(الصفحة 341)
واللسان» ونحو ذلك. بل في ذلك إغراء للناس في كثير من المعاصي ; فإنّه قلّ من يجتنب من المعاصي من جهة استحقاق العقاب بعد معرفته أن لا عقاب عليه .
ثانيها : أنّه قد ورد في السنّة في تعداد الكبائر ما ليس مذكوراً فيما حصره ، مع النصّ عليه فيها بأ نّه كبيرة ، وقوله(عليه السلام) : «إنّ الكبيرة كلّ ما أوعد الله عليها النار»(1)لا ينافيه ، ولو لكونه(عليه السلام) يعلم كيف توعّد الله عليها بالنار ، قصارى ما هناك نحن بحسب وصولنا ما وصلنا كيف وعد الله عليه النار .
فنحكم بكونه كبيرة ، وإن لم نعرف كيف وعد الله عليه النار . فانظر إلى ما في حسنة عبيد بن زرارة لمّا سأله(عليه السلام)عن الكبائر فقال : هنّ في كتاب عليّ(عليه السلام) سبع ـ إلى أن قال :ـ فقلت : فهذا أكبر المعاصي؟ فقال : نعم ، قلت : فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلماً أكبر أم ترك الصلاة؟ قال : ترك الصلاة ، قلت : فما عددت ترك الصلاة في الكبائر ! قال : أيّ شيء أوّل ما قلت لك؟ قلت : الكفر ، قال : فإنّ تارك الصلاة كافر ، يعني من غير علّة(2) . كيف اُدخل ترك الصلاة في الكفر مع استحضاره(عليه السلام)لقوله ـ تعالى ـ : { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ }(3) .
ثالثها : أ نّه قال الله ـ تعالى ـ : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِى وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالاَْزْلَـمِ ذَ لِكُمْ فِسْقٌ}(4) ;
(1) الفقيه: 3 / 373 ح1758، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 327، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ب46 ح24.
(2) الكافي : 2 / 278 ح8 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 321 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح4 .
(3) سورة المدّثّر : 74 / 42 ـ 43 .
(4) سورة المائدة : 5 /3 .
(الصفحة 342)
فإنّه إن أُريد بالإشارة إلى الأخير ، أو كلّ واحد فقد حكم بالفسق ، واحتمال إرادة
الإصرار بعيد ، كاحتمال إرادة ما لا ينافي العدالة من الفسق ، بل مجرّد المعصية أو من غير مجتنب الكبائر .
رابعها : أنّه قد ورد في السنّة التوعّد بالنار ـ وأيّ توعّد ـ على كثير من المعاصي ، وبناءً على ما ذكر لابدّ وأن يراد بها إمّا الإصرار عليها ، أو من غير مجتنب الكبائر ، وكلّه مخالف للظاهر من غير دليل يدلّ عليه .
خامسها : أنّ فيما رواه عبدالعظيم بن عبدالله الحسني ذكر من جملة الكبائر شرب الخمر ، معلّلا ذلك بأنّ الله تعالى نهى عنه كما نهى عن عبادة الأوثان وترك الصلاة متعمّداً ، أو شيئاً ممّا فرض الله ; لأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : من ترك الصلاة متعمّداً فقد برىء من ذمّة الله وذمّة رسوله(صلى الله عليه وآله) (1) . فانظر كيف استدّل على كونه كبيرة بما ورد من السنّة .
سادسها : نقل الإجماع على أنّ الإصرار على الصغيرة من جملة الكبائر(2)(3) .
وقد أورد عليه بهذا الأخير تلميذه صاحب مفتاح الكرامة ، حيث قال : وليت شعري ماذا يقول في الإصرار على الصغائر ; فإنّه كبيرة إجماعاً ، وليس في القرآن المجيد وعيد عليه بالنار ، ولعلّي أسأله عنه شفاهاً(4) .
وأورد عليه ابن أخيه سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي(قدس سره) ـ مضافاً إلى ما أورده عليه في الجواهر من الإيرادات الستّة المتقدّمة ـ بأنّ الظاهر كون المقسم
(1) الكافي : 2 / 287 قطعة من ح24 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 320 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ب46 قطعة من ح2 .
(2) تحرير الأحكام : 5 / 247 ، ذخيرة المعاد : 305 .
(3) جواهر الكلام : 13 / 316 ـ 318 .
(4) مفتاح الكرامة : 3 / 94 .
(الصفحة 343)
للكبيرة والصغيرة هي المعاصي الوجوديّة التي تتحقّق بالوجودات الصادرة من المكلّف . وعليه : فيسقط من جملة ما عدّه من الكبائر ; مثل ترك الصلاة ، ومنع الزكاة ، والتخلّف عن الجهاد ، وكتمان ما أنزل الله ، ونقض العهد واليمين ، وقطع الرحم ، وعدم الحكم بما أنزل الله ، وترك الحج ; لأنّها كلّها معاصي عدميّة .
أمّا مثل ترك الصلاة ومنع الزكاة فواضح . وأمّا كتمان ما أنزل الله ، فالآية الواردة فيه ظاهرة في أنّ الواجب هو التبيين ، والكتمان تركه ، وهكذا نقض العهد واليمين ، وكذا قطع الرحم ، والحكم بغير ما أنزل الله ، كما يظهر من آيتيهما .
وأيضاً الظاهر أنّ المراد بالمعاصي الكبيرة هي المعاصي التي يمكن أن تقع من المسلم غير الكافر . وعليه : فيسقط من جملة ما ذكره مثل الكفر بالله العظيم ، والإضلال عن سبيل الله ، ولذا لم يعدّ في جملة الكبائر في بعض الروايات الدالّة على أنّ الكبائر خمس (1)، حيث إ نّه بعد ذلك عدّها ستّاً ، وهذا دليل على أ نّه لا يكون مثل الشرك بالله معدوداً من الكبائر .
وأيضاً تدخل جملة ممّا عدّه من الكبائر في الظلم الذي عدّه منها ، فتلك الجملة من أقسام الظلم ، لا أ نّها قسيمة له، وذلك مثل قتل النفس ، وأكل مال اليتيم ، والمنع من مساجد الله ، والاستهزاء بالمؤمنين ، وإيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقذف المحصنات ، والمحاربة ، وقطع السبيل . وعليه : فلا يبقى إلاّ مقدار قليل لا يتجاوز عن الإثنى عشر ، كما لا يخفى (2).
ويمكن المناقشة في بعض ما أورده صاحب الجواهر(قدس سره) ; بأنّ مرجع النزاع
(1) مثل رواية ابن أبي عمير الآتي في ص 347 .
(2) نهاية التقرير: 3 / 259 ـ 260 .
(الصفحة 344)
إلى ضابط الكبيرة ، وأنّها هل هي عبارة عن خصوص ما أوعد الله ـ تعالى ـ عليها النار ، أو العذاب في خصوص الكتاب العزيز ، أو يشمل ما أوعد الله عليها بلسان نبيّه(صلى الله عليه وآله) والأئمّة من عترته(عليهم السلام)؟ وقد عرفت(1) أنّ العلاّمة الطباطبائي استظهر الاحتمال الأوّل الذي هو خلاف الظاهر ، كما أنّ دعوى الإجماع على أنّ الإصرار على الصغيرة من جملة الكبائر ، لعلّ المراد بها ترتّب حكم ارتكاب الكبيرة عليه من حيث قادحيّته في العدالة ، لا أ نّه كبيرة واقعاً ، وسيجيء البحث فيه(2) .
كما أ نّه يمكن المناقشة في بعض ما أورده الأستاذ(قدس سره) ، بأنّ اختصاص الكبيرة بخصوص المعاصي الوجوديّة ، ينافي مع ما في صحيحة عبدالله بن أبي يعفور المتقدّمة(3) ; من جعل المواظبة على الصلوات الخمس ، والحضور في جماعة المسلمين ، أمارة شرعيّة ودليلا تعبديّاً على تحقّق العدالة ، التي يكون قوامها باجتناب الكبيرة على ما في الصحيحة ، كما أنّ إخراج الشرك بالله عن عنوان الكبيرة ينافي مع ما في الروايات الكثيرة الدالّة على أ نّه من جملة الكبائر ، بل من أعظمها .
والتحقيق أ نّه لابدّ في المقام من ملاحظة الروايات الواردة في الباب ، التي أوردها في الوسائل في الباب السادس والأربعين من أبواب جهاد النفس ، ولكنّها مختلفة من حيث المفاد ; لأنّ جملة منها واردة في تفسير الكبائر وبيان الضابط لها ، وجملة منها دالّة على عددها وأنّها خمس أو سبع أو تسع ، أو أزيد على اختلاف
بين هذه الطائفة أيضاً ، وجملة منها واردة في عدّ بعض المعاصي من الكبائر ، من
(1) في ص332 ، 340 .
(2) في ص355 ـ 360 .
(3) في ص313 .
(الصفحة 345)
غير تعرّض لتفسيرها ولا كونها في مقام تعدادها ، وبعض منها غير مرتبط بعنوان
الباب ، مثل رواية الأصبغ(1) .
[سائر الروايات الواردة في الكبيرة]
والروايات الدالّة على أنّها سبع كثيرة :
منها : رواية ابن محبوب .
ومنها : رواية عبيد بن زرارة .
ومنها : رواية أبي بصير .
ومنها : رواية محمّد بن مسلم .
ومنها : رواية أحمد بن عمر الحلبي .
ومنها : رواية عبد الرحمن بن كثير(2) .
ولكن ذكر في رواية أبي بصير أنّ الكبائر سبعة وعدّها ثمانية ، لكنّه قال(عليه السلام) في ذيلها : «والتعرّب والشرك واحد» . وفي رواية محمّد بن مسلم أسقط عقوق الوالدين ، وعدّ السابعة كلّ ما أوجب الله عليه النار ، مع أ نّه تعريف للكبائر وضابط لها ، لا أ نّه من أفرادها ، ولذا يحتمل أن يكون الراوي قد سهى عن العقوق ، وذكر موضعه هذه الضابطة .
وفي رواية عبدالرحمن بن كثير أسقط التعرّب وأكلِ الربا بعد البيّنة ، وذكر موضع السابعة «إنكار حقّنا» . ولا مانع من إسقاط التعرّب بعد ذكر الشرك ; لأ نّه
(1) الكافي : 2 / 281 ح16 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 321 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح3 .
(2) وسائل الشيعة : 15 / 318 ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح1 ، وص321 ح4 وص322 ح6 وص324 ح16 وص326 ح22 وص329 ح32 .
(الصفحة 346)
بمنزلته ، كما مرّ في رواية أبي بصير ، وفي رواية أبي الصامت(1) ذكر أنّ أكبر الكبائر سبع ، وأسقط التعرّب وأكل الربا بعد البيّنة ، وذكر موضع السابعة «إنكار ما أنزل الله عزّوجلّ» . لكن قد عرفت أنّ إسقاط التعرّب بعد ذكر الشرك لا بأس به ; لأنّ مرجع التعرّب إلى الرجوع إلى الحالة التي كان عليها قبل الهجرة إلى دار الإسلام لغرض الإسلام والإيمان ، فمرجعه إلى الرجوع والإرتداد عن الإسلام بعد الهجرة من الكفر إليه .
وفي رواية مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) عدّها عشرة من غير تعرّض لكونها عشرة ، وأضاف إلى السبع المذكورة في الروايات السابقة : القنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله(2) . والظاهر أنّ الأوّلين واحد ، وقد ذكرت هذه الزيادة في رواية عبدالعظيم الآتية .
وفي رواية اُخرى لمحمّد بن مسلم(3) عدّ أكبر الكبائر ثمانية من غير تعرّض لكونها ثمانية ، وحيث إ نّه عدّ فيها التعرّب والشرك أمرين ، وقد عرفت أنّهما واحد ، فلا اختلاف بينها ، وبين الروايات الدالّة على أنّها سبعة .
وفي رواية اُخرى لعبيد بن زرارة(4) ذكر أنّ الكبائر خمس ، وأسقط العقوق
(1) تهذيب الأحكام : 4 / 149 ح417 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 325 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح20 .
(2) الكافي : 2 / 280 ح10 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 324 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح13 .
(3) الخصال : 411 ح15 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 330 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح35 .
(4) الخصال : 273 ح17 ، علل الشرائع : 475 ح3 ، وعنهما وسائل الشيعة : 15 / 328 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح28 .
(الصفحة 347)
والتعرّب ، ولكن ذكر في موضعه «الشرك» من غير عدّها من جملة الخمس ، ففي الحقيقة لم يذكر فيها خصوص العقوق .
وفي مرسل ابن أبي عمير(1) ذكر أنّها خمس كالرواية السابقة ، وعدّ الشرك والتعرّب أمرين ، وبعد ما عرفت من اتّحادهما يرجع إلى الأربعة ، ففي الحقيقة أسقطت فيها ثلاثة : القتل ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات .
وأمّا الروايات الدالّة على أنّ الكبائر أزيد من ذلك فهي ثلاث روايات :
منها : رواية الأعمش الدالّة على أنّها ثلاث وثلاثون(2) .
ومنها : رواية عبدالعظيم الدالّة على أنّها عشرون(3) .
ومنها : رواية الفضل بن شاذان ، عن الرضا(عليه السلام) الدالّة على أ نّه ثلاث و ثلاثون(4) ، والظاهر اتّحادها مع رواية الأعمش ، والاختلاف بينهما يسير ; لأ نّه ذكر في رواية الأعمش أنّ الاشتغال بالملاهي التي تصدّ عن ذكر الله ـ عزّ وجلّ ـ مكروهة ، وقد عدّت هي من الكبائر في رواية الفضل ، ولكنّه لم يعلم أنّ المراد بها هي الكراهة المصطلحة المقابلة للحرمة ، وإلاّ لم يكن وجه لتخصيصه بالذكر في مقام ذكر المعاصي الكبيرة وتعدادها ، فلعلّ المراد بها هي المرتبة الضعيفة من
(1) علل الشرائع : 475 ح2 ، الخصال : 273 ح16 ، وعنهما وسائل الشيعة : 15 / 327 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح27 .
(2) الخصال : 610 ح9 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 331 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح36 .
(3) الكافي : 2 / 285 ح24 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 318 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح2 .
(4) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) : 2 / 125 ـ 126 ح1 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 329 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح33 .
(الصفحة 348)
مراتب الكبيرة ، فتأمّل .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أ نّه لا محيص عن الالتزام باتّصاف سبع من المعاصي بكونها كبيرة بقول مطلق ; وهي السبع المذكورة في الروايات الدالّة على أنّ الكبائر سبع ، أو أكبرها سبع ، أو أنّ رتبة سائر الكبائر أدنى من رتبة هذه السبع ، كما تدلّ عليه رواية الأعمش . وأمّا ما عدا السبع ، فما ذكر في مثل رواية الأعمش فالظاهر أنّها كبيرة بالإضافة إلى ما دونها ، صغيرة بالإضافة إلى السبع التي هي فوقها ، وبمثل هذا يجمع بين ما دلّ على أنّ الزنا والسرقة ليستا من الكبائر ; كروايتي محمّد بن حكيم(1) ومحمّد بن مسلم(2) . وما دلّ على أنّهما منها ; كروايتي الفضل والأعمش .
وجه الجمع أنّ ما دلّ على عدم كونهما من الكبائر يُراد به عدم كونهما من الكبائر بقول مطلق ، وعدم كونهما في عرض الكبائر والمعاصي الّتي هي أكبر الكبائر ،
وما دلّ على كونهما منها يُراد به أنّهما كبيرتان بالإضافة إلى ما تحتهما من المعاصي .
[تعداد الكبائر]
ولا بأس بذكر الكبائر حسب ما تستفاد من الروايات الواردة في هذا المقام ، رجاء أن يكون اللاحظ لها والناظر فيها يجتنب عن جميعها بعد النظر والتوجّه
لو لم يكن مجتنباً .
(1) الكافي : 2 / 284 ح21 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 325 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح18 .
(2) الخصال : 411 ح15 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 330 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح35 .
(الصفحة 349)
فنقول : هي عبارة عن :
1 ـ الشرك بالله تبارك وتعالى .
2 ـ قتل النفس الّتي حرّم الله تعالى .
3 ـ عقوق الوالدين .
4 ـ الفرار من ا لزحف .
5 ـ أكل مال اليتيم ظلماً .
6 ـ أكل الربا بعد البيّنة .
7 ـ قذف المحصنات ، وهذه هي السبع التّي تكون من الكبائر بقول مطلق .
8 ـ الزنا .
9 ـ اللواط .
10 ـ السرقة .
11 ـ أكل الميتة .
12 ـ أكل الدم .
13 ـ أكل لحم الخنزير .
14 ـ أكل ما اُهلّ لغير الله ـ تعالى ـ به من غير ضرورة .
15 ـ البخس في المكيال والميزان .
16 ـ الميسر .
17 ـ شهادة الزور .
18 ـ اليأس من روح الله .
19 ـ الأمن من مكر الله .
20 ـ معونة الظالمين .
(الصفحة 350)
21 ـ الركون إليهم .
22 ـ اليمين الغموس الفاجرة ; والمراد بها هي اليمين الكاذبة على الإخبار عن شيء مع العلم بالكذب ، والتعبير عنها بالغموس لعلّه لأجل أنّها تغمس صاحبها في الإثم والعقاب .
23 ـ الغلول ; والظاهر أنّ المراد به هي الخيانة في خصوص المغنم .
24 ـ حبس الحقوق من غير عسر .
25 ـ الكذب .
26 ـ استعمال التكبّر والتجبّر .
27 ـ الإسراف والتبذير .
28 ـ الخيانة .
29 ـ الاستخفاف بالحجّ ; والظاهر أنّ المُراد به هو الإتيان به عن استخفاف ، لا الترك رأساً ، الذي أُطلق عليه الكفر في الآية الشريفة .
30 ـ المحاربة لأولياء الله .
31 ـ الاشتغال بالملاهي .
32 ـ السحر .
33 ـ الإصرار على الصغيرة .
ولابدّ من التكلّم في هذا الأخير والبحث عن أنّ الإصرار على الذنوب ـ أي الصغائر منها ـ هل يكون من الكبائر أم لا؟ مقتضى روايتي الأعمش والفضل وغيرهما من الروايات الأُخَر ـ الواردة في هذا الباب ، التي جمعها في الوسائل في الباب (46) و(47) من أبواب جهاد النفس ـ أنّ الإصرار على الصغائر من الذنوب ، أيضاً من جملة الكبائر ، وفي بعضها : أ نّه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة
(الصفحة 351)
مع الاستغفار(1) .
وقد روي هذا المضمون بطرق العامّة عن ابن عبّاس(2) أيضاً ، فلا ينبغي الإشكال حينئذ في أنّ الإصرار على الصغيرة كبيرة ، إمّا حقيقة وإمّا حكماً ، من جهة القادحيّة في العدالة لو لم يكن أصل الإتيان بالصغيرة من غير إصرار مضرّاً بها ، ومن جهة الافتقار إلى التوبة والاستغفار ; فإنّ الظاهر افتراقهما ; أي الكبيرة والصغيره في الافتقار إلى التوبة وعدمه ، ولو لم نقل بافتراقهما في باب العدالة أصلا ; فإنّ ظاهر قوله ـ تعالى ـ : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآلـِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـَاتِكُمْ}(3) ـ بناءً على ما استظهرنا منه(4) من أنّ المراد به هي الكبائر من خصوص المحرّمات ، وبالسيّئات هي الصغائر منها لا الكبائر من المنهيّات التي هي أعمّ من المحرّمات ، والصغائر منها التي لا تنطبق إلاّ على المكروهات ـ أنّ اجتناب الكبيرة يوجب التكفير للصغائر من دون حاجة إلى التوبة والاستغفار . نعم ، مع عدم الاجتناب عنها يحتاج كالكبيرة إليهما .
وبعبارة اُخرى : المجتنب للكبيرة إذا ارتكب صغيرة لا يكون مكلّفاً بالتوبة ; لعدم الحاجة إليها ، وإذا ارتكب كبيرة يكون مكلّفاً بها بالإضافة إلى الصغيرة أيضاً ; لانحصار الطريق حينئذ فيها .
(1) الكافي : 2 / 288 ح1 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 338 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب48 ح3 .
(2) الكشّاف : 1 / 503 .
(3) سورة النساء: 4 / 31.
(4) أي في ص328 ـ 329.
(الصفحة 352)
[معنى الإصرار على الصغيرة]
إنّما الإشكال في معنى الإصرار وأ نّه بِمَ يتحقّق ، ونقول : لا إشكال في تحقّق الإصرار مع الإكثار فعلا ، والإتيان بالمعصية في الخارج مكرّراً ; سواء كانت من سنخ واحد ، أو من جنسين أو الأجناس ، كما أ نّه لا إشكال في عدم تحقّق عنوان الإصرار مع الإتيان بذنب مرّة واحدة ثمّ الندم عليه ، بحيث كان يسوؤه التذكّر والالتفات إليه ، والظاهر تحقّق هذا العنوان أيضاً مع الإتيان به مرّة ، وكونه بحيث لو تهيّأت له مقدّماته يأتي به ثانياً .
إنّما الإشكال في تحقّقه بمجرّد الإتيان مع الالتفات إليه وعدم الندم عليه ، وعدم كون تذكّره مسيئاً له، وعدم كونه كذلك; أي بحيث لو تهيّأت له مقدّماته يأتي به ثانياً؟
قيل : الظاهر تحقّقه به أيضاً ; لقوله ـ تعالى ـ : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَـحِشَةً أَوْظَـلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(1) . حيث إنّه يشعر بأنّ الإصرار يتحقّق بمجرّد عدم الاستغفار مع التوجّه والالتفات .
ولما ورد في تفسير الآية من رواية جابر ، عن أبي جعفر(عليه السلام) أ نّه قال : الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدّث نفسه بالتوبة ، فذلك الإصرار(2) .
ولرواية محمّد بن أبي عمير قال : سمعت موسى بن جعفر(عليهما السلام) يقول : من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر ، قال الله ـ تعالى ـ : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآلـِرَ
(1) سورة آل عمران : 3 / 135 .
(2) الكافي : 2 / 288 ح2 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 338 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب48 ح4 .
(الصفحة 353)
مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا}(1) قال : قلت : فالشفاعة لمن تجب؟ فقال : حدّثني أبي ، عن آبائه ، عن عليّ(عليهم السلام)قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، فأمّا المحسنون فما عليهم
من سبيل .
قال ابن أبي عمير : فقلت له : يا ابن رسول الله ، فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر ، والله ـ تعالى ـ يقول : {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}(2) . ومن يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى؟! فقال : يا أبا أحمد ما من مؤمن يذنب ذنباً إلاّ ساءه ذلك وندم عليه ، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : كفى بالندم توبة ، وقال : من سرّته حسنته وساءته سيّئته فهو مؤمن ، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ، ولم تجب
له الشفاعة ـ إلى أن قال :ـ قال النبي(صلى الله عليه وآله) : لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة
مع الإصرار ، الحديث(3) .
هذا ، ويمكن المناقشة في دلالة الآية والروايتين على ما ادّعاه القائل ; من أنّ الإصرار على الذنب إنّما يتحقّق بمجرّد الإتيان بالمعصية ، وعدم التوبة والاستغفار مع الالتفات إلى صدورها والإتيان بها .
أمّا الآية والرواية الأُولى ، فموردهما هو الذنب الذي يفتقر إلى الاستغفار كي يكفّر ، فيمكن أن يقال بملاحظة الآية المتقدّمة : إنّ موردهما هي المعصية الكبيرة .
وأمّا الرواية الثانية ، فلم يظهر دلالتها على مدّعى القائل أصلا ، فتأمّل .
(1) سورة النساء : 4 / 31 .
(2) سورة الأنبياء: 21 / 28 .
(3) التوحيد : 407 ح6 ، وعنه وسائل الشيعة : 15 / 335 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب47 ح11 .
(الصفحة 354)
نعم ، لا مجال للإشكال على هذا القول ; بأ نّه بناءً عليه لا يبقى مورد للآية الشريفة : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآلـِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية ، نظراً إلى أ نّه إذا توقّف تكفير الصغيرة أيضاً على التوبة ، لم يتحقّق فرق بينها وبين الكبيرة ، فلا يبقى مورد لهذه الآية أصلا .
وذلك ; لأ نّه يمكن أن يجيب عن ذلك ; بأنّ الذنب الصغير المكفّر باجتناب الكبائر هو الذنب الذي كان غافلا عنه بعد الإتيان به ، أو غافلا عن وجوب التوبة عليه ، وبه يتحقّق الفرق بينه وبين الكبيرة ، حيث إ نّه ما لم تتحقّق التوبة عنها لا تكون مكفّرة أصلا .
وهذا الجواب وإن كان غير صحيح ; لأ نّه ـ مضافاً إلى مخالفته لظاهر الآية الشريفة الدالّة على أنّ اجتناب الكبائر موجب لتكفير الصغائر مطلقاً ، من دون فرق بين صورتي الغفلة وعدمها ـ يكون منافياً لرواية ابن أبي عمير المتقدّمة الدالّة على انحصار الشفاعة بخصوص أهل الكبائر ، والظاهرة في عدم احتياج الصغيرة إلى الاستغفار ما لم يبلغ حدّ الإصرار ، فتدبّر ، إلاّ أ نّه يكفي في إثبات بيان المورد للآية الشريفة ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّه حكى في مفتاح الكرامة عن الفاضل السبزواري أ نّه استضعف هذا القول(1) . ولكنّه ذكر نفسه ـ بعد الاستدلال برواية جابر ثمّ الحكم بضعف سندها ـ أنّه يمكن أن يقال : إنّه لـمّا عصى ولم يتب فهو مخاطب بالتوبة ، ولـمّا لم يتب في الحال فقد عصى ، فهو في كلّ آن مخاطب بالتوبة ، ولـمّا لم يتب فقد أقام واستمرّ على عدم
(1) ذخيرة المعاد : 305 .
(الصفحة 355)
التوبة التي هي معصية(1) .
ويرد عليه : أنّ التكليف بالتوبة إنّما هو في خصوص المعصية الكبيرة ،
أو الصغيرة غير المكفّرة باجتناب الكبائر. وأمّا الذنب الصغير المكفّر باجتنابها ، فلا يحتاج إلى التوبة أصلا ، فهذا الدليل فاسد .
فينقدح من جميع ما ذكرنا صحّة ما حكي(2) عن الشهيدين(3) والمقدّس الأردبيلي(4) ـ قدّس الله أسرارهم ـ من أنّهم بعد تقسيم الإصرار إلى فعليّ وحكميّ ، وأنّ الفعليّ هو الدوام على نوع واحد من الصغائر بلا توبة ، أو الإكثار من جنسها كذلك ، قالوا : والحكميّ هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها ، إذاً فالظاهر عدم تحقّق الإصرار بمجرّد الارتكاب وعدم الندم وإن كان متوجّهاً
إلى صدوره ملتفتاً إلى إتيانه .
[اعتبار الاجتناب عن خصوص الكبائر في تحقّق العدالة]
الأمر الثاني : في أنّ المعتبر في العدالة هل هو اجتناب خصوص الكبائر
الشاملة للإصرار على الصغائر ، أو الأعمّ منه ومن اجتناب الصغائر أيضاً؟ والعمدة في مستند القول الأوّل صحيحة عبدالله بن أبي يعفور المتقدّمة(5) ، بناءً
على ما استظهرنا منها(6) من أ نّ قوله(عليه السلام) : «ويُعْرَف باجتناب الكبائر» عطف على
قوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف» .
(1 ، 2) مفتاح الكرامة : 3 / 88 .
(3) القواعد والفوائد : 1 / 227 ، قاعدة 68 ، الروضة البهيّة : 3 / 130 .
(4) مجمع الفائدة والبرهان : 12 / 320 .
(5) في ص313 .
(6) في ص 319.
(الصفحة 356)
وعليه : فيكون من تتمّة المعرّف للعدالة أو تخصيصاً بعد التعميم ،
ويصير حاصل المراد أنّ العدالة هي ملكة الستر والعفاف الرادعة عن
ارتكاب شيء من القبائح العرفيّة غير اللائقة بحاله ، وملكة الاجتناب
عن خصوص المعاصي الكبيرة التي أوعد الله عليها النار ، ولازمه حينئذ أنّ
ارتكاب شيء من المعاصي الصغيرة عند عدم الإصرار عليه لا يكون بقادح في
العدالة .
ودعوى أ نّه كيف لا يكون ارتكاب المعصية قادحاً في العدالة ؟ مدفوعة بأنّها مجرّد استبعاد لا يقاوم الظهور اللفظي بعد كون ارتكابها مكفّرة باجتناب الكبائر المفروض في المقام .
نعم ، لو قيل بأنّ قوله(عليه السلام) : «ويُعرف باجتناب الكبائر» ليس من أجزاء المعرّف للعدالة ، بل أمارة شرعيّة عليها ـ كما استظهره بعض الأعاظم من المعاصرين على ما عرفت من كلامه(1) ـ فلا دليل حينئذ على كون العدالة هي الملكة الرادعة عن ارتكاب خصوص الكبائر ، بل مقتضى قوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف إلخ» أ نّ العدالة هي ملكة الستر والعفاف الباعثة على كفّ البطن والفرج واليد واللسان عن كلّ ذنب ; سواء كان من الكبائر أو من الصغائر .
غاية الأمر أنّ الأمارة الشرعيّة على ذلك إنّما هو الاجتناب العملي عن خصوص الكبائر ، ومن المعلوم أنّ الرجوع إلى الأمارة إنّما هو مع عدم العلم بخلافها الذي يتحقّق بارتكاب صغيرة من الصغائر .
هذا ، وقد عرفت(2) أنّ هذا المعنى بعيد عن سياق الرواية مخالف لقوله(عليه السلام) :
(1 ، 2) في ص323 ـ 326 .
(الصفحة 357)
«يُعْرَف» بصيغة المذكّر .
نعم ، يمكن أن يورد على ما ذكرنا بأنّ اعتبار الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة ينافي قول الإمام(عليه السلام) في ذيل الرواية : «والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه» ; فإنّ مقتضاه أن يكون ساتراً للذنوب الصغيرة أيضاً ، بداهة أنّها أيضاً من العيوب ، ومقتضى هذا القول أن يكون ساتراً لجميعها .
ولكنّ الجواب عنه ـ مضافاً إلى إمكان دعوى كون المراد من العيوب هي خصوص الكبائر منها ، بقرينة قوله(عليه السلام) في الصدر : «ويُعرف باجتناب الكبائر» في مقام تعريف العدالة وبيان معناها ـ : أ نّه لا مانع من الالتزام بكون المراد بالعيوب هنا جميعها ، نظراً إلى أنّ الأمارة الشرعيّة على العدالة هي أن يكون الشخص ساتراً لعيوبه بأجمعها ، ولا منافاة بين أن يكون المعتبر في حقيقة العدالة وماهيّتها خصوص الاجتناب عن الكبيرة ، وبين أن يكون الدليل الشرعي عليها هو الستر لجميع المعاصي ; فإنّ الرجوع إلى الأمارة إنّما هو مع الشكّ وعدم العلم .
ضرورة أ نّه لا مجال للأمارة مع العلم بالواقع ، ففي صورة الشكّ في تحقّق العدالة وحصول الاجتناب عن الكبيرة تكون الأمارة الشرعيّة هو الستر لجميع عيوبه وإخفاء جمع المعاصي وآثامه ، كما أ نّه لا محيص عن الالتزام بذلك بعد ملاحظة ما ذكرنا من عدم كون ترك الواجبات معدوداً من الكبائر ; لما عرفت(1) من تعدادها ، وعدم كون ترك شيء من الواجبات منها ، بضميمة ما في ذيل الصحيحة من اعتبار المواظبة على الصلوات الخمس والحضور في جماعة المسلمين ; فإنّ ترك الصلاة حينئذ لا يكون من الكبائر ، فكيف جعلت المواظبة عليها أمارة شرعيّة على تحقّق
(1) في ص348 ـ 350 .
(الصفحة 358)
العدالة التي تتقوّم بالاجتناب عن خصوص الكبائر فقط ؟ فإنّ الجمع بين الأمرين إنّما يتحقّق بأ نّه لا يلزم أن يكون المعتبر في الأمارة على شيء أن لا يتعدّى عن الخصوصيّات الدخيلة فيه ، خصوصاً إذا كانت أمارة شرعيّة تعبّدية .
اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المواظبة على الصلوات الخمس وحفظ مواقيتها لا يتوقّف على الحضور في جماعة المسلمين دائماً ، بل يكفي الحضور فيها نوعاً ، وحينئذ لامانع من جعل ذلك أمارة شرعيّة ; لأنّ ترك الصلاة أيضاً بناءً على ذلك يكون الإصرار عليه قادحاً في تحقّق العدالة لفرض كونه صغيرة ، إلاّ أن يستبعد كون ترك الصلاة من جملة المعاصي غير الكبيرة ; لكنّه لا يقاوم هذا الاستبعاد مع الروايات الكثيرة المتقّدمة الواردة في تعداد الكبائر(1) ، ولم يقع فيها التعرّض لكون ترك الصلاة منها ، كما عرفت(2) مدلول الروايات إجمالا .
فالإنصاف أ نّه لم يظهر من ذيل الرواية ما ينافي صدرها ، الظاهر في اعتبار الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة في تحقّق العدالة واقعاً .
ثمّ إنّ المحقّق الهمداني(قدس سره) ذكر في هذا المقام كلاماً محصّله : أنّ الذي يقوى في النظر أنّ صدور الصغيرة أيضاً إذا كان عن عمد والتفات تفصيليّ إلى حرمتها كالكبيرة مناف للعدالة ، ولكنّ الذنوب التي ليست في أنظار أهل الشرع كبيرة قد يتسامحون في أمرها ، فكثيراً ما لا يلتفتون إلى حرمتها حال الارتكاب ، أو يلتفتون إليها ولكن يكتفون في ارتكابها بأعذار عرفيّة مسامحة ، كترك الأمر بالمعروف ، أو النهي عن المنكر ، أو الخروج عن مجلس الغيبة ونحوها حياءً ، مع كونهم كارهين لذلك في نفوسهم ، فالظاهر عدم كون مثل ذلك منافياً لاتّصافه بالفعل عرفاً بكونه من أهل
(1 ، 2) في ص345 ـ 348 .
(الصفحة 359)
الستر والعفاف والخير والصلاح .
وهذا بخلاف مثل الزنا واللواط ونظائرهما ممّا يرونها كبيرة ; فإنّها غير قابلة عندهم للمسامحة ، فهذا هو الفارق بين ما يراه العرف صغيرة وكبيرة ، فإن ثبت بدليل شرعيّ أنّ بعض الأشياء التي يتسامح فيها أهل العرف ولا يرونها كبيرة ، كالغيبة مثلا حاله حال الزنا ، والسرقة لدى الشارع في كونها كبيرة ، كشف ذلك عن خطأ العرف في مسامحتهم ، وأنّ هذا أيضاً كالزنا مناف للعدالة مطلقاً ، فالذي يعتبر في تحقّق وصف العدالة أن يكون الشخص من حيث هو لو خلّي ونفسه كافّاً نفسه عن مطلق ما يراه معصية ، ومجتنباً بالفعل عن كلّ ما هو كبيرة شرعاً أو في أنظار أهل العرف(1) .
والجواب عن ذلك أ نّه ـ بعد دلالة الصحيحة المتقدّمة على أنّ الذي تتقوّم به العدالة هو الاجتناب عن خصوص المعاصي الكبيرة ، كما استظهرنا منها . وبعد ورود الروايات الكثيرة في تعداد الكبائر ـ لا مجال لتوهّم كون ارتكاب الصغيرة أيضاً قادحاً في العدالة ، وإن كان حال الارتكاب ملتفتاً إلى حرمتها ولم يكن هناك عذر موجب للتسامح أصلا ، كما لا يخفى .
هذا ، مع أ نّه لم يعلم حقيقة مرامه(قدس سره) ، وأ نّه هل هو بصدد التفصيل بين ما يراه العرف صغيرة ، وبين ما يراه كبيرة . أو بصدد التفصيل بين ما يكون هناك عذر موجب للتسامح ، وبين ما لا يكون كذلك . أو بصدد التفصيل بين ما إذا كان حال الارتكاب متوجّهاً إلى حرمتها ، وبين ما إذا لم يكن . أو في مقام الفرق بين الشرع والعرف؟ والظاهر بطلان التفصيل بجميع احتمالاته الأربعة ، والتفصيل الصحيح
(1) كتاب الصلاة من مصباح الفقيه : 675 .
(الصفحة 360)
ما اخترناه من عدم قدح ارتكاب الصغيرة شرعاً في تحقّق العدالة ما لم يبلغ حدّ الإصرار الموجب لكونه كبيرة أو للحوقه بها ، فتدبّر جيّداً .
[كون الإتيان بالكبيرة مانعاً عن قبول الشهادة وعدمه ]
ثمّ إنّه قد اتّفقت آراء المسلمين تقريباً على أنّ مجرّد الإتيان بالكبيرة يمنع عن قبول الشهادة ، وما يجري مجراه من جواز الاقتداء به في الصلاة وغيره . كما أ نّه قد ادّعى الإجماع جماعة من المتأخّرين على أنّ التوبة عن الكبيرة والرجوع عنها تزيل حكم المعصية ، ومعها تقبل الشهادة ويجري سائر أحكام العدالة(1) .
وقد وقع الخلاف في ذلك بين المسلمين ، ومورد الخلاف بينهم هي مسألة القذف ، والمنشأ له هي الآية الشريفة(2) ، وقد تعرّض لهذه المسألة الشيخ(قدس سره) في كتاب الخلاف في باب الشهادات ، حيث قال : القاذف إذا تاب وصلح قبلت توبته وزال فسقه بلا خلاف ، وتقبل عندنا شهادته فيما بعد . وبه قال عمر بن الخطاب ، وروي عنه أ نّه جلد أبا بكرة حين شهد على المغيرة بالزنا ، ثمّ قال له : تب تقبل شهادتك(3) ، وعن ابن عباس أ نّه قال : إذا تاب القاذف قبلت شهادته(4) . ولا مخالف لهما ، ثمّ عدّ جماعة من التابعين والفقهاء الموافقين لذلك .
ثمّ قال : وذهبت طائفة إلى أ نّها تسقط ، فلا تقبل أبداً ، ذهب إليه في التابعين شريح ، والحسن البصري ، والنخعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه(5) . ثمّ
(1) ذخيرة المعاد : 305 ، مجمع الفائدة والبرهان : 12 / 321 .
(2) سورة النور : 24 / 4 .
(3) الاُمّ : 7/48 و 94 ، السنن الكبرى للبيهقي : 15 / 171 ، كتاب الشهادات ح 21132 و21133 .
(4) الاُمّ : 7 / 48 و 94 ، السنن الكبرى للبيهقي : 15 / 172 ، كتاب الشهادات ملحق ح 21135 و ح 21136 .
(5)الاُمّ:7/47-48،المغني لابن قدامة:12/74 ـ75،الحاوي الكبير:21/25-26،المبسوط للسرخسي:16/ 125.
|