الصفحة 281
الصحيح بعد ذلك الجزء ، هذا كلّه في الرياء في الأجزاء الواجبة .
وامّا الرياء في الأجزاء المستحبّة فمقتضى القاعدة عدم بطلان العبادة بسبب بطلان تلك الأجزاء سواء كان معنى استحبابها في الصلاةـ مثلاً ـ وجزئيّتها لها كذلك انّها مستحبّة في نفسها ، غاية الأمر انّ ظرفها إنّما هي الصلاة بمعنى انّها مستحبّه فيما لو وقعت فيها لا في غيرها ، ولا يؤثّر إيجادها في الصلاة مزيّة لها أصلاً ، أو كان معنى استحبابها انّ لها مدخلية فيها ومؤثرة في حصول مزيّة لها ، غاية الأمر انّها لا تكون دخيلاً في حقيقة الصلاة وماهيّتها ، بل لها دخل في حصول المرتبة الراجحة من مراتب الصلاة المختلفة ويتحقّق بها أفضل أفرادها ، امّا على المعنى الأوّل فواضح انّه لا مدخلية لبطلانها في بطلان العبادة بوجه ، وامّا على المعنى الثاني فالظاهر انّه أيضاً كذلك لأنّ بطلان الأجزاء المستحبّة إنّما يؤثّر في عدم تحقّق الصلاة بمرتبتها الكاملة ولا ينافي ذلك تحقّقها بمرتبتها النازلة ، إذ المفروض انّه ليس لها دخل في قوام ماهيّة الصلاة وحقيقتها ، فالحقّ انّه لا تبطل العبادة ببطلانها ، هذا كلّه في الرياء في أصل العمل أو في أجزائه .
وامّا لو كان الرياء في خصوصيات العبادةـ فتارةـ يرجع إلى الرياء في نفس العبادة مثل ما إذا صلّى بمحضر من الناس لأجل تحصيل المحبوبيّة عندهم و ـ اُخرى ـ لا يرجع إلى الرياء فيها مثل ما إذا صلّى في المسجد لإرآئه الناس وطلب المنزلة عندهم بسبب الكون في المسجد لا بالصلاة فيه .
امّا القسم الأوّل فالظاهر بطلان العبادة فيه سواء كان داعي إرائة طاعته ليمدحه الناس ناشئاً من قبل أمر الشارع بمعنى انّه لولا الأمر بالصلاة لم يكن له هذا الداعي أصلاً ، ولكن لما ألجأه الشارع إلى إتيانها بالتكليف بها يأتي بها بمحضر من الناس بداعي مدحهم إيّاه ، أو كان داعياً مستقلاًّ بحيث لولا الأمر بالصلاة لتوصّل إلى
الصفحة 282
غرضه بطريق آخر .
وجه البطلان انّ هذا الداعي إنّما يرجع إلى نفس العبادة إذ مدح الناس إيّاه إنّما هو على أصل عبادته لا على إيجادها بمحضرهم ، وـ حينئذـ فلا يتمّ ما عن بعض المحقّقين من المعاصرين في كتابه في الصلاة من عدم بطلان العبادة في هذه الصورة نظراً إلى أنّ الأمر بالصلاة لا يقتضي إلاّ الإتيان بالطبيعة المذكورة من دون اقتضاء كيفية خاصّة ، وهذا المصلّي إنّما يتحرّك إلى أصل الصلاة من قبل الأمر بها خاصّة ، ولكن اختيار إيجادها بمحضر من الناس يكون من جهة مدحهم إيّاه .
وجه عدم التمامية ما عرفت من انّ هذا الداعي إنّما يرجع إلى أصل العبادة إذ المدح إنّما يترتّب عليه ، لا على كيفيتها وخصوصيّتها ، وهذا بخلاف مسألة الوضوء بالماء البارد التي قد عرفت خروجها عن موضع النزاع وانّه لا إشكال في صحّته لأنّ التبريد إنّما هو أثر استعمال الماء البارد في الوضوء لا نفس طبيعته .
وامّا القسم الثاني فهو من مصاديق اجتماع الأمر والنهي ، وقد عرفت الإشارة إلى بطلان مورد الاجتماع فيما إذا كان عبادة حتّى بناء على القول بالجوازـ كما هو مقتضى التحقيقـ ومنشأه استحالة أن يكون فعل واحد مقرّباً من جهة ومبعّداً من جهة اُخرى ولكن مرّت الإشارة أيضاً إلى عدم خلوّها عن المناقشة ، وقد نبّهنا عليها في الاُصول ، هذا كلّه فيما تقتضيه القاعدة في الرياء مع قطع النظر عن ملاحظة الأخبار الواردة فيها .
وامّا مع ملاحظتها فالتكلّم فيها يقع من جهات :
1ـ من جهة انّ المحرّم في باب الرياء هل هو نفس العمل أو القصد؟
2ـ من جهة انّه هل يستلزم الرياء بطلان العبادة من رأس أو يوجب سقوطها عن مرتبة القبول بمعنى ترتب الثواب عليها كما هو المحكيّ عن المرتضى(قدس سره)؟
الصفحة 283
3ـ من جهة انّ المحرّم هل هو الرياء في خصوص العبادة أو مطلق الرياء ولو كان في الكمالات الاُخر؟
4ـ من جهة شمول أخبار الباب لجميع الصور المتقدّمة : ممّا إذا كان الرياء في أصل العمل ، أو في أجزائه الواجبة ، أو في الأجزاء المستحبّة ، أو في كيفيته وخصوصياته ، أو اختصاصها ببعض الصور المذكورة؟
5ـ من جهة شمولها لجميع الأقسام الأربعة المتقدّمة وهي ما إذا كان داعي القربة مستقلاًّ والداعي النفساني تبعاً ، والعكس ، وما إذا كان الداعيان جزئين للمؤثر بنحو الاستقلال أو بغيره ، وعدمه؟
ثم لا يخفى انّه لا يترتّب على التكلّم في الأخبار من الجهة الثالثة الراجعة إلى أنّ المحرّم هل هو الرياء في خصوص العبادة أو مطلقاً كثير فائدة لأنّه على فرض دلالة الأخبار على التحريم مطلقاً لا يمكن الالتزام بذلك للزوم كون أغلب أعمال كثير من أرباب الكمالات حراماً لأنّهم لا يقصدون منها إلاّ إظهار كمالهم تحصيلاً للمحبوبية عند الناس ، مضافاً إلى انّه لو كان مثل ذلك محرّماً لكانت حرمته بديهيّة عند المتشرّعة لعموم البلوى وشدّة الحاجة ، فلو فرض دلالة الأخبار عليه فلابدّ من رفع اليد عن ظاهرها كما لا يخفى .
وامّا المناقشة في الجهة الثانية التي ترجع إلى أنّ الرياء هل يوجب البطلان من رأس أو السقوط عن مرتبة القبول ، من حيث عدم معقولية كون العمل صحيحاً ومع ذلك كان غير مقبول نظراً إلى انّ معنى صحّة العمل كونه موافقاً للمأمور به فكيف يمكن أن يكون مردوداً مع اشتماله على جميع ما يعتبر فيه فغير سديدة لأنّ اشتمال العمل على مجرّد شروط الصحّة لا يترتّب عليه إلاّ مجرّد رفع العقاب الذي يستحقّه العامل بسبب المخالفة ، وامّا ترتّب الثواب عليه أيضاً فلم يدلّ عليه دليل
الصفحة 284
ومن الممكن أن يكون ترتّب الثواب على عمل مشروطاً بما لا يشترط في صحّته أيضاً كما ربّما يستفاد ذلك من الأخبار فإنّ فيها ما يدلّ على أنّه قد يتقبّل الله نصف الصلاة أو ثلثهاـ مثلاًـ ومن المعلوم انّ توصيف بعض الأجزاء بالصحّة دون البعض الآخر ممّا لا يكاد يصحّ ضرورة انّ الصلاة امّا أن تقع صحيحة بتمامها وامّا أن تقع باطلة كذلك .
وبالجملة فالإشكال في انفكاك القبول عن الصحّة وكونه أخصّ بالإضافة إليها ممّا لا ينبغي ولكن مع ذلك لا يترتّب على النزاع في هذه الجهة كثير فائدة بعد ظهور الأخبار قاطبة في بطلان العبادة رأساً كما انّ النزاع في الجهة الاُولى مع ظهور جلّ الأخبار لولا الكلّ في حرمة نفس العمل أيضاً كذلك فالبحث في هاتين الجهتين ليس بمهمّ .
انّما المهمّ هما الجهتان الأخيرتان فنقول : قد يقالـ كما قيلـ بعدم بطلان العبادة فيما إذا كان الرياء موجباً لترجيح فرد من بين سائر أفراد طبيعة الطاعة كما إذا صلّى بمحضر من الناس نظراً إلى أنّ مدلول الأخبار انّ ما يكون محرّماً هو إظهار العبادة على خلاف ما في السريرة بمعنى انّه يظهر للناس كون العمل خالصاً لوجه الله ولم يكن كذلك في الواقع ، فلا يدخل فيها من يظهر العمل الخالص لله لغرض نفساني ، وبعبارة اُخرى : لم يظهر من أخبار الباب فساد العمل من جهة إظهار ما في سريرته واقعاً بل الفساد فيما أظهر ما لم يكن في سريرته .
ولكن الظاهر دلالة بعض الروايات على البطلان في هذه الصورة أيضاً وهو ما رواه ابن محبوب عن داود عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : من أظهر للناس ما يحبّ الله عزّوجلّ وبارز الله بما كرهه لقى الله وهو ماقت له . حيث إنّ ظاهره انّ الممقوت هو إظهار ما يحبّه الله وهو العمل الخالص ومع عدم الخلوص لا يكون محبوباً لله تعالى
الصفحة 285
أصلاً ، فالعبادة الخالصة من الرياء ونحوه إذا أظهرها للناسـ كما في هذه الروايةـ أو تزيّن بهاـ كما في نظيرهاـ يكون إظهارها والتزيّن بها ممقوتاً عند الله فتكون فاسدة .
ثمّ إنّه لا إشكال في دلالة الأخبار على بطلان العبادة في غير ما إذا كان الداعي النفساني ضعيفاً وداعي القربة قويّاً من الأقسام الأربعة المتقدّمة لأنّه عمل أدخل فيها رضا أحد من الناس ، وامّا في هذه الصورة وهي ما إذا كان داعي الطاعة في نفسه تامّاً مؤثِّراً مستقلاًّ ولكن كان في نفسه داع آخر ضعيف فالظاهر بمقتضى الأخبار بطلان العبادة فيها أيضاً لدلالتها على أنّ من عمل عملاً أدخل فيه رضا أحد من الناس فهو مشرك ، وقد عرفت انّ الداعيـ ولو بلغ من الضعف الغاية ، ومن القصور النهايةـ له تأثير في الشوق الذي تنبعث منه الإرادة الموجدة للفعل فهو أي الفعل معهـ أدخل فيه رضا غيره تعالى لا استناده إلى الإرادة الناشئة من الشوق المركّب من الداعيين معاً ، نعم السرور الذي ورد نفي البأس عنه في حسنة زرارة لا يكون داعياً مؤثّراً بوجه بل إنّما هو الاشتياق برؤية الناس عبادته فهو متأخّر عن تحقّق العبادة لا انّه مؤثِّر فيها وضميمة لداعي الطاعة أصلاً كما لا يخفى .
ثمّ إنّه لا إشكال أيضاً في دلالة الأخبار على بطلان عبادة المرائي فيما إذا كان ريائه في مجموع العمل ، وامّا الرياء في الأجزاء فشمول الأخبار له مبني على أنّ كلّ واحد من أجزاء العبادة هل هو عمل مستقلّ فالعبادةـ حينئذـ مركّبة من أعمال متعدّدة ، أو انّها بأجمعها عمل واحد؟ فعلى الأوّل لا دلالة للأخبار إلاّ على بطلان الجزء الذي وقع الرياء فيه فلابدّـ حينئذـ في استفادة حكم مجموع العبادةـ صحّةً وبطلاناًـ من الرجوع إلى القاعدة وقد عرفت مقتضاها ، وعلى الثاني يستفاد من الأخبار بطلان مجموع العبادة لأنّه يصدق عليه انّه أدخل فيه رضا غيره تعالى فهو مشرك .
الصفحة 286
والظاهر هو الوجه الثاني; لأنّ الصلاة ونظائرها عند المتشرّعة عمل واحد يفتتح بالتكبير ويختتم بالتسليم ولا يكون كلّ واحد من أجزائها عملاً مستقلاً بنظرهم وهذا بخلاف الحجّ وأشباهه فإنّ كلّ واحد من أجزائه عمل بحياله وعبادة مستقلّة ، والفارق بينهما من هذه الجهة هو عرف المتشرّعة ، وـ حينئذـ فالاستناد في كون أجزاء الصلاة أعمالاً مستقلّة إلى الحجّـ كما في المصباحـ لا مجال له بوجه ، فالحقّ بطلان الصلاة بالرياء في أجزائها مطلقاً لأنّه يصدق بنظر العرف انّه عمل له تعالى ولغيره ، بل التعبير بأنّ من عمل عملاً أدخل فيه رضا أحد من الناس فهو مشرك كالصريح في الدلالة على بطلان العبادة بالرياء في أجزائها لأنّ الإدخال في العمل لا يتحقق إلاّ بكون العمل ظرفاً للمدخل وهو رضا الغير في المقام ، وظرفيّته له إنّما هي بكونه داخلاً فيه ، وهو لا ينطبق إلاّ على الرياء في الأجزاء ، هذا كلّه بالنسبة إلى الرياء في أصل العمل وأجزائه .
وأمّا الرياء في خصوصياته وكيفيّاته فإن كانت تلك الكيفيّة متّحدة مع العبادة في الوجود الخارجي كإيقاعها في المسجد رياء ، أو الرياء بالإضافة إلى الكون فيه فالظاهر بطلان العبادة من رأس ، ومن هذا القبيل صلوة المعتكف رياء فإنّ الكون في الكون في المسجد يصير حينئذ محرّماً أو المفروض إتّحاده مع الصلوة فتفسد ، وكذا الوضوء مستقبلا للقبلة ـ بناء على كون الاستقبال شرطاً في كماله ـ وأمّا بناء على كونه مستحبّاً مسقلا وظرفه الوضوء فارياء فيه لا يسري إلى أصل الوضوء حتّى يفسده وكذا المضمضة والاستنشاق المستحبّان قبل الوضوء فإنّ الرياء فيهما يوجب بطلانه لو قلنا بكونهما شرطين في كماله ، وكذا سائر الكيفيّات المتّحدة مع العبادة كهيئة التخضّع والتخشّع المستحبّة في الصلاة ، وإن لم تكن الكيفيّة متّحدة مع العبادة كما إذا رائى فى التحنّك لا في الصلاة معه فذلك لا يوجب بطلانها ، ومنه ما إذا
الصفحة 287
قرأ الفاتحة مع التجويد رياء وإظهاراً أنّه يحسن القراءة ويكون عارفاً بالتجويد ، وأمّا إذا رجع رياءه فيه إرى الرياء في العبادة بحيث كان مقصوده إرائة انّه يصلّي كذلك فالظاهر بطلانها .
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا بطلان العبادة مع الرياءـ بملاحظة الأخبار الواردة فيهـ بجميع الأقسام إلاّ في خصوص قسم واحد وهو الخصوصيات غير المتّحدة مع العبادة إذا لم يرجع إلى الرياء في نفس العبادة .
(تذنيب)
ذكر الشيخ(قدس سره) في تفسير الرياء ما ملخّصه : «إنّ الرياء كما ذكره بعض علماء الأخلاق طلب المنزلة عند غيره تعالى ، وظاهره الاختصاص بداعي مدح الناس ، فلو قصد بذلك رفع الذمّ عن نفسه كما إذا راعى في القراءة آدابها غير الواجبة دفعاً لنسبة النقص إليه بجهله بطريق القرّاء لم يكن بذلك بأس ، وظاهر الأخبار الواردة في باب الرياء أيضاً الاختصاص بذلك ، نعم لو كان دفع الضرر داعياً مستقلاًّ إلى أصل العمل دون خصوصياته فسد ، ولو كان جزء الداعي فحكمه حكم الضميمة المباحة لأنّه أحد أفرادها ، وعلى هذا فمطلق الرياء ليس محرّماً لأنّ التوصّل إلى دفع الضرر ولو بطلب المنزلة عند الناس لا دليل على تحريمه بل قد يجب ، وظاهر الأخبار حرمة الرياء بقول مطلق ، والأجود تخصيصه بما هو ظاهر التعريف الأوّل ، فدفع الضرر من الضمائم غير المحرّمة ، نعم يبقى على ما ذكرنا طلب المنزلة عند الناس لتحصيل غاية راجحة كترويج الحقّ وإماتة الباطل ، والظاهر عدم دخوله في الرياء لأنّ مرجعه إلى طلب المنزلة عند الله ، ولو نوقش في الصدق منعنا حرمته لأنّ حرمة الرياء معارضة بعموم رجحان تلك الغاية» .
والظاهرـ كما اعترف به في ذيل كلامهـ إطلاق أدلّة الرياء وشمولها لما إذا قصد به
الصفحة 288
رفع المذمّة عن نفسه أيضاً ، وـ حينئذـ نقول : إنّ كلام ذلك البعض لا يصلح مخصّصاً له والمفروض انّه لا دليل على التخصيص سواه فلا مناص من الأخذ بالإطلاق والحكم بالحرمة كذلك .
وامّا ما أفاده في الذيل من انه لو جعل طلب المنزلة طريقاً إلى تحصيل غاية راجحة فلا يكون ذلك رياءً أصلاً فيرد عليه منع ذلك وظهور ثبوت الإطلاق للأخبار بالإضافة إليه أيضاً ، وتعارضها مع عموم رجحان تلك الغاية لا يوجب انتفاء حرمته لأنّه لو كانت تلك الغاية الراجحة مستحبّة فمن الواضح انّ جانب الحرمة يرجّح عليها ، وإن كانت واجبة فالواجب مراعاة قواعد باب التعارض والرجوع إلى المرجّحات ومع عدمها فإلى التخيير ، ولو فرض كون المقام من مصاديق باب التزاحم فيبتنى على إحراز أهمّية تلك الغاية بالإضافة إلى ترك الواجب والإتيان بالمحرّم هذا كلّه في الرياء .
وامّا السمعة التي معناها أن يقصد بالعمل سماع الناس به فيعظم مرتبته عندهم بسببه فحكمها حكم الرياء في جميع ما تقدّم ، بل هي من أفراده وكثير من الأخبار الواردة في باب الرياء يشملها بل بعضها صريح في ذلك فليراجع .
(العجب)
والكلام فيه يقع من جهات :
الجهة الاُولى : في حقيقته ومعناه ، والظاهر انّه عبارة عن إعظام الإنسان نعمة أو عملاً أو اعتقاداً أو غيرها ممّا يحسبه المعجب فضيلة عظيمة ، وربّما يتحقّق بالنسبة إلى بعض الأعمال القبيحة والرذائل التي يرتكبها المعجب ، فيعجب بها ويزعمها كمالاً وفضيلة ، ولا يخفى انّ هذه الصفة كالتكبّر والحسد ونحوهما من رذائل الأخلاق وتكون من المهلكات ، ومنشأه الركون إلى عمل نفسه والغفلة عن حقيقة
الصفحة 289
شخصه وعن أعمال العباد الصالحين والأولياء والمقرّبين ، إذ بالتفكّر فيها يعلم بأنّ عمله في مقابل أعمالهم لا يعدّ شيئاً ولا ينبغي أن يحسب عملاً فضلاً عن كونه فضيلة .
الجهة الثانية : في انّه هل يكون أمراً اختيارياً قابلاً لتعلّق التكليف به أم لا؟ والظاهر انّه لا يكون أمراً اختيارياً بمعنى أن تكون علّة وجوده الإرادة نظير أفعال الجوارح الاختيارية الصادرة من الإنسان بحيث توجد بالإرادة ، بل له مباد في النفس يوجد بوجودها قهراً وينتفي بانتفائها كذلك نظير الحسد ونحوه من الصفات الرذيلة ، نعم نفس تلك المبادئ يكون من الاُمور الاختيارية بمعنى انّه تمكن إزالتها بالتفكّر والارتياض ، فتعلّق التكليف به لابدّ وأن يرجع إلى تلك المبادئ كما هو ظاهر .
الجهة الثالثة : في انّه هل يمكن أن يكون العجب المتأخّر عن العمل وكذا الرياء المتأخّر عنه مفسداً له أو لا يمكن؟ قد يقالـ كما في المصباح ـ بعدم الإمكان نظراً إلى أنّ اعتبار عدم العجب المتأخّر امّا أن يكون من قبيل الشروط بمعنى انّ عدم العجب المتأخّر يكون شرطاً في سببيّة الصلاة السابقة لإسقاط أمرها كالإجازة في الفضوليـ بناءً على القول بكونها ناقلةـ وامّا أن يكون من قبيل اعتبار الوصف الموجود في الشيء المنتزع من وجود الأمر المتأخّر كالإجازةـ بناءً على الكشف الحقيقيـ وكلاهما غير معقول في المقام :
امّا الأوّل فلأنّ شرطية العدم مرجعها إلى مانعية الوجود ، ولا يعقل التمانع بين الشيء وما يتأخّر عنه في الوجود ، فتأثير العجب المتأخّر نظير الحدث الواقع عقيب الصلاة في إبطال ما وقع ، غير معقول ، وهذا بخلاف ما إذا كان الشرط أمراً وجودياً ذا أثر فإنّه يعقل أن يتوقّف تأثير السبب الناقص على الوجود المتأخّر عنه
الصفحة 290
كالإجازة في المثال .
وامّا الثاني فوجهه واضح; لأنّ الأمر بالصلاة مطلق فلا يعقل اختصاص الصحّة بفعل بعض دون بعض لأنّ الأمر يقتضي الاجزاء عقلاً .
ولكنّك خبير بأنّ ما أفاده من عدم معقولية التمانع بين الشيء وما يتأخّر عنه في الوجود إنّما يتمّ في التكوينيات ونحن نزيد عليه عدم معقولية جعل المتأخّر شرطاً أيضاً ولو كان أمراً وجودياً لأنّه لا يعقل أن يؤثر الأمر المعدوم بعد وجود الشرط إذ المفروض كون الشرط معدوماً حين وجود شرطه وإلاّ يصير شرطاً مقارناً و ـ حينئذـ كيف يعقل أن يؤثر المشروط المعدوم حين تحقّق شرطه ، ولازم ذلك بطلان القول بكون الإجازة ناقلة ، إذ العقد المركّب من الألفاظ المخصوصة التي شأنها الانعدام بمجرّد التحقّق لا يكون باقياً حقيقة عند الإجازة فكيف يؤثّر في الملكية بل تصير دائرة الإشكال أوسع من ذلك ويكون لازمه بطلان كلّ عقد إذ تأثير الإيجاب متوقّف على تحقّق القبول بعده ومن المعلوم انعدامه وانصرامه حينه فكيف يؤثِّر ما ليس بموجود فعلاً .
والحلّ انّ ذلك كلّه إنّما هو في الاُمور التكوينية ، وامّا الاُمور الاعتبارية كالعبادات والمعاملات فهي تدور مدار الاعتبار ، وـ حينئذـ لا إشكال في أن يكون تأثير السبب الاعتباري متوقّفاً على الشرط المتأخّر بحسب الاعتبار بمعنى انّ العقلاء لا يعتبرون الملكيةـ مثلاًـ في عقد الفضولي بمجرّد العقد ، بل بعد تحقّق الإجازة من المالك فكأنّهم يرون العقد أمراً باقياً إلى حين الإجازة ، وعليه فلو فرض الدليل على مانعية العجب المتأخّر يصير معناه عدم تحقّق الصلاة بنظر الشارع إلاّ فيما لو لم يتعقّبها عجب أو رياء مثلاً ، ويكون العجب المتأخّر مانعاً عن تحقّق الصلاة باعتبار الشارع .
الصفحة 291
ويردن على الأمر الثاني لعدم المعقولية وهو انّ الأمر يقتضي الاجزاء عقلاً انّ كلامنا إنّما هو بعد فرض وجود الدليل على مبطلية العجب المتأخّر وـ حينئذ ـ فكيف يكون الأمر بالصلاة مطلقاً؟! بل المأمور به إنّما هي الصلاة التي لا يعرضها العُجب ، فعروضه يكشف عن عدم تحقّق المأمور به بجميع ما اعتبر فيه فلا وجه لأن يكون مجزياً ولعمري انّ هذا واضح جدّاً ودعوى وضوح خلافه كما عرفت في كلامه بعيدة عن مقامه .
الجهة الرابعة : في مفاد الأخبار من حيث حرمة العجب وكونه مفسداً للعمل ، فنقول : امّا الحرمة فلا يستفاد من شيء منها على اختلاف مضامينها كما يظهر لمن راجعها ، وامّا الإفساد فربما يتوهّم انّه تدلّ عليه رواية يونس بن عمّار عن الصادق(عليه السلام) قال : قيل له وأنا حاضر : الرجل يكون في صلاته خالياً فيدخله العجب؟ فقال : إذا كان أوّل صلاته بنيّة يريد بها ربّه فلا يضرّه ما دخله بعد ذلك فليمض في صلاته وليخش (وليخسأ) الشيطان . نظراً إلى أنّ مفهومها يدلّ على المطلوب ، ومنطوقها على عدم الإفساد لو وقع في الأثناء .
وقد حكى الاستدلال بهذه الرواية عن صاحب الجواهر(قدس سره) ولكنّه اعترض عليه في المصباح بما حاصله : «انّ هذا لا يخلو عن غفلة لابتنائه على اعتبار مفهوم اللقب وتقديمه على اظهر المنطوق في الشرطية وهو سببيّة الشرط للجزاء ، بيانه انّ قوله(عليه السلام) : فلا يضرّه ما دخله بعد ذلك ، لا يكون جزاء للشرط لعدم صلاحيته لذلك لأنّه يلزم أن يكون مفاد القضية بحسب المفهوم انّ العجب الذي يدخله بعد ذلك يضرّه على تقدير فقد الإخلاص في النيّة وهو غير صحيح لأنّ التضرّر على هذا التقدير يحصل من فقد الإخلاص لا من العجب الذي دخله بعد ذلك وـ حينئذ ـ فالجملة جملة خبرية سادّة مسدّ الجزاء ، والتقدير : إذا كان أوّل صلاته بنيّة يريد
الصفحة 292
بها ربّه فصلاته صحيحة وتلك الجملة متفرّعة عليه وـ حينئذـ فظاهر القضية الشرطية الدالّة على سببية الشرط للجزاء انّ العلّة لصحّة الصلاة هو الإخلاص ولا يضرّ بها العجب ، نعم قوله(عليه السلام) : فلا يضرّه بعد ذلك يدلّ بمفهومه على انّ العجب لو وقع عند الشروع يكون مضرّاً ، ولكن هذا من قبيل مفهوم اللقب وقد بيّن في الاُصول عدم الاعتداد به» .
أقول : وكان صاحب الجواهر(قدس سره) زعم انّ نيّة الرب تنافي العجب فتخيّل انّ مدلول الرواية بحسب المفهوم : انّه إن لم يكن أوّل صلاته بنيّة الرّب بمعنى كونه معجباً فلا يضرّه العجب الواقع في الأثناء ، مع انّه مضافاً إلى انّه لا تنافي بينهما أصلاً ضرورة انّ العجب لا يكون من قبيل الدواعي الباعثة على العملـ يرد عليه انّ فقدان نيّة الرّب ولو كان في الأثناء يضرّ بالصلاة ضرورة اعتبار استدامة نيّة القربة إلى آخر الصلاة .
والإنصاف في معنى الروايةـ بعد عدم ثبوت المنافاة بينهماـ أن يقال : إنّ الشرط في القضية مسوق لبيان تحقّق الموضوع ويكون معنى الرواية هكذا : إذا كان قد دخل في الصلاة صحيحاً يعني إذا كانت صلاته صحيحة من سائر الجهات فلا يضرّه العجب أصلاً . وقد بيّن في محلّه انّ هذا النحو من القضايا الشرطية ليس لها مفهوم أصلاً كقوله : إن رزقت ولداً فاختنه ، أو إن ركب الأمير فخذ ركابه ونحوهما من الأمثلة ، فالرواية تدلّ بمنطوقها على عدم كون العجب مفسداً للعمل . وقد تحصّل ممّا ذكرنا انّ العجب لا يكون موضوعاً للحرمة مطلقاًـ التكليفية والوضعية ـ .
3ـ الضمائم الراجحة
وليعلم أوّلاً انّ فرض الضميمة إنّما هو فيما إذا كان قصد الأمر الآخرـ مباحاً كان
الصفحة 293
أو محرّماً أو راجحاًـ داعياً أيضاً إلى نفس طبيعة المأمور به وأصل الفعل العبادي ، وامّا إذا صار داعياً إلى شيء آخر غير نفس الفعل فلا يتحقّق فرض الضميمة وقد عرفت في صدر المبحث تفصيل ذلك وـ حينئذـ فما ذكروه من المثال في المقام تقريباً لعدم كون الضميمة الراجحة مبطلة وهو ما إذا تصدّق على المؤمن الهاشمي العالم ـ مثلاًـ قاصداً به امتثال الأوامر المتعدّدة المختلفة المتعلّقة بإكرام العالم وإكرام الهاشمي وإكرام المؤمن فإنّه يتحقّق امتثال الجميع بلا ريب ، خارج عن باب الضميمة ولا ارتباط له بها لأنّ الداعي على إكرام العالم إنّما هو خصوص العمل المتعلّق به وكذا إكرام الهاشمي والمؤمن فإنّ الداعي له على كلّ منهما إنّما هو نفس الأمر المتعلّق به ضرورة انّه لا يعقل أن يكون الأمر المتعلّق بإكرام العالم داعياً إلى إكرام الهاشمي لأنّ الأمر لا يكاد يدعو إلى خصوص متعلّقه ، فداعي الإتيان بكل واحد من المتعلّقات إنّما هو خصوص أمره بلا ضميمة شيء آخر .
وكذا ما جعلوه مثالاً لضميمة الراجحة وهو الضوء بقصد التعليمـ مثلاًـ لا يرتبط بباب الضميمة لأنّ داعي التعليم فيما يتوضّأ بقصده إنّما يدعوه إلى إيجاد صورة الوضوء ضرورة انّ التعليم لا يتوقّف على عنوان الوضوء المتوقّف على القصد ، ومن المعلوم انّ الواجب إنّما هو عنوان الوضوء لأنّ مجرّد الغسلتين والمسحتين لا يتّصف بهذا العنوان لو لم يتحقّق قصده ، فالأمر إنّما يدعو المكلّف إلى عنوان الوضوء ، وداعي التعليم إنّما يدعوه إلى إيجاد صورته ، فيما يتوضّأ بقصد التعليم أيضاً فمدعواهما مختلف فانقدح خروج مثل هذا المثال عن باب الضميمة .
نعم في المثال السابق لو فرضنا قصور تلك الأوامر المتعدّدة عن أن يصير كلّ واحد منها داعياً مستقلاًّ للمكلّف إلى إتيان متعلّقه بمعنى انّ المكلّف لا يتحرّك عن كلّ منها مع قطع النظر عن الباقي ، بل المجموع صار داعياً إلى إكرام من ينطبق عليه
الصفحة 294
جميع تلك العناوين يتحقّق الضميمة لأنّ المفروض انّ الباعث له على إكرام ذلك الشخص إنّما هو مجموع الأوامر المتعدّدة المتعلّق كلّ واحد منها بغير ما تعلّق به الآخر .
لا يقال : إنّ المجموع لا يكاد أمراً آخر وراء مفرداته وأجزائه فبعدما لم تكن مفرداته داعية ومحرّكة لهـ كما هو المفروضـ لا يكون هنا شيء آخر يكون هو الداعي والباعث .
لأنّا نقول : قد عرفت سابقاً انّ الإنبعاث لا يكون مستنداً إلى نفس البعث الخارجي ، بل إنّما ينشأ من تصوّره مع ما يترتّب على مخالفته وموافقته من المثوبة والعقوبة ، ومن المعلوم انّه يمكن تصوّر الأوامر المتعدّدة ولحاظها شيئاً واحداً ثم تحقّق الانبعاث الناشئ من ذلك الشيء ، ولا يخفى انّ الحكم في هذا الفرض الذي يكون مصداقاً للضميمةـ ولا يكون خارجاً عن بابهاـ هي صحّة العبادة وتحقّق امتثال جميع الأوامر المتعدّدة لأنّه لا دليل على اعتبار أزيد من كون العمل لله تعالى من دون مدخلية داع نفساني في إيجاده ، وامّا اعتبار أن يكون كلّ أمر داعياً مستقلاًّ للمكلّف إلى إتيان متعلّقه بحيث كان مرجعه إلى لزوم عدم اشتراك أمرين أو أكثر في مقام الدعوة فلا يستفاد من دليل أصلاً فتأمّل في المقام فانّه قد وقع فيه الخلط من الأعلام وعلى الله التوكّل وبه الاعتصام .
الصفحة 295
مسألة 18ـ لا يعتبر في النيّة التلفّظ ولا الاخطار في القلب تفصيلاً بل يكفي فيها الإرادة الإجمالية المرتكزة في النفس بحيث لو سئل عن شغله يقول أتوضأ ، وهذه هي التي يسمّونها بالداعي ، نعم لو شرع في العمل ثم ذهل عنه وغفل بالمرّة بحيث لو سئل عن شغله بقي متحيّراً ولا يدري ما يصنع يكون عملاً بلا نيّة1 .
قد ادّعى الاتّفاق على عدم اعتبار التلفّظ بالنيّة بل عن صريح جماعة عدم استحبابه أيضاً ، بل ظاهر محكيّ الذكرى الإجماع عليه ، بل عن التبيان في الصلاة : الأقرب انّه مكروه ولعلّ الكراهة باعتبار انتفاء المقارنة بينها وبين العبادة أحياناً ولكن ذلك لا يوجب ثبوت الكراهة باعتبار انتفاء المقارنة بينها وبين العبادة أحياناً ولكن ذلك لا يوجب ثبوت الكراهة كما لا يخفى .
وكيف كان فعمدة الوجه لعدم اعتبار التلفّظ بالنيّة عدم الدليل عليه وخلوّ الشرع عنه فلا وجه لتوهّم الاعتبار .
وامّا الإخطار بالقلب تفصيلاً فربّما نسب إلى المشهور حيث حكى عنهم انّ النيّة المعتبرة في العبادات هي الإرادة التفصيلية المتعلّقة بالصورة التي اخطرت في القلب والظاهر إنّه لا دليل لهم عليه إذ العبادية التي هي الأساس في هذه المباحث لا تقتضي إلاّ مجرّد كون الفعل اختيارياً صادراً عن إرادة الفاعل بداعي تعلّق الأمر به وهذا كما يتحقّق بالإرادة التفصيلة المذكورة كذلك تتحقّق بالإرادة الإجمالية المرتكزة في النفس بحيث لو سئل عن شغله يقول : أتوضّأـ مثلاًـ وهي التي تسمّى في كلماتهم بالداعي ، والشاهد له ما سيجيء من الاكتفاء بالإرادة الإجمالية بالإضافة إلى البقاء وإن كان الحدوث مقروناً بالإرادة التفصيليّة مع انّه من الواضح انّه لا فرق بين الأوّل والأثناء والآخر فيما يرجع إلى معنى العبادة وما هو المعتبر فيها
الصفحة 296
فإذا كانت تكفي الإرادة الإجمالية بالإضافة إلى الأثناء والآخر فلابدّ وأن تكون كافية بالنسبة إلى الأول أيضاً لعدم الفرق على ما عرفت .
نعم لو شرع في العمل ثم ذهل عنه وغفل بالمرّة بحيث لو سئل عن شغله بقي متحيّراً ولا يدري ما يصنع فالظاهر عدم الكفاية لأنّ ذلك كاشف عن انتفاء الإرادة رأساً وإلاّ لامتنع الجهل بها مع الالتفات الحاصل بالسؤال ، ولكن عبارة المتن غير خالية عن المسامحة لأنّ هذه المسألة مسوقة لبيان خصوصية النيّة المقارنة للحدوث ، وامّا اعتبار الاستمرار فهو مذكور في المسألة الآتية مع انّ التعبير بالشروع في العمل ثم الذهول والغفلة لا يكاد يجتمع مع ذلك إلاّ أن يكون المراد هو الشروع في مقدّمات العمل لا في نفسه ، كما انّه يمكن المناقشة في إطلاق القول بكون العمل بلا نيّة في هذا الفرض نظراً إلى انّه قد لا يكون الذهول والغفلة غير الزائل عند الالتفات الحاصل بالسؤال منافياً لثبوت الإرادة الارتكازية الحاصلة في النفس ، بل كان عروض بعض العوارض موجباً للذهول عنها رأساً ولو عند السؤال فإذا ارتفع يظهر ثبوتها وانّه كان عمله العبادي لأجل الداعي الصحيح وثبوت قصد القربة فانّه لا يبعد الحكم بالصحّة في هذه الصورة فتدبّر .
الصفحة 297
مسألة 19ـ كما تجب النيّة في أوّل العمل كذلك يجب استدامتها إلى آخره ، فلو تردّد أو نوى العدم وأتمّ الوضوء على هذه الحال بطل ، ولو عدل إلى النيّة الاُولى قبل فوات الموالاة وضمّ إلى ما أتى به مع النيّة بقيّة الأفعال صح1 .
1ـ قد عرفت انّه لا فرق بين أجزاء العبادةـ أوّلاً وآخراًـ فيما يرجع إلى جهة العبادية وما هو المعتبر فيها فكما تجب النيّة في أوّل العمل كذلك تجب استدامتها إلى آخره ، نعم لا فرق بين أن تكون النيّتان مختلفتين من حيث الإجمال والتفصيل أو غير مختلفتين فيمكن أن يكون الشروع مقروناً بالإرادة التفصيلية والاستدامة مقرونة بالإرادة الإجمالية كما لعلّه الغالب أو العكس .
وكيف كان فلو تردّد في الاستدامة أو نوى العدم وأتمّ الوضوء على هذه الحال بطل لا لأجل عدم الإتمام بل لأجل فقدان الأجزاء المتمّمة للنيّة المعتبرة وهي نيّة الوضوء والإتيان بداعي الأمر ، نعم لو عدل إلى النيّة الاُولى قبل فوات الموالاة بالمعنى المتقدّم وأتى بباقي الأجزاء مع النيّة لا وجه للحكم بالبطلان لأنّه لا يعتبر في العبادة استمرار النيّة بعنوانه ، بل المعتبر إنّما هو صدور كلّ جزء منها عن الإرادة المعتبرة فيها ولو بان تعود بعد الزوال وهذا في مثل الوضوء واضح ، نعم في مثل الصوم الذي حقيقته الإمساك في جميع اليوم مع النيّة ربّما يكون التردّد أو نيّة العدم منافياً لكون الإمساك في جميع اليوم مع النيّة ربّما يكون التردّد أو نيّة العدم منافياً لكون الإمساك في جميع الآنات عن نيّة فيبطل الصوم لأجل ذلك ، كما انّه في باب الصلاة يمكن أن يقال بأنّ التردّد أو نيّة العدم يكون قادحاً لعدم كون الآنات المتخلّلة خارجة عن الصلاة فيجب وجود النيّة في تلك الآنات أيضاً ، وامّا في باب الوضوء فلا يقدح لك لعدم كونه غير الغسلتين والمسحتين مع النيّة فتدبّر .
الصفحة 298
مسألة 20ـ يكفي في النيّة قصد القربة ، ولا تجب نيّة الوجوب أو الندب لا وصفاً ولا غاية ، فلا يلزم أن يقصد انّي أتوضّأ الوضوء الواجب عليَّ ، بل لو نوى الوجوب في موضع الندب أو العكس اشتباهاً بعدما كان قاصداً للقربة والامتثال على أي حال كفى وصحّ1 .
1ـ قد مرّ سابقاً انّه لا يجب الإتيان بالفعل العبادي لغاية وجوبه أو استحبابه أو وجههما ضرورة انّه لا ينبغي أن يشكّ أحد في تحقّق الامتثال بالنسبة إلى المكلّف الذي يعلم بتوجّه الأمر إليه ولكنّه لا يعلم انّه للوجوب أو للاستحباب فأتى به بداعي الأمر المتعلّق به بل لو نوى الاستحباب فيما كان للوجوب أو الوجوب فيما كان للاستحباب فذلك لا يضرّ بصحّة إطاعته لأنّ نيّة الخلاف لا تؤثّر في تغيير الشيء عمّا هو عليه في الواقع فبعد كون المفروض انّ الدّاعي له إلى العمل إنّما هو ملاحظة أمر المولى الذي هو موجود شخصي لا يمكن أن يقع على وجوه متعدّدة فلا مانع من صحّة عبادته وتخيّل كونه للاستحباب فيما كان للوجوب أو العكس لا يؤثّر في ذلك الأمر الموجود .
ولكن حكى عن المشهور اعتبار نيّة الوجوب أو الندب وصفاً ، ومنشأه إن كان هو توقّف الامتثال عليه فقد عرفت عدم التوقّف وتحقّه فيما لم يعلم كون الأمر المتوجّه إليه للوجوب أو الاستحباب سواء كان عاجزاً عن المعرفة أو لم يكن ، ودعوى انّ حصول الامتثال في صورة العجز إنّما هو للعجز مدفوعة بعدم كون العجز موجباً للفرق فهل يتوهّم أن يكون العجز عن الإتيان بالمأمور به رأساً موجباً لتحقّق الامتثال فالإنصاف بطلان هذا المنشأ .
وإن كان منشأه توقّف التّعيين عليه فيرد عليهـ مضافاً إلى أنّ ظاهرهم كون قصد التوجّه معتبراً في عرض التعيين وانّه أمر آخر ورائهـ انّك قد عرفت في بحث
الصفحة 299
التعيين عدم توقّف تمييز المأمور به عن غيره على تقييده بوصف خصوصية أمره من الوجوب أو الاستحباب فغسل الجمعةـ مثلاًـ الذي نوى الإتيان به بداعي أمره متميّز عن غيره ولا يكون فيه اخبهام بوجه وإن لم يقصد وصف الاستحباب أيضاً .
وإن كان منشأه قاعدة الاشتغال الجارية هنا حتّى بناء على البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيين لأنّ الشكّ في وجوب نيّة ذلك لا يكون شكّاً في التكليف الشرعي لخروج النيّة المذكورة عن حيّز الطلب ، وإنّما الشكّ في تحقّق الامتثال المعتبر عقلاً فيرد عليهـ مضافاً إلى انّه على القول بإمكان الأخذ في المتعلّقـ كما هو مقتضى التحقيقـ لا ريب في جريان البراءة العقلية لأنّه يصيرـ حينئذـ كسائر القيود العرضية فيتحقّق موضوع البراءة الذي هو قبح العقاب بلا بيانـ انّه على القول بامتناع الأخذ أيضاً تجري البراءة العقلية كما في الأقل والأكثر الارتباطيين وإن قيل في الفرق بين المقامين بأنّ الشكّ في المقام في كيفية الخروج عن عهدة التكليف ثبوته فلا يكون العقاب على تركه عقاباً بلا بيان ، والشكّ في ذلك المقام في كمّية المتعلّق قلّة وكثرة ، فعليه البيان بجميع أجزائه وشرائطه . والوجه في جريان البراءة انّه لا معنى لسقوط الأمر إلاّ إيجاد ما أمر به المولى وبعث المكلّف إليه وتمّت الحجّة بالإضافة إليه فلو امتثل كذلك وأوجد ما تعلّق به العلم وما تمّ البيان عليه وقامت الحجّة عليه لا يتصوّرـ حينئذـ له البقاء على صفة الحجّية ، إذ لو كان دخيلاً في الطاعة وفي تحقّق المأمور به لما جاز له الكفّ عن البيان ولو بدليل آخر ، والاكتفاء بحكم العقل بالاشتغال في المقام مدفوع بأنّه بعد الغضّ عن انّ المورد داخل في مجرى البراءة انّما يفيد لو كان من الواضحات عند عامّة المكلّفين بحيث يصحّ الاتكال عليه لا في مثل المقام الذي هو محلّ البحث والكلام ، مع انّه لا فارق
الصفحة 300
بين المقامين فإنّ القائل بالاشتغال هناك يدّعي انّ الأمر بالأقلّ معلوم ونشكّ في سقوطه لأجل كون الأجزاء مرتبطةـ كما هو المفروضـ أو يقول إنّ الغرض المستكشف من الأمر معلوم ونشكّ في سقوطه بإتيان الأقلّ فيجب الإتيان بكلّ ما احتمل دخله في الغرض فلا يبقى فرق بينهما أصلاً . وقد حقّقنا في محلّه انّه كما تجري البراءة العقلية في المقام كذلك تجري البراءة الشرعية أيضاً فاعتبار نيّة الوجوب أو الندب وصفاً من طريق قاعدة الاشتغال لا يكاد يتمّ أيضاً .
وذهب جماعة إلى اعتبار نيّة الوجوب والندب غاية ، وعن الروضة انّه مشهور ، ولكنّه اُجيب عنه بأنّ المراد من الوجوب والندب إن كان هو الشرعيين منهماـ كما هو الظاهرـ فيمتنع جعلهما غاية للامتثال فضلاً عن وجوبه ، إذ الغاية ما تترتّب على المغيّى . ومن المعلوم انّ المترتّب على فعل الواجب والمندوب سقوط الوجوب والندب لا ثبوتهما فلابدّ أن يكون المراد من كونهما غاية إنّهما داعيان إلى ذات الفعل فيرجع قصدهما كذلك إلى قصد الأمر ويرجع القول باعتبارهما غاية إلى القول باعتبار قصد خصوصية الوجوب أو الندب في الأمر الداعي وانّه لا يكفي قصد مطلق الأمر المردّد بين الوجوبي والندبي وـ حينئذـ يجري فيه ما تقدّم في أخذهما وصفاً للفعل والكلام فيه هو الكلام هناك نفياً وإثباتاً ، ولو فرض كون المراد الدعوة إلى الفعل الصادر عن الأمر يكون الكلام فيه كسابقه .
وإن كان المراد من الوجوب والندب العقليين اللذين هما حسن الفعل مع قبح الترك ، أو لا مع قبحه فكونهما غاية لابدّ أن يكون المراد منه أيضاً ما عرفت من مجرّد الداعوية لا ما يترتّب على المغيّى وـ حينئذـ نقول أيضاً امّا أن يكون المراد الداعوية إلى ذات الفعل أو إلى الفعل الصادر عن داعوية الأمر الشرعي ، فإن كان الأوّل توقّف على القول بوجوب حسن المأمور به كما هو التحقيق لامتناع تعلّق
|