(الصفحة 141)
الفصول(رحمه الله) (1) ، وبالجملة : فالظاهر اتّفاق من تقدّم عليه على تعيّن الأعلم للتقليد .
والجواب عن هذه الدعوى واضح ; لعدم صلاحيّة الإجماع المنقول للاستناد ، خصوصاً مع ملاحظة كون المسألة خلافيّة ، بحيث حكي عن «المسالك» أ نّه نسب هذا القول إلى الأشهر(2) ، وهو مشعر بعدم كون القول الآخر متّصفاً بالشذوذ والندرة ، ومع ذلك لا يبقى مجال لاستكشاف موافقة المعصوم(عليه السلام) ، خصوصاً مع قوّة احتمال أن يكون مستند المجمعين هو أحد الوجوه المذكورة لهذا القول ، فالإجماع في مثل هذه المسألة لا أصالة له بوجه ، ولا اعتبار له أصلا .
الثاني : أنّ مشروعيّة التقليد في الأحكام الشرعيّة إنّما ثبتت بالكتاب والسنّة وبغيرهما ، ومن المعلوم أنّ المطلقات الواردة في الكتاب والأخبار لا تشمل المتعارضين ، فإذا سقطت فتوى غير الأعلم عن الحجّية بالمعارضة يتعيّن الرجوع إلى الأعلم ; للعلم بعدم وجوب الاحتياط ، وكذا لو كان الدليل على المشروعيّة دليل الانسداد ; فإنّه لا يمكن أن يستنتج منه جواز تقليد غير الأعلم ; لأنّ النتيجة لا تكون كلّية ،بل هي عبارة عن حجّية فتوى عالم ما ،والقدرالمتيقّن فتوى الأعلم ، وقد استدلّ بهذا الوجه بعض الأعلام في «شرح العروة» على ما في تقريراته(3) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت(4) من عدم امتناع شمول الإطلاقات للمتعارضين في مثل المقام ، ممّا كانت الحجّية ثابتة بنحو البدليّة وصرف الوجود لابنحو الوجود الساري ـ : أ نّه ليت شعري ما الفرق بين المقام وبين تعارض
(1) الفصول الغرويّة : 423 .
(2) مسالك الأفهام : 13 / 343 .
(3) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 142 .
(4) في ص 125 ـ 127 .
(الصفحة 142)
المجتهدين المتساويين في الفضيلة ؟ حيث اختار هناك التساقط ووجوب الرجوع إلى الاحتياط مع إمكانه ، ولم يعتن بما مرّ(1) من قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط على المكلّف العامّي ، وهنا اختار تعيّن الرجوع إلى الأعلم نظراً إلى العلم بعدم وجوب الاحتياط عليه .
الثالث : ـ وهو العمدة ـ استمرار السيرة العقلائيّة واستقرارها على الرجوع إلى العالم الذي له مزيّة على غيره في العلم والفضيلة (2)، ولتوضيحه لابدّ من ملاحظة خصوصيّات ما هو المفروض في المقام ; ليظهر تعيّن الأعلم لديهم للرجوع إليه والانقياد له ، والأخذ بقوله ، وتطبيق العمل عليه ، فنقول :
لابدّ من فرض المورد فيما إذا كان هناك عالم وأعلم ، واُحرز الاختلاف بينهما في الرأي والاعتقاد والنظر والفتوى ، وأمكن الوصول إلى الأعلم والرجوع إليه والأخذ بقوله ، وكان المورد من الموارد الخطيرة التي لا مجال للمسامحة فيها بوجه ، ولا للإغماض عنها من جهة ، كما إذا كان المريض مشرفاً على الهلاك ، بحيث يكون علاجه مؤثّراً في بقاء حياته ، وعدمه موجباً للاطمئنان بموته ، ففي مثل هذا المورد لا خفاء في استمرار سيرتهم وجريانها على الرجوع إلى الطبيب المعالج الذي يكون أعلم من غيره في معالجة مثل هذا المرض ، بحيث لو رجع واحد منهم إلى غيره ولم يتحقّق العلاج ، فمات المريض بسبب مرضه لا يكون معذوراً عندهم ، وهذا بخلاف ما لو رجع إلى الأعلم فلم يؤثّر علاجه ; فإنّه حينئذ يكون معذوراً بلا إشكال .
وبالجملة : لا مجال للمناقشة في أصل جريان السيرة العقلائيّة ـ التي كانت هي
(1) في ص 119 .
(2) مستمسك العروة الوثقى: 1 / 28 ، دروس في فقه الشيعة : 1 / 79 ، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 142 .
(الصفحة 143)
الأساس في باب التقليد ورجوع العامي إلى المجتهد ـ على تعيّن الرجوع إلى الأعلم مع حفظ الخصوصيّات المذكورة المفروضة في محلّ الكلام ومورد النقض والإبرام ، فإذا لم يثبت ردع الشارع عن هذه الطريقة في محيط الشريعة ، فلابدّ من الالتزام بها وإعمالها فيها .
فالإنصاف أنّ هذا الوجه خال عن الإشكال لو لم يتمّ ما استدلّ به على عدم تعيّن تقليد الأعلم من الوجوه التي سيأتي التعرّض لها إن شاء الله تعالى(1) ; ضرورة أ نّه مع تماميّة واحد منها يتحقّق الردع وعدم الإمضاء ، كما لا يخفى .
الرابع : أنّ فتوى المجتهد إنّما اعتبرت من باب الطريقيّة إلى الأحكام الواقعيّة ، ومن المعلوم أنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غيره ; لسعة اطّلاعه وكثرة إحاطته بما لا يطّلع عليه غيره ; من النكات والدقائق والمزايا والخصوصيّات ، فلا محيص عن الأخذ به والرجوع إليه دون غيره (2) ، فهذا الوجه مركّب من صغرى وكبرى .
وقد أُجيب عنه بمنع الصغرى والكبرى :
أمّا الصغرى : فلأنّ فتوى غير الأعلم ربما تكون أقرب ; لموافقتها لفتوى من هو أعلم منه من الأموات ، أو من الأحياء غير الواجدين لشرائط جواز الرجوع إليهم من العقل والعدالة وشبههما ، بل ربما تكون موافقة لفتاوي جملة من الأحياء الواجدين لها ، فيكون الظنّ بها أقوى من الظنّ الحاصل من فتوى الأفضل (3) .
ولكنّه دفع هذا الجواب المحقّق الإصفهاني(قدس سره) في رسالته بما حاصله : أنّ الفتوى
(1) في ص 154 ـ 166 .
(2) الذريعة إلى اُصول الشريعة: 2 / 325، معالم الدين: 246 .
(3) كفاية الاُصول: 544، نهاية الأفكار: 4، القسم الثاني: 251 .
(الصفحة 144)
إذا كانت حجّة شرعاً أو عقلا لأجل إفادة الظنّ ، وأنّها أقرب إلى الواقع من غيرها فلا محالة ليس لأجل مطلق الظنّ بحكم الله تعالى ، ولذا لا يجوز للعامي العمل بظنّه ، بل لأجل أ نّه خصوص ظنّ حاصل من فتوى من يستند إلى الحجّة القاطعة للعذر ، فالحجّة شرعاً أو عقلا هو الظنّ الحاصل من الفتوى ، لا الظنّ بما أفتى به المجتهد وإن لم يحصل من فتوى المجتهد .
وعليه : فالفرق بين الأقربيّة الداخليّة والخارجيّة في كمال المتانة ، مضافاً إلى أنّ مطابقة فتوى المفضول لفتوى الأفضل من الأموات وإن كانت تفيد ظنّاً أقوى من الحاصل من فتوى الأفضل ، إلاّ أ نّه لا حجّيّة لفتوى الميّت حتى يكون الظنّ الحاصل من مطابقة المفضول له حجّة أقوى ، فمطابقته له كمطابقته لسائر الأمارات غير المعتبرة ، كما أنّ مطابقة فتوى المفضول لفتاوي جملة من الأحياء لا تفيد ظنّاً أقوى ; إذ المطابقة لتوافق مداركهم وتقارب أفهامهم وأنظارهم ، فالمدرك واحد والأنظار المتعدّدة في قوّة نظر واحد ، ولا يكشف التوافق عن أقوائيّة مدركهم ، وإلاّ لزم الخلف ; لفرض أقوائيّة نظر الأفضل من غيره .
ومنه يظهر بطلان قياس المقام بالخبرين المتعارضين ، حيث إنّ تعدّد الحكاية في واحد منهما يوجب ترجيحه ; لعدم كونها بمنزلة حكاية واحدة(1) .
ويمكن الإيراد عليه بأنّ غرض المجيب مجرّد إنكار الأقربيّة مطلقاً ، بمعنى أنّ فتوى الأعلم لا تكون أقرب في جميع الموارد ، وليس الغرض إثبات أقربيّة غير الأعلم في بعض الموارد بنحو يعتمد عليه ويحتجّ به ، فإثبات عدم حجّية الأقربية الحاصلة ـ بالإضافة إلى فتوى المفضول ـ لا مدخل له فيما هو المهمّ .
(1) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 53 ـ 54 .
(الصفحة 145)
وبالجملة : الغرض في هذا المقام مجرّد تحقّق الصغرى وعدمه ; ضرورة أنّ الأقربيّة الحاصلة لفتوى الأعلم تكون حجّيتها أوّل الكلام ، فالبحث ليس في مقام الاحتجاج ، بل في أصل وجود الأقربيّة وعدمها ، فالفرق بين الأقربيّة الداخليّة والخارجيّة خارج عمّا هو المهمّ في البحث عن الصغرى ، كما لا يخفى .
وأمّا الكبرى : فقد أجاب عنها المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية ; بأنّ ملاك
حجّية قول الغير تعبّداً ولو على نحو الطريقيّة لم يعلم أ نّه القرب من الواقع ،
فلعلّه يكون ما هو في الأفضل وغيره سيّان ، ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما
دخل أصلا . نعم ، لو كان تمام الملاك هو القرب ، كما إذا كان حجّة بنظر العقل لتعيّن الأقرب قطعاً(1) .
وقد اعترض على هذا الجواب المحقّق الاصفهاني(قدس سره) بما حاصله : أ نّه إن أُريد أنّ القرب إلى الواقع لا دخل له أصلا ، فهو خلاف الطريقيّة ، وإن أُريد أ نّه ليس بتمام الملاك فغير ضائر بالمقصود ; لأنّ فتوى الأفضل وإن ساوت فتوى غيره في بعض الملاك ; لكنّها تترجّح عليها في بعضه الآخر وهو الأقرب إلى الواقع ; لأ نّه ليس المراد بالأعلم من هو أقوى معرفة ، بحيث لا تزول بتشكيك المشكّك ، بل المراد به من كان أقوى نظراً في تحصيل الحكم من مداركه الشرعيّة والعقليّة من حيث مبادئ تحصيله وكيفيّة تطبيقه على مصاديقه ، فهو أكثر إحاطة بالجهات الموجبة لاستنباط الحكم من غيره ، فالتسوية بينه وبين غيره ترجع إلى التسوية بين العالم والجاهل(2) .
(1) كفاية الاُصول : 544 .
(2) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 54 ـ 55 .
(الصفحة 146)
ويرد عليه : أنّ الأعلميّة ـ بالمعنى الذي أفاده ـ إن كانت مؤثّرة في أصل الاستنباط وتحقّق الاجتهاد ، كما ربما يؤيّده تعبيره عن غيره بالجاهل الغافل عن الجهات الموجبة لاستنباط الحكم ، فاللازم حينئذ عدم جواز تقليد غيره مطلقاً ، ولو مع فقده ووجوب رجوعه إليه أيضاً ، كسائر العوام ، وإن لم تكن مؤثّرة في أصله ، بل في حسن الاستنباط وجودته ، فاللازم إقامة الدليل على مرجّحيّة حسن الاستنباط في مقام التقليد ورجوع العامّي إليه ، وليس في كلامه(قدس سره) ما يدلّ على ذلك .
فالإنصاف أنّ هذا الدليل المركّب من الصغرى والكبرى ممّا لا يتمّ الاستدلال به بوجه أصلا .
الخامس : طائفة من الروايات التي يمكن استفادة هذا الأمر منها :
منها : مقبولة عمر بن حنظلة ـ التي رواها المشايخ الثلاثة ـ قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في ديَن أو ميراث فتحاكما ـ إلى أن قال :ـ فإنْ كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ (حديثنا خ ل) فقال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر . قال : فقلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يُفضَّل (ليس يتفاضل خ ل) واحد منهما على صاحبه؟ قال : فقال : ينظر إلى ما كان من رواياتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ; فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ـ إلى أن قال :ـ
فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : ينظر فما وافق
(الصفحة 147)
حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة .
قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة ، والآخر مخالفاً لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟ فقال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد . فقلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر . قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال : إذا كان ذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك ; فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات(1) .
وفي رواية الصدوق : «وخالف العامّة فيؤخذ به ، قلت : جعلت فداك وجدنا أحد الخبرين» .
والمروي في الكافي إنّما هو صدر المقبولة(2) ، المشتمل على النهي عن التحاكم إلى الطاغوت ، ووجوب الرجوع إلى قاضي الشيعة ، كما أنّ المروي في الفقيه إنّما هو ذيلها ، المشتمل على السؤال عن اختلاف الحكمين إلى آخر المقبولة ، وليس التهذيب والاستبصار موجودين عندي فعلا حتى اُراجعهما .
وقد أوضح تقريب الاستدلال بها المحقّق الرشتي(قدس سره) في رسالته في مسألة تقليد الأعلم ، قال بعد ذكر المقبولة : دلّت على تقديم قول الأفقه والأصدق في الحديث على قول غيرهما عند الاختلاف في حكم الله تعالى .
(1) الفقيه : 3 / 5 ح18 ، تهذيب الأحكام : 6 / 301 ح845 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 /106 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح1 .
(2) أي في الكافي : 7 / 412 ح 5 ، ولكن روى في الكافي : 1 / 67 ح10 تمامها .
(الصفحة 148)
لا يقال : المراد بالحكم هو فصل الخصومة بقرينة السؤال في منازعة
الرجلين «في دَين أو ميراث» ، فلا دلالة لها على تقديم فتوى الأفقه ; لأ نّا
نقول :
أوّلا : أنّ الظاهر عدم القول بالفصل بين الحكم والفتوى ، فكلّ من قال بتقديم حكم الأعلم قال بتقديم فتواه أيضاً ـ إلى أن قال :ـ فالظاهر أنّ إنكار هذا الإجماع مكابرة واضحة اعترف به شيخنا ـ دام ظلّه العالي(1) ـ وهو كذلك . نعم ، الظاهر أ نّه لا عكس ; فإنّ من يقول بوجوب تقليد الأعلم لعلّه لا يقول بوجوب المرافعة عند الأعلم ، وإن كان الحقّ خلافه .
وثانياً : أنّ المراد بالحكم في الرواية ليس ما هو المصطلح عليه عند الفقهاء ; أعني القضاء ، بل الظاهر أنّ المراد به المعنى اللغوي المتناول للفتوى ، مثل قوله ـ تعالى ـ في غير موضوع : {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} الآية(2) . يدلّ على ذلك ـ زيادة على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ الحكم ـ قول الراوي : «وكلاهما اختلفا في حديثكم» ; فإنّ المتبادر كونه بياناً لاختلاف الحكم ، ومن الواضح أنّ الاختلاف في نفس القضاء ليس اختلافاً في الحديث .
نعم ، الاختلاف في فتوى رواة عصر الإمام(عليه السلام) اختلاف في الحديث ، نظراً إلى اشتراك الفتاوي ورواياتهم في الاستناد إلى السماع عن الإمام(عليه السلام) عموماً أو خصوصاً ، فيكون الاختلاف في الفتوى اختلافاً في الحديث . وكذا يدلّ عليه قول الإمام(عليه السلام) : «الحكم ما حكم به . . . وأصدقهما في الحديث» ; فإنّ صِدق الحديث إنّما
(1) رسالة في تقليد الأعلم للميرزا حبيب الله الرشتي : 31 ـ 32 .
(2) سورة المائدة : 5 / 45 .
(الصفحة 149)
يناسب ترجيح الفتوى التي هي بمنزلة الحديث دون القضاء ، ولا دلالة في منازعة المتحاكمين على كون المراد به القضاء ; لأنّ المتنازعين ربما ينشأ نزاعهما من جهة الاشتباه في الحكم الشرعي ، فيرجعان إلى من يحكم بينهما بالفتوى دون القضاء ، والظاهر أنّ نزاع الرجلين كان من هذه الجهة ، لا من جهة الاختلاف في الموضوع ، ومرجعه إلى الادّعاء والإنكار ، وإلاّ لَما كان لاختيار كلّ منهما حكماً وجه ; فإنّ فصل الخصومة حينئذ يحصل من حكم واحد .
ثمّ قال : واعلم أنّ جمع الحَكَمَين أو الحكّام في مسألة أو نزاع يتصوّر على وجوه :
الأوّل : أن يكون المقصود من اجتماعهم صدور الحكم منهم أجمع .
والثاني : أن يكون المقصود صدور الحكم من أحدهم ، ويكون المقصود من حضور الباقين إعانتهم للحاكم في مقدّمات الحكم لئلاّ يخطأ .
والثالث : أن يكون الحكم مقصود الصدور من بعض ، ومن الباقين إنفاذ حكمه وإمضائه .
ولا ريب أنّ الفرض الغالب المتعارف من جمع الحكّام دائر بين الصورتين الأخيرتين . وأمّا الصورة الأُولى: فبعيدة في الغاية ، ولم نسمع وقوع ذلك في شيء من الأزمنة ، ولو حملنا الحكم في الرواية على الحكم المصطلح لم تكد تنطبق على شيء من الصور . أمّا على الأخيرتين : فواضح ; لأنّ صريح الرواية صدور الحكم من كلّ من الحكمين ، والمفروض في هاتين الصورتين عدم صدور الحكم إلاّ من أحدهما . وأمّا على الصورة الأُولى: فمع ما فيه من تنزيل الرواية على فرض نادر ينافيه مافيها بعد ذكر المرجّحات. قال: «فقلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يُفضَّل واحد منهما على صاحبه ، قال : فقال : ينظر إلى ما كان من
(الصفحة 150)
روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك» ; فإنّ الأمر بالنظر إلى مدرك الحكمين من الروايات ، والأخذ بالمشهور ، لا يلائم تعارض الحكم المصطلح من وجهين :
أحدهما : أنّ شغل المترافعين ليس النظر في مدرك الحكمين والاجتهاد في ترجيح أحدهما على الآخر إجماعاً .
والثاني : أنّه إذا تعارض الحَكَمان ولم يكن في أحد الحاكِمَين مزيّة على الآخر في شيء من الأوصاف المزبورة ، فالمرجع حينئذ هو أسبق الحكمين ، بل لا يبقى بعد صدور الحكم من أحد الحكّام محلّ لحكم الآخر ، ولو حملت الرواية على ما إذا كان الحكمان قد صدرا دفعة واحدة ـ فمع بعده وإمكان القطع بعدمه عادة ـ يدفعه أنّ الحكمين يتساقطان حينئذ ، فلا وجه للأخذ بالمرجّحات(1) ، انتهى كلامه ، نقلناه بطوله لاشتماله على فوائد .
ولكنّه يرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ فرض الشبهة حكمية ، وجعل التنازع بين الرجلين في حكم كلّي شرعيّ لا يلائم مع كونهما غير مجتهدين ، كما هو الظاهر من مفروض السؤال ; فإنّ النزاع في الحكم الكلّي ليس من شأن العامّي ، بل وظيفته الرجوع إلى من يقلّده ، وإلى أنّ حمل الرواية على الفتوى لا يناسب النظر في مدرك الفتوى ; فإنّ العامي ليس من شأنه النظر في مدرك فتوى المجتهد ، ولا يكون أهلا لذلك ، كما أ نّه ليس للمترافعين النظر في مدرك الحكم ، وترجيح أحد المدركين على الآخر ـ :
أوّلا : أنّ ظاهر الرواية كون مجموع الأوصاف الأربعة مرجّحاً واحداً ،
(1) رسالة في تقليد الأعلم للمحقّق الرشتي : 31 ـ 35 .
(الصفحة 151)
لا خصوص كلّ واحد من الأعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة ، وهو لا ينطبق على المدّعى من كون المزيّة مجرّد الأفقهيّة والأعلميّة .
وثانياً : أنّ المزيّة المفروضة في المقبولة مجرّد الأعلميّة والأفقهيّة الإضافيّة ; يعني الأعلميّة بالإضافة إلى خصوص الطرف الآخر لا الأعلميّة المطلقة التي هي المدّعى ; ضرورة أنّ مجرّد الأعلميّة الإضافيّة لا يكفي في ترجيح أحد المجتهدين على الآخر ، كما هو واضح .
هذا كلّه مضافاً إلى الإشكال(1) في سند الرواية من حيث عدم كون الراوي ـ وهو عمر بن حنظلة ـ وارداً فيه مدح أو قدح ، واشتهارها بكونها مقبولة ليس بمثابة يمكن الغضّ عن سندها ، فالاستدلال بها لتعيّن تقليد الأعلم ـ على فرض ثبوت الدلالة ـ غير خال عن الإشكال .
ومنها : رواية داود بن الحصين ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين ، فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما ، فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر(2) .
ومنها : رواية موسى بن أكيل ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ منازعة في حقّ ، فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما فاختلفا فيما حكما ، قال : وكيف يختلفان؟ قلت : حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره
(1) قد رجّحنا في بحث التعادل والترجيح من الاُصول صحّة سند الرواية ، فليراجع (المؤلّف دام ظلّه) .
(2) الفقيه : 3 / 5 ح17 ، تهذيب الأحكام : 6 / 301 ح843 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 113 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح20 .
(الصفحة 152)
الخصمان ، فقال : ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله ، فيمضى حكمه(1) . وتقريب الاستدلال بهما ، وكذا الجواب يظهر ممّا ذكر في المقبولة .
ومنها : ما في عهد مولانا أمير المؤمنين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى مالك الأشتر من قوله(عليه السلام) : «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك»(2) حيث إنّ مفاده وجوب اختيار الأعلم للحكم الذي هو أعمّ من القضاء المصطلح; لشموله لمقام الفتوى .
ولكنّه يرد على الاستدلال به ـ مضافاً إلى أنّ الحكم لو سلّم عمومه وعدم اختصاصه بالقضاء المصطلح ، إلاّ أ نّه بملاحظة المورد لا ينبغي الارتياب في الاختصاص به ، نظراً إلى أنّ تفويض أمر الحكم إلى الغير إنّما هو من جهة عدم سعة وقت الوالي للتصدّي لمقام القضاء ; لكثرة اشتغاله بالجهات المتعدّدة الراجعة إلى إدارة المملكة وحفظ شؤونها ، وإلاّ فمجرّد الفتوى وبيان الحكم لا يضادّ مع سائر الاشتغالات ، كما هو واضح .
وكذا قوله(عليه السلام) : «بين الناس» قرينة على عدم كون المراد بالحكم هو الحكم الكلّي الإلهي ; لظهور هذا التعبير في الحكم الراجع إلى فصل الخصومة والنزاع الموجود بين الناس ـ : أنّ الرواية تدلّ على مرجّحيّة الأفضليّة الإضافيّة غير الخارجة عن حدود رعيّته ، والمدّعى في المقام ـ كما مرّ آنفاً ـ هي الأفضليّة المطلقة .
ومنها : ما حكي عن كتاب الاختصاص قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : من تعلّم علماً
(1) تهذيب الأحكام : 6 / 301 ح844 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 123 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح45 .
(2) نهج البلاغة : 600 ، كتاب 53 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 159 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب12 ح18 .
(الصفحة 153)
ليماري به السفهاء ، أو ليباهي به العلماء ، أو يصرف به الناس إلى نفسه يقول : أنا رئيسكم فليتبوّأ مقعده من النار ، إنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها ، فمن دعى الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة(1) .
ومثل هذه المراسيل ، ممّا أسنده المرسل إلى المعصوم(عليه السلام) من دون النسبة إلى الرواية والحكاية ، وإن كان لا يبعد القول بكونه حجّة فيما إذا كان المرسل مثل المفيد ـ عليه الرحمة ـ ممّن يعتمد على توثيقه ومدحه ; لأنّ الإسناد إليه(عليه السلام) عبارة أُخرى عن توثيق الوسائط والاطمئنان بصدقهم وصدور الرواية عنه(عليه السلام) ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ محطّ النظر في الرواية إلى الرئاسة والخلافة والتسلّط على الناس وأخذ أُمورهم باليد ، لا مجرّد المرجعيّة في الفتوى وأخذ مسائل الحلال والحرام ومعالم الدين منه ، كما لا يخفى .
ومنها : ما رواه أيضاً في محكي البحار ، عن عيون المعجزات ، عن الجواد(عليه السلام) ، أ نّه قال مخاطباً عمّه : يا عمّ إ نّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك : لم تفتي عبادي بما لم تعلم ، وفي الأُمّة من هو أعلم منك؟(2)
ولم يعلم كون المراد بالفتوى هي الفتوى المصطلحة ، بل لا يبعد القول بأنّ المراد بها هي الخلافة الراجعة إلى دعوة الناس إلى نفسه مع ثبوت الأعلم بين الناس ، مع أنّ سند الرواية لا يمكن الاعتماد عليه .
وقد انقدح من جميع ذلك أنّ الأدلّة التي استدلّ بها على تعيّن تقليد الأعلم كلّها مخدوشة إلاّ السيرة العقلائيّة الجارية على الرجوع إلى خصوصه ، وقد تقدّم
(1) الاختصاص : 251 ، وعنه بحار الأنوار : 2 / 110 ح 16 .
(2) عيون المعجزات : 120 ، وعنه بحار الأنوار : 50 / 100 ح 12 .
(الصفحة 154)
توضيحها(1) .
وأمّا ما استدلّ به على عدم تعيّن تقليد الأعلم ، فوجوه أيضاً :
منها : التمسّك بإطلاق الأدلّة الواردة في جواز الرجوع إلى الفقيه ، وحجّيّة فتوى المجتهد من الآيات والروايات(2) الدالّة على ذلك بنحو العموم ; فإنّ مقتضاها أنّ موضوع الحجّية هو إنذار الفقيه ، وكون المجيب أهل الذكر ، وكون الفقيه واجداً للأوصاف المذكورة في رواية الاحتجاج(3) ، وإطلاقها يقتضي جواز الرجوع إلى كلّ من الأعلم وغيره مع صدق هذه العناوين ، من دون فرق بين صورة عدم العلم بالمخالفة بينهما وصورة العلم بها ، كما لا يخفى (4).
والجواب ـ بعد تسليم الدلالة على مشروعيّة التقليد وأصل حجّية فتوى المجتهد ، حيث عرفت سابقاً المناقشة في ذلك ـ : إنّا وإن ذكرنا(5) أ نّه لا مانع من شمول إطلاق أدلّة الحجّيّة لصورة التعارض وفرض الاختلاف ; لعدم كون الحجّية المجعولة بنحو الوجود الساري والطبيعة الصادقة على كلّ فرد ، بل بنحو البدليّة وصرف الوجود ، ولا مانع حينئذ من الشمول للمختلفين ، إلاّ أنّ ذلك فرع تماميّة الإطلاق وتحقّق شرائط التمسّك به ، ووجود مقدّمات الحكمة التي عمدتها كون المتكلّم في مقام البيان ، وذكر جميع الخصوصيّات التي لها دخل في ترتّب الحكم وثبوته .
(1) في ص 142 ـ 143 .
(2) تقدّم ذكرها في ص 71 ـ 88 .
(3) تقدّمت في ص 82 ـ 83 .
(4) الفصول الغرويّة: 423 ، جواهر الكلام: 40 / 43 ـ 44 .
(5) في ص125 ـ 127 ، 141 ـ 142 .
(الصفحة 155)
ومن الواضح عدم تحقّق هذا الشرط في الآيات ; لوضوح أنّ آية النفر إنّما تكون بصدد بيان إيجاب النفر على طائفة من كلّ فرقة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا بعد الرجوع ، ولازم ذلك وإن كانت هي الحجّية ، إلاّ أنّها لا تكون بصدد إفادة الحجّية المطلقة ، الشاملة لصورتي وجود الأعلم وعدمه ، وفرضي التعارض وعدمه ، وكذا آية السؤال ; فإنّ غاية مفادها لزوم التداوي على الجاهل بالرجوع إلى العالم . وأمّا أنّ قول العالم حجّة مطلقاً وفي جميع الموارد والفروض ، فلا دلالة لها عليه بوجه .
وهذا نظير إلزام المريض بالرجوع إلى الطبيب ; فإنّ النظر فيه إنّما هو بيان أنّ المريض إذا أراد الشفاء والتخلّص من مرضه ، يكون طريق ذلك هو الرجوع إلى الطبيب وترتيب الأثر على قوله ورأيه ، ولا دلالة في هذا الكلام على لزوم تطبيق العمل على قوله ، ولو مع وجود الأعلم منه وثبوت الاختلاف بين النظرين والتعارض بين الاعتقادين .
ولعمري أنّ هذا من الوضوح بمكان ، وهكذا الرواية العامّة المذكورة ; فإنّ النظر فيها إنّما هو نفي جواز تقليد الفقيه غير المتّصف بالأوصاف المذكورة فيها ، مثل علماء اليهود المرتكبين للمعاصي والمحرّمات . وأمّا أنّ كلّ فقيه واجد لتلك الأوصاف فهو جائز التقليد ; سواء كان الأفقه موجوداً أم لا ، والتعارض بين الفتويين ثابتاً أم لا ، فلا دلالة له عليه كما هو غير خفيّ ، فالتمسّك بالإطلاق مخدوش من هذه الجهة .
ومنها : ـ وهو العمدة في الباب ـ الروايات الكثيرة الدالّة على أنّ الأئـمّة(عليهم السلام)
قد أرجعوا جماعة من الشيعة إلى جمع من أصحابهم ; كزرارة ، ويونس بن عبدالرحمن ، ومحمّد بن مسلم ، وأبي بصير ، وزكريّا بن آدم ، وغيرهم(1) ، والتمسّك
(1) وسائل الشيعة : 27 / 136 ـ 151 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 .
(الصفحة 156)
بهذه الطائفة من جهتين :
الجهة الأُولى : أنّ الإرجاع إلى غيرهم من الأصحاب مع وجود أنفسهم الشريفة(عليهم السلام) بين الناس ، دليل على عدم تعيّن تقليد الأعلم ، وإلاّ لما جاز الإرجاع مع وجود أنفسهم(عليهم السلام)، كما هو ظاهر .
الجهة الثانية : أنّ الإرجاع إلى متعدّدين ـ مع ثبوت الاختلاف بينهم من حيث الفضيلة أوّلا ، ومن حيث النظر والعقيدة ثانياً ، كما هو الغالب فيهما ـ دليل على عدم تعيّن تقليد الأعلم ، وإلاّ لكان اللازم الإرجاع إلى خصوص الأعلم من الأصحاب (1).
والجواب : أنّ الظاهر عدم ثبوت الاختلاف بين الأصحاب ، وكذا بينهم وبين الإمام(عليه السلام) في الرأي والاعتقاد ; لأنّا وإن قلنا بثبوت الاجتهاد والاستنباط في زمن الأئمة(عليهم السلام) ، إلاّ أ نّه حيث تكون المدارك في ذلك الزمان معلومة غالباً ; لعدم ثبوت الواسطة بينهم وبين أئمّتهم(عليهم السلام) ، فالاختلاف لا يكاد يتحقّق إلاّ نادراً ، والإرجاع إنّما هو لأجل ذلك .
مضافاً ألى أنّ مفروض الكلام إنّما هي صورة وجود الأعلم وإمكان الوصول إليه وأخذ الفتوى منه ، وهذا لا يتحقّق غالباً في ذلك الزمان ; لأنّ الوصول إلى الإمام(عليه السلام) كان أمراً متعسّراً غالباً لأجل بُعد الأمكنة وكثرة الفواصل وقلّة الوسائل ، أو لأجل الجهات السياسيّة الموجبة للتقيّة والمحدوديّة ، خصوصاً في بعض الأزمنة ، كما يشهد به التاريخ وغيره .
فالإنصاف أنّ هذه الطائفة من الروايات لا دلالة فيها على عدم تعيّن تقليد
(1) جواهر الكلام : 40 / 45 ـ 46 .
(الصفحة 157)
الأعلم فيما هو مفروض الكلام .
ومنها : دعوى جريان سيرة المتشرّعة على الرجوع إلى المجتهد الواجد للشرائط من غير الفحص عن كونه متّصفاً بالأعلميّة ، ولو كان تقليد الأعلم متعيّناً لما جرت السيرة بهذه الكيفيّة (1).
والجواب : ـ مضافاً إلى أنّ هذه الصورة خلاف مفروض الكلام من صورة وجود الأعلم وغيره ، والعلم بالاختلاف بينهما في الفتوى ـ أنّ جريان السيرة بهذا النحو ممنوع جدّاً ، وسيأتي البحث عن الفحص في المقام الآتي إن شاء الله تعالى(2) .
ومنها : أنّ وجوب تقليد الأعلم عسر على المكلّفين ; لأجل عدم تشخيص مفهوم الأعلم أوّلا ، وعدم الطريق إلى تشخيص مصداقه ثانياً ، وعدم إمكان الإطّلاع على آرائه وفتاويه نوعاً ثالثاً (3).
والجواب عنه ـ مضافاً إلى ما عرفت من أ نّه خلاف ما هو المفروض في المقام ـ : أنّ مفهوم الأعلم في الفقه لا يغاير مفهومه في سائر الفنون والصنائع والحرف والعلوم ; فإنّ المراد به ليس إلاّ مَن كان أعلم بالقواعد التي يتركّب منها العلم ، وأجود استنباطاً ، وأحسن سليقة في تطبيق الكبريات على صغرياتها ، وتشخيص المورد لها ; فإنّ الأعلم في الطبّ مثلا ليس إلاّ من كان أعلم بقواعد هذا العلم ، وأحسن في تشخيص المورد وتطبيق القاعدة عليه ، فكذا في علم الفقه .
غاية الأمر اختلاف علم الفقه مع سائر العلوم في كون قواعده محتاجة
(1) الفصول الغرويّة: 424، جواهر الكلام: 4 / 43 ـ 44، وحكاه المحقّق الرشتي عن الحاجبي والعضدي في رسالته في تقليد الأعلم: 28 ، فلاحظ مختصر الاُصول: 309 .
(2) في ص 166 ـ 167 .
(3) الفصول الغرويّة: 424 .
(الصفحة 158)
إلى الاستنباط وإعمال دقّة النظر ; لعدم ابتنائه على الأُمور المحسوسة كأكثر العلوم ، وهذا لا يوجب الخفاء في مفهوم الأعلم كما هو غير خفيّ ، وتشخيص مصداقه ليس أشدّ حرجاً وأكثر صعوبة من تشخيص أصل الاجتهاد ، وكون الرجل بالغاً إلى ذلك الحدّ ، بل يثبت كلّ منهما بالعلم الوجداني، وبالشياع، وبالبيّنة ، كما سيأتي البحث عند تعرّض الماتن ـ دام ظلّه ـ له(1) والاطّلاع على رأي الأعلم ، خصوصاً في مثل هذه الأزمنة التي تداول فيها جمع الفتاوى في رسالة ، وطبعها وانتشارها ممكن كما هو ظاهر .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ مقتضى الدليل تعيّن تقليد الأعلم في الصورة الأُولى ; وهي ما إذا علم الاختلاف بينه وبين غيره ، وأنّ الدليل هو جريان سيرة العقلاء على الرجوع إلى الأعلم في الموارد الجامعة للخصوصيّات المفروضة في محلّ البحث ، وعدم ثبوت الردع عن هذه الطريقة في الشريعة ; لِما عرفت من عدم تماميّة شيء ممّا استدلّ به على عدم تعيّن تقليد الأعلم ، فبقيت السيرة بلا رادع ، وهو الدليل الوحيد في هذا الباب .
وقد عرفت(2) أ نّه مع عدم دلالة الدليل يكون مقتضى حكم العقل بأصالة التعيين في دوران الأمر بينه وبين التخيير في باب الحجّيّة ، هو تعيّن تقليد الأعلم أيضاً . غاية الأمر أ نّه لو كان الوجوب بنحو الفتوى يكون مقتضاه التعيّن في جميع الموارد والفروض ، وأمّا لو كان بنحو الاحتياط ـ كما هو مقتضى حكم العقل ومختار سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن «دام ظلّه» يكون لازمه عدم التعيّن في بعض الموارد .
(1) في ص 247 مسألة 19 .
(2) في ص138 ـ 139 .
(الصفحة 159)
ففي الحقيقة تترتّب ثمرة عمليّة على كون المستند في وجوب تقليد الأعلم هو الدليل أو حكم العقل بالاحتياط ، وذلك فيما إذا كان هناك مجتهد واحد قلّده المكلّف العامّي في برهة من الزمان ، ثمّ وجد من هو أعلم منه ، أو كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة ، اختار المكلّف واحداً منهما ، ثمّ صار الآخر أعلم ; فإنّه إذا كان المستند في وجوب تقليد الأعلم هو حكم العقل والاحتياط العقلي لما كان له ـ أي لحكم العقل ـ مجال في هذين الفرضين ; فإنّ أصالة التعيين إنّما تجري فيما إذا لم يكن هناك أصل شرعيّ مثبت لجواز الأخذ بالطرف الآخر .
ضرورة أ نّه مع جريان الأصل الشرعي لا يكون الأمر دائراً بين التعيين والتخيير حتى يحكم فيه العقل بالاحتياط والأخذ بالمعيّن ، مع أ نّه في الفرض الأوّل يكون مقتضى الاستصحاب بقاء حجّية فتوى المجتهد الأوّل الذي قلّده ، فيجوز البقاء على تقليده وإن وجد من هو أعلم منه ، وفي الفرض الثاني يكون مقتضى الاستصحاب بقاء الحجّية التخييريّة الثابتة قبل بلوغ الآخر إلى مقام الأعلميّة ، فيجوز البقاء على تقليد الأوّل .
وأمّا لو كان المستند هو الدليل وكان الوجوب بنحو الفتوى لما كان مجال للاستصحاب في الفرضين ; لأ نّه مع قيام الدليل على تعيّن تقليد الأعلم لا يجري الاستصحاب ولا غيره من الأُصول العمليّة ، كما هو المحقَّق في محلّه .
وقد اعترضنا سابقاً(1) على سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ بأ نّه لايكاد يجتمع الحكم بلزوم تقليد الأعلم من باب الاحتياط مع الحكم بعدم جواز العدول إلى المساوي احتياطاً ، والحكم بوجوب العدول إلى الأعلم كذلك ، وذكرنا
(1) في ص137 .
(الصفحة 160)
أ نّ مقتضى لزوم تقليد الأعلم احتياطاً هو جواز العدول إليه إذا كان مبنى عدم جواز العدول إلى المساوي أيضاً هو حكم العقل ، ومقتضى ذلك ترتّب ثمرة عمليّة اُخرى على كون المستند في لزوم تقليد الأعلم هو الدليل ، أو حكم العقل بالاحتياط .
فإنّه في الصورة الاُولى يجب العدول إلى الأعلم في الفرض المذكور . وفي الصورة الثانية يجوز العدول إليه من دون أن يكون واجباً ; لأنّ مبنى كلا الحكمين على الاحتياط وحكم العقل ، من دون أن يكون هناك مرجّح في البين ، فلا يبقى مجال إلاّ للجواز كما لا يخفى . هذا تمام الكلام في الصورة الأُولى .
الصورة الثانية : ما إذا علمت الموافقة بينهما في الفتوى ، ولا يترتّب في هذه الصورة على القول بتعيّن تقليد الأعلم ثمرة أصلا ; لما ستعرف من عدم لزوم الاستناد بوجه .
الصورة الثالثة : ما إذا لم تعلم الموافقة والمخالفة بينهما ، ونقول : حكم هذه الصورة عند الشكّ وعدم دلالة الدليل على أحد الطرفين حكم الصورة الاُولى ; ضرورة أنّ حكم العقل بالاحتياط يجري في هذه الصورة أيضاً ، من دون فرق بينها وبين الصورة الأُولى . وأمّا مع ملاحظة الأدلّة فلا خفاء في أ نّه لو لم نقل بتعيّن تقليد الأعلم في الصورة الأُولى لكان لازمه القول بعدم التعيّن هنا بطريق أولى ، فالنزاع في هذه الصورة يختصّ بالقائل بالتعيّن في الصورة الأُولى ، كما هو ظاهر .
فنقول : قد استدلّ على تعيّن تقليد الأعلم في هذه الصورة بما استدلّ به عليه في تلك الصورة من الأدلّة الكثيرة المتقدّمة ; من الإجماع والسيرة والأقربيّة والروايات المتعدّدة من المقبولة وغيرها ; بدعوى أنّ مقتضاها عدم الفرق بين ما إذا كانت المخالفة بين الأعلم وغيره معلومة أو كانت مشكوكة ، وعدم اختصاص تلك
|