(الصفحة 361)
قال : والكلام مع أبي حنيفة في فصلين :
عندنا وعند الشافعي تردّ شهادته بمجرّد القذف ، وعنده لا تردّ بمجرّد القذف حتى يجلد ، فإذا جلد ردّت شهادته بالجلد لابالقذف .
والثاني : عندنا تقبل شهادته إذا تاب ، وعنده لا تقبل ولو تاب ألف مرّة .
دليلنا : إجماع الفرقة وأخبارهم .
والدليل على أنّ ردّ الشهادة يتعلّق بمجرّد القذف ، ولا يعتبر الجلد ، قوله تعالى : {وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَـتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَـنِينَ جَلْدَةً وَ لاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَـدَةً أَبَدًا}(1) فذكر القذف وعلّق وجوب الجلد بردّ الشهادة ، فثبت أنّهما يتعلّقان به .
والذي يدلّ على أنّ شهادتهم لاتسقط أبداً،قولهـ تعالىـ في سياق الآية:{وَأُولَـلـِكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن م بَعْدِ ذَ لِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2) .
ووجه الدلالة أنّ الخطاب إذا اشتمل على جمل معطوفة بعضها على بعض بالواو ، ثمّ تعقّبها استثناء ، رجع الاستثناء على جميعها إذا كانت كلّ واحدة منها ممّا لو انفردت رجع الاستثناء إليها ـ إلى أن قال :ـ فإن قالوا : الاستثناء يرجع إلى أقرب المذكورين ، فقد دلّلنا على فساد ذلك في كتاب اُصول الفقه(3) .
والثاني : أنّ في الآية ما يدلّ على أ نّه لا يرجع إلى أقرب المذكورين ; فإنّ أقربه الفسق ، والفسق يزول بمجرّد التوبة ، وقبول الشهادة لا يثبت بمجرد التوبة ، بل
تقبل بالتوبة وإصلاح العمل(4) .
(1 ، 2) سورة النور : 24 / 4 ـ 5 .
(3) عدّة الاُصول : 1 / 320 ـ 321 .
(4) الخلاف : 6 / 260 ـ 262 مسألة 11 .
(الصفحة 362)
ولا يخفى أنّ اعتبار الإصلاح مضافاً إلى التوبة ينحصر بباب القذف ، ولا دليل عليه في غير ذلك الباب .
وكيف كان ، فلا تنبغي المناقشة في قبول الشهادة وما يجري مجراه بعد التوبة عن المعصية . نعم ، ربما يناقش في ذلك بأنّ العدالة هي الملكة النفسانيّة الكذائيّة
على ما دلّت عليه صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة(1) ، وبعد زوالها بإتيان الكبيرة لا دليل على عودها بمجرّد الاستغفار والتوبة حتى تقبل الشهادة ، ولذا خصّ بعض المعاصرين(2) ـ على ما حكي عنه ـ قبول الشهادة بالتوبة بما إذا عادت معها الملكة التي كانت حاصلة له قبل الإتيان بالمعصية الكبيرة .
ولكنّ الظاهر أنّ الإتيان بالكبيرة لا يؤثّر في زوال الملكة ، بل الملكة بعده أيضاً باقية وإن لم تتحقّق التوبة بعد . نعم ، العدالة لا تكون عبارة عن مجرّد الملكة ، بل الاجتناب الناشىء عنها ; لما عرفت من أنّ الدليل على اعتبار الملكة هي الصحيحة المتقدّمة الدالّة على اعتبار الاجتناب العملي عن الكبيرة . غاية الأمر قيام بعض القرائن على اعتبار كون الاجتناب ناشئاً عن الملكة ، فقدح الإتيان بالكبيرة إنّما هو لأجل عدم تحقّق الاجتناب ، لا لأجل زوال الملكة .
نعم ، حيث إنّ التوبة تكفّر الخطيئة ، والاستغفار يزيل المعصية ، فلا محالة تترتّب آثار العدالة بعد التوبة ، ويعود الشخص كما كان قبل صدور المعصية ،
وقد اشتهرت : التائب من الذنب كمن لا ذنب له(3) ، إلاّ أن تتحقّق منه المعصية
(1) في ص313 ـ 314 .
(2) راجع كتاب الصلاة للشيخ عبد الكريم الحائري : 519 .
(3) الكافي : 2 / 435 ح10 ، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : 2 / 74 ح347 ، وعنهما وسائل الشيعة : 16 / 74 و75 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ب86 ح8 و14 .
(الصفحة 363)
مكرّرة ، فإنّه يوجب زوال الملكة ، فلا تعود العدالة وإن تاب عن كلّ واحدة منها بعد تحقّقها ، إلاّ أن تتحقّق مقدّمات ثبوتها كالابتداء ، كما لا يخفى .
تتميم: [اعتبار المروءة في العدالة]
المعروف بين المتأخّرين ـ على ما نسب إليهم ـ هو اعتبار المروءة في العدالة(1) ، وأ نّ ارتكاب خلافها ينافي العدالة ويمنع عن تحقّقها ، والظاهر أنّ الدليل المهمّ على ذلك قوله(عليه السلام) في صحيحة عبدالله بن أبي يعفور المتقدّمة(2) في مقام الجواب عن السؤال عن ماهيّة العدالة وحقيقتها : «أن تعرفوه بالستر والعفاف» . بناءً على ما نقلنا عن كتب اللغة في معنى العفاف ; من أ نّه هو الكفّ عمّا لا يحلّ ويَجمُلُ(3) ، فارتكاب ما لا يكون جميلا لائقاً بحال الشخص ، مناسباً لمقامه وشؤونه العرفيّة مخلّ بالعدالة ، مانع عن تحقّق عنوان العفاف المعتبر فيها على ما هو ظاهر الرواية ، وكما أنّ المعتبر في ناحية المعاصي هي ملكة الاجتناب ، كذلك المعتبر في طرف المروءة أيضاً ملكتها ـ التي يتعسّر معها ـ أن يصدر من الشخص ما لا ينبغي أن يصدر من مثله بحسب المتعارف .
فالدليل المهمّ على اعتبار المروءة ما ذكرنا ، لا قوله(عليه السلام) في الصحيحة في مقام جعل الأمارة الكاشفة : «والدلالة على ذلك كلّه أن يكون الشخص ساتراً لجميع عيوبه» ـ بتقريب أنّ «العيوب» عامّة شاملة لجميع أفرادها الشرعيّة والعرفيّة ـ حتى يدفع بأنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع ، وكون الإمام(عليه السلام) هو الملقي للكلام
(1) رسالة في العدالة للشيخ الأنصاري : 17 .
(2) في ص313 .
(3) في ص318 .
(الصفحة 364)
أن يكون المراد منها خصوص العيوب المضافة إلى الشرع والمرتبطة بالشارع .
ولا الملازمة بين عدم الخجلة من الناس ، وعدم الاستحياء من غير الله ، وبين عدم الخجلة والاستحياء من الله ـ تبارك وتعالى ـ حتى يدفع بمنع الملازمة ، وعدم كون عدم الاستحياء من غير الله كاشفاً عن عدمه من الله تبارك وتعالى ، خصوصاً بالإضافة إلى من يكون متفانياً في الله وفي الأُمور المعنويّة ومتمحّضاً فيها ، بحيث لايعتني بالناس وبالشؤون التي يترقّبونها منه .
فالإنصاف بمقتضى ما ذكرنا اعتبار ملكة المروءة في العدالة ، واستبعاد مدخليّة المروءة فيها دون الاجتناب عن الصغيرة ـ نظراً إلى أ نّه كيف يكون ارتكاب أمر مباح قادحاً في العدالة . والإتيان بالمحرّم الشرعي غير قادح فيها ؟ ـ لا يقاوم ظهور الدليل ، خصوصاً بعد ملاحظة كون الإصرار على الصغيرة من جملة الكبائر القادحة ، وأ نّه يتحقّق بمجرّد الإتيان بالذنب والعزم على العود إليه ، بل بمجرّد الإتيان به وعدم الندم عليه وإن لم يعزم على العود ، كما اختاره بعض الأعاظم من المحقّقين(1) على خلاف ما اخترناه .
وليعلم أنّ محلّ الكلام في ارتكاب خلاف المروءة من جهة كونه قادحاً في العدالة ; هو ما إذا لم ينطبق عليه عنوان محرّم . وأمّا إذا انطبق عليه عنوان محرّم كالهتك ونحوه فلا إشكال في دخوله حينئذ في الذنوب التي يكون الإتيان بها مانعاً عن تحقّق العدالة إذا تحقّق الإصرار . هذا تمام الكلام في المقام الأوّل الذي كان البحث فيه مرتبطاً بمفهوم العدالة ومعناها .
(1) كتاب الصلاة للشيخ عبد الكريم الحائري : 519 .
(الصفحة 365)
كاشفيّة حسن الظاهر عن العدالة
المقام الثاني : في الكاشف عن العدالة ، والأمارة الشرعيّة التعبّديّة عليها ، والكلام فيه يقع في مرحلتين :
المرحلة الأُولى :في أصل وجود الكاشف والأمارة عليها بالخصوص
زائداً على الأمارة ، أو الأمارات الشرعيّة العامّة ، كالبيّنة وإخبار عادل واحد
أو ثقة كذلك على اختلاف في الأخيرين ، كما مرّ في مبحث اعتبار البيّنة
وحجيّتها(1) .
والظاهر كما هو المتسالم عليه بين الأصحاب وجود أماره خاصّة ، وأ نّ حسن الظاهر كاشف شرعيّ عن العدالة ، وهذا مع قيام الدليل عليه يساعده الاعتبار ;
إذ لولاه لم يمكن كشف العدالة نوعاً ، ولو مع كمال المعاشرة وطول المخالطة ; لعدم إمكان العلم نوعاً بعدم صدور المعصية منه كما هو واضح ، وقيام البيّنة لابدّ
وأن يكون مستنداً إلى العلم لا محالة ولو كانت هناك واسطة ، كبيّنة اُخرى إذا قلنا بجواز استناد البيّنة إلى مثلها .
وبالجملة : لا إشكال في عدم إمكان كشف العدالة نوعاً لو لم يكن أمارة شرعيّة خاصّة عليها ، فالاعتبار يساعد وجودها .
وأمّا الدليل ، فالعمدة كما عرفت هي صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة(2)المشتملة على أنّ الدليل الشرعي على تحقّق ملكة العدالة والقيود المعتبرة فيها ،
(1) في ص253 ـ 260 .
(2) في ص313 ـ 314 .
(الصفحة 366)
هو الأمر المركّب من الستر لجميع العيوب في المعاصي الوجوديّة ، والمحافظة على الصلوات الخمس في المعاصي العدميّة ، وقد عرفت(1) النكتة في تخصيص الصلوات الخمس من بين الواجبات بالذكر . وهذا الأمر المركّب هو الذي يعبّر عنه بحسن الظاهر . وعليه : فلا ينبغي الإشكال في كونه كاشفاً عن العدالة في الجملة .
وتؤيّد الصحيحة في الدلالة على ذلك روايات اُخرى لا يخلو بعضها عن الخلل في السند ، أو المناقشة في الدلالة :
منها : رواية حريز ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا ، فعدل منهم اثنان ولم يعدل الآخران ، فقال : إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعروفون بشهادة الزور أُجيزت شهادتهم جميعاً ، الحديث(2) . ومن المعلوم أ نّه لا خصوصيّة لشهادة الزور ، بل المعتبر هو عدم المعروفيّة بارتكاب المعاصي ، ويرجع ذلك إلى حسن الظاهر .
ومنها : موثّقة أبي بصير ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً(3) .
ومنها : رواية علقمة قال : قال الصادق(عليه السلام) وقد قلت له : يا ابن رسول الله أخبرني عمّن تُقبل شهادته ومن لا تقبل؟ فقال : يا علقمة كلّ من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته . قال : فقلت له : تقبل شهادة مقترف بالذنوب؟ فقال :
يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلاّ شهادة الأنبياء
(1) في ص322 ـ 325 .
(2) تهذيب الأحكام : 6 / 277 ح759 ، الاستبصار : 3 / 14 ح36 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 397 ، كتاب الشهادات ب41 ح18 .
(3) الفقيه : 3 / 27 ح77 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 395 ، كتاب الشهادات ب41 ح10 .
(الصفحة 367)
والأوصياء(عليهم السلام) ; لأنّهم المعصومون دون سائر الخلق ، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً ، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان ، فهو من أهل العدالة والستر ، وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنباً ، ومن اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية الله ، داخل في ولاية الشيطان(1) .
ثمّ إنّه لا مجال لدعوى اعتبار المعاشرة في كاشفيّة حسن الظاهر ، بحيث لو كان الشخص منزوياً جالساً في بيته غير مرئيّ في الاجتماع إلاّ في حال الصلاة مثلا لايكون هنا طريق إلى عدالته من جهة حسن الظاهر ، وذلك لأ نّه ـ مضافاً إلى أنّ نفس الحضور في جماعة المسلمين والجهات الملازمة لذلك لا يكاد ينفكّ عن المعاشرة كما هو واضح ـ لا دليل على اعتبارها أصلا ; فإنّ الأمارة الشرعيّة هي الساتريّة للعيوب بأجمعها ، ونفس الإنزواء وعدم المخالطة من جملة الطرق للستر .
نعم، لابدّ من تحقّق العلم بحصول الأمارة الشرعيّة أو ما يقوم مقامه ، كالبيّنة لو فرض اعتبارها في جميع الموارد ، فإذا قامت البيّنة على ثبوت حسن الظاهر يكفي ، كما إذا قامت على شهادة البيّنة بنجاسة الشيء الفلاني أو حرمته ، فتدبّر جيّداً .
المرحلة الثانية : في أنّ كاشفيّة حسن الظاهر هل تختصّ بما إذا أفاد العلم ،
أو الظنّ الشخصيّ بتحقّق ملكة العدالة والجهات المعتبرة فيها ، كما هو ظاهر عبارة العروة بل صريحها (2)، أو أ نّه كاشف مطلقاً ولو لم يفد العلم بل ولا الظنّ ،
كما استظهره سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ في ذيل المسألة السابعة والعشرين المتقدّمة ؟ والظاهر هو الوجه الثاني ; لأنّك عرفت أنّ العمدة في هذا
(1) أمالي الصدوق : 163 ح3 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 395 ، كتاب الشهادات ب41 ح13 .
(2) العروة الوثقى: 1 / 10 مسألة 23 .
(الصفحة 368)
الباب هي الصحيحة المتقدّمة الدالّة على أنّ الساتريّة والحضور في جماعة المسليمن كاشف عن العدالة ودليل شرعيّ عليها ، ولم يقع فيها التقييد بما إذا أفاد العلم
أو الظنّ الشخصيّ بتحقّق الملكة وسائر الأُمور المعتبرة .
وقد استدلّ على مختار العروة بروايتين :
إحداهما : مرسلة يونس بن عبدالرحمن ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سألته عن البيّنة إذا أُقيمت على الحقّ ، أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة؟ فقال : خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم : الولايات ، والمناكح ، والذبائح ، والشهادات ، والأنساب ، فإذا كان ظاهر الرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته
ولا يُسأل عن باطنه(1) . نظراً إلى أنّ توصيف الظاهر بكونه مأموناً مرجعه إلى حصول الوثوق والاطمئنان بكونه مطابقاً للواقع .
والجواب عنه : أنّ المأمونيّة إنّما هي في مقابل الفسق والفجور ، ومعنى الرواية أنّه إذا كان ظاهر الرجل ظاهراً دينيّاً ، عاملا بالوظائف ، مجتنباً عن المعاصي ، فشهادته جائزة ، في مقابل من كان ظاهره الفسق والفجور والإخلال بالوظائف الشرعيّة .
وبعبارة اُخرى : الرواية ظاهرة في أنّ الظاهر على قسمين : أحدهما : المأمونيّة ، والاُخرى : مقابلها ، وليست فيها دلالة بوجه على أنّ من كان ظاهره القيام بالوظائف الشرعيّة ، يجب أن يحصل منه الظنّ بالمطابقة مع الواقع حتى تكون شهادته جائزة ، كما هو ظاهر .
ثانيتهما : رواية أبي علي بن راشد قال : قلت لأبي جعفر(عليه السلام) : إنّ مواليك
(1) الفقيه : 3 / 9 ح29 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 392 ، كتاب الشهادات ب41 ح3 .
(الصفحة 369)
قد اختلفوا فأُصلّي خلفهم جميعاً؟ فقال : لا تصلّ إلاّ خلف من تثق بدينه(1) ; فإنّ ظاهره اعتبار الوثاقة الشخصيّة بالدين ، أو به والأمانة ، كما في رواية الشيخ .
والجواب : أنّ الوثاقة بالدّين ظاهرة في الوثاقة بكونه إماميّاً إثنى عشرياً
ولا كلام فيه ، وأمّا الوثاقة بالأمانة ـ كما فيما رواه الشيخ ـ فالظاهر عدم اعتبارها في جواز الاقتداء لو كان المراد بها هي الوثاقة الشخصيّة ; لوضوح جواز الاقتداء بمن قامت البيّنة على عدالته ، أو كان مقتضى الاستصحاب بقاء عدالته ، إذاً فالمراد بالوثاقة إمّا الوثاقة النوعيّة ، أو الوثاقة بكونه أميناً في الظاهر ، ومرجعه إلى الوثوق بوجود الأمارة الكاشفة عن العدالة والاطمئنان بتحقّق حسن الظاهر .
وبالجملة : فلم يقم في مقابل ما دلّ على كاشفيّة حسن الظاهر بنحو الإطلاق الشامل لصورة عدم حصول الظنّ فضلا عن العلم ، دليل على التقييد بخصوص
ما إذا أفاد العلم أو الظنّ ، كما عرفت .
هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بمبحث العدالة ، وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ العدالة لاتكون عبارة عن مجرّد الملكة الراسخة الباعثة ، كما أفاده الماتن دام ظلّه ، بل هي بضميمة الاجتناب العملي تحقّق التقوى خارجاً ، بحيث لو تحقّق ارتكاب الكبيرة لا تتحقّق العدالة بوجه ، ومنه يظهر أنّ ارتكاب الكبيرة إنّما يؤثّر في زوال صفة العدالة حقيقة ، ويمنع عن تحقّقها واقعاً ; لدخالة الاجتناب عنها في الحقيقة والماهيّة ، كما أ نّه ظهر ممّا ذكرنا أنّ ارتكاب الصغيرة من دون إصرار لا يقدح في العدالة أصلا ، وأنّ ملكة المروءة دخيلة فيها بمقتضى الرواية ، فتأمّل جيّداً .
(1) الكافي : 3 / 374 ذ ح5 ، تهذيب الأحكام : 3 / 266 ح755 ، وفيه : بدينه وأمانته ، وعنهما وسائل الشيعة : 8 / 309 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ب10 ح2 .
(الصفحة 370)
[الخطأ في نقل الفتوى أو خطأ المجتهد في بيان فتواه]
مسألة30: إذا نقل شخص فتوى المجتهد خطأً يجب عليه إعلام من تعلّم منه 1.
1 ـ الخطأ في نقل فتوى المجتهد، وكذا في بيان المجتهد فتوى نفسه ، تارة : بنحو تكون الفتوى الواقعيّة عبارة عن الحكم اللزومي من الوجوب أو الحرمة ، والناقل ينقله بنحو الإباحة ، واُخرى : بالعكس ، فهنا صورتان :
أمّا الصورة الاُولى: فقد استدلّ على وجوب الإعلام فيها بوجهين :
الأوّل : ما اعتمد عليه بعض الأعلام في الشرح على العروة ممّا حاصله : أنّه يتحقّق بذلك التسبيب إلى فعل الحرام ، والمستفاد من دليل الحرمة في جميع الموارد حسب المتفاهم العرفي إنّما هو مبغوضيّة انتساب العمل المحرّم إلى المكلّفين ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون بالمباشرة أو بالتسبيب ، ومن هنا يكون تقديم الطعام النجس إلى الجاهل ليأكله أمراً حراماً ; لأنّ النهي والتحريم وإن كانا قد تعلّقا بأكل النجس ، إلاّ أنّ العرف يفهم من ذلك أنّ أكل النجس مبغوض مطلقاً; سواء صدر ذلك عن المكلّف بالمباشرة ، أم صدر بالتسبيبوإن كان الآكل حينئذمعذوراً بجهله ، بل يمكن أن يقال باستقلال العقل أيضاً بذلك ; لأنّ ما هو الملاك في المنع عن العمل بالمباشرة موجود في العمل بالتسبيب ، وحيث إنّ الناقل أو المجتهد في المقام أفتى بإباحة ما هو لازم فعله أو تركه ، فقد سبّباً إلى وقوع المكلّف في الأمر المبغوض . نعم، ما داما غافلين معذوران في التسبيب، فإذا ارتفعت الغفلة وجب عليهما الإعلام.
وأيّد ذلك بل استدلّ عليه بما ورد من أنّ المفتي ضامن ، كما في صحيحة
(الصفحة 371)
عبدالرحمن بن الحجّاج المتقدّمة في بحث التقليد(1) ، قال : «كان أبو عبدالله(عليه السلام)قاعداً في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابيّ ، فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه ، فلمّا سكت قال له الأعرابيّ : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يردّ عليه شيئاً ، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابيّ : أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : هو في عنقه . قال : أو لم يقل : وكلّ مفت ضامن؟!» . بناءً على أنّ المفتي عبارة عن مطلق من ينقل الحكم ، فيشمل المجتهد والناقل كليهما .
قال : بل ورد في بعض الأخبار(2) أنّ كفارة تقليم المحرم أظفاره على من أفتى بجوازه ، وتدلّ عليه أيضاً صحيحة أبي عبيدة الحذاء قال : قال أبو جعفر(عليه السلام) : من أفتى الناس بغير علم ولا هدًى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه(3) . وكذلك غيرها من الأخبار الدالّة على حرمة الفتوى بغير علم (4)، وذلك لأنّ الفتوى بالإباحة في المقام أيضاً من غير علم وإن كان المجتهد أو الناقل معذورين ما داما مشتبهين أو غافلين ، إلاّ أ نّه إذا ارتفعت الغفلة وجب عليهما إعلام الجاهل بالحال كما مرّ(5) .
أقول :الكلام في هذا الوجه تارة : من حيث الكبرى ، وأنّ التسبيب إلى الحرام هل يكون حراماً أم لا؟ واُخرى : من حيث الصغرى ، وأنّ المقام هل يكون مصداقاً لتلك القاعدة أم لا؟
(1) في ص64 ـ 65 .
(2) وسائل الشيعة : 13 / 164 ـ 165 ، كتاب الحج ، أبواب بقيّة كفّارات الإحرام ب13 .
(3) الكافي : 7 / 409 ح2 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 20 ، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي ب4 ح1 .
(4) وسائل الشيعة : 27 / 20 ـ 31 ، كتاب القضاء ، أبواب آداب القاضي ب4 .
(5) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 371 ـ 372 .
(الصفحة 372)
أمّا من الجهة الأُولى : فسيأتي تفصيل البحث فيها في بعض مباحث النجاسات إن شاء الله تعالى .
وأمّا من الجهة الثانية : فربما يقال بعدم كون المقام من صغريات تلك القاعدة ، نظراً إلى أنّ عمل العامي المباشر لترك الواجب أو فعل الحرام إن أُريد كونه مستنداً إلى الفتوى بالإباحة أو نقلها ، فهو وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ ذلك يقتضي الحرمة لو كان عمداً ، والمفروض خلافه . وإن أُريد استناده إلى ترك الإعلام الذي هو محلّ الكلام ، فهو غير صحيح ; لعدم استناد عمل العامّي إلى ترك الإعلام أصلا ، فالمقام لايكون من صغريات قاعدة حرمة التسبيب على فرض تماميّتها .
والظاهر أ نّه لا مجال للمناقشة في هذه الجهة ; فإنّ الفتوى أو نقلها وإن لم يكن عن عمد حتى يكون التسبيب مقتضياً لحرمته ، إلاّ أنّ ظهوره في البقاء والاستمرار الناشىء من البيان وترك الإعلام أمرٌ عمديّ والفعل مستند إليه ; ضرورة أنّ الفعل لا يكون مستنداً إلى الفتوى ولو مع رفع اليد عنها وإعلام خلافها ، بل هو مستند إلى الفتوى مع بقائها وعدم رفع اليد عنها ، وهو يحصل بترك الإعلام كما هو ظاهر ، والمفروض أ نّه عمديّ ، فبناءً على حرمة التسبيب يكون محرّماً .
نعم ، ربما يناقش في أنّ مقتضى ذلك حرمة السكوت وترك الإعلام لا وجوب الإعلام ، كما أ نّه ربما يناقش بأنّ قاعدة حرمة التسبيب إنّما يكون مجراها خصوص التسبيب إلى فعل المحرّم ، ولا تشمل التسبيب إلى ترك الواجب ; لعدم كون ترك الواجب محرّماً ، بل الواجب ما كان فعله واجباً ، كما أنّ الحرام ما كان فعله محرّماً لاما كان تركه واجباً .
وأمّا الروايات ، فيمكن المناقشة في دلالتها ـ مضافاً إلى أنّها تختصّ بخصوص المجتهد ; لظهور عنوان «المفتي» أو «من أفتى» في خصوص المجتهد ، ولا يشمل
(الصفحة 373)
الناقل بمجرّده ـ بأنّ صحيحة عبدالرحمن ظاهرة إمّا في ضمان كلّ مفت ولو كانت فتواه عن علم وهدى من الله . وإمّا في ضمان خصوص من كانت فتواه على خلاف الواقع عن عمد وقصد ، وعلى أيّ فلا دلالة لها على الحرمة في المقام ، إلاّ أن يقال :
إنّ فتواه بخلاف الواقع وإن لم تكن في المقام عن عمد واختيار ، إلاّ أنّ ترك الإعلام الموجب لظهورها في البقاء موجب لذلك ، كما لا يخفى ، وصحيحة أبي عبيدة لادلالة لها إلاّ على ثبوت وزر من عمل بفتياه للمفتي .
وهذا ـ مضافاً إلى أ نّه لا يلازم الوجوب الشرعيّ ، بل غايته اللزوم العقلي من جهة تخفيف الوزر ـ يكون مورده الفتوى بغير علم ; وهو لا يشمل المقام إلاّ على النحو الذي ذكرنا .
الوجه الثاني : ما أفاده في المستمسك من أنّ المستفاد من آية النفر الشريفة(1)وجوب الإعلام ، حيث يترتّب عليه إحداث الداعي العقلي إلى العمل بالواقع الذي هو متعلّق الإعلام لاختصاص الإنذار بذلك ، فإذا كان المكلّف غافلا عن الحكم الكلّي ، أو قاطعاً بالخلاف ، أو متردّداً على نحو يكون جهله عذراً ، وجب إعلامه ; لما يترتّب عليه من إحداث الدّاعي العقلي ، وإذا كان جاهلا جهلا لا يعذر فيه لا يجب إعلامه .
وكذا لو انحصر الإعلام بطريق الخبر الذي لا يكون حجّة في نظر السامع ; فإنّه لا يجب ; لعدم ترتّب الأثر المذكور ، ولا تبعد استفادة ذلك أيضاً ممّا تضمّن أنّ الغرض من إرسال الرسل قطع أعذار المكلّفين وإقامة الحجّة عليهم ; مثل قوله ـ تعالى ـ : {أَن تَقُولُوا مَا جَآءَنَا مِن م بَشِير وَ لاَ نَذِير فَقَدْ جَآءَكُم بَشِيرٌ
(1) سورة التوبة : 9 / 122 .
(الصفحة 374)
وَنَذِيرٌ}(1). {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُم بَعْدَ الرُّسُلِ}(2). {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَــلِغَةُ}(3) ونحوه ، فتأمّل.
ثمّ إنّ الظاهر اختصاص هذا الصنف من الآيات بالحكم الإلزامي ، فإذا كان المجهول حكماً غير إلزاميّ لم يجب إعلامه .
وأمّا آية الكتمان(4) ، فظاهرها وجوب الإظهار في مقام الاستعلام ; سواء ترتّب عليه الإنذار أم لا ، وسواء كان الاستعلام بطريق السؤال ـ كما في المتردّد إذا سأل عن الحكم ـ أم بمحض وجود الداعي إلى معرفة الحكم والعلم به وإن كان غافلا عن ذلك ; سواء كان معتقداً لخلاف الواقع ، أم غافلا عنه ، أم متردّداً غافلا عن وجود من يجب سؤاله ، أم غير ذلك من موارد وجود الرغبة النفسانيّة في معرفة الحكم ، ولو لم تدفع إلى السؤال لوجود المانع ، فيكون بين مفاد الآية الشريفة ،
وما سبق العموم من وجه ، ولعدم التنافي بين المفادين ـ لكونهما من قبيل المثبتين ـ يتعيّن العمل بهما معاً ، ولازم ذلك وجوب البيان مع السؤال ، وإن لم يكن السائل معذوراً في جهله ، بل لعلّها تقتضي وجوبه مع عدم اعتقاد السائل حجيّة الخبر ، وقد عرفت عدم اقتضاء آية النفر وجوب الإعلام حينئذ .
وكيف كان، ففي فرض المسألة كما يجب على الناقل أو المفتي خطأً إخبار الجاهل ، كذلك يجب على غيره من المكلّفين;لعموم الأدلّة الدالّة على وجوب الإعلام(5) انتهى.
(1) سورة المائدة : 5 / 19 .
(2) سورة النساء : 4 / 165 .
(3) سورة الأنعام : 6 / 149 .
(4) سورة البقرة : 2 / 159 .
(5) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 75 ـ 77 .
(الصفحة 375)
وأنت خبير بأنّ مرجع ما أفاده(قدس سره) إلى وجوب تبليغ الأحكام الشرعيّة وبيانها للناس وحفظها عن الخفاء والاندراس ، ولأجله صرّح في ذيل كلامه بأ نّه «كما يجب على المفتي أو الناقل خطأً إخبار الجاهل ، كذلك يجب على غيره من المكلّفين ; لعموم الأدلّة الدالّة على وجوب الإعلام» مع أنّ الظاهر أنّ المقصود في هذه المسألة وجوب الإعلام على خصوص الناقل أو المفتي خطأً دون سائر المكلّفين ، مضافاً إلى اختلاف كيفيّة الإعلام في المقامين ; فإنّ الإعلام هناك إنّما يتحقّق ببيان الأحكام الشرعيّة على النحو المتعارف الذي يتمكّن العامّي من الوصول إليه ، والإعلام هنا إنّما هو بإعلام كلّ فرد ممّن تعلّم الفتوى على خلاف الواقع بأيّ نحو أمكن ، فبين المقامين فرق ظاهر .
وأمّا الصورة الثانية : أعني ما إذا كانت الفتوى الواقعيّة غير إلزاميّة ، والناقل
أو المجتهد نقلها بنحو الإلزام ، فربما يقال بعدم وجوب الإعلام حينئذ ، لعدم جريان قاعدة حرمة التسبيب في هذه الصورة ; لأنّ المفروض أنّ الفتوى صارت سبباً لترك أمر مباح ، أو فعل أمر لا يكون واجباً ، وليس شيء منهما بحرام ، وأدلّة وجوب تبليغ الأحكام ـ مضافاً إلى أنّ مقتضاها وجوب البيان بالنحو المذكور ،
لا وجوب إيصالها إلى آحاد المكلّفين ـ مختصّة بالأحكام الإلزاميّة، ولا تشمل الأحكام الترخيصيّة، إمّالاقترانهابالقرينة في نفسها ، وإمّا لأنّ التعلّم واجب طريقيّ.
والوجه فيه هو التحفّظ على المصالح لئلا تفوت ، والتجنّب عن الوقوع في المفاسد ، ومن الظاهر عدم وجوب التعليم إلاّ فيما وجب فيه التعلّم ، والتعلّم إنّما يجب في خصوص الأحكام الإلزاميّة; لأنّ الأحكام الترخيصيّة لا يجب فيها التعلّم والتقليد.
(الصفحة 376)
هذا ، ويمكن أن يقال بأنّ التضييق على العامّي المكلّف بسبب ترك إعلامه بعدم الوجوب أو الحرمة مخالف لما هو المقصود للشارع المقدّس ، ولكون هذه الشريعة المطهّرة سمحة سهلة ; ضرورة أنّ إيقاعه في الكلفة والمشقّة من دون موجب ممّا لايرتضيه الشارع ، وأدلّة وجوب تبليغ الأحكام لا وجه لدعوى اختصاصها بالأحكام الإلزاميّة ، خصوصاً في مثل المقام ; فإنّه تارة : يكون الحكم الترخيصي مسكوتاً عنه ، واُخرى : يحكم مكانه بحكم إلزاميّ موجب لوقوع المكلّف في
الضيق ; فإنّه لا تبعد دعوى وجوب الإعلام في الصورة الثانية ليخرج المكلّف بسببه عن المشقّة والكلفة ، فتدبّر جيّداً .
(الصفحة 377)
[ابتلاء المصلّي في أثناء الصلاة بما لا يعلم حكمه]
مسألة31: إذا اتّفق في أثناء الصلاة مسألة لا يعلم حكمها ولم يتمكّن حينئذ من استعلامها ، بنى على أحد الطرفين بقصد أن يسأل عن الحكم بعد الصلاة، وأن يعيدها إذا ظهر كون المأتيّ به خلاف الواقع، فلو فعل كذلك فظهرت المطابقة صحّت صلاته 1.
1 ـ الظاهر أنّ المراد بهذه المسألة ما إذا اتّفق في أثناء الصلاة مسألة لا يعلم حكمها ولم يكن يعلم أو يحتمل اتّفاقها ; فإنّ صورة العلم أو الاحتمال قد تقدّم البحث عنها سابقاً في المسألة الثالثة والعشرين ، وفي المقام إذا كان الاحتياط ممكناً بالإضافة إليه ، كما إذا شكّ في قراءة الفاتحة بعد الدخول في السورة ، ولم يعلم أنّ حكمه عدم الاعتناء بهذا الشكّ لأجل تحقّق التجاوز عن المحلّ ، أو الاعتناء به لعدم تحقّق التجاوز إلاّ بالدخول في الركوع مثلا ، فالظاهر وجوب الاحتياط عليه عقلا بناءً على القول بحرمة قطع الصلاة ، كما هو المنسوب إلى المشهور(1) .
وأمّا إذا لم يمكن الاحتياط ، كما إذا حصل له مثل هذا الشكّ بالنسبة إلى الركن الذي تكون زيادته ونقيصته موجباً للبطلان مطلقاً عمداً وسهواً ، فعلى تقدير عدم كون قطع الصلاة محرّماً، أوعدم كون الحرمة ثابتة في المقام; لأنّ الدليل عليها منحصر بالإجماع ، والقدر المتيقّن منه غير المقام ممّا كان المكلّف متمكّناً من إتمام الصلاة مع الجزم بصحّتها ، يجوز له أن يقطع الصلاة ويأتي بصلاة اُخرى فاقدة لمثل هذا الشكّ،
(1) مفتاح الكرامة : 3 / 45 ، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 298 و 376 .
(الصفحة 378)
كما أ نّه يجوز له أن يبني على أحد الطرفين بقصد السؤال عن الحكم بعد الصلاة ، وأ نّه إذا كان ما أتى به على خلاف الواقع ; بحيث كان الواجب عليه الإعادة ، يعيد صلاته ، فإذا فعل ذلك ، وكان عمله مطابقاً للواقع أو مخالفاً له بنحو لم تكن الإعادة واجبة، لاتجب عليه الإعادة، بل لا يبعد أن يقال كما مرّ بأ نّه لو بنى على أحد الطرفين مطلقاً، ولم يقصد الإعادة على فرض المخالفة ووجوبها ، يحكم بصحّة عمله مع المطابقة ، أو مثلها إذا لم يكن ذلك مخِلاًّ بقصد القربة ، كما عرفت في بعض المسائل السابقة(1) .
وأمّا لو قلنا بحرمة قطع الصلاة وشمول دليلها لمثل المقام ، فالطريق ينحصر بالثاني . نعم ، قد عرفت في المسألة الثالثة والعشرين المتقدّمة أ نّه بناءً على هذا المبنى أيضاً لو ارتكب قطع الصلاة المحرّم لا يكون ذلك مخِلاًّ بما هو المقصود في المقام من تحقّق الامتثال والخروج عن عهدة التكليف العبادي المتوجّه إليه ; فإنّ حرمة قطع الصلاة أمر ، وتحقّق الامتثال وحصول وصف الصحّة للعبادة أمر آخر ،
وقد وقع بينهما الخلط في بعض الكلمات فلاحظ (2).
(1) في ص262 ـ 269 .
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد: 298 ـ 299 .
(الصفحة 379)
[حكم الوكيل في عمل عن الغير والأجير عن الوصيّ أو الوليّ]
مسألة32: الوكيل في عمل عن الغير ـ كإجراء عقد أو إيقاع ، أو أداء خمس أو زكاة أو كفارة أو نحوها ـ يجب عليه أن يعمل بمقتضى تقليد الموكّل
لا تقليد نفسه إذا كانا مختلفين، وأمّا الأجير عن الوصيّ أو الوليّ في إتيان الصلاة ونحوها عن الميّت ، فالأقوى لزوم مراعاة تقليده لا تقليد الميّت ولا تقليدهما. وكذا لو أتى الوصيّ بها تبرّعاً أو استئجاراً يجب عليه مراعاة تقليده لا تقليد الميّت ، وكذا الولي 1 .
1 ـ ربما يقال في مقام الإشكال على ما أفاده الماتن ـ دام ظلّه ـ من وجوب عمل الوكيل بمقتضى تقليد الموكّل لا تقليد نفسه إذا كانا مختلفين ما ملخّصه : أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ إطلاق الوكالة يقتضي إيكال تطبيق العمل الموكّل عليه إلى نظر الوكيل . نعم ، إذا اتّفق التفات الموكّل إلى الاختلاف في التطبيق فقد يشكل ذلك من جهة أنّ نظر الموكّل مانع عن عموم التوكيل لمورد الاختلاف ، ولكن يدفعه أ نّه وإن كان يمنع عن عمومه بنظر الموكّل تفصيلا ، لكن لا يمنع عن عمومه إجمالا ، وهو كاف في جواز العمل .
مثلا إذا وكّله في أن يعقد له على امرأة ، وكان الموكّل يعتقد فساد العقد بالفارسيّة ، والوكيل يعتقد صحّته ; فإنّ موضوع الوكالة ـ وهو العقد الصحيح بإطلاقه الإجمالي ـ ينطبق على العقد بالفارسيّة وإن كان لا ينطبق بإطلاقه التفصيلي بنظر الموكّل . نعم ، إذا كانت قرينة على تقييد الوكالة بالعمل بنظر الموكّل ، أو كان ما يصلح أن يكون قرينة على ذلك ، لم يكن عمل الوكيل المخالف لنظر الموكّل
(الصفحة 380)
صحيحاً ، وإن لم يكن كذلك ، فإطلاق التوكيل يقتضي جواز عمل الوكيل بنظره ، ومجرّد التفات الموكّل إلى الاختلاف لا يكفي في تقييد إطلاق التوكيل مع وجود مقدّماته ، وكذلك الكلام في الوصيّ ; فإنّ الوصاية استنابة في التصرّف بعد الممات(1) .
والتحقيق أ نّه يقع الكلام تارة : فيما هو وظيفة الوكيل ، وما يجب عليه بعد قبول الوكالة والالتزام بالفعل الموكّل عليه ، واُخرى : في جواز اكتفاء الموكّل بما عمله الوكيل بمقتضى تقليد نفسه .
أمّا الأوّل : فالظاهر كما أفاده المستشكل من أ نّه لا يجب على الوكيل إلاّ ما هو الصحيح بنظره الموضوع لترتّب الآثار عليه ; فإنّه لم يلتزم إلاّ بالإتيان بالفعل الموكّل عليه بنحو يكون صحيحاً موضوعاً للأثر ، والمفروض أ نّه أتى به كذلك ، وهذا لا فرق فيه بين صورتي العلم بالاختلاف وعدمه ، كما أ نّه لا فرق بين
أن يكون العالم بالاختلاف هو الموكّل أو الوكيل أو هما معاً ، ولا وجه لوجوب العمل بمقتضى تقليد الموكّل كما أفاده الماتن دام ظلّه ، فإذا التزم بأن يعقد للموكّل ويزوّجه امرأة ، وهو يعتقد صحّة العقد بالفارسيّة ، وزوّجه كذلك ، فقد وفى بما هو مقتضى الوكالة وعمل بما التزم عمله .
وأمّا الثاني : فالظاهر أ نّه لا يجوز للموكّل ترتيب الأثر على ما لا يراه موضوعاً للأثر ، فإذا لم يكن يعتقد صحّة العقد بالفارسيّة ، والوكيل زوّجه كذلك ، فلا وجه لترتيب آثار الزوجيّة على العقد الكذائي ; فإنّه لا يكون وجود العقد بالفارسيّة عند الموكّل إلاّ كالعدم ، فلا يبقى مجال لاحتمال وجوب ترتيب الآثار عليه أصلا .
(1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 86 ـ 87 .
|