(الصفحة 161)
الأدلّة من حيث مفادها بخصوص صورة العلم بالمخالفة ، فالصورتان مشتركتان من حيث الدليل .
أقول : أمّا ما عدا السيرة من تلك الأدلّة فقد عرفت عدم نهوضها على لزوم تقليد الأعلم في الصورة الأُولى فضلا عن المقام ; لما مرّ من المناقشة أو المناقشات فيها ، وعلى تقدير تسليم صلاحيّتها للاستدلال بها في تلك الصورة لا مجال لدعوى شمولها للمقام ; فإنّ الإجماع لا إطلاق لمعقده يشمل المقام ، بل القدر المتيقّن هي صورة العلم بالمخالفة وتحقّق الاختلاف ، والأقربيّة غير محرزة في المقام ; لأنّها فرع المخالفة وهي مشكوكة ، والمقبولة موردها صورة العلم باختلاف الحكمين ومستند الرأيين ، وكذا ما يشابهها من الروايتين ، فلا تغفل .
وأمّا السيرة ، فالظاهر جريانها في المقام أيضاً ; فإنّه إذا رجع المريض إلى الطبيب غير الأعلم مع وجود من هو أعلم منه ، وإمكان الوصول والمراجعة إليه ، واحتمال الاختلاف بينهما في النظر والرأي وكيفيّة المعالجة والتداوي ، وكون
المرض ممّا لا يجوز عند العقلاء التسامح فيه وفي علاجه ; لكونه من الأمراض المهلكة ; فإنّه مع ذلك إذا رجع إلى غير الأعلم ولم يؤثّر علاجه بوجه ، فهل
يكون معذوراً عند العقلاء؟ وهل يصحّ الاحتجاج بمجرّد احتمال عدم اختلاف رأيه مع رأي الأعلم؟! الظاهر العدم ، بل يستحقّ الملامة والتوبيخ ، ولا يعدّ معذوراً
بوجه .
فالإنصاف أنّ السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إلى الأعلم في الصورة الأُولى موجودة في المقام . غاية الأمر أ نّه لابدّ من ملاحظة أدلّة القائل بعدم لزوم تقليد الأعلم في هذه الصورة ، فإن تـمّت تكون رادعة عن السيرة ، وإلاّ يكون عدم الردع كاشفاً عن الرضا والإمضاء ، كما استكشفناه في الصورة الأُولى .
(الصفحة 162)
وأمّا ما استدلّ به على عدم التعيّن في هذه الصورة فاُمور :
الأوّل : إطلاقات الأدلّة القائمة على حجّية فتوى الفقيه من الآيات والروايات المتقدّمتين(1) ، وقد خرجنا عنها في صورة العلم بالمخالفة ، وبقيت صورة العلم بالموافقة وصورة الشكّ في المخالفة مشمولتين لها باقيتين تحتها ، فمقتضى الإطلاقات حينئذ جواز الرجوع إلى غير الأعلم ، كما هو ظاهر (2).
وقد نوقش فيه بأ نّه لا مجال للتمسّك بالإطلاقات بعد خروج صورة العلم بالمخالفة ; لأ نّه من التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد ، وهو كالتمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص غير جائز ، كما حقّق في بحث العام والخاص من الأُصول .
وأُجيب عن هذه المناقشة بأنّ التمسّك بالعموم وكذا بالمطلق في الشبهة المصداقيّة وإن كان غير جائز ، إلاّ أنّ ذلك إنّما هو فيما إذا كان المخصّص أو المقيّد لفظيّاً ، وأمّا إذا كان لبِّيّاً ، كما إذا كان الدليل عليه هو الإجماع أو حكم العقل فلا مانع عن التمسّك به.
والأمر في المقام كذلك ; فإنّ صورة العلم بالمخالفة إنّما خرجت من المطلقات من جهة أنّ شمولها لها يستلزم الجمع بين الضدّين أو النقيضين ، فالمخصّص إنّما هو حكم العقل ، فلا مانع حينئذ من التمسّك بالعموم .
وأُورد على هذا الجواب بأ نّه لا فرق في عدم الجواز بين أن يكون المخصّص لفظيّاً أو لبِّيّاً ; لأنّ التقييد والتخصيص يوجبان تعنون المطلق والعامّ لا محالة بعنوان مّا ; لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت ، وعليه : لا يحرز أنّ العنوان المقيّد
(1) في ص71 ـ 88 .
(2) مفاتيح الاُصول: 632، درر الفوائد للشيخ عبد الكريم الحائري : 713 .
(الصفحة 163)
صادق على المورد المشكوك فيه .
وربما يقال : إنّ الصحيح في الجواب أن يُقال : إنّ المناقشة غير واردة في نفسها ; لأنّ الشبهة وإن كانت موضوعيّة مصداقيّة ، إلاّ أنّ هناك أصلا موضوعيّاً يحرز به أنّ المورد المشتبه من الأفراد الباقية تحت العموم ; إذ لا فرق في إحراز الفرديّة بين أن يكون من طريق الوجدان أو بالتعبّد .
وفي المقام يجري استصحاب عدم المخالفة بين المجتهدين بالعدم الأزلي ; لأنّ المخالفة أمرٌ حادث مسبوق بالعدم ، نظير أصالة عدم القرشيّة في المرأة التي يشكّ في قرشيّتها ، الحاكمة بدخولها تحت الأدلّة الدالّة على أنّ المرأة تحيض إلى خمسين ، بل يمكن ذلك بالاستصحاب النعتي أيضاً ; لأنّ المجتهدين كانا في زمان ولم يكونا مخالفين في الفتوى ولو من جهة عدم بلوغهما مرتبة الاجتهاد ، ومقتضى الأصل أنّهما الآن ،كما كانا سابقاً(1).
أقول : وفي جميع ما ذكر نظر .
أمّا الاستدلال بالإطلاقات ، فيرد عليه ـ ما مرّ منّا(2) ـ : من أ نّه ليس في هذا الباب إطلاق يصحّ الاحتجاج به والاستناد إليه ; لعدم كون المطلقات في مقام البيان من هذه الحيثيّة ، فلا مجال للتمسّك بها .
وأمّا المناقشة فيه بأ نّه من قبيل التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد ، فيرد عليها : أنّ دعوى المستدلّ إنّما ترجع إلى أنّ الخارج من الإطلاقات خصوص
(1) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 159 ـ 160 ومصباح الاُصول: 3 / 455، ودروس في فقه الشيعة: 1 / 89 ـ 90، حتى يظهر لك أنّ المناقشة وجواب المناقشة وجواب الجواب كلّها من السيد الخوئي.
(2) في ص154 ـ 155 .
(الصفحة 164)
صورة العلم بالمخالفة ، والشكّ في خروج صورة الشكّ إنّما هو من الشكّ في تقييد زائد ; وهو كالشكّ في تخصيص زائد لا يرجع فيه إلاّ إلى الإطلاق .
وبعبارة أُخرى : لو كان مدّعى المستدل راجعاً إلى أنّ الخارج هي صورة المخالفة الواقعيّة بين الفتويين ، لكان التمسّك في فرض الشكّ من ذلك القبيل ، وأمّا مع صراحة دعواه في أنّ الخارج هي صورة العلم ، فلا مجال للمناقشة في دليله بكون التمسّك في صورة الشكّ إنّما هو من ذلك القبيل ، وهذا كما لو كان الخارج عن عموم «أكرم العلماء» خصوص معلوم الفسق منهم ; فإنّه مع الشكّ في تحقّق الفسق وعدمه ، وعدم ثبوت الحالة السابقة لأحد الطرفين لا محيص عن الرجوع إلى العامّ ، كما هو واضح.
وأمّا الجواب عن المناقشة بأ نّه إذا كان المخصّص لُبِّيّاً لا مانع من الرجوع ، والمقام من هذا القبيل ، فيرد عليه بأ نّه لو سلّمنا أنّ الخارج عن المطلقات إنّما هي صورة المخالفة الواقعيّة ، والتمسّك بها مع الشكّ في المخالفة من قبيل التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد ; لكنّه نقول : إنّ خروج المخالفة ليس لأجل حكم العقل بلزوم اجتماع النقيضين أو الضدّين حتى يكون المخصّص لُبِّياً ; فإنّه على هذا التقدير لا يبقى فرق بين صورة اختلاف المجتهدين في الفضيلة وتساويهما ، بل لأجل خصوص ما يدلّ على خروج صورة مخالفة المجتهدين مع اختلافهما في الفضيلة ودوران الأمر بين العالم والأعلم .
وبعبارة أُخرى : محلّ الكلام خروج صورة المخالفة في المقام لا مطلقاً ، ومن المعلوم ـ كما مرّ ـ أنّ الدليل على خروجها إنّما هو مثل المقبولة المتقدّمة(1) ،
(1) في ص146 ـ 147 .
(الصفحة 165)
ولاينحصر بالأدلّة اللُّبيّة ; لِما عرفت(1) من الوجوه المتقدّمة المتعدّدة الدالّة على تعيّن تقليد الأعلم ، مع العلم بالاختلاف، فراجع .
وأمّا ما أُفيد أخيراً من إحراز الفرديّة بمعونة الأصل الموضوعي ، فيرد عليه : عدم تماميّته في المقام ; لأنّ إجراء استصحاب عدم المخالفة نظير استصحاب عدم القرشيّة قد حقّقنا في الاُصول عدم تماميّته ; لعدم وجود الحالة السابقة ، وإجراؤه بنحو الاستصحاب النعتي أيضاً غير تامّ ; لأنّ عدم الاختلاف في الفتوى قبل الاجتهاد أو الاستنباط إنّما هو بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع ، ومجرّد ثبوت الشخصين لايصحّح النعتيّة بوجه ، بل لابدّ من ملاحظة وجود موضوع الاختلاف وهو الفتوى والنظر والرأي والاعتقاد ، وليس له حالة سابقة كما هو ظاهر . هذا ، وقد عرفت(2) الجواب عن أصل الاستدلال ; وهو منع الإطلاق كما مرّ .
الثاني : أنّ الأئمة(عليهم السلام) قد أرجعوا عوامّ الشيعة إلى خواصّ أصحابهم ; كزرارة ، ومحمّد بن مسلم ، ويونس بن عبدالرحمن ، وزكريا بن آدم ، وأضرابهم ، وهم على تقدير كونهم متساويين في الفضيلة ، فلا أقلّ من أنّ بينهم الإمام(عليه السلام) الذي لايحتمل فيه الخطأ والاشتباه أصلا ، فالوجه في الإرجاع إنّما هو عدم معلوميّة الاختلاف بينهم وبينه(عليه السلام) .
وحينئذ نقول : إذا جاز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم الذي لا يجري فيه احتمال الخطأ عند عدم العلم بالاختلاف ، فجوازه مع وجود الأعلم الذي يجري فيه هذا الاحتمال في هذه الصورة بطريق أولى (3).
(1) في ص 140 ـ 153 .
(2) في ص 154 .
(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 162.
(الصفحة 166)
والجواب عنه ما مرّ سابقاً(1) من أنّ الظاهر أنّ الإرجاع إنّما هو لأجل عدم الاختلاف بينهم وبينه لعدم الواسطة ، لا لأجل عدم العلم بالاختلاف ، مضافاً إلى أنّ الوصول إلى الإمام(عليه السلام) لم يكن ميسوراً غالباً ; لوجود موانع كثيرة وروادع متنوّعة ، وقد صرّح ببعضها في بعض روايات الإرجاع ، كرواية الإرجاع إلى زكريا بن آدم ، حيث يقول الراوي : شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت(2) . فلا مجال للاستدلال بهذه الروايات على حكم المقام .
الثالث : التمسّك بالسيرة العقلائيّة مع عدم العلم بالاختلاف (3).
والجواب ما مرّ سابقاً(4) من أنّ السيرة قد استقرّت على الرجوع إلى الأعلم ولو مع الشكّ في المخالفة . غاية الأمر فيما إذا كانت الخصوصيّات التي ذكرناها محفوظة . فالإنصاف أ نّه لا فرق في تعيّن تقليد الأعلم بين صورة العلم بالمخالفة وصورة الشكّ فيها أصلا ، وأنّ الدليل على التعيّن في المقامين واحد . هذا تمام الكلام
في المقام الأوّل .
المقام الثاني : في وجوب الفحص عن الأعلم ، والدليل على الوجوب هو الدليل على وجوب الفحص عن المجتهد ; لأ نّه إذا لم يرد المكلّف العامّي العمل على طبق الاحتياط الذي به يحصل القطع بالامتثال وتحقّق الفراغ عن عهدة التكاليف
(1) في ص 154 ـ 155 .
(2) اختيار معرفة الرجال ، المعروف بـ «رجال الكشّي» : 595 ح1112 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 146 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح27 .
(3) رسالة في تقليد الأعلم للمحقّق الرشتي: 71; التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 162ـ163.
(4) في ص161 .
(الصفحة 167)
المعلومة بالإجمال ، المنجّزة عليه بسبب هذا العلم ، وأراد الاستناد إلى الحجّة وتطبيق العمل عليها ، فلابدّ له من الفحص عنها ليظفر بها ، وكما أنّ فتوى المجتهد حجّة عليه مع الانفراد فيجب الفحص عنها ، كذلك فتوى الأعلم حجّة عليه تعييناً ، بناءً على تعيّن تقليده كما اخترناه ، فيجب الفحص عنها ، كما أنّ المجتهد يجب عليه الفحص عن الحجّة إذا لم يرد الاحتياط ، وممّا ذكرنا ظهر أنّ وجوب الفحص وجوب عقليّ إرشاديّ ، والغرض منه عدم وقوع المكلّف في معرض احتمال المخالفة المستتبعة للعقوبة ، كما هو واضح .
المقام الثالث : فيما إذا تساوى المجتهدان في العلم ، أو لم يعلم الأعلم منهما .
أمّا صورة إحراز التساوي ، فقد مرّ(1) البحث عنها مفصّلا في المسألة الرابعة المتعرّضة لبحث العدول .
وأمّا صورة عدم العلم بالأعلم منهما ; بمعنى وجود الأعلم يقيناً بينهما وجريان احتمال الأعلميّة في كلّ منهما ، فالحكم فيها لا محالة هو التخيير ; لثبوت الحجّيّة لكلتا الفتويين وعدم مزيّة في البين ; لجريان احتمال الأعلميّة في كلا المجتهدين ; لكنّه فيما إذ لم يكن المورد من موارد إمكان الاحتياط ، إمّا لأجل عدم إمكانه بنفسه ،
وإمّا لأجل عدم سعة الوقت للجمع بين الفتويين ، وأمّا إذا كان المورد من موارد إمكان الاحتياط فسيأتي البحث عنه في المسألة السادسة ، ولا فرق بين أن تكون المخالفة بينهما معلومة أو مشكوكة .
نعم ، لو كان هناك احتمال التساوي أيضاً يتحقّق فرق ، من جهة أ نّه ـ مع عدم هذا الاحتمال ـ لا مجال لجريان استصحاب عدم الأعلميّة بوجه ; لأجل المعارضة
(1) في ص 116 ـ 136 .
(الصفحة 168)
والمخالفة للعلم الإجمالي بوجود الأعلم في البين ، ومعه لا مانع من جريانه من هذه الحيثيّة ; لعدم وجود العلم الإجمالي ، إلاّ أ نّه لا يترتّب عليه ثمرة ; لأنّ الحكم بالتساوي الذي هو حكم العقل إنّما يكون موضوعه مجرّد جريان احتمال الأعلميّة في كلا المجتهدين ، فلا حاجة إلى إثبات التساوي بالاستصحاب ، وهذا نظير حكم العقل بلزوم الإتيان بالواجب الذي شكّ في الإتيان به وتحقّق الفراغ عن عهدته ; فإنّ مجرّد الشكّ يكفي في حكم العقل بالاشتغال ، ولا حاجة إلى إثبات عدم الإتيان بالاستصحاب ، كما هو غير خفيّ .
المقام الرابع : فيما إذا كان المجتهدان متساويين في العلم ، ولكنّه كان أحدهما المعيّن أورع أو أعدل ، وقد حكم في المتن بأنّ الأولى الأحوط اختياره ، ومرجعه إلى عدم تعيّنه ; لعدم كون الاحتياط بنحو الوجوب ، ولكنّه ربما يقال بأ نّه يجب على المكلّف العامّي اختياره ، وأنّ الأورعيّة مرجّحة مثل الأعلميّة ، بل يظهر من العروة(1) قيام الدليل على مرجّحيّة الأورعيّة ، واقتضاء حكم العقل بالاحتياط مرجّحيّة الأعلميّة ، وعليه : فتكون الأورعيّة أقوى من الأعلميّة ، وكيف كان ،
فما يمكن أن يستدلّ به على مرجّحية الأورعيّة اُمور :
أحدها : المقبولة وما يشابهها من الروايات الواردة في باب القضاء ، الدالّة على الترجيح بالأورعيّة ، ففي المقبولة : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما
في الحديث وأورعهما(2) .
والجواب : ما عرفت من ورودها في باب القضاء وفصل الخصومة(3) ، ولم يقم
(1) العروة الوثقى : 1 / 7 مسألة 13 .
(2) تقدّمت في ص 146 .
(3) في ص147 ـ 151 .
(الصفحة 169)
دليل على أنّ كلّ ما هو مرجّح هناك فهو مرجّح في باب التقليد والفتوى ، ولا مجال لإلغاء الخصوصيّة بعد كون غرض الشارع في ذلك المقام هو فصل الخصومة وقطعها ، بحيث لا يبقى نزاع بين المؤمنين الذين هم إخوة ويد واحدة ، ولا مجال فيه للتوقّف أو التخيير أو أشباههما ، وهذا بخلاف باب التقليد الذي مناطه رجوع الجاهل إلى العالم ، وأخذ العامي بالحجّة فراراً عن الاحتياط اللازم بحكم العقل ، وهذا لا ينافي التخيير بوجه .
مع أنّ ظاهر المقبولة كون الأوصاف الأربعة مرجّحة في حال الاجتماع ، لا كون كلّ واحد مرجّحاً مستقلاًّ ، فالاستدلال بمثل ذلك ممّا ليس له مجال .
ثانيها : دعوى الإجماع على أنّ العامي لا يجب عليه الاحتياط ، بل يجوز له أن يستند في أعماله مطلقاً إلى فتوى من يجوز تقليده من المجتهدين (1).
وقد اُورد عليها بأنّ الإجماع المدّعى إن قلنا بأ نّه تامّ في نفسه فلا مناص من أن تكون الأورعيّة مرجّحة في المقام ; لأنّ العامي مكلّف بالرجوع إلى أحد المجتهدين المتساويين في الفضيلة ، فإذا كان أحدهما أورع ـ كما هو الفرض ـ دار الأمر بين أن تكون فتوى كلّ منهما حجّة تخييريّة وأن تكون فتوى الأورع حجّة تعيينيّة ، وقد مرّ أنّ الأمر في الحجّية إذا دار بين التعيين والتخيير يجب الأخذ بما يحتمل تعيّنه ، وإن قلنا بأ نّه غير تامّ ـ كما هو كذلك ـ فلا مجال لمرجّحيّة الأورعيّة أصلا (2).
ويمكن الجواب عن هذا الإيراد بأنّ الإجماع على تقدير تماميّته لا يقتضي مرجّحيّة الأورعيّة ، بل المقتضي لها ـ كما ذكر ـ إنّما هو حكم العقل بوجوب الأخذ
(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري، ضمن مجموعة رسائل: 48 ـ 49، مستمسك العروة الوثقى: 1 / 21.
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 175 .
(الصفحة 170)
بما يحتمل تعيّنه ، فهذا الحكم العقلي لا ارتباط له بالإجماع ; فإنّ غاية مفاده هو عدم وجوب الاحتياط ، وهو يجتمع مع التخيير في المورد المفروض ، إلاّ أن يقال بتركّب الدليل من الإجماع على عدم وجوب الاحتياط ، وحكم العقل بالتعيين عند الدوران بينه وبين التخيير . وعليه : فيتّحد مع الدليل الثالث ; لأنّ مبناه عدم وجوب الاحتياط .
ثالثها : ـ وهو العمدة ـ حكم العقل بلزوم الأخذ بما يحتمل تعيّنه عند دوران أمر الحجّية بين التعيين والتخيير ، كما مرّ مراراً(1) .
وناقش في هذا الدليل بعض المحقّقين بأنّ قياس الأورعيّة بالأعلميّة قياس مع الفارق ; لأنّ احتمال التعيين في الثاني مستند إلى أقوائيّة الملاك في الأعلم عن الملاك في غيره ; لأنّ الملاك في حجّية الفتوى والنظر هو العلم والفقاهة ، وأمّا الأوّل فاحتمال التعيين فيه مستند إلى أمر خارج عن الملاك ، ولا يقتضي الأصل فيه التعيين ; لتساويهما فيما هو ملاك الحجّية الذي هو العلم ، ومجرّد أورعيّة أحدهما لادخالة فيه فيما هو الملاك أصلا(2) .
ويرد عليه : أ نّه إن كان المراد من ذلك أ نّه لا يجري احتمال الترجيح بالإضافة إلى الأورع ، بل يقطع بعدم المزيّة للأورعيّة ، نظراً إلى تساوي الملاك فيهما ، فهو خارج عن محلّ الكلام ; لأنّ المفروض صورة جريان هذا الاحتمال وعدم القطع بالعدم . وإن كان المراد أ نّه مع جريان هذا الاحتمال نظراً إلى احتمال أن يكون الشارع
قد جعل للأورع مزيّة ورجحاناً ـ وإن كان بحسب نظر العقلاء وملاك سيرتهم
(1) في ص138 ـ 139 ، 158 .
(2) بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 64 ـ 65 .
(الصفحة 171)
لادخالة فيه أصلا ; لأنّ الملاك عندهم مجرّد رجوع الجاهل إلى العالم من دون مدخليّة لخصوصيّة أُخرى ، إلاّ أنّا نعلم بأنّ الشارع اعتبر بعض الخصوصيّات غير المعتبرة عند العقلاء ; كالعدالة والحرّية والرجوليّة على خلاف في بعضها . وحينئذ نحتمل أنّ خصوصيّة الأورعيّة كانت دخيلة في مقام الترجيح عند الشارع ، خصوصاً مع ملاحظة دخالتها في الترجيح في باب القضاء كما في المقبولة(1) ، ومع ذلك لا يكون مرجّحاً عند ذلك البعض .
فنقول : إ نّه لا محيص حينئذ عن الأخذ بخصوص فتوى الأورع ; لأنّها حجّة قطعاً ، وفتوى غيره مشكوكة الحجّية . فلم يبق فرق حينئذ بين المقام ، وبين مسألة تقليد الأعلم في المقام الأوّل .
فالإنصاف أنّ مقتضى حكم العقل من باب الاحتياط بلزوم الأخذ بالمعيّن ; هو لزوم الأخذ بخصوص فتوى الأورع ، كلزوم الأخذ بخصوص فتوى الأعلم . غاية الأمر قيام الدليل على التعيّن في الثاني ، واقتضاء أصالة التعيين العقليّة له في الأوّل ، عكس ما اختاره صاحب العروة(قدس سره) ، ولا يعرف وجه ـ لما أفاده ـ ممّا مرجعه إلى أقوائيّة مرجّحيّة الأورعيّة بالإضافة إلى الأعلميّة ، كما أ نّه لا وجه لما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ دام ظلّه ; لأنّ حكم العقل بالاحتياط في مسألة الأعلم يجري بعينه في هذه المسألة ، من دون فرق بينهما .
المقام الخامس : فيما إذا تردّد الأمر بين شخصين يحتمل أعلميّة أحدهما المعيّن دون الآخر ، وقد حكم في المتن بتعيّن تقليد محتمل الأعلميّة على نحو الاحتياط اللزومي ، والحقّ كما أفاده ; لدوران الأمر بين ما يكون مقطوع الحجّية ، وبين
(1) تقدّمت في ص146 ـ 147 .
(الصفحة 172)
ما يكون مشكوك الحجّية . وقد مرّ(1) أنّ مقتضى حكم العقل بأصالة التعيين عند دوران الأمر بينه ، وبين التخيير في باب الحجّية ، هو الأخذ بالمعيّن ; لأنّ الشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدمها ، وعدم ترتّب شيء من آثار الحجّية عليه .
ولا فرق فيما ذكر بين صورة إمكان الاحتياط وعدمه ، ولا بين صورة العلم بالمخالفة والشكّ فيها ، وذلك ـ لما مرّ سابقاً(2) ـ من عدم قصور أدلّة الحجّية في مثل المقام عن الشمول للمتعارضين ; لأنّ الحجّية المجعولة إنّما هي بنحو البدليّة لا الطبيعة السارية ، وما مرّ(3) أيضاً من عدم الفرق في تعيّن تقليد الأعلم بين ما إذا علم بالمخالفة أم لم يعلم بها ، فلا فرق بناءً على هذين المبنيين بين الموارد ، ومقتضى حكم العقل في جميعها تعيّن الرجوع إلى محتمل الأعلميّة .
نعم ، ربما يقال(4) بجريان استصحاب عدم الأعلميّة بالإضافة إلى من يجري فيه احتمالها ، فالحكم حينئذ هو التخيير ; لما عرفت(5) من أنّ حكم العقل بأصالة التعيين إنّما هو فيما إذا لم يجر أصل شرعيّ مقتض للتخيير ، وعدم لزوم الأخذ بخصوص الطرف الواحد .
وقد نوقش في جريانه تارة بأ نّه معارض باستصحاب عدم تحصيله قوّة مساوية لقوّة الآخر ، نظراً إلى أنّ قوّة الاجتهاد إنّما تكون على نحو الكلّي المشكّك ، ويكون الاختلاف بين المصاديق بالشدّة والضعف والكمال والنقص ، من دون
(1) في ص 138 ـ 139 ، 158 .
(2) في 125 ـ 127 ، 141 ـ 142 و 154 .
(3) في ص140 ـ 161 .
(4) اُنظر رسالة في تقليد الأعلم للمحقّق الرشتي: 65 ـ 67 .
(5) في ص158 ـ 159 .
(الصفحة 173)
مسألة6: إذا كان الأعلم منحصراً في شخصين ولم يتمكّن من تعيينه، تعيّن الأخذ بالاحتياط ، أو العمل بأحوط القولين منهما على الأحوط مع التمكّن، ومع عدمه يكون مخيّراً بينهما 1.
أن يكون هناك تركّب في البين ، بحيث تكون القوّة الكاملة مركّبة من القوّة الناقصة مع الزيادة حتّى يكون أصل القوّة معلومة والزيادة مشكوكة يجري فيها الأصل ، بل الاختلاف إنّما هو بما ذكر من الكمال والنقص ، فاستصحاب عدم تحصيل القوّة الكاملة معارض باستصحاب عدم تحصيل القوّة الناقصة ; للعلم الإجمالي بوجود إحدى القوّتين وتحقّق إحدى الملكتين .
وأُخرى بأ نّه مثبت; لأ نّه لا يثبت به التساوي الذي هو الموضوع للحكم بالتخيير(1) .
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة : بأنّ استصحاب عدم الأعلميّة يكفي في نفي
لزوم الأخذ بفتواه وعدم تعيّنه ، ولا يلزم إثبات التساوي ; لعدم كون التساوي فقط موضوعاً للحكم بالتخيير ، فتدبّر .
1 ـ هذه المسألة تقييد لما أطلقه الماتن ـ دام ظلّه ـ في المسألة السابقة من الحكم بالتخيير فيما إذا لم يعلم الأعلم من الشخصين ، وكان كلّ واحد منهما محتمل الأعلميّة ، ومرجعها إلى أنّ التخيير المذكور هناك إنّما هو فيما إذا لم يتمكّن من الاحتياط ، إمّا لأجل عدم إمكانه بنفسه ، وإمّا لأجل عدم سعة الوقت للجمع بين الفتويين ، أو الأخذ بأحوطهما .
وأمّا مع التمكّن من الاحتياط ، أو العمل بأحوط القولين منهما ، فالمتعيّن بمقتضى
(1) دروس في فقه الشيعة : 1/89 .
(الصفحة 174)
مسألة 7 : يجب على العامّي أن يقلّد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم، فإنْ أفتى بوجوبه لا يجوز له تقليد غيره في المسائل الفرعيّة، وإن أفتى بجواز تقليد غير الأعلم تخيّر بين تقليده وتقليد غيره . ولا يجوز له تقليد غير الأعلم إذا أفتى بعدم وجوب تقليد الأعلم. نعم، لو أفتى بوجوب تقليد الأعلم يجوز الأخذ بقوله، لكن لا من جهة حجّية قوله ، بل لكونه موافقاً للاحتياط 1.
الاحتياط اللازم عقلا هو الأخذ بالاحتياط ، أو العمل بأحوطهما ; وذلك لأنّ
انحصار الأعلم في شخصين يوجب العلم الإجمالي بوجود الفتوى التي هي حجّة في البين ، وهي فتوى الأعلم من المجتهدين ، وحيث لا سبيل له إلى الوصول إليها تفصيلا ، وتطبيق العمل عليها كذلك ، والمفروض تمكّنه من الأخذ بالاحتياط ، أو أحوط القولين ، فلابدّ له من الاحتياط المطابق للواقع قطعاً ، أو الأخذ بأحوط القولين غير المخالف لفتوى الأعلم كذلك .
وأمّا مع عدم التمكّن من شيء منهما ، فلا مناص عن التخيير ; لعدم ثبوت الترجيح في البين ، وعدم طريق له غير فتوى المجتهدين ، كما هو ظاهر .
1 ـ البحث في هذه المسألة يقع في أُمور :
الأمر الأوّل : أ نّه يجب على العامّي أن يقلّد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم ، وقد عرفت في المسألة السابقة المتعرّضة للبحث عن تقليد الأعلم : أنّ مسألة وجوب تقليد الأعلم لا تكون تقليديّة ، كأصل مسألة التقليد(1) ; بمعنى
أنّ الذي يحمل العامّي على الرجوع إلى الأعلم حينما يريد التقليد والرجوع
إلى الغير ، ليس إلاّ حكم عقله وإدراكه ، وإلاّ فالحامل له عليه لا يكاد يمكن
(1) في ص138 ـ 139 .
(الصفحة 175)
أن تكون فتوى المجتهد ، ولو كان أعلم بلزوم الرجوع إلى الأعلم ; للزوم الدور ، فتأمّل .
فإذا تعيّن عليه الرجوع إلى حكم عقله ، فإن احتمل تعيّن تقليد الأعلم واختصاص جواز الرجوع به ، فلا مناص له عن الرجوع إليه ; لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وحكم العقل بلزوم الاحتياط فيه بالأخذ بما يحتمل فيه التعيّن ; لأ نّه بالأخذ به لا يكون الضرر والعقاب محتملا أصلا ، وأمّا مع الرجوع إلى غير الأعلم يكون احتمال العقاب الذي يكون هو الموضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل موجوداً ، فهذه القاعدة العقليّة تحكم عليه بلزوم الرجوع إلى الأعلم . وإن لم يحتمل تعيّن تقليد الأعلم ولم يقع في ذهنه احتمال تعيّنه أصلا ، بل حكم عقله بالتساوي ، فلا يكون هنا ملزم له على الرجوع إلى الأعلم ، بل يسوغ له أخذ فتوى غيره والرجوع إليه ، كما هو ظاهر .
الأمر الثاني : إذا رجع بمقتضى حكم عقله إلى الأعلم ، فتارة : يفتي الأعلم بوجوب تقليد الأعلم . وأُخرى : يفتي بجواز تقليد غيره .
ففي الصورة الأُولى : لا يجوز له تقليد غيره في المسائل الفرعيّة ، بل يجب عليه تطبيق العمل على فتاويه في جميع المسائل ، ولا وجه لجواز الرجوع إلى الغير في المسائل الفرعيّة أصلا ، كما هو واضح .
وفي الصورة الثانية: يتخيّر بين الأخذ بفتاوي الأعلم في تلك المسائل ، والأخذ بفتاوي غيره فيها ، ولا يسمّى ذلك عدولاً حتّى لا يجوز قطعاً ; لأنّه من العدول من الأعلم إلى غيره ، بل الأصل في فتوى غيره والأخذ بها إنّما هو تجويز الأعلم وفتواه ، ففي الحقيقة يكون مقلّداً للأعلم ومستنداً إليه ، فلا وجه لتحقّق العدول كما هو ظاهر .
(الصفحة 176)
الأمر الثالث : إذا رجع إلى غير الأعلم ، فتارة : يفتي بعدم وجوب تقليد الأعلم ، وأُخرى: يفتي بوجوبه .
ففي الصورة الأُولى: إن كان مستند الرجوع إلى غير الأعلم هو حكم عقله بالتساوي وإداركه عدم ثبوت المزيّة للأعلم بوجه ، فيجوز له تقليده في سائر المسائل وتطبيق العمل على فتاويه فيها ، وإن كان الرجوع مع احتمال تعيّن الأعلم وثبوت المزيّة له فلا يجوز له تقليده فيها ، والأخذ بفتاويه في المسائل الفرعيّة ; لِما عرفت من أ نّه مع احتمال تعيّن الأعلم يكون مقتضى أصالة التعيين العقليّة ـ الجارية في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب الحجّية ـ هو الأخذ بقوله والاستناد إلى فتاويه وتطبيق العمل عليها .
وفي الصورة الثانية : يجب الرجوع إلى فتاوي الأعلم والأخذ بقوله ; سواء كان ذلك مع احتمال تعيّن الأعلم أم كان بدونه . أمّا إذا كان بدونه ; فلأنّ فتوى المجتهد غير الأعلم ـ التي حكم العقل بحجّيتها وعدم ثبوت المزيّة لفتوى الأعلم ـ هي وجوب الرجوع إلى الأعلم والأخذ بقوله . نعم ، بناءً على جواز العدول ، يمكن له أن يرجع إلى مجتهد آخر لا يفتي بوجوب الرجوع إلى الأعلم .
وأمّا إذا كان مع احتمال تعيّن الأعلم ; فلأنّ وجوب الرجوع إلى الأعلم ليس حينئذ لأجل فتوى غير الأعلم به ، بل لأجل مطابقته للاحتياط اللازم عقلا عند الدوران المذكور ، فالأخذ بقوله ليس لأجل حجّية قول غير الأعلم ، بل لأجل المطابقة المذكورة ، فتأمّل .
(الصفحة 177)
[جواز التبعيض في التقليد]
مسألة8: إذا كان المجتهدان متساويين في العلم يتخيّر العامّي في الرجوع إلى أيّهما،كمايجوز له التبعيض في المسائل بأخذبعضهامن أحدهماوبعضها من الآخر 1.
1 ـ أمّا التخيير في التقليد فيما إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم ولم يكن لأحدهما مزيّة على الآخر مثل الأورعيّة ، فقد تقدّم البحث عنه في المسألة الرابعة(1) بما لا مزيد عليه ، وذكرنا هناك أنّ الحجّية التخييريّة مع كونها معقولة في مقام الثبوت ـ بالمعنى الذي ذكرنا ـ قام الدليل عليها من النصّ والإجماع والسيرة في مقام الإثبات ، من دون فرق بين ما إذا كانت المخالفة بينهما مشكوكة أو معلومة ، فلا حاجة إلى إعادة هذا البحث .
وأمّا جواز التبعيض في المسائل والرجوع إلى أحدهما في بعضها ، وإلى الآخر في البعض الآخر ، فلا ينبغي الإشكال فيه ; لفرض حجّية كلا الرأيين ، وجواز الرجوع إلى كلا المجتهدين ، وليس الدليل على التخيير منحصراً بالإجماع حتّى يناقش في شموله لصورة التبعيض ; بدعوى أنّ القدر المتيقّن منه التخيير في الرجوع بالإضافة إلى جميع المسائل لا التبعيض . هذا إذا كانت المسائل مختلفة لا ترتبط بأجزاء عمل واحد أو شرائطه .
وأمّا إذا كانت مرتبطة بها ، كما إذا قلّد أحدهما في عدم وجوب السورة في الصلاة ، والآخر في الاكتفاء بالتسبيحات الأربع مرّة واحدة ، وصلّى بهذه الكيفيّة المركّبة من عدم السورة والتسبيحات مرّة واحدة ، فهل يجوز التبعيض حينئذ ،
(1) في ص116 ـ 122 .
(الصفحة 178)
وتكون صلاته صحيحة أم لا؟
ربما يقال بأ نّه إذا قلنا باختصاص جواز التخيير بين المجتهدين المتساويين بما
إذا لم تعلم المخالفة بينهما في الفتوى ، فالتبعيض بهذه الكيفيّة أيضاً جائز ، وأمّا
إذا عمّمنا الجواز لصورة العلم بالمخالفة ، فلا يجوز التبعيض بالإضافة إلى مركّب واحد ; لأنّ صحّة كلّ جزء من الأجزاء الارتباطيّة مقيّدة بما إذا أتى بالجزء الآخر صحيحاً ، فمع بطلان جزء منها تبطل الأجزاء بأسرها ، فإذا أتى بالصلاة مع الكيفيّة المذكورة واحتمل بعد ذلك بطلان ما أتى به ; لعلمه بمخالفة كلا المجتهدين ، فلا
محالة يشكّ في صحّة صلاته وفسادها، ولابدّ من أن يستند في ذلك إلى الحجّة
المعتبرة ، والمفروض عدمها ; لبطلان الصلاة عند كلا المجتهدين وإن اختلفا في مستند الحكم بالبطلان .
ويرد عليه :
أوّلا : أنّ تجويز التبعيض بهذه الكيفيّة أيضاً بناءً على الاختصاص غير
واضح ; لأنّ مجرّد عدم العلم بالمخالفة بينهما في الفتوى وإن كان موجباً لجواز الرجوع إلى كلّ واحد من المجتهدين ، إلاّ أنّ صحّة الصلاة لابدّ وأن تكون مستندة إلى الحجّة المعتبرة القائمة عليها ، والمفروض عدم إحرازها . غاية الأمر أنّ الفرق بينه وبين القول بالتعميم أ نّه بناءً على الثاني يكون بطلان الصلاة عند كليهما معلوماً للمقلّد. وأمّابناءً على الأوّل، فلم يحرز حكم واحد منهما بالصحّة وإن لم يعلم
الحكم بالبطلان أيضاً ، ومجرّد ذلك لا يكفي ، بل لابدّ من إحراز الحكم بالصحّة ، كما
هو ظاهر .
وثانياً : أنّ معنى صحّة العمل المركّب ليس إلاّ اشتماله على الأجزاء المعتبرة فيه والجهات المرعيّة وجوداً أو عدماً ، فإذا فرضنا أ نّه لا طريق له إلى تشخيصها غير
(الصفحة 179)
الرجوع إلى العالم بها ، والمفروض وجود عالمين متساويين لا يفضّل واحد منهما على الآخر ، وليس الحكم في مثله هو التساقط والرجوع إلى أمر آخر ، فما المانع من الرجوع في تشخيص الأجزاء إلى كليهما ، فيترك السورة استناداً إلى فتوى أحدهما بعدم الجزئيّة ، ويترك الزائدة على الواحدة في التسبيحات الأربع استناداً إلى فتوى الآخر بعدم لزوم الزائد ، ولا وجه لاعتبار أن يكون المجموع محكوماً بالصحّة عند واحد منهما ; فإنّ الصحّة ليست إلاّ عبارة عمّا ذكرنا ، ولا معنى لعدمها بعد ثبوت التخيير في المتساويين ولو مع العلم بالمخالفة بينهما ، فالأقوى بمقتضى ما ذكرنا جواز التبعيض بهذه الكيفيّه بناءً على القولين .
ثمّ إنّ التبعيض بمعنى الرجوع في كلّ واقعة إلى أحدهما ـ كأن يرجع في حكم صلاة الجمعة في جمعة إلى واحد ، وفي حكمها في جمعة اُخرى إلى آخر ـ يرجع
إلى ما تقدّم البحث عنه مفصّلاً من أ نّ التخيير بين المجتهدين المتساويين هل يكون ابتدائيّاً أو استمراريّاً ؟ فعلى الأوّل: لا مجال له . وعلى الثاني: يكون التخيير
مستمرّاً في كلّ جمعة .
وقد مرّ أنّ مقتضى التحقيق هو الثاني(1) .
(1) في ص124 ـ 136 .
(الصفحة 180)
[وجوب الاحتياط في زمان الفحص]
مسألة9: يجب على العامّي في زمان الفحص عن المجتهد أو الأعلم أن يعمل بالاحتياط. ويكفي في الفرض الثاني الاحتياط في فتوى الذين يحتمل أعلميّتهم; بأن يأخذ بأحوط أقوالهم 1.
1 ـ أمّا وجوب الاحتياط في زمان الفحص عن المجتهد أو الأعلم ، فلِما مرّ في المقدّمة(1) من أ نّه يحكم العقل ـ بعد الالتفات إلى أصل التشريع ، وحصول العلم بثبوت أحكام إلزاميّة كثيرة في الشريعة ، ولزوم رعايتها والتعرّض لامتثالها ; لعدم
كون الناس مهملين في أُمورهم ، مفوّضين إلى اختيارهم ، مضافاً إلى التوعيد الثابت من الشرع قطعاً على ترك التعرّض ـ بلزوم التخلّص عن ترتّب العقوبة وتحصيل المؤمّن من العذاب ، وهو يحصل إمّا بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط ، وحيث لا يكون مجتهداً كما هو المفروض ، ولم يتحصّل له فتوى المجتهد أو الأعلم ; لأ نّه بعد في زمان الفحص عن الحجّة ولم يصل إليها ، فيتعيّن عليه الاحتياط حتّى يتحقّق له الطريق الآخر ، فيتخيّر بينهما ، كما لا يخفى .
وأمّا الاكتفاء في خصوص الفرض الثاني بالاحتياط ـ في فتوى الذين يحتمل أعلميّتهم بالأخذ بأحوط أقوالهم ـ فللعلم الإجمالي بوجوب الحجّة ; وهي فتوى الأعلم بينهم ، فالأخذ بأحوط أقوالهم يوجب الأخذ بقول الأعلم أيضاً ، فلا يجب عليه الاحتياط المطلق الموافق للواقع قطعاً ، بل يتخيّر بنيه وبين الأخذ بأحوط أقوالهم ، وهو ظاهر .
(1) في ص9 ـ 13 .
|