الصفحة 141
زرارة المتقدّمة مراراًـ : وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك ، ولكنّك عرفت انّها مسوقة لبيان اعتبار كون المسح بالبلّة في قبال العامّة القائلين باعتبار كونه بماء جديد ، وامّا اعتبار اليمنى كاعتبار كون الممسوح هي الناصية فلا يكون بصدد بيانه مع انّه سيجيء في المقام الثاني انّ المستفاد من الرواية جواز المسح ببلّة اليمنى لأنّ الظاهر كون قوله : وتمسح ، عطفاً على فاعل : يجزيك ، لا انّه جملة مستقلّة ظاهرة في تعيّن كون المسح ببلّة اليمنى ، فالقول بالتعيّن كما عن الإسكافي لا يساعده الدليل ، بل الأقوى كما هو المشهور من عدم الفرق بين اليدين ولكن الاحتياط باختيار اليد اليمنى نظراً إلى الصحيحة ممّا لا ينبغي تركه .
وامّا اعتبار الأصابع كما عن الحدائق نسبته إلى جماعة من الأصحاب فدليله غير ظاهر ، كما انّ النسبة غير واضحة ، ولذا قال في الجواهر : ولم أقف على مصرّح به والأمر بإدخال الإصبع تحت العمامة في بعض الروايات المتقدّمة لا دلالة فيه على التعيّن ، بل هو إرشاد إلى كيفية المسح في حال لبس العمامة ولكن مع ذلك أولويّة الأصابع باعتبار كونها القدر المتيقّن لا شبهة فيها .
المقام الثاني : في اعتبار أن يكون المسح بنداوة الوضوء وعدم جواز استئناف ماء جديد ، وهذه المسألة من المسائل المهمّة التي وقع الخلاف فيها بين المسلمين العامتة والخاصّة ، فإنّ المحكي عن أهل الخلاف انّهم أوجبوا المسح بماء جدبد إلاّ مالك فإنّه حكم باستحباب ذلك وجواز غيره ، ولكن المشهور بل المجمع عليه بين الشيعة خلاف ذلك وانّه لا يجوز المسح بماء جديد ، نعم قد نسب الخلاف إلى ابن الجنيد ، والأخبار الواردة عن العتبرة الطاهرةـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ المتسفيضة بل المتواترة تدلّ على تعيّن المسح بنداوة الوضوء وبلله :
ومنها : ما في غير واحد من الأخبار البيانيّة من التصريح بأنّه(عليه السلام) مسح رأسه
الصفحة 142
ببلّة يده ، أو بفضل يديه ، أو ببلل كفّه ، أو بغيرها من العبارات ، فإنّ ذكر هذه الخصوصية يدلّ على كونها مقصودة للرواة بحيث كانوا بصدد بيانها ، بل في بعضها التصريح بأنّه (عليه السلام) لم يحدث لهماـ أي لمسح الرأس والقدمينـ ماء جديداً .
ويمكن أن يقال : إنّ ذكر هذه الخصوصية في مقابل الفتوى من العامّة بتعيّن كونه بماء جديد لا يدلّ إلاّ على مجرّد جواز كون المسح بنداوة الوضوء وعدم لزوم استئناف ماء جديد ، وامّا تعيّن ذلكـ كما هو المطلوبـ فلا يستفاد منها أصلاً ، والتمسّك لإثبات التعيّن بقوله(عليه السلام) في ذيل بعض هذه الروايات : إنّ هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به ، قد عرفت ما فيه سابقاً من انّ الصدوق ذكره في الفقيه في ذيل رواية اُخرى حيث قال فيها : قال الصادق(عليه السلام) : إنّه ما كان وضوء رسول الله(صلى الله عليه وآله)إلاّ مرّة مرّة ، وتوضّأ النبي(صلى الله عليه وآله) مرّة مرّة فقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به ، و ـ حينئذـ فالمشار إليه بكلمة «هذا» هو الوضوء مرّة مرّة فلا ربط له بالمقام .
ومنها : قوله(عليه السلام) في خبر زرارةـ المتقدّمـ إنّ الله وتر يحبّ الوتر فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات : واحدة للوجه واثنتان للذراعين ، وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك ، وما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى ، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى . الحديث .
وقد عرفت المناقشة بل الجواب عن الاستدلال بها وانّ مفادها جواز المسح بالبلّة خصوصاً مع التعبير بأنّ الله وتر يحبّ الوتر الظاهر في مجرّد محبوبيّة ذلك ومع وقوعه مقابلاً لفتوى العامّة بعدم جواز المسح بنداوة الوضوء وتعيّن كونه بماء جديد .
ومنها : رواية علي بن يقطين المحكية عن إرشاد المفيد المشتملة على الأمر
الصفحة 143
بالمسح بنداوة الوضوء حيث قال(عليه السلام) فيها : وامسح مقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوءك . فإنّ مجرّد البعث إلى المسح بنداوة الوضوء وإن لم يكن ظاهراً في الوجوبـ على ما تقدّمـ فلا يصحّ أن يقيّد به إطلاق الآية الشريفة الدالّة على مجرّد وجوب المسح ببعض الرأس من غير تقييد بكونه بنداوة الوضوء إلاّ انّ قوله(عليه السلام) في الصدر : توضّأ كما أمر الله تعالى ظاهر في انّ الوضوء المأمور به عبارة عمّا بيّنه بقوله بعد ذلك ، فغيره لا يكون مأموراً به أصلاً إلاّ انّك عرفت انّ سند الرواية مخدوش .
ومنها : صحيحة عمر بن اُذينة عن أبي عبدالله(عليه السلام) المتضمّنة لقصّة وضوء النبي(صلى الله عليه وآله) لمّا اُسري به إلى السماء ، وفيها : ثمّ أوحى الله إليه أن اغسل وجهك فإنّك تنظر إلى عظمتي ، ثم اغسل ذراعيك اليمنى واليسرى فإنّك تلقى بيدك كلامي ، ثم امسح رأسك بفضل ما بقي في يدك من الماء . وقوله : امسح ، وإن كان مجرّد بعث لا ينافي الاستحباب إلاّ انّ قرينة السياق تقتضي الحمل على الوجوب كما مرّ .
ومنها : روايه خلف بن حمّاد عمّن أخبره عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت له : الرجل ينسى مسح رأسه وهو في الصلاة؟ قال : إن كان في لحيته بلل فليمسح به ، قلت : فإن لم يكن له لحية؟ قال : يمسح من حاجبيه أو أشفار عينيه .
وهذه الروايةـ مضافاً إلى كونها مخدوشة من حيث السندـ لا دلالة فيها على تعيّن ذلك لاحتمال أن يكون وجوب المسح ببلل اللّحيةـ مثلاًـ لكونه في الصلاة إذ ـ حينئذـ لا يكون قادراً على المسح بالماء الجديد نوعاً كما هو ظاهر .
ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : ويكفيك من مسح رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك فتمسح به مقدّم رأسك . ودلالتها على المدّعى ممنوعة كما هو غير خفيّ .
الصفحة 144
ومنها : رواية زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام) في الرجل ينسى مسح رأسه حتّى دخل في الصلاة؟ قال : إن كان في لحيته بلل بقدر ما يمسح رأسه ورجليه فليفعل ذلك وليصلِّ . الحديث . ودلالتها على المطلوب أيضاً ممنوعة .
ومنها : رواية مالك بن أعين عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : من نسى مسح رأسه ثم ذكر انّه لم يمسح رأسه فإن كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه ، وإن لم يكن في لحيته بلل فلينصرف وليعد الوضوء . ودلالتها على المطلوب قويّة جدّاً ، واحتمال كون الأمر بالإعادة لفوات الموالاة في صورة الجفاف مدفوع بأنّ فوتها لا يدور مدار الجفاف ، بل يمكن تحقّقها بدونه كما يمكن العكس ، بل هو الواقع غالباً في بلد المدينة ونظائرها من البلاد الحارّة .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق(عليه السلام) : إن نسيت مسح رأسك فامسح عليه وعلى رجليك من بلّة وضوئك ، فإن لم يكن بقي في يدك من نداوة وضوئك شيء فخذ ما بقي منه في لحيتك وامسح به رأسك ورجليك ، وإن لم يكن لك لحية فخذ من حاجبيك وأشفار عينيك وامسح به رأسك ورجليك ، فإن لم يبق من بلّة وضوئك شيء أعدت الوضوء .
ودلالتها أيضاً على المدّعى واضحة لأنّه لا مجال لهذه التكلّفات لو كان المسح بالماء الجديد جائزاً ، والاحتمال المذكور في الرواية السابقة مدفوع بما تقدّم . والمناقشة في السند بالإرسال مدفوعة بأنّ هذا النحو من المرسلات التي اُسند مضمونها إلى الإمام(عليه السلام) بل اُسند عين ألفاظها إليه من دون إسناد إلى الرواية والنقل لا يقصر عن المسندات بل يكون هذا النحو شهادة بوثاقة الرواة الواقعين في طريقها بحيث كان الناقل مطمئناً بصدورها ولذا أسندها إليه(عليه السلام) وتوهّم كون ثبوت الوثاقة عنده لا يجدي بالإضافة إلينا; لأنّه من الممكن أن لا يكون موثقاً عندنا
الصفحة 145
لعثورنا على الجرح الذي لم يعثر الناقل عليه ، مدفوع بأنّ هذا الاحتمال لا يجري في مثل هذه الرواية التي يكون ناقلها مثل الصدوق الذي كان قريب العهد بزمان الأئمّة(عليهم السلام) ولم يكن علمه بحال الرواة مستنداً إلى الاجتهاد المحتمل للخطأ ، مضافاً إلى أنّ توثيق الصدوق لا يقصر عن توثيق النجاشي وغيره من أئمّة علم الرجال . وبالجملة فالظاهر انّ رفع اليد عن مثل هذه الرواية للمناقشة في سندها بالإرسال ممّا لا مساغ له أصلاً .
ومنها : رواية أبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) في رجل نسى مسح رأسه قال : فليمسح ، قال : لم يذكره حتّى دخل في الصلاة؟ قال : فليمسح رأسه من بلل لحيته . ودلالتها على المدعى ممنوعة كما مرّ وجهه .
ولكنّك قد عرفت في صدر المسألة انّ هذا الحكم يكون كالضروري بين الإماميّة بحيث لا يحتاج إلى إقامة الدليل عليه ، وقد وردت هنا روايات تدلّ على لزوم كون المسح بماء جديد ولكنّها مؤوّلة أو محمولة على التقيّة :
منها : رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) قلت : أمسح بما على يدي من الندى رأسي؟ قال : لا بل تضع يدك في الماء ثمّ تمسح .
ومنها : رواية معمر بن خلاّد قال : سألت أبا الحسن(عليه السلام) أيجزي الرجل أن يمسح قدميه بفضل رأسه؟ فقال برأسه : لا ، فقلت : أبماء جديد؟ فقال برأسه : نعم . ووجّهها في «الوافي» بأنّ إيمائه(عليه السلام) برأسه نهي لمعمّر بن خلاّد عن هذا السؤال لئلاّ يسمعه المخالفون الحاضرون في المجلس فإنّهم كانوا كثيراً ما يحضرون مجالسهم(عليهم السلام)فظنّ معمّر انّه نهاه عن المسح ببقيّة البلل فقال : أبماء جديد ، فسمعه الحاضرون فقال برأسه : نعم ، ومثل هذا يقع في المحاورات كثيراً .
ومنها : رواية جعفر بن عمارة بن أبي عمارة قال : سألت جعفر بن محمّد(عليهما السلام) :
الصفحة 146
أمسح رأسي ببلل يدي؟ قال : خذ لرأسك ماءً جديداً . قال الشيخ(قدس سره) : الوجه فيه التقيّة لأنّ رواته رجال العامّة والزيدية .
ومنها : رواية أبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) في رجل نسى أن يمسح على رأسه فذكر وهو في الصلاة ، فقال : إن كان استيقن ذلك انصرف فمسح على رأسه وعلى رجليه واستقبل الصلاة ، وإن شكّ فلم يدر مسح أو لم يمسح فليتناول من لحيته إن كانت مبتلّة وليمسح على رأسه ، وإن كان أمامه ماء فليتناول منه فليمسح به على رأسه .
وهذه الروايةـ مضافاً إلى كونها مخدوشة من حيث السندـ غير ظاهرة الدلالة على جواز المسح بالماء الجديد لاحتمال كون المراد بقوله : انصرف فمسح على رأسه ، هو الانصراف ثمّ التوضّي ثانياً ، وعلى كلا التقديرين يعارضها الأخبار المتقدّمة الدالّة على عدم وجوب التوضّي ثانياً وعدم وجوب الانصراف لأجل المسح بل يكفي المسح ببلّة اليد ثم اللّحية ثم الحاجبين وأشفار العينين .
ثم إنّ ذيل الرواية الظاهر في وجوب المسح في صورة الشكّ فيه مخالف لصريح أخبار التجاوز والفراغ الواردة في الوضوء ، مضافاً إلى مخالفته لفتاوى الأصحاب أيضاً إلاّ أن يحمل الأمر فيها على الاستحباب .
وكيف كان فقد عرفت انّ هذا الحكم صار من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تكلّف إقامة الدليل عليه فالأخبار الظاهرة في خلافه لابدّ من حملها على التقيُّة لو كانت آبية عن التأويل .
الصفحة 147
مسألة 15ـ يجب جفاف الممسوح على وجه لا ينتقل منه أجزاء الماء إلى الماسح .
وامّا مسح القدمين فالواجب مسح ظاهرهما من أطراف الأصابع إلى المفصل على الأحوط طولاً وإن ك ان الأقوى كفايته إلى الكعب وهو قبّة ظهر القدم ، ولا تقدير للعرض فيجزي ما يتحقّق به اسم المسح ، والأفضل بل الأحوط أن يكون بتمام الكفّ ، وما تقدّم في مسح الرأس من جفاف الممسوح وكون المسح بما بقي في يده من نداوة الوضوء يجري في القدمين أيضاً1 .
1ـ الوجه في وجوف جفاف الممسوح هو انّ المتفاهم عرفاً من الأمر بمسح الرأس ببلل الوضوء وجوب إيصاله إليه وتأثّره منه ، والمستفاد من ذلك أمران :
أحدهما : أن تكون اليد مشتملة على رطوبة مسرية كانت من بقيّة بلل الوضوء لأنّ التعبير الواقع في الأخبار هو المسح بالبلّة ، ولا يصدق ذلك مع عدم التأثّر منها ، وهذا التعبير يغاير التعبير بالمسح باليد المبتلّة فإنّه يمكن المناقشة فيه بعدم دلالته على لزوم إيصالها إليه وإن كانت مندفعة بكون المتفاهم عرفاً منه أيضاً ذلك .
وحيث اعتبر أن تكون الرطوبة من بقيّة بلل الوضوء فلو امتزجت برطوبة خارجية غالبة بحيث انتفى صدق بلّة الوضوء فلا شبهة في عدم كفاية المسح بها ما لم تستهلك في الرطوبة الأصلية ، وحينئذ فلا يجوز المسح بعد الغسلة الثالثة التي ليست من الوضوء ، وكذا المسح بالبلّة الباقية في اليد بعد غسلها بطريق الارتماس فيما إذا نوى الغسل بخصوص إدخالها فيه أو بخصوص مكثه في الماء ، وامّا لو نوى غسلها بإخراجها من الماء أو بالمجموع من الإدخال والإخراج بناءً على كونه عملاً واحداً عرفاً فلا إشكال في الجواز أصلاً .
الصفحة 148
ثانيهما : تنشيف المحلّ لو كان رطباً ضرورة انّه بدونه يلزم أن يكون المسح بغير بلّة الوضوء وقد عرفت انّ المتفاهم عرفاً هو إيصال بلّة الوضوء إلى الرأس وتأثّره منها فمع الرطوبة لا يتحقّق التأثّر ويكفي في الجفاف ما أفاده في المتن من كونه على وجه لا ينتقل منه أجزاء الماء إلى الماسح وهو عبارة اُخرى عن حصول التأثّر للرأس بسبب المسح ببلّة اليد ، نعم لو كانت البلّة الباقية كثيرة بحيث توجب غسل المحلّ عرفاً فالظاهر عدم جواز نيّة المسح به بأن يكون المقصود تحقّقه في ضمن الغسل لأنّ الغسل والمسح مفهومان متضادّان ومع تحقّق أحدهما يمتنع تحقّق الآخر فتدبّر .
وامّا مسح القدمين ، فالكلام فيه يقع في مقامات :
المقام الأوّل : في أصل وجوب مسح الرجلين الذي هو معتقد كافّة علمائنا الإمامية (رض) في مقابل جمهور المخالفين القائلين بوجوب غسلهما كالوجه واليدين وقد تقدّم البحث في هذا المقام في أوّل مبحث الوضوء فراجع .
المقام الثاني : في أنّه هل يكون الواجب مسح مجموع القدمينـ ظاهرهما وباطنهماـ أو يجب مسح خصوص الظاهر فقط؟ مقتضى النصوص الكثيرة التي لعلّها تبلغ حدّ التواتر هو الثاني ونقتصر على نقل بعضها فنقول :
منها : رواية زرارة وبكير ابني أعين عن أبي جعفر(عليه السلام) انّه قال في المسح : تمسح على النعلين ولا تدخل يديك تحت الشراك وإذا مسحت بشيء من رأسك أو بشيء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك .
مع انّ الآية الشريفة بناءً على أن يكون الأرجل معطوفاً على محلّ الرؤوس أو مجروراً معطوفاً على نفسها دالّة على كون المأمور به هو المسح ببعض الرجلين ولا يلائم ذلك مع وجوب مسح مجموعهما ظاهرهما وباطنهما ، وقد تقدّمت رواية
الصفحة 149
زرارة الواردة في تفسير الآية الدالّة على كون المراد هو المسح بالبعض كالرأس ، فالآية بنفسها تدلّ على عدم وجوب مسح الجميع ، وعليه فما ورد في بعض الأخبار من مسح مجموعهما فمضافاً إلى ضعف سنده لابدّ من الحمل على التقيّة لأنّه مذهب من يرى المسح من العامّة ويقول باستيعاب الرجل كما نقله الشيخ(قدس سره) في «التهذيب» مع كونه مخالفاً لظاهر الكتاب الدالّ على التبعيض فتدبّر .
المقام الثالث : في انّه بعد اختصاص الوجوب بمسح الظاهر فيه يقع الكلام في تقديره طولاً وعرضاً ولنقدّم الكلام في العرض فنقول ظاهر الآية الشريفة عدم وجوب الاستيعاب وكفاية المسمّى في ناحية العرض بناءً على قراءة «أرجلكم» مجروراً معطوفاً على «رؤوسكم» لما عرفت من انّه لا ينبغي الارتياب في كون الباء للتبعيض ، وامّا بناءً على قراءة النصب فإن كان عطفاً على مجموع الجار والمجرور فالظاهر وجوب الاستيعاب كما هو المستفاد بالنسبة إلى غسل الوجه واليدين ، وإن كان عطفاً على محلّ المجرور فقط فالظاهر أيضاً كفاية التبعيض هذا ماتقتضيه الآية الشريفة ، وامّا الأخبار فما يمكن أن يستدلّ بها لوجوب الاستيعاب طائفة :
منها : صحيحة زرارة الواردة في حكاية أبي جعفر(عليه السلام) وضوء رسول الله(صلى الله عليه وآله)وفيها : انّه(عليه السلام) مسح مقدم رأسه وظهر قدميه ببلّة يساره وبقيّة بلّة يمناه .
ولكن الظاهر انّ المقصود من هذه الجملة هو وقوع المسح ببلّة الوضوء في قبال المسح بالماء الجديد فلا يستفاد منها مسح مجموع الظهر ، ويؤيّده انّ مسح مقدم الرأس على وجه الاستيعاب لا يكون واجباً كما عرفت .
ومنها : ذيل تلك الصحيحة المشتملة على قول أبي جعفر(عليه السلام) : تمسح ببلّة يمناك ناصيتك ، وما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى ، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى .
الصفحة 150
ويرد عليه أيضاً ما عرفت من عدم الدلالة لأنّها مسوقة لبيان حكم آخر ، ويؤيّده انّ مسح مجموع الناصيه ليس بواجب كما مرّ .
ومنها : صحيحة زرارة وبكير الواردة في حكاية أبي جعفر(عليه السلام) وضوء رسول الله(صلى الله عليه وآله) المشتملة على انّه(عليه السلام) مسح رأسه وقدميه ببلل كفّه لم يحدث لهما ماء جديداً . والجواب عن الاستدلال بها ما عرفت من عدم الدلالة وكونه مسوقة لبيان حكم آخر .
ومنها : صحيحة البزنطي قال : سألت أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفّه على أصابعه فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم ، فقلت : جعلت فداك لو أنّ رجلاً قال بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين؟ قال : لا ، إلاّ بكفّه كلّها .
ودلالتها على المقام ممنوعة; لأنّ التأمّل فيها يعطي انّ النظر إنّما هو إلى آلة المسح ، لا مقدار الممسوح ، الذي هو مورد النزاع هنا ، وـ حينئذ ـ فالواجب طرح الرواية لعدم وجود قائل بوجوب كون الآلة هو مجموع الكفّ حتّى الصدوق القائل بوجوب مسح مقدار الكفّ فإنّ ظاهره وجوب مسح المقدار المذكور ولو حصل بإصبع واحدة .
ومنها : رواية عبد الأعلى قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على اصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّوجلّ ، قال الله تعالى : (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) ، امسح عليه .
وتقريب الاستدلال بها انّه لولا وجوب مسح مجموع ظهر القدم لما كان للأمر بالمسح على المرارة مستشهداً بآية نفي الحرج وجه كما هو غير خفي .
الصفحة 151
ولكن ربّما يقال إنّ ذلك مبني على أن يكون الظّفر المنقطع عن اصبعه هو ظفر اصبع الرجل إذ لو كان المراد به هو ظفر أصابع اليد لكانت الرواية أجنبية عن المقام وـ حينئذـ فيمكن أن يقال بمنع دلالة الرواية على الأوّل إذ من المحتمل هو الثاني ، وجملة «عثرت» لا تنافيه لأنّها بمعنى السقط بالوجه وهو قد يوجب انقطاع ظفر اليد .
ولكن يرد عليهـ مضافاً إلى انّه لا ينبغي الارتياب في ظهور عبارة السؤال في كون المراد بالظفر هو ظفر اصبع الرِّجلـ انّه على تقدير عدم الظهور يكفي في صلاحية الرواية للاستدلال مجرّد ترك الاستفصال كما هو غير خفيّ .
ومنها : موثّقة عمّار قال : سُئل أبو عبدالله(عليه السلام) عن الرجل ينقطع ظفره هل يجوز له أن يجعل عليه علكاً؟ قال : لا ولا يجعل إلاّ ما يقدر على أخذه عنه عند الوضوء ولا يجعل عليه إلاّ ما يصل إليه الماء .
ويجري فيها الاحتمال المذكور في رواية عبدالأعلى ويؤيّده هنا قوله : ولا يجعل عليه . . . فإنّ وصول الماء إنّما يكون معتبراً في الغسل دون المسح فتدبّر .
وامّا ما يدلّ على انّ الواجب إنّما هو المسح ببعض القدمين كالرأس فهي جملة من الأخبار :
منها : ما ورد في الأخبار الكثيرة من انّ الإمام (عليه السلام) لم يدخل يده في حال المسح تحت الشراك ، أو لم يستبطن الشراكين .
ودلالتها على عدم وجوب الاستيعاب من جانب العرض مبنيّة على أن يكون وضعه بحيث تسير بعض الأصابع ، وامّا لو كان ساتراً لما هو خارج عن حدّ المسح طولاً كما إذا كان ساتراً للمفصل فقط فهي لا تدلّ على عدم وجوب الاستيعاب كما انّه لو كان ساتراً لظهر القدم ممّا هو داخل في الحدّ طولاً تصير هذه الأخبار دليلاً
الصفحة 152
على عدم وجوب استيعاب ذلك الحدّ من طرف الطول أيضاً .
ومنها : صحيحة زرارة وبكير المتقدّمة في مسح الرأس المشتملة على أنّه إذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه . ودلالتها على كفاية المسح ببعض القدمين ظاهرة .
ومنها : صحيحة اُخرى لزرارةـ المتقدّمةـ الواردة في كيفية استفادة مسح بعض الرأس والرجلين من الكتاب . ودلالتها على كفاية المسح ببعض الأرجل واضحة أيضاً ، ولو نوقش فيها بعدم كونها مسوقة لبيان هذه الجهة; لأنّ إطلاقها وارد مورد حكم آخر ، فنقول : هذه الرواية من جهة كونها واردة في تفسير الآية الشريفة يستفاد منها انّ كلمة «الباء» المفيدة للتبعيض لا تنحصر بالرؤوس بل الأرجل أيضاً كذلك فهي امّا أن تكون مجرورة معطوفة على الرؤوس ، أو منصوبة معطوفة على محلّ نفس المجرور ، وعلى التقديرين يستفاد الاكتفاء بالبعض لا من نفس الرواية ليناقش فيها بما ذكرـ بل من الآية بضميمة الرواية الواردة في تفسيرها ، وقد عرفتـ مراراً انّ الآية إنّما تكون في مقام البيان من جميع الجهات فهي الحجّة في المقام من دون معارض لعدم صلاحية الأخبار المتقدّمة للمعارضة لعدم تمامية دلالتها على وجوب الاستيعاب كما هو حال أكثرها وعدم قوّة ظهور في النّفي بحيث تصلح لصرف الآية عن ظاهرها أو لرفع اليد عن الرواية الواردة في تفسيرها كما هو شأن رواية عبدالأعلى المتقدّمة فالاستيعاب من جهة العرض لم ينهض دليل على وجوبه .
وامّا من ناحية الطول فهل الواجب الابتداء من رؤوس الأصابع والانتهاء إلى الكعبين أو يكفي المسمّى كما في جانب العرض على ما عرفت؟ قولان ، وقد ادّعى الإجماع على الأوّل ، وفي المحكي عن الحدائق انّه نقل عن الشهيد(قدس سره) في الذكرى
الصفحة 153
احتمال عدم الوجوب ، وبه جزم المحدِّث الكاشاني في محكي المفاتيح واستظهره صاحب الحدائق .
ولابدّ من ملاحظة مستند المسألة فنقول : امّا الآية الشريفة فقد عرفت اختلاف قراءة «الأرجل» من جهة الجرّ والنصب ، فلو كانت الأرجل منصوبة معطوفة على محلّ الجار والمجرور بحيث كان مرجعه إلى قوله : امسحوا أرجلكم فلا إشكال في استفادة الاستيعاب منها; لأنّ المقتضى للتبعيض إنّما هي كلمة الباء المنتفية على هذا الاحتمال نظير الوجه واليدين على ما عرفت من دلالة الآية بظاهرها على وجوب استيعاب غسلهما ، ولا ينافي ذلك ما تقدّم من كفاية المسمّى من المسح في ظهر القدم عرضاً فإنّ خروج جهة العرض لا يوجب عدم الدلالة على الاستيعاب في جانب الطول بناءً على أن لا يكون المستند هناك خصوص الآية الشريفة الدالّة على التبعيض ولو بضميمة ما ورد في تفسيرها كما لا يخفى ، وبالجملة فمقتضى هذه القراءة الاستيعاب طولاً .
وامّا لو كانت القراءة بالجرّ أو بالنصب عطفاً على محلّ المجرور فقط ، فالظاهر كفاية المسمّى في جانب الطول أيضاً سواء قلنا بكون الغاية غاية للمسح أو غاية للممسوح ، امّا على الثاني فواضح; لأنّ مقتضى هذين الاحتمالين كون الأرجل كالرؤوس مدخولة لكلمة «الباء» التي أظهر معانيها في المقام هو كونها بمعنى من التبعيضيةـ على ما تقدّم في مسألة مسح الرأسـ فلو كانت غاية للممسوح يصير مقتضاها وجوب المسح بشيء من هذا المقدار المحدود بالكعبينـ وحينئذ ـ فإطلاقها يوجب الاكتفاء بالمسمّى في جانب الطول كالعرض على ما هو ظاهر .
وامّا لو كانت غاية للمسح فلأنّ مقتضى ذلك هو وجوب انتهاء المسح إلى الكعبين وهو لا ينافي عدم وجوب الاستيعاب إذ يمكن المسح من الموضع القريب
الصفحة 154
إلى الكعبين منتهياً إليهما إذ المفروض انّ الواجب هو المسح ببعض الأرجل غاية الأمر انّه يجب انتهائه إليهما وهو متحقّق في الفرض المذكور إذ لم يقع التحديد من الطرفين حتّى يكون ظاهره وجوب مسح مجموع ذلك مبتدئاً من طرف ومنتهياً إلى الطرف الآخر بل التحديد إنّما وقع في طرف الانتهاء فقط ، وبالجملة كون الكعبين غاية للمسح لا يستلزم الاستيعاب الموجب للشروع من رؤوس الأصابع كما هو ظاهر .
هذا ما تقتضيه الدقّة في الآية الشريفة مع قطع النظر عن التفسير الوارد من أهل البيت الذين هم العارفون بالكتاب والراسخون في العلم العالمون بتأويله وتنزيله والذين أذهبن الله عنهم كلّ رجس حتّى رجس الجهل وعدم العلم ، وامّا مع ملاحظته فنقول : مقتضى صحيحة زرارة وبكير وكذا صحيحة اُخرى لزرارة ـ المتقدّمتينـ هو كون الأرجل كالرؤوس في كونها مدخولة لكلمة «الباء» المفيدة للتبعيض فاحتمال كونها منصوبة معطوفة على مجموع الجار والمجرور يندفع بذلك ، نعم لا يستفاد من ذلك خصوص الخفض أو النصب معطوفاً على محلّ المجرور فقط ، ولكن لا يكاد يترتّب على هذه الجهة ثمرة لما عرفت من انّ مقتضى كلّ منهما عدم وجوب الاستيعاب ، مضافاً إلى دلالة صحيحة زرارة وبكير على كون الكعبين غاية للممسوح ، وذلك لأنّ التعبير بكلمة «إلى» إنّما وقع فيها في طرف الأصابع فلو كانت غاية للمسح لم يجز التعبير بها في طرف الأصابع في مقام التفسير فوقوعه دليل على كونها غاية للممسوح وقد عرفت انّه بناءً عليه لا خفاء في كفاية المسمّى في جانب الطول أيضاً .
وممّا ذكرنا يظهر انّ ما أفاده في «المصباح» من انّ كون كلمة الباء في الآية للتبعيض لا ينافي ظهورها في الاستيعاب من حيث الطول; لأنّ معناها على هذا
الصفحة 155
التقدير : فامسحوا من أرجلكم من رؤوس الأصابع إلى الكعبين ، وهذه العبارة ظاهرة في وجوب الاستيعاب طولاً . ممّا لا يكاد يتمّ أصلاً لما عرفت من انّ التحديد لم يقع من الطرفين حتّى يكون ظاهراً في الاستيعاب ، بل إنّما وقع من طرف واحد والانتهاء إليه يتحقّق في مثل المثال الذي ذكرنا من دون استلزام للاستيعاب مع انّك عرفت دلالة صحيحة زرارة وبكير على كون الكعبين غاية للممسوح وانّه بناء عليه لا خفاء في كفاية المسمّى في جانب الطول أيضاً .
نعم ربّما يستشكل في دلالتها بأنّها مبنيّة على أن تكون كلمة «ما» في قوله : أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع ، بدلاً من القدمين ، وامّا لو كانت بدلاً من «شيء» أو خبراً لمبتدأ محذوف وهو الضمير الراجع إلى الشيء فظاهرهاـ حينئذـ وجوب مسح مجموع ذلك المقدار إذ الباء الداخلة على الشيء لا يراد منها التبعيض ، بل هو مفاد نفس الشيء فتدبّر .
ولكنّك خبير بأنّ احتمال كونه بدلاً من القدمين هو أقرب الاحتمالات بنظر العرف فالترجيح معه ، ولكنّه في «المصباح» بعدما حكم بقوّة هذا الاحتمال ذكر انّ وقوع الرواية تفسيراً للآية وتفريعاً على ظاهرها يضعف سائر الاحتمالات ويقوّي احتمال كونه بدلاً من شيء .
وأنت تعلم بأنّ ذلك مبني على ما أفاده من استفادة الاستيعاب من الآية ولو كانت كلمة الباء للتبعيض وقد عرفت عدم تماميّته وانّ الآية تدلّ على كفاية المسمّىـ حينئذـ فإجمال الروايةـ على تقديرهـ يرتفع بالآية إذ بعد دلالتها على عدم وجوب الاستيعاب لا يبقى مجال لغير الاحتمال الذي قرّبناه فإجمال الآية من حيث دخول الباء على الأرجل ترتفع بهذه الرواية وبصحيحة زرارة المتقدّمة المصرّحة بالتبعيض ، وإجمال هذه الرواية من جهة هذه الاحتمالات يرتفع بالآية
الصفحة 156
الشريفة الدالّة على كفاية المسمّى على تقدير دخول الباء على الأرجل كما هو ظاهر .
فتلخّص ممّا ذكرنا انّ مفاد إطلاق الآية بضميمة الرواية هو كفاية المسمّى مطلقاً ـ عرضاً وطولاً .
ولكنّه قد استدلّ للمشهور بجملة من الأخبار :
منها : صحيحة عمر بن اُذينة عن أبي عبدالله(عليه السلام) المتقدّمة الواردة في حكاية المعراج المشتملة على قوله تعالى لنبيّه(صلى الله عليه وآله) : ثم امسح رأسك بفضل ما بقى في يدك من الماء ، ورجليك إلى كعبيك .
ولا يخفى انّ الغرض في هذه الرواية ونظائرها إنّما تعلّق بإفادة لزوم كون المسح بنداوة الوضوء في مقابل العامّة القائلين بلزوم المسح بالماء الجديد ، ولو سلم تعلّق الغرض ببيان جميع الخصوصيات فاللاّزم في الروايةـ مضافاً إلى لزوم تقييد مسح الرأس الظاهر في الاستيعاب بمسح مقدّمه ـ لا كلّه بل بعضه كما عرفتـ أن يقال برفع اليد عن ظهورها في وجوب مسح الرجلين جميعاًـ ظاهراً وباطناًـ لعدم وجوب مسح الباطن قطعاًـ على ما تقدّمـ ثم رفع اليد عن ظهورها في وجوب مسح مجموع الظهر ، بعد تقييدها به لما مرّ من كفاية المسمّى عرضاً بلا إشكال ، وكذلك يجب رفع اليد عن ظهورها في وجوب الابتداء من رؤوس الأصابع والانتهاء إلى الكعبين لما سيأتي من جواز مسح الرجلين مدبراً ومقبلاً ، ومع هذا كلّه كيف يمكن رفع اليد عن ظهور الآية بسبب هذه الرواية .
ومنها : ما في رواية بكير وزرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) المشتملة على حكايته وضوء رسول الله(صلى الله عليه وآله) الدالّة على أنّه مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه لم يجدّد ماءً .
الصفحة 157
ويرد على الاستدلال بها ما عرفت من كونها مسوقة لبيان انّه مسح بنداوة وضوئه ، والدليل عليه قوله(عليه السلام) : مسح رأسه ، مع انّ الاستيعاب فيه لا يكون واجباً بالاتفاق .
ومنها : رواية الأعمش الدالّة على انّ الوضوء الذي أمر الله به في كتابه الناطق غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس والقدمين إلى الكعبين . ودلالتها على ما ذكروه ممنوعة كما هو ظاهر .
ومنها : رواية علي بن عيسى الأربلي عن علي بن إبراهيم في كتابه ، عن النبي(صلى الله عليه وآله)الواردة في تعليم جبرئيل(عليه السلام) الوضوء له(صلى الله عليه وآله) الدالّة على أنّ الوضوء على الوجه واليدين من المرفق ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين . وهي مع انّها مرسلة ـ ممنوعة الدلالة ووجه المنع ظاهر .
ونظيرها رواية عيسى ابن المستفاد عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن أبيه(عليهما السلام) انّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال لعلي وخديجة لمّا أسلما : إنّ جبرئيل عندي يدعوكما إلى الإسلامـ إلى أن قالـ : وإسباغ الوضوء على المكاره الوجه واليدين والذراعين ومسح الرأس ومسح الرجلين إلى الكعبين .
ومنها : ما رواه الكليني عن يونس قال : أخبرني من رأى أبا الحسن(عليه السلام) بمنى يمسح ظهر القدمين من أعلى القدم إلى الكعب; ومن الكعب إلى أعلى القدم ويقول : الأمر في مسح الرجلين موسع; من شاء مسح مقبً ومن شاء مسح مدبراً فإنّه من الأمر الموسع إن شاء الله .
ولكنّهاـ مضافاً إلى كونها مرسلةـ لا دلالة لها على وجوب الاستيعاب فلعلّه(عليه السلام)كان يعمل بالاستحباب; وغرض الراوي إنّما تعلّق ببيان انّه مسح مقبلاً ومدبراً فلا يرتبط بالمقام .
الصفحة 158
فانقدح ممّا ذكرنا انّه ليس هنا ما يدلّ على لزوم الاستيعاب حتّى يقيّد به إطلاق الآية الشريفة ، ولكن ذهاب جلّ العلماء بل كلّهم إلى زمان الشهيد الذي احتمل في الذكرى عدم الوجوب يمنعنا عن التمسّك بإطلاق الآية وإن لم يكن لهم مستند سوى ما ذكر ممّا عرفت فيه عدم الدلالة اخلاّ انّ الفتوى بذلك منهم ربّما تصير قرينة لترجيح بعض الاحتمالات في مثل صحيحة زرارة وبكير المتقدّمة وإن كان في حدّ نفسه خلاف الظاهر فإنّ استفادة غيره من مثلها دليل على أنّ الرجحان العرفي مع الاحتمال الذي ذكروه إذ من البعيد كون الاحتمال الظاهر مخفيّاً عندهم فالعمل على المشهور متعيّن .
وقد بقي هنا اُمور يجب التنبيه عليها :
الأوّل : إنّ المراد بالكعبين هل هو قبّتا القدمين وهما العظمان الناتيان في وسط القدم كما هو المشهور بين الإمامية على ما هو ظاهر كلماتهم ، أو العظمان الناتيان عن يمين السّاق وشماله كما هو مذهب الجمهور ، أو المفصل بين الساق والقدم كما هو ظاهر عبارة العلاّمة في محكي «المختلف» وقد نزّل كلمات العلماء ومعاقد إجماعاتهم عليه وقال : وفي عبارة العلماء اشتباه على غير المحصّل ، أو العظم المائل إلى الاستدارة الواقع في ملتقى الساق والقدم وله زائدتان في أعلاه يدخلان في حفرتي قصبة السّاق ، وزائدتان في أسفله يدخلان في حفرتي العقب وهو نات في وسط ظهر القدم يعني وسطه العرضي ولكن نتوّه غير ظاهر بحس البصر كما اختاره الشيخ البهائي(قدس سره)في أربعينه ونزّل كلام العلاّمة عليه لأنّه قد يعبّر عنه بالمفصل لمجاورته له أو من قبيل تسمية الحالّ باسم المحلّ وهو الذي في أرجل الغنم والبقر وبحث عنه علماء التشريح؟ وجوه وأقوال .
والظاهر إطلاق الكعب على كلّ واحد منها ولكنّه يمكن أن يقال : إنّ إطلاقه على
الصفحة 159
غير ما اختاره العلاّمة إنّما هو باعتبار معناه الوصفي وهو الارتفاع والنشوز كما يقال : «كعب ثدي الجارية» إذا على ، وعن ابن الأثير في نهايته : «وكلّ شيء ارتفع فهو كعب» والمحكي عن الصحاح انّه قال : «كعب الرمح النواشز في أطراف الأنابيب» وامّا إطلاقه على المفصل فهو الذي ذكره في القاموس فقال في محكيه : «الكعب كلّ مفصل للعظام» وحكي في الأربعين عن الفخر الرازي في تفسيره الكبير أنّه قال «والمفصل يسمّى كعباً» ومع وجود هذا الاختلاف لابدّ من ملاحظة الأخبار الواردة في تفسير الكعبين الوارد في الآية الشريفة فنقول :
منها : صحيحة زرارة وبكير المتقدّمة وفيها : قلنا : أين الكعبين؟ قال : هاهنا يعني المفصل دون عظم الساق ، فقلنا : هذا ما هو؟ فقال : هذا عظم السّاق والكعب أسفل من ذلكـ كما في الكافيـ أو عظم الساقـ كما في التهذيبـ الحديث .
والظاهر انّ قوله : دون عظم الساق وصف للمفصل فيكون المراد : انّ محلّ الكعبين هو المفصل الذي يقرب عظم الساق وـ حينئذـ ينطبق على ما ذكره البهائي خصوصاً مع قوله(عليه السلام) في الذيل والكعب أسفل من ذلك ، فإنّ المشار إليه بكلمة «ذلك» هو عظم الساق الذي سأل الراويان عن انّه ما هو ، فأسفلية الكعب منه لا تناسب العظم الناشز في ظهر القدم ، وتعبيرهما في السؤال بكلمة «أين» الظاهرة في السؤال عن المحلّ ظاهر في انّ محلّهما هو المفصل لا انّه هو نفس الكعب ، فالرواية بظاهرها ناطقة بمقالة البهائي(قدس سره) .
ومنها : حسنة ميسّر عن أبي جعفر(عليه السلام) في حكاية وضوء رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى قوله : ثم وضع يده على ظهر القدم ثم قال : هذا هو الكعب وقال : وأومى بيده إلى الأسفل العرقوب ثم قال : إنّ هذا هو الظنبوب . والعرقوبـ بالضمّـ عصب غليظ فوق العقب ، والظاهر اتّصاله بعظم الساق فيكون الغرض نفي ما يقوله الجمهور من
الصفحة 160
انّه هو العظم الناشز في آخر السّاق إلاّ انّ قوله : وضع يده على ظهر القدم ، محتمل لأن يكون محلّه هي القبّة أو المفصل ولا دلالة له على خصوص أحدهما إلاّ انّ حمل الكعب على نفس ظاهر القدم بقوله(عليه السلام) : هذا هو الكعب ، يشعر بخلاف قول البهائي(قدس سره)كما لا يخفى ، وكيف كان فالرواية مجملة من حيث احتمالها لأمرين .
ويمكن أن يستظهر من الأخبار الواردة في قطع رجل السّارق منضمّة بعضها مع بعض انّ المراد بالمفصل هو المفصل الواقع في وسط القدم .
منها : رواية معاوية بن عمّار قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) : يقطع من السارق أربع أصابع ويترك الابهام ، وتقطع الرجل من المفصل ويترك العقب يطأ عليه .
ومنها : ما رواه عن أبي جعفر(عليه السلام) في حديث السرقة قال : وكان إذا قطع اليد قطعها دون المفصل فإذا قطع الرجل قطعها من الكعب قال : وكان لا يرى أن يعفى عن شيء من الحدود .
ومنها : رواية سماعة بن مهران قال : قال : إذا أخذ السّارق قطعت يده من وسط الكفّ ، فإن عاد قطعت رجله من وسط القدم ، فإن عاد استودع السجن ، فإن سرق في السجن قتل .
ومنها : رواية إسحاق بن عمّار عن أبي إبراهيم(عليه السلام) قال : تقطع يد السارق ويترك ابهامه وصدر راحته ، وتقطع رجله ويترك له عقبه يمشي عليها . فإنّ الجمع بين هذه الروايات المختلفة بحسب الظاهرـ حيث إنّ مفاد الاُولى هو القطع من المفصل ومفاد الثانية هو القطع من الكعب ، ومدلول الثالثة هو القطع من وسط القدم ، وصريح الأخيرة هو القطع بمقدار يمكن له المشي على الباقيـ يقتضي أن يكون المراد بالكعب هو المفصل وبالمفصل ، هو الواقع في وسط القدم ، فالمراد بالكعب هو وسط القدم ـ كما هو المشهور بينهمـ .
|