الصفحة 261
الإرادة بعنوانها ثم بأجزائها ومقدّماتها .
وممّا ذكرنا ظهر انّه لا فرق بين الجزء الأوّل والأخير من حيث تعلّق الإرادة ، غاية الأمر انّه قد تتحقّق الغفلة أحياناً عن المراد وعن تعلّق الإرادة به بحيث ربّما يتخيّل صدوره بلا إرادة ولكنّه في الواقع ليس كذلك .
وكيف كان فالمراد بالنيّة المعتبرة في العبادات هي الإرادة المعتبرة في جميع الأفعال الاختيارية فما وقع في كلماتهم في هذا المقام ممّا يوهم خلاف ما ذكرنا أو يكون ظاهراً فيه لا ينبغي أن يعتنى به أصلاً ، كما انّ توصيف الإرادة بالتفصيلية والإجمالية أيضاً كذلك فإنّ الإرادة لا تكون على قسمين ، غاية الأمر انّه قد يغفل عنها وعن المراد والظاهر انّه المراد بالإرادة الإجمالية فلا تغفل .
المطلب الثاني : في تعيين المأمور به ، وقبل الشروع في المقصود لابدّ من تقديم مقدّمة وهي انّه لا ينبغي الإشكال في انّ الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة والعصيان هو العقل ، وقد يقالـ كما عن بعض الأعلام والمحقّقينـ بأنّه يمكن أن يتصرّف الشارع في مقام الإطاعة نظراً إلى انّ حكم العقل إنّما هو بلحاظ أمر الشارع ، فكيف لا يكون للشارع مدخل فيه ، واستشهد لذلك بحكم الشارع ببطلان العبادة في بعض مراتب الرياء مع انّ العقل لا يحكم فيه بالبطلان ، وبحكمه بالصحّة في موارد قاعدتي الفراغ والتجاوز مع انّ مقتضى حكم العقل البطلان ووجوب الإعادة نظراً إلى أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة .
وأنت خبير بأنّ تصرّف الشارع في مقام الإطاعة إذا لم يرجع إلى تقييد في المأمور به وتصرّف في ناحيته ممّا لا يعقل فإنّه كيف يمكن بعد إتيان متعلّق أمره بجميع قيوده التي اعتبرها فيه أن يحكم بعدم حصول الامتثال المستلزم لعدم سقوط الأمر ، وما ذكره من الأمثلة راجع إلى التصرّف في المأمور به فإنّ حكمه بالبطلان
الصفحة 262
في بعض موارد الرياء الذي لا يحكم فيه العقل بالبطلان إنّما يرجع إلى أنّ قصد التقرّب المعتبر في العبادة عبارة عمّا يكون مرجعه إلى الخلوص وخلوّها من مدخلية شيء آخر ، كما انّ حكمه بالصحّة في موارد قاعدتي الفراغ والتجاوز إنّما يرجع إلى أنّ جزئية الشيء الذي شكّ في إتيانه إنّما هي بالإضافة إلى خصوص العالم الملتفت أو الشاكّ الذي لم يتجاوز أو لم يفرغ ، وامّا الشاكّ في صورة التجاوز أو الفراغ فلا يكون المشكوك جزء في حقّه .
فانقدح ممّا ذكرنا انّ الحاكم في مثل هذه المقامات إنّما هو العقل ، فكلّ شيء حكم العقل بلزومه في مقام الإطاعة فلابدّ من الإتيان به ، وإذا شكّ في لزومه فيه فمقتضى القاعدة العقلية الاحتياط .
إذا تمهّدت لك هذه المقدّمة نقول : إنّ العناوين المأخوذة في متعلّق الأمر على أنحاء :
منها : ما يكون العنوان من العناوين القصدية التي لا تتحقّق في الخارج إلاّ مع القصد إليها كالتعظيم والتوهين والنيابة وأشباهها .
ومنها : ما يكون مقوّماً لماهيّة المأمور به من حيث كونه مأموراً به كعنوان الصلاة والأنواع المندرجة تحتها كالظهر والعصر ونحوهما .
ومنها : ما لا يكون اعتباره راجعاً إلى تقييد في متعلّقه كصوم يوم فإنّ تخصيصه بفرد ما ليس لكونه مؤثراً في حصول قسم خاص من الطبيعة وقد تعلّق الغرض بإيجاد ذلك القسم .
وهذا التقسيم الذي ذكرنا أولى ممّا صنعه صاحب المصباح في بيان الأقسام فإنّ مراده بالقسم الأوّل الذي ذكرهـ وهو ما يكون القيد محقّقاً لنفس العنوان المأمور به كالقيود المنوّعة للطبيعة كما لو كلّف بإحضار حيوان ناطقـ إن كان هو القيود التي
الصفحة 263
لها مدخل في ماهية المأمور به من حيث كونه مأموراً بهـ فحينئذـ يرد عليه سؤال الفرق بينه وبين القسم الثاني فإنّ قيد الظهرية والعصرية ممّا له مدخل في تحقّق ماهية المأمور به وهي صلاة الظهر أو العصر . وإن كان مراده هي القيود التي لها مدخلية في ماهية المأمور به مع قطع النظر عن تعلّق الأمر به فهذا ممّا لا إشكال في عدم وجوب قصده فهل يجب على من أمر بإحضار إنسان أن يقصد كونه حيواناً وكونه ناطقاً ، وهذا واضح جدّاً .
وكيف كان ، فنقول : امّا القسم الأوّل فلا إشكال في وجوب القصد فيه لا لوجوب الإطاعة وكونها متوقّفة على القصد ، بل لوجوب الموافقة وهي لا تتحقّق في هذا القسم إلاّ معه لما عرفت من انّ الفعل لا يتحقّق بدونه لكونه من الاُمور القصدية التي تتقوّم بالقصد ، ولذا يجب أن يتعلّق بها القصد في الواجبات التوصّلية أيضاً ، فوجوب قصد هذه العناوين لا ارتباط له بباب الإطاعة والامتثال كما هو ظاهر .
وامّا القسم الثاني فالظاهر فيه وجوب قصد العنوان أيضاً; لأنّ امتثال الأمر المتعلّق بصلاة الظهرـ مثلاًـ لا يتحصّل إلاّ بعد تمييز كون المأتي به هي صلاة الظهر إذ المطلوب إنّما هو هذا العنوان ، وتميّزه عن غيره لا يتحقّق إلاّ بالقصد لوضوح انّ انصراف العمل المشترك بينها وبين صلاة العصر من جميع الجهات بحيث لم يكن فرق بينهما من حيث الكيفية أصلاً إلى خصوصية إحداهما تتوقّف على القصد إذ لا يكون هنا شيء يحصل بسببه التمييز إلاّ القصد ، كما انّ عنوان الادائية والقضائية أيضاً كذلك ، فلو فرض انّه يجب عليه قضاء صلاة الظهر لليوم الماضي واداء صلاة الظهر لليوم الحاضر فانصراف العمل المشترك صورة بينهما إلى إحداهما لا يتحقّق إلاّ بقصد الإتيان بالقضاء أو الاداء كما لا يخفى .
الصفحة 264
وبالجملة : كلّ ما توقّف عليه تمييز المأمور به عن غيره يجب الإتيان به لوضوح عدم تحقّق الامتثال وإتيان المأمور به بداعي الأمر المتعلّق به إلاّ بعد تمييزه عن غيره ، ومن هنا يظهر انّه لا يجب الإتيان بالفعل لغاية وجوبه أو استحبابه أو وجههما ، فإنّه هل يشكّ أحد في تحقّق الامتثال بالنسبة إلى المكلّف الذي يعلم بتوجّه الأمر إليه ولكنّه لا يعلم انّه للوجوب أو للاستحباب فأتى به بداعي الأمر المتعلّق به ، بل لو نوى الاستحباب فيما كان للوجوب ، أو الوجوب ف يما كان للاستحباب فذلك لا يضرّ بصحّة إطاعته ، إذ نيّة الخلاف لا تؤثّر في تغيير الشيء عمّا هو عليه في الواقع فبعد كون المفروض انّ الداعي له إلى العمل إنّما هو ملاحظة أمر المولى الذي هو موجود شخصي لا يمكن أن يقع على وجوه متعدّدة فلا مانع من صحّة عبادته ، وتخيّل كونه للاستحباب فيما كان للوجوب لا يؤثّر في ذلك الأمر الموجود .
ومن هنا يمكن أن يورد على القائل بالفرق بين المسألتين المعروفتين في باب الاقتداء والايتمام بسؤال الفرق بينهما ، فإنّ الاقتداءـ فيما لو اقتدى بالإمام بعنوان انّه زيد مثلاًـ هل هو بالعنوان أو بذلك الفرد الموجود الذي يشار إليه؟ لا مجال للأوّل ، وعلى الثاني لا فرق بينه وبين المسألة الاُخرى التي حكموا فيها بالصحّة أصلاً .
وامّا القسم الثالث فلا إشكال فيه في عدم وجوب قصد القيد لوضوح ان أخذه قيداً ليس لكونه مؤثّراً في حصول قسم خاص من الطبيعة وقد تعلّق الغرض بإيجاد ذلك القسم ، بل لأنّ الغرض إنّما تعلّق بإيجاد الطبيعة في ضمن أيّ مصداق تحقّقت ، فإذا قصد إيجادها في ضمن فرد بداعي الأمر المتعلّق بها فلا محالة يحصل الغرض كما هو ظاهر .
المطلب الثالث : في التعبّدي والتوصّلي ، وفسّر الأوّل بأنّه عبارة عمّا لابدّ في
الصفحة 265
سقوط الأمر المتعلّق به من إتيانه بقصد امتثال أمره ، والثاني بأنّه عبارة عمّا يسقط أمره بمجرّد تحقّقه في الخارج كيفما اتّفق ، وقد اختلفوا في موارد الشكّ في أنّ مقتضى الأصل هل هي التعبّدية أو التوصّلية .
والتحقيق أن يقال : إنّ الأفعال التي تجعل متعلّقة للطلب على أقسام :
منها : ما يكون المقصود مجرّد تحقّقه في الخارج وخروجه من كتم العدم إلى عرصة الوجود من دون أن تكون مباشرة المكلّف أو قصد عنوانه أو قصد إطاعة أمره دخيلاً في تحقّق مطلوبه أصلاً بحيث لو تحقّق في الخارج ولو من غير الإنسان يكفي ذلك في سقوط الأمر المتعلّق به .
ومنها : ما لا يكون المقصود مجرّد تحقّقه في الخارج بل المطلوب هو حصوله عن مباشرة المكلّف ولكن لا يلزم فيه قصد عنوانه أو قصد إطاعة أمره .
ومنها : ما لابدّ في تحقّق المطلوب من قصد عنوانه لكون الفعل من العناوين القصدية التي لا تتحقّق بدون القصد .
ومنها : ما لابدّ في سقوط أمره من أن يؤتى به بداعي الأمر المتعلّق به ولكن لا تكون عبادة للمولى فإنّ كلّ ما يكون مقرّباً للمولى لا يلزم أن يكون عبادة له لأنّ العبادية أمر زائد على التقرّب ، ألا ترى إنّ إكرام زيدـ مثلاًـ للتقرّب إليه لا يعدّ عبادة له وإلاّ يلزم أن يكون محرّماً لحرمة عبادة غير الله تعالى .
ومنها : ما لابدّ في سقوط أمره من إتيانه بداعي أمره ولكن يكون عبادة للمولى كالصلاة ونظائرها .
وممّا ذكرنا ينقدح انّ الأولى التعبيرـ بدل التعبّديـ بالتقرّبي وذلك لأنّ التعبّدي لا يشمل إلاّ القسم الأخير مع وضوح كون المراد هو الأعمّ منه ومن القسم الرابع .
إذا عرفت ذلك فنقول : إذا شككنا بعد تعلّق الأمر بفعل في أنّه هل يعتبر في
الصفحة 266
سقوط أمره المباشرة وحدها أو مع قصد الأمر أو لا؟ فمجرّد تعلّق الأمر بهـ مع قطع النظر عن الدليل الخارجيـ لا يقتضي أزيد من اعتبار المباشرة وذلك لأنّ ظاهر الهيئة توجّه البعث إلى المكلّف ، ومن المعلوم انّه يحتاج إلى الجواب ولا يكفي في ذلك مجرّد تحقّقه ولو من غيره إذ للمولى أن يقول : إنّ المطلوب حصوله منك مستنداً إلى توجيه أمره إليه ، وامّا الزائد على قيد المباشرة فلا يقتضي مجرّد تعلّق الأمر به اعتباره أصلاً لأنّ الأمر لا يبعث المكلّف ولا يدعوه إلاّ إلى متعلّقه إذ لا يعقل أن يكون المبعوث إليه أمراً زائداً على ما أخذ في لسان الدليل متعلّقاً للأمر ، فإذا لم يدلّ دليل على أنّ سقوط الأمر متوقّف على إتيان متعلّقه بداعيهـ كما هو المفروضـ فمن أين يحكم بلزوم ذلك خصوصاً بعد إمكان أخذ قصد التقرّب قيداً في المتعلّق كسائر القيود التي يمكن أخذها فيهـ كما اخترناه وحقّقناه في الاُصول ـ .
ثمّ إنّ بعض محقّقي المعاصرين(قدس سره) ذهب في أواخر عمرهـ على ما حكى عنهـ إلى أنّ الأصل يقتضي التعبّدية نظراً إلى أنّ العلل التشريعية كالعلل التكوينية ، فكما انّه في العلل التكوينية يكون مقتضى تأثيرها حصول المعلول المستند إليها إذ النار لا تؤثّر إلاّ في حصول الإحراق المستند إليها ، لا أن يكون وصف الاستناد إليها مستنداً إلى تأثير النار ، بل الإحراق المعلول منها إنّما يكون محدوداً بحدود الاستناد إليها ، فكذلك في العلل التشريعية يكون مقتضى تأثيرها حصول المعلول المستند إليها ، وحينئذ فالأمر حيث يكون علّة تشريعية إذ هو تحريك للمكلّف نحو العمل فلابدّ أن يكون معلولهـ وهو العملـ مستنداً إليه بمعنى انّ الواجب هو إتيانه على نحو يكون هو المؤثر في حصوله ، وذلك لا يتحقّق إلاّ بإتيانه منبعثاً عن البعث المتعلّق إليه ، ومدعواً بدعوته وهذا عين التعبّدية .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لا نسلم ذلك في العلل التكوينية فضلاً عن العلل
الصفحة 267
التشريعية إلاّ بالإضافة إلى اللهـ تبارك وتعالىـ وتحقيقه في موضعهـ انّه لو سلم ذلك في العلل التكوينية فما الدليل على كون العلل التشريعية مثلها فأية آية أو رواية وردت في ذلك ، وليس هذا الأمر إلاّ صرف الادّعاء من دون أن ينهض دليل عليه ، والإنصاف انّ هذه القاعدة الكلّية التي بنى هذا المحقّق عليها مباحث كثيرة في الاُصول كمسألة عدم تداخل الأسباب وفوريّة الأمر وتعبّدية الواجب المشكوك ونظائرها ممّا لا يتّكى إلى ركن وثيق ولا يساعده التحقيق كما يظهر بالنظر الدقيق .
ثمّ إنّه ربّما يتمسّك لاصالة التعبّدية ببعض الآيات والروايات مثل قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ مِنْكُمْ)(1) وقوله تعالى : (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ)(2) .
وأورد على الاستدلال بالآية الاُولى :
أوّلاً : بأنّ الأمر بإطاعة الله أمر إرشادي وإلاّ يلزم الدور .
وثانياً : بأنّ لازم ذلك أن تكون إطاعة الرسول وأولي الأمر بمعنى الإتيان بمتعلّق أمرهم بداعي الأمر واجبة ولا يظنّ بأحد أن يلتزم بذلك .
وثالثاً : بأنّ المراد بالإطاعة هو معناها العرفي الراجع إلى الموافقة بإتيان المأمور به لا الإطاعة بمعناها الاصطلاحي الذي هو قسم خاص من الموافقة ، والجواب عن الاستدلال بالآية الثانية وبالروايات يظهر من الكتب الفقهية المفصّلة فراجع .
ثمّ إنّك عرفت انّ الخصوصية التي بها يتميّز التعبّديـ أو التقرّبي على ما ذكرنا ـ عن التوصّلي هو لزوم كون الإتيان به بداعي الأمر المتعلّق به بمعنى أن يكون
(1) سورة النساء آية 59 .
(2) سورة البيّنة آية 5 .
الصفحة 268
المحرِّك له إلى الإتيان هو تعلّق الأمر به من ناحية المولى بمعنى أن يكون أمر المولى هو الموجب لترجيح وجود الفعل على العدم في نظر العبد الموجب لتعلّق إرادته به وحيث إنّ مجرّد تعلّق الأمر به لا يوجب الرجحان في نظر العبد ذاتاً وإنّما يوجب الرجحان عرضاً بلحاظ عناوين اُخر ضرورة أن نفس تعلّق الأمر بمجرّده لا يكاد يوجب التحريك فالمحرّك لإتيان العبادة بداعي أمرها هي تلك العناوين كاداء الحقّ بعد صيرورة العبادة حقّاً للمولى بالأمر بها أو الشكر له على نعمه عنه أو لحصول الثواب الأخروي أو للأمن من العقاب الأخروي أو موجباً للثواب الدنيوي أو الأمن من العقاب كذلك أو لزيادة النعمة أو لاستحقاق الاُجرة كما في العبادات الاستئجارية أو لغرها من العناوين والدواعي الاُخر ، ولكن الظاهر انّ كلّها دواع على إتيان العبادة بداعي أمرها الذي يعبّر عنه بالامتثال فلا تكون في عرض الامتثال ، بل في طوله ضرورة انّ تحقّق هذه الاُمور المعبّر عنها بالغايات في كلماتهم إنّما يتوقّف على حصول العبادة بوصف العبادية ، ومن المعلوم انّ قصد الامتثال معتبر في أصل حصول هذا الوصف فهو مأخوذ في الموضوع الذي تترتّب عليه الغايات فلا تكون في عرضه بل في طوله وفي الرتبة المتأخّرة عنه ، وأعلى الوجوه المتصوّرة ما حكي عن أمير المؤمنينـ عليه أفضل صلوات المصلّينـ من قوله : «ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنّتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك» لكن في نهج البلاغة انّه(عليه السلام) قال : «إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار ، وانّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار» وفي رواية هارون بن خارجة : «العبادة ثلاثة : قوم عبدوا الله عزّوجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاجراء ، وقوم عبدوا الله عزّوجلّ حبّاً له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل
الصفحة 269
العبادة» .
والظاهر انّ العبادة لكونه أهلاً أعلى من العبادة للحبّ لأنّ الإتيان بما هو مطلوب للمحبوب لا يخلو من عود نفع إلى المحبّ ولو من جهة حصول ما هو مطلوب لمحبوبه وهذا بخلاف العبادة لكونه أهلاً لها فإنّها تتمحّض في الإضافة إلى المولى والارتباط به كما لا يخفى وجعل العبادة حبّاً له أفضل العبادة في رواية هارون لعلّه كان لأجل كون العبادة للأهلية لا يكاد يصل إليها أيدي الناس من العامّة والخاصّة لاختصاصها بمن صرّح بكون عبادته كذلك ، فالأفضلية إنّما هي بلحاظ الدرجات المعمولة والمراتب الممكنة فتدبّر .
ثمّ إنّه قد وقع الإشكال في عبادية الوضوء الذي هو محلّ البحث في المقام بوجوه ترجع إلى أنّه لا إشكال في ترتّب الثواب عليه مع انّ الواجب الغيري لا يترتّب عليه ثواب وإلى لزوم الدور فإنّ الوضوء بل الطهارات الثلاث بأجمعها جعلت مقدّمة بما هي عبادة مع انّ عباديتها تتوقّف على الأمر الغيري ولا يترشّح الوجوب الغيري إلاّ على ما هي مقدّمة فالأمر الغيري يتوقّف على العبادية وهي عليه ، وإلى ما هو أصعب الوجوه من انّ الأوامر الغيريّة توصّلية لا يعتبر في سقوطها قصد التعبّد مع انّ الطهارات يعتبر فيها قصده إجماعاً .
والذي ينحلّ به الإشكال بجميع وجوهه هو انّها بما هي عبادة جعلت مقدّمة ولا تتوقّف عباديتها على الأمر الغيري بل لها أمر نفسي متعلّق بذواتها ، غاية الأمر انّه استحبابي ، فالمأمور به بالأمر النفسي الاستحبابي جعل مقدّمة وصار مأموراً به بالأمر الغيري ، بل ربّما يقال : إنّ ملاك العباديّة في الاُمور التعبّدية ليس هو الأمر المتعلّق بها بل مناطها هو صلوح الشيء للتعبّد به والإتيان به للتقرّب إلى الله تعالى ، وعلى ذلك استقر ارتكاز المتشرّعة لأنّهم في مقام الإتيان بالواجبات التعبّدية
الصفحة 270
يقصدون التقرّب إليه تعالى بها مع عدم الالتفات إلى الأوامر المتعلّقة بها ، نعم لا يمكن الاطّلاع على صلوح عمل للعبادية غالباً إلاّ بوحي من الله تعالى .
نعم ربّما يستشكل ما ذكر في خصوص التيمّم نظراً إلى أنّه ليس عبادة نفسية ولكنّه اُجيب عنه بأنّه يمكن أن يقال بأنّه يستكشف من احتياجه إلى قصد التقرّب ومن ترتّب المثوبة عليه كونه عبادة في نفسه إلاّ انّه في غير حال المقدّمية ينطبق عليه مانع عن عباديته الفعلية أو يقال بأنّه عبادة في ظرف خاص وهو كونه مأتياً به بقصد التوصّل إلى الغايات لا بأن تكون عباديته لأجل الأمر الغيري .
كما انّه ربّما يستشكل في الوضوء وشبهه بأنّه على ما ذكر لابدّ أن يؤتى به لأجل رجحانه الذاتي مع انّ سيرة المتشرّعة جارية على الإتيان به لأجل التوصّل به إلى الغايات ، وعليه فلو أتى به لأجل الغير يقع صحيحاً وإن غفل عن ملاك العبادية ، واُجيب عنه أيضاً بأنّا نجد ارتكاز المتشرّعة على خلاف ذلك فهل يمكن رميهم بأنّهم لا يفرّقون بين الستر وتطهير الثوب للصلاة وبين الطهارات الثلاث لأجل التوصّل إليها ، بل لا شكّ انّهم يقصدون بها التعبّد ويجعل ما هو عبادة مقدّمة إلى غاياتها وقد اُجيب عن وجوه الإشكال في الطهارات بطرق اُخرى مذكورة في الاُصول .
المطلب الرابع : في اعتبار الاخلاص في العبادة ومرجعه إلى خلوّها عن الضميمة وتمحضها في قصد القربة وداعي الأمر ، وحيث إنّ الضميمة قد تكون مباحة وقد تكون راجحة وقد تكون محرّمة فلابدّ من التكلّم في مقامات ثلاثة ، وقبل الورود في بيان أحكامها لابدّ أوّلاً من تحرير محلّ النزاع وتحقيق مورد البحث فنقول : محلّ الكلام في هذا المقام ما إذا ضمّ إلى نيّة التقرّب إرادة شيء آخر متعلّقة بنفس الفعل العبادي الذي يتقرّب به . وبعبارة اُخرى : كانت الداوعي
الصفحة 271
الاُخر داعية أيضاً إلى نفس طبيعة الفعل المأمور به كما انّ داعي القربة يدعو إليها ، وامّا إذا كانت الدواعي الاُخر باعثة على ترجيح بعض أفراد الطبيعة المأمور بها على البعض الآخر فالظاهر خروجه عن مورد النزاع إذ لا ينبغي الإشكال في صحّته لأنّ المعتبر في العبادة أن يكون الداعي إلى إتيان متعلّق الأمر هو قصد القربة ، ومن لمعلوم انّ المأمور به إنّما هي نفس الطبيعة ، والخصوصيات خارجة عنه ، فمجرّد كون الداعي إلى بعض الخصوصيات غير داعي القربة لا يوجب بطلان العبادة بعدما كان الداعي إلى أصل الطبيعة المتعلّقة للأمر داعياً إلهياً ، بل لا يجوز قصد القربة بالنسبة إلى الخصوصيات فيما لم تكن راجحة شرعاً لما عرفت من خروجها عن دائرة تعلّق الأمر فلا يعقل أن يصير الأمر داعياً إليها لأنّ الأمر لا يكاد يدعو إلاّ إلى خصوص متعلّقه .
وبالجملة : لا إشكال في الصحّة في هذه الصورة لأنّ الداعي القربي صار داعياً إلى نفس متعلّق الأمر ، والداعي النفساني صار داعياً إلى بعض الخصوصيات الخارجة عن دائرة تعلّق الأمر ، وعليه فلا إشكال في صحّة الوضوء بالماء البارد في الصيف ، وبالماء الحارّ في الشتاء ، سواء كان الداعي النفساني مؤثِّراً في ترجيح بعض الخصوصيات على البعض الآخر في مقام الامتثال فقط بمعنى انّه لو لم يكن الداعي الإلهي في البين .
وبعبارة اُخرى لو لم يكن قاصداً للوضوء لم يكن قاصداً للتبريد أو التسخين أصلاً ، ولكن حيث إنّه أراد امتثال أمر الوضوء وجد في نفسه داع نفساني إلى امتثاله في ضمن بعض الخصوصيات الذي هو مقتضى شهوة النفس وميلها دون البعض الآخر ، أو كان الداعي النفساني مستقلاًّ في الداعوية إلى التبريد أو التسخين مثلاً بمعنى إنّه لو لم يكن الداعي إلى الوضوء متحقّقاً لكان الداعي النفساني
الصفحة 272
يحرّكه إلى ما هو مقتضى شهوة النفس .
وبعبارة اُخرى كان هنا داعيان مستقلاّن يؤثّر كل واحد منهما ولو انفرد عن الآخر : أحدهما ما يدعو إلى طبيعة الوضوء والآخر ما يدعو إلى طبيعة الوضوء والآخر ما يدعو إلى طبيعة التبريدـ مثلاًـ .
وجه الصحّة في الصورة الاُولى ما عرفت ، وامّا الصورة الثانية فالوجه في صحّتها هو أن الداعي الإلهي بالنسبة إلى متعلّق الأمر وهو الوضوء خالص غير مشوب بالضميمة أصلاً ، وداعويّة الداعي الآخر إلى الوضوء بالماء البارد إنّما ترجع أيضاً إلى ترجيح بعض الخصوصيات على البعض الآخر بمعنى انّه صار داعياً إلى استعمال الماء البارد في الوضوء إذ لا يعقل أن يصير داعياً إلى نفس الوضوء لأنّ طبيعة الوضوء لا تكون مبردة وإلاّ يلزم بطلان الوضوء بالماء الحارّ .
وبالجملة فالداعي النفساني يدعو إلى طبيعة مغايرة للطبيعة التي يدعو إليها الداعي الإلهي القربي ، ومجرّد اتّحادهما في الوجوب لا يوجب سراية أحدهما إلى مدعو الآخر وإلاّ يلزم ذلك في الصورة الاُولى أيضاً ، فظهر من جميع ذلك انّ مورد النزاع ما إذا كان الداع النفساني داعياً إلى نفس الطبيعة المأمور بها التي يدعو إليها الداعي القربي فلنتكلّم في تلك المقامات فنقول :
1ـ الضميمة المباحة
ويتصوّر فيها أربعة أقسام :
الأوّل : ما يكون قصدها تابعاً لقصد التقرّب بمعنى أن ما يستند إليه التأثير إنّما هو الداعي القربي ولا يكون قصد الضميمة المباحة مؤثّراً في ذلك أصلاً ، نعم ثمرته تأكّد غرضه وشدّة اشتياقه ، ولا إشكال في صحّة العبادة في هذا القسم لعدم منافاة هذا النحو من القصد للإخلاص المعتبر في العبادة .
الصفحة 273
الثاني : ما يكون قصد التقرّب تابعاً لقصد الضميمةـ بالمعنى الذي عرفت ـ عكس القسم الأوّل . ولا إشكال في البطلان في هذا القسم لعدم استناد الفعل إلى قصد التقرّب المعتبر في صحّة العبادة .
الثالث : أن يكون قصد التقرّب وقصد الضميمة كلاهما مؤثّرين في حصول الفعل بحيث كان كلّ منهما جزء المؤثّر على نحو لو لم يكن الآخر لما تحقّق الفعل في الخارج ، ولا إشكال أيضاً في بطلان العبادة في هذا القسم لأنّه يعتبر في صحّة العبادة أن يكون الداعي له إليها هو قصد التقرّب مستقلاًّ ، والمفروض في هذه الصورة قصوره عن التأثير .
الرابع : أن يكون كلّ من القصدين مستقلاًّ في الدعوة والتأثير بحيث لو كان منفرداً عن الآخر لكان باعثاً على الفعل لكن اجتماعهما على شيء واحد أوجب خروجهما عن الاستقلال لامتناع توارد علّتين مستقلّتين على معلول واحد . وقد حكى القول بالصحّة في هذا القسم عن كاشف الغطاء(قدس سره) وتقريبه بوجهين :
أحدهما : ما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره) في توجيهه حيث قال في كتاب الطهارة : «ولعلّه لدعوى صدق الامتثالـ حينئذـ وجواز استناد الفعل إلى داعي الأمر لأنّ وجود الداعي المباح وعدمهـ حينئذـ على السواء ، نعم يجوز استناده إلى الداعي المباح أيضاً لكن القادح عدم جواز الاستناد إلى الأمر ، لا جواز الاستناد إلى غيره ، ألا ترى انّه لو أمر المولى بشيء وأمر الوالد بذلك الشيء فأتى العبد مريداً لامتثالهما بحيث يكون كلّ منهما كافياً في بعثه لو انفرد عدّ ممتثلاً لهما» .
ثانيهما : ما أفاده بعض المحقّقين من المعاصرين في كتابه في الصلاة واختاره قال : «ولعلّ الوجه في ذلك انّ المعتبر في العبودية أن يصير العبد بحيث يكون تأثير أوامر المولى في نفسه بالنسبة إلى متعلّقاتها كتأثير العلل التكوينية في معلولاتها ،
الصفحة 274
ومن ارتاض نفسه بهذه المثابة ووصل إلى هذه المرتبة فمتى يأمر المولى يتحرّك عضلاته نحو المأمور به بواسطة الأمر ، ويتقرّب بواسطة تلك الحركة إلى المولى لأنّه عبد تهيّأ ل تحصيل مقاصد المولى ، غاية الأمر لو لم يكن له غرض نفساني في الفعل فالمستند في إيجاد الفعل هو الأمر مستقلاًّ ، وإن كان له غرض أيضاً فالمستند هو المجموع لا من باب عدم تأثير أمر المولى في نفسه ، بل من جهة عدم قابلية المحلّ لأن يستند إلى كلّ واحد مستقلاًّ واستحالة الترجيح من غير مرجّح ، إلى أن قال : ويشهد لهذا انّه لو أمر آمران بفعل واحد وكان الشخص بحيث يؤثِّر كلّ واحد من الأمرين في نفسه ، ثمّ أتى بذلك الفعل امتثالاً لهما يصير مقرّباً عند كلّ منهما ، إلى أن قال : وآية الإخلاص تدلّ على وجوب تخليص عبادة الله عن عبادة الأوثان ، والأدلّة الحاصرة للعباد فيمن يعمل طمعاً في الثواب ، ومن يعمل خوفاً من العقاب ، ومن يعمل حبّاً لله تعالى إنّما تدلّ على بطلان العمل المستند إلى شيء آخر بدل هذه الاُمور ، ولا تنافي صحّة عمل من يوجد أحد هذه الاُمور في نفسه تامّاً ، وانّما استند العمل فعلاً في الخارج إليه وإلى شيء آخر لعدم قابلية المحلّ لأن يكون مستنداً إلى كلّ واحد مستقلاًّ ، والحاصل انّه ليس في الأدلّة ما يدلّ على لزوم استقلال داعي الطاعة بعد وصوله مرتبة يصلح لأن يكون مؤثّراً» .
أقول : امّا التقريب الأوّل فقد أجاب عنه الشيخ(قدس سره) بما حاصله منع جواز استناد الفعل إلى كلّ منهما لامتناع وحدة الأثر وتعدّد المؤثّر ، ولا إلى أحدهما للزوم الترجيح من غير مرجح ، بل هو مستند إلى المجموع ، والمفروض انّ ظاهر أدلّة اعبتار القربة ينفي مدخلية شيء آخر ، وامّا المثال فيمنع فيه صدق امتثال كلّ منهما . نعم حيث انّه اجتمع الأمران في فعل واحد شخصي لا يمكن التعدّد فيه فلابدّ من الإتيان به مريداً لامتثال كلّ منهما إذ لا يمكن موافقة الأمر في هذا الفرض بوجه
الصفحة 275
آخر بخلاف المقام فإنّه يمكن تخليص الداعي لموافقة الأمر وتحصيل التبرّد بغير الوضوء إن أمكن وإلاّ فعليه تضعيف داعي التبرّد وتقوية داعي الإخلاص فإنّ الباعثين المستقلّين يمكن ملاحظة أحدهما دون الآخر ثم أتى بمثال لذلك فراجع .
وامّا التقريب الثاني فيرد عليه انّ مجرّد كون العبد واصلاً إلى المرتبة التي تتحرّك عضلاته نحو المأمور به بمجرّد صدور الأمر من المولى لا ينفع بالنسبة إلى هذا الفعل الخارجي الذي لم يكن أمر المولى داعياً مستقلاًّ له وباعثاً تامّاً على تحقّقه ، وكونه بحيث لو لم يكن له غرض نفساني يحرّكه الأمر نحو المأمور به لا يجدي بملاحظة الفعل الخارجي الصادر منه مستنداً إلى كلّ واحد من الداعيين بنحو الجزئية .
وبالجملة : فاللاّزم ملاحظة كيفية تحقّق الفعل في الخارج وانّه هل صدر عن داع قربي فقط أو كان شيء آخر دخيلاً في تحقّقه ، ومن المعلوم انّ المستفاد من الأدلّة إنّما هو اعتبار الاخلاص ونفي مدخلية الغير ، وامّا المثال الذي ذكره فتحقّق موافقة كلّ من الأمرين وحصول غرض كلّ من الخشصين فيه إنّما هو باعتبار كون المأمور به من التوصّليات لا التعبّديات المعتبرة في صحّتها نيّة القربة والإخلاص .
فالأقوى بطلان العبادة في هذا القسمـ كما أفاده في المتنـ وحينئذ إن أمكن له تضعيف الداعي النفساني وتخليص الداعي لموفاقة الأمر ، وإلاّ فالواجب امّا القول بانتقال فرضه إلى التيمّم في مثل مسألة الوضوء ، وامّا القول بكفاية هذا المقدار في صحّة العبادة مع العجز عن التخليص لأنّه القدر الممكن من الامتثال ، والأحوط الجمع بين الوضوء والتيمّم في هذه الصورة .
2ـ الضميمة المحرّمة
والكلام فيها يقع من جهتين :
الاُولى : فيما تقتضيه القاعدة في مطلق الضمائم المحرّمة .
الصفحة 276
الثانية : فيما تقتضيه القاعدة وكذا الأخبار الواردة في بعض أفرادها كالرياء ونحوه .
امّا الجهة الاُولى فالشيء المحرّم الذي انضمّ قصده إلى نيّة التقرّب إن كان متّحداً وجوداً مع الفعل العبادي فلا إشكال في البطلان في جميع الأقسام الأربعة المتصوّرة المتقدّمةـ وإن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي كما هو مقتضى التحقيقـ لأنّ الفعل المحرّم لا يمكن أن يكون مقرّباً للعبد لامتناع كون وجود واحد مقرّباً ومبعّداً معاً لأنّهما عنوانان متضادّان لا يعقل اجتماعهما في شيء واحد وهذا بخلاف عنواني الصلاة والغصب المجتمعين في الصلاة في الدار المغصوبة لأنّ النسبة بينهما التخالف لا التضاد المانع عن الاجتماع .
وربّما يقال بإمكان كون شيء واحد مقرّباً من حيثية ومبعّداً من حيثية اُخرى نظراً إلى انّ المقرّب ليس هو وجود الصلاة حتى يقال إنّ وجودها هو بعينه وجود الغصب ، وكذا ليس المقرب هي طبيعة الصلاة بما هي مع قطع النظر عن تحقّقها في الخارج حتّى يقال : إنّ الطبيعة من حيث هي لا تكون مقرّبة كما هو واضح ، بل المقرّب هي الصلاة المتّصفة بوصف الوجود ، وكذا المبعّد إنّما هي طبيعة الغصب الموجودة في الخارج ، ومن المعلوم انّ الطبيعتين موجودتان في الخارج ولو بوجود واحد ، فالوجود وإن كان واحداً إلاّ أنّ الموجود متعدّد ، وقد ظهر انّ وصف المقربية والمبعّدية إنّما يعرض للموجود لا للوجود وـ حينئذـ فلا مجال للإشكال في أنّ الوجود الواحد لا يمكن أن يجتمع فيه الوصفان لأنّ ذلك مبنيّ على أن يكون موصوفهما هو الوجود والمفروض انّ المعروض هو الموجود وهو متعدّد .
واُجيب عنه بأنّه ليس في الخارج إلاّ شيء واحد يكون بتمامه مصداقاً لعنوان الصلاة ، ومنطبقاً عليه عنوان الغصب ولا يكون هنا حيثيتان وجوديتان حتّى
الصفحة 277
يقال : إنّ المبعّد حيثية مغايرة لحيثية المقرّب ، بل لا تكون إلاّ حيثية واحدة ، غاية الأمر انّ العقل يحلّلها إلى شيئين ويحمم عليه بعنوانين فهما أي العنوانان وإن كانا متغائرين إلاّ انّهما بأنفسهما لا يكونان مقرّباً ومبعّداً ، والمفروض انّ ما يعرض له أحد هذين الوصفين وهو الوجود الخارجي لا يكون متعدّداً .
فانقدح من ذلك بطلان الصلاة في الدار المغصوبة وإن قلنا بجواز الاجتماعـ كما هو مقتضى التحقيقـ ولكن مع ذلك للتأمّل في الحكم بالبطلان على القول بالجواز مجال كما ذكرناه في محلّه . هذا كلّه فيما لو كان الشيء المحرّم متّحداً مع الفعل العبادي في الوجود الخارجي .
وامّا لو كان مترتّباً عليه في الخارج وملازماً له في التحقّق فحكمه حكم المباح في جميع الأقسام الأربعة المتقدّمة ، هذا لو لم نقل بسراية الحرمة من ذلك الشيء إلى الفعل العبادي من غير جهة المقدّمية ، وامّا لو قلنا بذلك فحكمه حكم الصورة الاُولى كما لا يخفى ، كما انّ الحرمة من جهة المقدّميةـ بناءً على حرمة مقدّمة الحرام ـ لا تضرّ بعدما ثبت في محلّه من انّ الحرمة المقدمية حرمة غيرية ولا يترتّب على مخالفتها بنفسها عقاب إذ لا تكون بذاتها مبغوضة أصلاً .
نعم مع ثبوت النهي الفعلي المتعلّق بها لا يعقل أن تكون متعلّقة للأمر أيضاً و ـ حينئذ ـ يكون بطلان العبادة مستنداً إلى عدم الأمر لو قلنا بعدم كفاية الملاك في صحّة العبادة وتوقّفها على تعلّق الأمر الفعلي بها ، ولكن قد عرفت سابقاً فساد هذا القول وإنّ صحّة العبادة لا تتوقّف على تعلّق الأمر الفعلي بها مضافاً إلى ما ذكرناه في محلّه من انّ الحكم المقدّمي لا يكاد يتعلّق بنفس المقدّمة وما يكون محمولاً له هذا العنوان بالحمل الشائعـ كما قيلـ بل متعلّقه إنّما هو نفس عنوان المقدّمة لأنّ الحيثيّات التعليليّة كلّها ترجع إلى الحيثيات التقييدية وـ حينئذـ فلا مانع من أن
الصفحة 278
يجتمع النهي الفعلي مع الأمر بعد كون متعلّق الأوّل هي نفس عنوان المقدّمة ومتعلّق الثاني هو ذات الفعل بعنوانه .
وامّا الجهة الثانية فنقول فيها : إن قلنا بأنّ المحرّم في باب الرياء هو نفس الفعل العبادي الذي يراد بسببه طلب المنزلة عند الناس فيصير حكم العمل المرائى به حكم ما لو كان الحرام متّحداً مع العبادة في الوجود الخارجي فيبطل مطلقاً سواء كان قصده تابعاً لنيّة القربة أو العكس أو كان داعياً مستقلاًّ كنيّة القربة أو كان جزء المؤثّرـ .
والوجه فيه ما عرفت من انّ المحرّم لا يمكن أن يكون عبادة ومقرّباً للعبد ، وإن قلنا بأنّ المحرم في باب الرياء هو القصد لا نفس العمل الخارجي فيصير حكمه حكم الضميمة المباحة ونحن وإن حكمنا فيها بصحّة القسم الأوّل من الأقسام الأربعة المتصوّرة المتقدّمةـ وهو ما يكون الداعي النفساني تابعاً لقصد القربةـ إلاّ انّه لا يخفى انّ الحكمب الصحّة فيه أيضاً محلّ نظر بل منع وذلك لأنّه لا ريب في انّ اشتياق النفس إلى الفعل بعد وجود الداعي الضعيف أيضاً يكون أشدّ ممّا إذا لم يكن فيه هذا الداعي .
ومن المعلوم ـ كما حقّق في محلّهـ انّه ليس نفس طبيعة الاشتياق الصادقة على الاشتياق غير الشديد أيضاً ، شيئاً ووصف الشدّة فيه شيئاً آخر بحيث يكون هناك شيئان : أحدهما طبيعة الاشتياق والآخر وصف الشدّة ، بل ليس هنا إلاّ وجود واحد وهوية فاردة نظير النور الشديد والوجود الشديد ونظائرهما ، وـ حينئذ ـ يكون هذا الوجود الواحد متولّداً من الداعي القربي القويّ والداعي النفساني الضعيف وإن كان المفروض انّه لو لم يكن الداعي النفساني موجوداً في البين لكان الداعي القربي مؤثِّراً في حصول الاشتياق إلاّ أنّ ذلك لا يؤثر بالنسبة إلى هذا
الصفحة 279
الاشتياق الخارجي المتولِّد منهما معاً ، وإلاّ لكان اللاّزم القول بالصحّة في القسم الرابع أيضاً لعدم الفرق بينهما من هذه الجهة ، وقد عرفت انّ مقتضى التحقيق فيه البطلان وـ حينئذـ فالفعل المستند إلى الإرادة الناشئة من الاشتياق المتولّد من الداعيين معاً يكون مستنداً إلى كليهما فيكون فاقداً لما يعتبر في العبادة من الإخلاص وعدم الاستناد إلاّ إلى نيّة القربة .
وبالجملة : فالداعي وإن كان ضعيفاً إلاّ انّه لا محالة له تأثير في حصول الاشتياق ولو بنحو الجزئية وإلاّ لا يكون داعياً بوجه ، ومع فرض استناد الاشتياق إليه ولو بنحوها لا يبقى مجال للقول بالصحّة أصلاً فالتحقيق بطلان العبادة في جميع الأقسام المتقدّمة ، هذا كلّه في الرياء في أصل الفعل العبادي .
وامّا لو كان الرياء في بعض أجزائه فتارة يكون ذلك الجزء من الأجزاء الواجبة التي لها مدخلية في حقيقة الأمر العبادي وماهيته ، واُخرى يكون من الأجزاء المستحبّة .
امّا لو كان الرياء في الجزء الواجب فلا إشكال في وقوع ذلك الجزء الذي وقع الرياء فيه فاسداً وـ حينئذـ إن لم يمكن التدارك فالعبادة فاسدة ، وإن أمكن التدارك وتدارك فالبطلان مبني على صدق الزيادة العمدية التي ورد في الأخبار انّها مبطلة للصلاة مثل ما عن أبي بصير قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) : من زاد في صلاته فعليه الإعادة .
نعم قد يقال بعدم صدق عنوان الزيادة في المقام ، امّا لأنّ المراد بالزيادة ما يكون من قبيل الزيادة في العمر في قولك : «زاد الله في عمرك» فيكون المقدّر الذي جعلت الصلاة ظرفاً له هي الصلاة فينحصر المورد بما كان الزائد مقداراً يمكن أن يطلق عليه الصلاة مستقلاًّ كالركعة ، وامّا لأنّ صدق عنوان الزيادة المبطلة على الفعل
الصفحة 280
الزائد متوقّف على كونه من حين إيجاده متّصفاً بذلك وصادراً بهذا العنوان ، مع انّه ليس في المقام كذلك فإنّ الركوع الواقع رياءـ مثلاًـ لا يصدق عليه عنوان الزيادة بمجرّد وقوعه وصدوره بل لو ركع ثانياً خالصاً غير مشوب بالرياءـ كما هو المفروضـ يصير ذلك سبباً لاتصاف الركوع الأوّل الواقع رياء بعنوان الزيادة قهراً ، وهذه الزيادة لا تكون مبطلة .
وأنت خبير بأنّ المراد بالزيادة المذكورة في الروايات هو مطلق ما يكون خارجاً عن الصلاة إذا أتى به بما انّه من الصلاة وداخل فيها ، فكلّ شيءـ سواء كان مسانخاً لأجزاء الصلاة أو مخالفاً لهاـ إذا زاده المصلّي في صلاته بعنوان انّه من الصلاة وداخل فيها ، فهو من الزيادة المبطلة ، وـ حينئذـ فالركوع المأتيّ به رياء من حيث إنّه خارج عن الصلاة ولا يصلح لوقوعه جزء لها وائتلافه مع سائر الأجزاء ، والمفروض انّ الفرض من الإتيان به هو كونه من الصلاة وداخلاً فيها يكون مصداقاً للزيادة المبطلة . وما ذكر من عدم صدق الزيادة عليه حين وقوعه ، واللاّزم إنّما هو الاتّصاف بهذا الوصف حتّى يؤثر في البطلان ، مدفوعـ أوّلاًـ بأنّ العرف يشهد بصدق الزيادة العمدية عليه وهو المرجع في مفاهيم الألفاظ الواردة في لسان الروايات كما هو ظاهر وـ ثانياًـ بمنع توقّف صدقها عليه على تحقّق الركوع بعده إذ هو حين وقوعه يتّصف بالزيادة العمديّة لأجل عدم صلاحية للجزئية للصلاة ، والمفروض انّ إتيانه إنّما هو بعنوان إنّه جزء لها وداخل فيها .
فالحقّ صدق الزيادة العمدية في المقام ، ومنه يظهر انّ البطلان فيما إذا لم يمكن التدارك إنّما يستند إلى وقوع الزيادة في الصلاة لا إلى فقدانها لبعض أجزائها الواجبة إذ اتّصاف الجزء المأتي به رياء بعنوان الزيادة مقدّم على اتّصاف الصلاة بفقدانها لبعض الأجزاء ، لأنّ هذا الوصف إنّما ينتزع من عدم الإتيان بالجزء
|