعدم ترتّب شيء من آثار الحجّية عليها ، فالقياس مع الفارق . هذا حكم صورة الشكّ والتردّد .
(الصفحة 140)
وأمّا بالنظر إلى الأدلّة الاجتهاديّة ، فنقول : إنّ للمسألة صوراً :
إحداها : ما إذا كانت فتوى الأعلم مخالفة لغيره وعلمت المخالفة بين الفتويين .
ثانيتها : ما إذا علمت الموافقة بينهما .
ثالثتها : ما إذا لم تعلم الموافقة والمخالفة بينهما .
وليعلم أنّ محلّ الكلام في جميع الصور إنّما هو ما إذا كان الأعلم مشخّصاً من غيره ، وأمكن الرجوع إليه ، والأخذ بقوله ، وتطبيق العمل على فتواه ; فإنّه
حينئذ وقع الخلاف في تعيّن فتواه للحجّية وعدمه على قولين ، ولابدّ من التعرّض
لما استدلّ به لكلا الطرفين ليظهر ما هو الحقّ في البين ، فنقول :
أمّا الصورة الأُولى : فقد استدلّ للقول بلزوم الأخذ بفتوى الأعلم فيها بوجوه :
الأوّل : دعوى الإجماع عليه ، حيث ادّعاه صريحاً المحقّق الثاني(قدس سره) في محكي حاشية الشرائع(1) . وعن الذريعة لعلم الهدى(قدس سره) أ نّه من المسلّمات عند الشيعة(2) . وعن صاحب المعالم هو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم(3) . وجعله في محكي التمهيد هو الحقّ عندنا(4) . بل لم ينقل الخلاف في ذلك عمّن تقدّم على الشهيد الثاني(رحمه الله) ، فإنّ التخيير والقول به إنّما حدث لجماعة ممّن تأخّر عنه ، وفاقاً للحاجبي(5) والعضدي(6) والقاضي(7) . واختار التخيير أيضاً صاحب
(1) حاشية شرائع الإسلام ، المطبوع مع حياة المحقّق الكركي وآثاره : 11 / 114 .
(2) الذريعة إلى اُصول الشريعة : 2 / 325 ، وحكى عنه في مطارح الأنظار: 2 / 526 .
(3) معالم الدين : 246 .
(4) تمهيد القواعد : 321 .
(5 ـ 7) راجع مختصر المنتهى وشرحه : 2 / 309 ، شرح مختصر الاُصول : 484 ، على ما في هامش كفاية الاُصول: 542 ، المستصفى للغزالي : 2/391 .
|