الصفحة 321
غايته حصول الظنّ بذلك ، ولا اعتبار به في فهم الرواية فاللاّزم الحكم بشمولها لجميع الأغسال المتعدّدة في الجملة ، وامّا ان كفايته عنها هل هي بنحو الإطلاق أو تختصّ بخصوص ما إذا نوى الجميع فلا تكون الرواية متعرّضة له أصلاً .
ولكن الدعوى مندفعة بأنّ ظاهر الصدر يأبى عن ذلكـ وإن كانت الجملة الثانية غير منافية لهـ لأنّ مفاده انّ الغسل الذي يمكن أن توقعه قبل الفجر إذا أوقعته بعده أجزاك . . . ومن الواضح انّ الغسل قبل الفجر إنّما يؤتى به لخصوص بعض الأسباب إذ لا يعقل الإتيان به بنيّة جميعها مع عدم تحقّق بعضها كما هو ظاهر .
وتوهّم انّه يمكن أن يكون قوله(عليه السلام) : للجنابة والجمعة . . . في الصدر ، ولجنابتها وإحرامها . . . في الذيل متعلّقاً بقوله : «غسلت ذلك» في الأوّل و«غسل واحد» في الثاني لا بقوله : اجزأك ، ويجزيها .
مندفع أيضاً بأنّه وإن كان ممكناً إلاّ انّ الفهم العرفي الذي هو الكاشف عن الظهور على خلافه كما يشهد به سياق الرواية مضافاً إلى انّه في الذيل قرينة على خلافه وهي قوله : غسلها من حيضها ، الذي هو معطوف على قوله : لجنابتها إذ لا معنى لتعلّقه بالغسل كما لا يخفى ، فالرواية تدلّ على كفاية الغسل بنيّة بعض الأسباب ـ جنابة كان أو غيرهاـ عن الجميع ، ولا حاجة إلى نيّتها بأجمعها .
ثمّ إنّه استشكل في إطلاق الروايةـ بناءً على القول به كما استفدناه منها بأنّ ظهور قوله(عليه السلام) : يجزيك ، في كون الكفاية رخصة لا عزيمة ينافي الإطلاق إذ لا يعقلـ مع الاكتفاء بغسل الجنابة مثلاً عن الأغسال الآخر ، المستلزم لحصول أغراضها ـ الترخيص في الإتيان بها بعده كما هو ظاهر .
وأنت خبير بما فيه :
امّا أوّلاً فلأنّا لا نسلّم ظهور «الأجزاء» في كون الكفاية رخصة كما يشهد به
الصفحة 322
ملاحظة موارد استعمال هذه الكلمة ، ألا ترى انّ الاُصوليين يعنونون في الاُصول مسألة الأجزاء الراجعة إلى أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء ، ومن المعلوم انّه ليس المراد به الكفاية بنحو الرخصة إذ لا يعقل تبديل الامتثال بامتثال آخرـ كما قد حقّق في محلّه ـ ودعوى كون مثله من الاستعمالات استعمالاً مسامحياً مجازياً لا يصغى إليها بوجه .
وامّا ثانياً فلأنّه على تقدير تسليم ظهور الاجزاء في كون الكفاية رخصة نقول : إنّه لا مانع عقلاً من أن يكون للطهارة مراتب ويكون الغسل بعنوان مخصوص مؤثِّراً في حصول المرتبة التي يؤثِّر سائر الأغسال في حصولها أيضاً ، وبسببه يسقط الأمر الوجوبي أو الاستحبابي المتعلّق بها لحصول غرضها ، ويكون الإتيان بها بعده مؤثِّراً في حصول مرتبة أقوى من تلك المرتبة يستحبّ تحصيلها نظير الوضوء على الوضوء الذي هو نور على نور ، فكما انّه لا مانعـ عقلاًـ من الأمر الوجوبي بغسل الجنابة مرّة والأمر الاستحبابي به ثانياً لأنّه يستكشف منه انّ الإتيان به ثانياً يوجب حصول مرتبة قوية من الطهارة مطلوبة للمولى استحباباً ، كذلك لا إشكال أصلاً في الاكتفاء بغسل واحد عن الأغسال المتعدّدة وكون الإتيان بها ثانياً مطلوباً استحبابيّاً للمولى مستفاداً ذلك من التعبير بالاجزاء كما لا يخفى .
هذا مضافاً إلى أنّ الإشكال لا ينحصر بالقول بكفاية الغسل بعنوان مخصوص عن الأغسال الكثيرة ، بل يجري على القول بكفاية الغسل بنيّة الجميع عن الجميع أيضاً ، ولكنّ الحقّ ما عرفت من انه لا مانع عقلاً من ذلك ، وكيف يمكن دعوى ذلك مع ذهاب المشهور إلى الاكتفاء بالغسل للجنابة عن الجميع ، وقد قوّاه المستشكل في ذيل كلامه فراجع .
ثمّ إنّ هنا شبهة اُخرى وهي انّه كيف يعقل أن يكفي غسل واحد عن الواجب
الصفحة 323
والمستحبّ وهل هذا إلاّ اجتماع الوجوب والاستحباب في شيء واحد شخصي؟! وكذا لا يعقل اجتماع الوجوبين أو الاستحبابين لاستحالة اجتماع المثلين كاجتماع الضدّين .
ولا يخفى انّه لا تختص هذه الشبهة بالقول بكفاية الغسل بعنوان واحدن عن الأغسال المتعدّدة ، بل يجري على القول بكفايه الغسل بنيّة الجميع عن الجميع ، بل جريانها على هذا القول أولى .
وقد أجاب عنها في المصباح بما حاصله : انّه في أمثال المسألة يكون المجتمع هي جهات الطلب لا نفسها ، غاية الأمر انّه يتولّد منها حكم عقلي متأكّد فإن كان فيها جهة ملزمة يتبعها الطلب العقلي ، ويكون الفرد لأجل اشتماله على جهات اُخر راجحة أفضل أفراد الواجب ، وإن لم يكن فيها جهة ملزمة يكون الإتيان بهذا الفرد مستحبّاً مؤكّداً .
ونحن قد حقّقنا في الاُصول في مبحث اجتماع الأمر والنهي انّ متعلّق الأحكام هي نفس الطبائع والعناوين; وانّه لا يعقل أن يكون الموجود الخارجي متعلّقاً لها لأنّه قبل وجوده لا يكون متحقّقاً ثابتاً حتّى يتعلّق به الحكم ، وبعده يحصل المطلوب أو المزجور عنه ، ولا يعقل تعلّق الطلب أو الزجر به ـ حينئذـ فلا مانع على هذا التقدير من أن يكون متعلّق الأمر الوجوبي هو غسل الجنابة بعنوانه ، ومتعلّق الأمر الاستحبابي هو غسل الجمعة بعنوانه ، واجتماعهما على موجود واحد شخصي لا يوجب تعلّق حكمين بشيء واحد ، وتفصيل الكلام موكول إلى محلّه .
ثمّ إنّ هنا روايات آخر بعضها يدلّ على المطلوب ، وبعضها يتوهّم منه التعارض مع صحيحة زرارة المتقدّمة ولكن أكثرها لا يخلو من ضعف أو إرسال ، وتوهّم التعارض في بعضها ناش من عدم التأمّل فيها ، وقد جمعها صاحب الوسائل في
الصفحة 324
الباب الثالث والأربعين من أبواب الجنابة من كتاب الوسائل فراجعها وتأمّل فيها .
ثمّ إنّك عرفت قيام الإجماع بل الضرورة على الاكتفاء بوضوء واحد عقيب الأسباب المتعدّدةـ مطلقاًـ سواء كانت متجانسة أم متخالفة فاعلم انّه لا مجال هنا لتوهّم اعتبار نيّة الجميع ، بل أصل اعتبار نيّة الحدث لأنّ الوضوء ليس له إلاّ ماهية واحدة وحقيقة فاردة ولا يجري فيه احتمال التغاير كباب الغسل ، كما انّ الحدث الأصغر الموجب له لا يكون له مراتب مختلفة بالشدّة والضعف فالواجب عقيبه إنّما هو الوضوء بعنوانه من دون أن يكون هنا شيء زائد فلا يلزم نيّة رفع الاحداث الواقع عقيبها الوضوء بل لو قصد رفع حدث بعينه يرتفع الجميع لعدم تعدّد المهية من جانب وعدم اختلاف في الاحداث من جانب آخر ، نعم لو كان قصده لرفع الحدث المعيّن على وجه التقييد بحيث كان من نيّته عدم ارتفاع غيره وتوقّفه على وضوء آخر ففي الصحّة إشكال كما في المتن والوجه فيه عدم مشروعية الوضوء الكذائي فإنّ الوضوء الرافع لخصوص حدث معيّن بحيث لم يكن رافعاً لغيره لم يكن مجعولاً في الشريعة فإنّ الوضوء المجعول ما كان رافعاً لجميع الاحداث ، وعليه فما هو المجعول لم يكن مقصوداً له وما قصده لا يكون مجعولاً إلاّ أن يقال إنّ القادح ليس هو قصد ارتفاع الحدث المعيّن بوضوئه ، بل قصد عدم ارتفاع غيره به ومن الممكن أن يقال إنّه لغو كالحجر في جنب الإنسان لأنّه قصد آخر وأمر زائد ، وكيف كان فالصحّة مشكلة .
الصفحة 325
فصل في موجبات الوضوء وغاياته
مسألة 1ـ الاحداث الناقضة للوضوء والموجبة له اُمور :
الأوّل والثاني : خروج البول وما في حكمه كالبلل المشتبه قبل الاستبراء ، وخروج الغائط من الموضع الطبيعي أو من غيره ، مع انسداد الطبيعي أو بدونه ، كثيراً كان أو قليلاً ولو بمصاحبة دود أو نواة مثلاً .
الثالث : خروج الريح عن الدبر إذا كان من المعدة أو الأمعاء سواء كان له
صوت ورائحة أم لا ، ولا عبرة بما يخرج من قبل المرأة ، ولا بما يكون من المعدة أو
الأمعاء كما إذا دخل من الخارج ثم خرج .
الرابع : النوم الغالب على حاسّتي السمع والبصر .
الخامس : كلّ ما أزال العقل مثل الجنون والإغماء والسكر ونحوها .
السادس : الاستحاضة القليلة والمتوسطة بل الكثيرة على الأحوط وإن أوجبتا الغسل أيضاً1 .
1ـ لا إشكال في كون الوضوء الذي هو عبارة عن الغسلتين والمسحتين ، والغسل الذي هو عبارة عن الغسلات الثلاثة وكذا نواقضها من النوم والبول والجنابة اُموراً وجوديّة ، إنّما الكلام في ترتّب أمر وجودي على الوضوء والغسل بالمعنى المذكور وكذا في ترتّب أمر وجودي على الجنابة والبول ونحوهما ، ونقول : الظاهر انّ الطهارة عن الحدث مطلقاً أمر وجودي مترتّب على فعل الوضوء أو الغسل كما يظهر بالتتبّع في الأخبار والتأمّل في التعبيرات الواردة في لسانها مثل انّ الوضوء نور ، وانّ الوضوء على الوضوء نور على نور ، أو انّه يأمر الله بالوضوء والغسل فيختم عليه بخاتم من خواتيم ربّ العزّة كما في بعض الأخبار ، وكما يقال :
الصفحة 326
انتقض الوضوء بكذا وكذا فإنّ النقض لا يتحقّق إلاّ مع كون المنقوض أمراً وجودياً كالناقض ، وما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره) في رسالة الاستصحاب من انّه لا يعتبر في المنقوض ذلك لأنّه يجوز الاستصحاب في الاُمور العدمية استناداً إلى الأخبار الدالّة على حرمة نقض اليقين بالشكّ ، ففيه انّ متعلّق النقض في تلك الأخبار هو اليقين لا المتيقّن ، وسرّه انّ اليقين حبل مستحكم مرتبط بالإنسان وبالمتيقّن بخلاف الشكّ الذي لا يتّصف بهذا الوصف ، ومن هنا نقول بعدم اختصاص جريان الاستصحاب بخصوص الشكّ في الرافع ، بل يجري في الشكّ في المقتضي أيضاً لأنّه ليس تعلّق النقض باليقين إلاّ كتعلّقه بالعهود والأيمان ونحوهما من جهة كون المصحّح هو نفس العهد واليمين من دون فرق في ذلك بين أقسام المتعلّق فلا فرق في المقام أيضاً بين أن يكون المتيقّن فيه استعداد البقاء وصلاحية الدوام لولا الرافع وعدمه .
وبالجملة : فالظاهر كون الطهارة عن الحدث مطلقاً أمراً وجودياً مترتّباً على فعل الوضوء أو الغسل ، وامّا نفس الحدث فلا دليل على كونه أمراً وجودياً ، وما ذكرنا من اعتبار كون الناقض أمراً وجودياً فهو إنّما يكون بالنسبة إلى النوم ونحوه ممّا انتسب النقض إليه ، والكلام إنّما هو في ترتّب حالة وجودية عقيب النوم ونحوه ولم يقم دليل عليه .
ولا يخفى انّ مسألة كون الطهارة أمراً وجودياً لا ارتباط بما هو المعتبر في الصلاة لأنّه يمكن أن يكون ما هو المعتبر فيها عدم الحدث بأن يكون وجوده مانعاً عنها وإن كانت الطهارة أمراً وجودياً كما انّه يمكن أن تكون الصلاة مشروطة بالوضوء الذي هو فعل مخصوص وإن لم يترتّب عليه أمر وجودي بل كان الحدث عبارة عن الحالة الوجودية فاللاّزم النظر في الدليل فنقول :
إنّ المستفاد من بعض الروايات اعتبار الوضوء في الصلاة ولو لم يكن المصلّي
الصفحة 327
محدثاً كالمخلوق دفعة قبل عروض النوم والبول ونحوهما وهي المروية في العلل والواردة في جواب نفر من اليهود الذين سألوا النبي(صلى الله عليه وآله) عن مسائل وفيها قولهم : اخبرنا يا محمّد لأيّ علّة توضّأ هذه الجوارح الأربع وهي أنظف المواضع في الجسد؟ فقال النبي(صلى الله عليه وآله) : لما ان وسوس الشيطان إلى آدم(عليه السلام) ودنا من الشجرة فنظر إليها فذهب ماء وجهه ثمّ قام ومشى إليها وهي أوّل قدم مشت إلى الخطيئة ثم تناول بيده منها ما عليها وأكل فتطاير الحلّي والحلل عن جسده فوضع آدم يده على اُمّ رأسه وبكى فلمّا تاب الله عليه فرض الله عليه وعلى ذريّته تطهير هذه الجوارح الأربع . . . فإنّ ظاهرها انّ الوضوء فرض على آدم وعلى ذريّته مطلقاً مسبوقاً بالحدث أو غير مسبوق لأنّ الأصل في سبب وجوبه صدور العمل المعروف من آدم(عليه السلام) ، ولنرجع إلى بيان الأحداث الموجبة للوضوء فنقول :
لا إشكال ولا خلاف بين فقهاء الإمامية في انحصارها في الستّة المعروفة المذكورة في المتن وانّها تكون ناقضة للوضوء إجمالاً إنّما الإشكال والخلاف في بعض الفروع والمصاديق :
مثل انّه هل الحكم المترتّب على البول والغائط هل يكون مترتّباً على أنفسهما بحيث لا يكون هناك مدخلية للخصوصية من حيث المخرج أصلاً فيكون الحكم مطلقاً شاملاً لما إذا خرج من المخرج الطبيعي أو من غيره ، وسواء كان كلّ منهما معتاداً له أو كان المعتاد واحداً منهما ، وسواء في الأخير بين انسداد الآخر وعدمه أم لا وجهان بل قولان .
ربّما يستدلّ للإطلاق بقوله تعالى : (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد
الصفحة 328
منكم . . . صعيداً طيبا)(1) فإنّ المجيء من الغائط الذي هو كناية عن قضاء الحاجة يعمّ جميع الصّور كما لا يخفى .
ويرد عليه انّ من شروط التمسّك بالإطلاق أن يكون المتكلّم في مقام بيانه فلو كان المقصود جهة اُخرى لا يجوز التمسّك بكلامه لإثبات الإطلاق من هذه الجهة غير المقصودة وـ حينئذـ نقول : إنّ الظاهر من الآية الشريفة انّ المقصود منها تشريع التيمّم وإفادة انّ ما يكون من الاحداث موجباً للوضوء فهو سبب للتيمّم عند فقدان الماء ، وامّا كون المجيء من الغائط سبباً مطلقاً أو مقيّداً ببعض الخصوصيات فلا تكون الآية متعرّضة له أصلاً .
ثمّ لو سلّم كونها في مقام البيان فشمولها لجميع صور المسألة حتّى مثل ما لو خرج الغائط من ثقبة موجودة في البطن لإصابة السهم ونحوه محلّ منع فإنّ ظاهرها انّ قضاء الحاجة سبب لذلك كما يدلّ عليه التعبير بالمجيء من الغائط لا مطلق خروجه .
وقد يستدلّ للإطلاق أيضاً ببعض الروايات كصحيحة زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : لا يوجب الوضوء إلاّ من الغائط أو بول أو ضرطة تسمع صوتها أو فسوة تجد ريحها .
ولكن يرد على الاستدلال بالروايات التي تكون على مثل هذا المضمون ممّا يرجع إلى حصر النواقض في الاُمور المذكورة فيها ونفي الناقضية عن غيرها انّ الظاهر كونها في مقام بيان الحصر ونفي ناقضية الغير في قبال فقهاء العامّة القائلين بناقضية أشياء كثيرة مثل المذي والوذي والدّم وغيرها ، وليست في مقام بيان انّ
(1) سورة النساء آية 43 .
الصفحة 329
البول ـ مثلاً ـ ناقض من حيث هو أو مع بعض الخصوصيات ، وتقييد الضرطة بما سمع صوتها والفسوة بما وجد ريحها لا دلالة له على كون الرواية في مقام البيان من الجهة الثانية أيضاً نظراً إلى أنّ ذكر خصوصيات الموضوع دليل على كونه في مقام البيان من هذه الجهة ، وذلك لأنّ سماع الصوت ووجدان الريح ليس قيداً للضرطة والفسوة ، بل التقييد إنّما هو من جهة لزوم إحراز الموضوع في ترتّب الحكم ، ولعلّ الوجه في عدم تقييد البول والغائط بمثل ذلك كون إحرازهما واضحاً نوعاً بخلاف الريح فإنّ إحرازه مشكل خصوصاً مع ملاحظة ما ورد في بعض الروايات من انّ الشيطان ينفخ في دبر الإنسان حتّى يخيّل إليه انّه قد خرج منه ريح فلا ينتقض الوضوء إلاّ ريح تسمعها أو تجد ريحها . فلذا ذكر انّ طريق إحرازه سماع الصوت ووجدان الريح ، فهذه الرواية وأشباهها قاصرة عن إفادة الإطلاق جدّاً .
نعم يمكن التمسّك له بما عن العلل وعيون الأخبار عن الفضل بن شاذان عن الرضا(عليه السلام) قال : إنّما وجب الوضوء ممّا خرج من الطرفين خاصّة ومن النوم دون سائر الأشياء لأنّ الطرفين هما طريق النجاسة ، وليس للإنسان طريق تصيبه النجاسة من نفسه إلاّ منهما فأمروا بالطهارة عندما تصيبهم تلك النجاسة من أنفسهم الحديث . فإنّ الظاهر من الروايةـ صدراً وذيلاًـ خصوصاً مع ملاحظة صدورها عن الرِّضاـ عليه آلاف التحيّة والثناءـ لأنّ أغلب الروايات المرويّة عنه(عليه السلام) ناظرة إلى ما ورد من آبائه الطاهرينـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ومتعرّضة لها ولتفسيرها انّ عمدة مقصودها هو بيان انّ ما اشتهر من ناقضية ما خرج من الطرفين ليس المراد منها الاختصاص بخصوص المخرجين بل التقييد بهما انّما هو لكونهما طريقين للنجاسة التي هي موجبة للوضوء وناقضة له لأنّه ليس للإنسان طريق تصيبه النجاسة إلاّ منهما ، فالأمر بالطهارة إنّما يتحقّق عند إصابة
الصفحة 330
النجاسة من دون مدخلية لما تخرج منه ، وبالجملة : فالظاهر انّ الرواية إنّما تكون بصدد انّ الخروج من المخرجين لا مدخلية له في الأمر بالطهارة فهي كالصريحة في بيان الإطلاق .
نعم يمكن أن يقال : إنّ نفي وجوب الوضوء عند عروض سائر الأشياء ربّما يمنع الرواية عن إفادة الإطلاق بالنحو المذكور لأنّه لو كان الغرض منها بيان عدم اختصاص حكم البول والغائط بخصوص ما يخرج من المخرجين لكان الأنسب نفي الاختصاص فقط لا نفي ناقضية سائر الأشياء المقابلة للبول والغائط والنوم .
ولكنّك خبير بأنّه لا امتناع في كون المقصود من الرواية بيان الجهتين ، وإفادة الأمرين ، واختصاص التعليل المذكور في الذيل بخصوص الاُولى لا دلالة فيه على عدم كونها إلاّ في مقام بيان جهة واحدة فلعلّ الوجه في ترك ذكر التعليل بالإضافة إلى الجهة الثانية وضوحها بحيث لا يحتاج إلى بيان لوروده في روايات الصادقين(عليهما السلام) كثيراً فظهور الرواية بل صراحتها في الإطلاق ممّا لا ينبغي أن ينكر .
ولكن الإنصاف انّ المعنى المذكور وإن كان احتمالهـ في حدّ نفسهـ ليس ببعيد إلاّ انّه من جهة انّ حمل الرواية عليه يوجب خروجها عن المحاورات العرفية لأنّ أهل العرف لا يفهمونه بل يحتاج إلى تأمّل وتدقيق ، بعيد جدّاً .
فالأولى في معنى الرواية أن يقال : إنّ ما عدى الستّة التي وقع الاتّفاق على ناقضيتها بين المسلمين ، من الاُمور المشهورة بين العامّة على قسمين : قسم يخرج من الشخص من غير المخرجين كالنخامة والقيح والدم وغيرها ، وقسم لا يتّصف بوصف الخروج بل يكون من قبيل الأفعال كالتقبيل ومسّ الفرج ومثلهما ، و ـ حينئذـ نقول : إنّ الرواية متعرّضة لعلّة ناقضية الخارج من المخرجين ونفي ناقضية الخارج من غيرهما ، فالمراد بسائر الأشياء ليس جميع الأشياء المقابلة للنوم
الصفحة 331
والغائط والبول ، بل المراد بها الأشياء الخارجة من غير المخرجين فيصير معنى الرواية انّ وجوب الوضوء عندما يخرج من الطرفين خاصّة دون غيره من الأشياء الخارجة من المخارج كالآخر إنّما هو لأنّهما طريقان للنجاسة دون سائر المخارج إذ ليس للإنسان طريق تصيبه النجاسة إلاّ منهما ، وعليه فلا تكون الرواية متعرّضة إلاّ لجهة واحدة وهي علّة اختصاص الناقضية بالخارج من الطرفين دون سائر المخارج ولكن لا يخفى انّ دلالتها على الإطلاقـ حينئذـ قويّة أيضاً لأنّها تدلّ على أي تقدير على أنّ وجوب الوضوء إنّما يترتّب على نفس النجاسة ولا مدخلية لإصابتها من المخرجين خاصّة ، ويؤيّده انّ الرواية تدلّ على نفي ناقضية الأشياء الخارجة من غير المخرجين لا نفي ناقضية الأشياء الخارجة منهما بحسب الطبع ولو خرجت من مخرج آخر غيرهما كما لا يخفى .
ويبعد ما ذكرنا انّ ذكر النوم مع البول والغائط يدلّ على انّه ليس المراد بسائر الأشياء خصوص الأشياء الخارجة من المخارج الاُخر بل يعمّ الجميع .
والحقّ انّ قوله(عليه السلام) : خاصّة ، ناظر إلى نفي ناقضية الأشياء الخارجة من غير المخرجين ، والمراد بسائر الأشياء معنى عام شامل لما عدى النوم والخارج من جميع المخارج ، فالرواية ناظرة إلى جهتين ومتعرّضة لأمرين والتعليل الذي عرفته راجع إلى الجهة الاُولى ويستفاد منه الإطلاق في المقام كما عرفت ، وامّا ما يرتبط بالأمر الثاني فهو قوله في الذيل بعد التعليل المذكور : وامّا النوم فإنّ النائم إذا غلب عليه النوم يفتح كلّ شيء منه واسترخى فكان أغلب الأشياء عليه فيما يخرج منه الريح فوجب عليه الضوء لهذه العلّة ، وأورد هذا الذيل في الوسائل في الباب الثالث من أبواب نواقض الوضوء (الرواية 13) ولعمري انّ مثل ذلك من التقطيعات الكثيرة في الوسائل يوجب التحيّر وعدم الوصول إلى المراد من الرواية فاللاّزم على
الصفحة 332
الطالب الرجوع إلى المدارك وملاحظة تمام الرواية .
وكيف كان فقد ذهب المشهور إلى عدم انتقاض الوضوء بما يخرج من غير المخرج الطبيعي إذا كانت عادته على البول والغائط من سبيلهما الأصليين بأن لا ينسدّ المخرج الطبيعي وانفتح غيره إلاّ مع الاعتياد ، وعن الشيخ(قدس سره) التفصيل بين الخارج ممّا دون المعدة وما فوقها بالالتزام بالنقض في الأوّل دون الثاني ، وعن السبزواري عدم النقض مطلقاً مع الاعتياد وعدمه واختاره صاحب الحدائق(قدس سره) .
وربّما يقال في توجيه كلام المشهور بأنّ حمل قوله(عليه السلام) : «ما خرج من طرفيك الأسفلين» الوارد في جملة من الأخبار على المعرفية المحضة لما هو الناقض حقيقة أي البول والغائط ونحوهما بعيد ، ويزيد في الاستبعاد صحيحة زرارة قال : قلت لأبي جعفر وأبي عبدالله(عليهما السلام) : ما ينقض الوضوء؟ فقال : ما يخرج من طرفيك الأسفلين من الذكر والدبر من الغائط والبول ومني أو ريح ، والنوم حتّى يذهب العقل ، وكلّ النوم يكره إلاّ أن تكون تسمع الصوت . حيث صرّحت بالذكر والدبر والغائط والبول ، فلو كان المناط في النقض مجرّد خروج البول والغائط ولم يكن الخروج من السبيلين أثر ودخل كان ذكر الأسفلين وتفسيرهما بالذكر والدبر لغواً لا محالة فهذه الصحيحة وغيرها ممّا يشتمل على العنوان المتقدّم وهو قوله : ما خرج من طرفيك واضحة الدلالة على أنّ للخروج من السبيلين مدخلية في الانتقاض فلا ينتقض الوضوء بما يخرج من غيرهما .
وليت شعري انّ تفسير الأسفلين بالذكر والدبر وبيان المراد منهما كيف يدلّ على نفي المعرفية وبيان الموضوعية فإنّ توضيح المعرّف وبيان المراد منه هل يكون منافياً للمعرفية لأنّ المعرف لا يحتاج إلى التبيين؟! فإن كان مثل العنوان ظاهراً في المعرفية فتفسيره لا يكون منافياً لها بوجه وإن لم يكن كذلك فالتفسير لا يؤيّده أصلاً مع انّ
الصفحة 333
اللاّزم ممّا ذكر الالتزام بعدم النقض فيما إذا انسدّ المخرج الطبيعي وكان الخروج من غيره اعتيادياً للمكلّف .
ودعوى انّ الصحيحة لا تكون ناظرة إلى هذه الصورة إثباتاً ونفياً لأنّ الخطاب فيها شخصي قد وجّه إلى زرارة وهو كان سليم المخرجين وحيث لا يحتمل أن تكون له خصوصية في الحكم كان الحكم شاملاً لغيره من سليمي المخرجين ، وامّا غير المتعارف السليم كمن لم يخلق له مخرج بول أو غائط أصلاً فالصحيحة غير متعرّضة لحكمه فاللاّزم الرجوع إلى إطلاق الآية المتقدّمة وإلى إطلاق صحيحة زرارة ـ المتقدّمة أيضاًـ عن أبي عبدالله(عليه السلام) لا يوجب الوضوء إلاّ من غائط أو بول أو ضرطة تسمع صوتها أو فسوة تجد ريحها .
مندفعةـ مضافاً إلى انّ حمل الخطاب في الصحيحة على الخطاب الشخصي مع عدم كون السؤال مشعراً بالخصوصيّة أصلاً ووضوح كون الخطاب غير دخيل في الحكم والاخبار عن الخصوصيات الجسمية المتعلّقة بزرارة مع انّ الواضح هو حاله لا تلك الخصوصيات ممّا لا وجه له ـ بما عرفت من عدم جواز التمسّك بإطلاق الآية والرواية فراجع فالتفصيل بين صورتي الاعتياد وعدمه ممّا لا يعرف له وجه كما انّ التفصيل بين الخارج ممّا دون المعدة وما فوقها لا دليل عليه إلاّ أن يرجع إلى التفصيل في الموضوع وانّ الخارج ممّا دون المعدة من مصاديق الغائط بخلاف الخارج ممّا فوقها فتدبّر .
ثمّ إنّ الصحيحة منقولة في الوسائل بالكيفية المذكورة ولكن حكى عن الفقيه والكافي والوافي وصاحب الحدائق انّ الصحيحة منقولة فيها بعطف البول بـ «أو» أيضاً فيكون كلّ من المني والريح أيضاً معطوفاً على الغائط وبياناً لما يخرج من الأسفلين وهذا بخلاف نقل الوسائل فإنّه بناء عليه لابدّ من أن يكون كلّ من المني
الصفحة 334
والريح معطوفاً على كلمة الموصول وربّما يقال : إنّه على غير هذا النقل لا تشويش في الرواية بوجه مع انّ الظاهر خلافه فإنّه ربّما يناقش عليه مضافاً إلى أنّ التفكيك بين الاُمور الأربعة من جهة الإتيان باللاّم في اثنين منها وحذفه في الاخوين ممّا لا يعلم له وجه بخلاف نقل الوسائل ، وإلى أنّ تفسير الموصول بالمني والريح أيضاً خلاف المتعارف ، بأنّ ذلك إنّما يناسب الموضوعية وقد عرفت ظهور الرواية وأشباهها في المعرفية فالإنصاف انّ نقل الوسائل في كمال المتانة .
ثمّ إنّه يلحق بالبول في الناقضية ما جعله الشارع بحكمه وهي الرطوبة الخارجة قبل الاستبراء كما انّه لا فرق في الغائط بين قليله وكثيره وكذا بين ما إذا خرج بمجرّده أو مع الدود والنواة وأشباههما لصدق الخروج في الجميع ، هذا كلّه في الأوّل والثاني من الموجبات .
وامّا الثالث ـ وهو الريح ـ فالظاهر من الشيخ والهمداني(قدس سرهما) في طهارتهما انّها أيضاً تكون ناقضة مطلقاً كالبول والغائط ، ولكن لا يخفى انّ رواية فضل بن شاذان ـ المتقدّمة ـ التي كانت يستفاد منها الإطلاق بأحد الوجهين المتقدّمين إنّما تكون متعرّضة للبول والغائط والنوم دون الريح فكونها في مقام البيان لا يجدي في المقام أصلاً ، وليست هنا رواية تدلّ على إطلاق ناقضية الريح لأنّ أكثر الروايات الدالّة على ناقضيّة هذا العنوان امّا أن تكون في مقام بيان انّ وجوب إعادة الوضوء وبطلانه إنّما هو فيما لو اُحرزت وعلم بحدوثها ، وامّا لو شكّ فيها فلا يبطل الوضوء ، وامّا أن تكون في مقام بيان بطلانها ما اشتهر بين العامّة من القول بناقضية الأشياء الكثيرة ، فلا يستفاد منها الإطلاق بوجه .
نعم يمكن أن يستشعر الإطلاق من صحيحة زرارة عن أبي جعفر وأبي عبدالله(عليهما السلام) المتقدّمة ، وتوصيفها بالخروج من الطرفين ـ بناءً على نقل غير الوسائل
الصفحة 335
ـ ليس لكون الحكم مقيّداً به بل للإشارة إلى ذلك الشيء المعهود نظير البول والغائط .
ولكن الإنصاف انّ دلالتها على الإطلاق ليست بحيث يعتمد عليها ، وعلى تقدير الدلالة فهي ونظائرها مقيّدة بما يدلّ على انحصار الناقضية بالضرطة والفسوة اللتين ينحصر إطلاقهما بالريح الخارجة من خصوص الدبر مثل صحيحة زرارة المتقدّمة الدالّة على أنّه لا يوجب الوضوء إلاّ من الغائط أو البول أو ضرطة تسمع صوتها أو فسوة تجد ريحها ، نعم الظاهر صحّة إطلاقهما على الريح الخارجة من المخرج المعتاد ولو لم يكن مخرجاً طبيعياً ولكن لا يشملان جميع فروض المسألة كما هو ظاهر .
ثمّ إنّ الظاهر انّ المراد بالحدث الذي ورد في بعض الروايات هو ما يساوق الضرطة والفسوة لا بمعنى الريح التي تكون أعمّ منهما .
ثمّ إنّك عرفت انّ تقييد الضرطة بسماع صوتها والفسوة بوجدان ريحها كما في بعض الروايات ليس لكونهما دخيلين في الحكم بحيث لو علم بتحقّق إحداهما من دون الوصفين لما وجبت الإعادة ، بل لأنّ المقصود وجوب إحرازهما في وجوب الإعادة ، وذكرهما إنّما هو لكونهما طريقين إلى إحرازهما كما يستفاد من الأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ الشيطان ينفخ في دبر الإنسان حتّى يخيّل إليه ويشكّكه ، ويدلّ عليه صريحاً صحيحة علي بن جعفر المروية عن قرب الاسناد وعن كتابه قال : وسألته ـ يعني أخاه موسى بن جعفر(عليهما السلام) عن رجل يكون في الصلاة فيعلم انّ ريحاً قد خرجت فلا يجد ريحها ، ولا يسمع صوتها؟ قال : يعيد الوضوء ولا يعتدّ بشيء ممّا صلّى إذا علم ذلك يقيناً .
ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا من انّه ليس العبرة بمطلق الريح انّ ما خرج من قبل المرأة لا
الصفحة 336
يكون ناقضاً للوضوء وإن حكى الانتقاض به عن جماعة معلّلين بأنّ له منفذاً إلى الجوف فيمكن الخروج من المعدة إليه ولكنّه مدفوع بعدم كون الناقض مطلق الريح ، بل الريح المعنونة بالضرطة أو الفسوة وهما لا تصدقان على ما يخرج من قبل المرأة كما انّه لا يتحقّق الصدق فيما لم يكن من المعدة أو الأمعاء كما إذا دخل الريح من الخارج ثم خرج وهذا واضح .
وامّا الرابع ـ وهو النوم ـ فقد عرفت انّه لا خلاف بين الإمامية في كونه ناقضاً للوضوء في الجملة وقد استدلّ عليه ـ مضافاً إلى ذلك ـ بقوله عزّ من قائل : (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم)(1) بأحد وجهين :
أحدهما : انّ المراد بالقيام في الآية المباركة هو القيام من النوم وذلك لموثّقة ابن بكير قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) قوله تعالى : (إذا قمتم إلى الصلاة) ما يعني بذلك؟ قال : إذا قمتم من النوم ، لت : ينقض الوضوء؟ فقال : نعم إذا كان يغلب على السمع ولا يسمع الصوت . وقد نقل عن العلاّمة في المنتهى والشيخ في التبيان إجماع المفسّرين عليه ، فالآية المباركة ببركة الموثّقة والإجماع قد دلّت على أنّ النوم ينقض الوضوء وانّه سبب في إيجابه .
وثانيهما : انّ الآية المباركة في نفسها مع قطع النظر عن الإجماع والموثقة تدلّ على وجوب الوضوء عند مطلق القيام سواء اُريد به القيام من النوم أو من غيره وإنّما خرجنا عن إطلاقها في المتطهّر بالإجماع والضرورة القائمين على أنّ المتطهّر لا يجب عليه التوضؤ ثانياً سواء قام أم لم يقم فالآية المباركة ـ بإطلاقها ـ دلّت على وجوب التوضؤ عند القيام من النوم .
(1) سورة المائدة آية 6 .
الصفحة 337
ويرد على الوجه الثاني انّ مفادن الآية الشريفة هي شرطية الوضوء للصلاة وانّه لابدّ وأن تكون الصلاة مسبوقة به فالقيام إلى الصلاة ـ على هذا الوجه ـ كناية عن إرادة الإتيان بها والاشتغال بفعلها وعليه فخروج المتوضّي لا يحتاج إلى قيام الإجماع والضرورة ، بل بنفس دلالة الآية الشريفة على اعتبار مسبوقية الصلاة بالوضوء ، كما انّها لا دلالة لها ـ حينئذ ـ أيضاً على أنّ المتوضّي إذا نام لحظة ـ مثلاً ـ يجب عليه التوضّي ثانياً إلاّ على فرض إثبات كون النوم ناقضاً امّا بدليل آخر وامّا بالرواية والإجماع على كون المراد بالقيام في الآية هو القيام من النوم فهذا الوجه الثاني لا يكاد يتمّ بوجه . ولكن الأمر سهل بعد انعقاد الإجماع على كون النوم ناقضاً ودلالة الروايات الكثيرة عليه ، نعم نسب الخلاف في ذلك إلى الصدوق ووالده(قدس سرهما) ولعلّ المنشأ ما ذكراه في الرسالة والمقنع من حصر نواقض الوضوء في البول والغائط والمني والريح كما حكي عن صاحب الحدائق ، والظاهر انّ نظرهما إلى الحصر الإضافي بالنسبة إلى ما يخرج من الإنسان في مقابل القيء والوذي والمذي وأشباههما لا الحصر الحقيقي الشامل للنوم ونحوه ، كيف وقد روى الصدوق بنفسه صحيحة زرارة المتقدّمة الدالّة على ناقضية النوم حتّى يذهب العقل وقد عرفت دلالة الآية عليه أيضاً ولو بضميمة الموثقة والإجماع فلا يظنّ ـ مع ذلك ـ بمثله الفتوى بالعدم ، نعم حكى عن أبي موسى الأشعري وجماعة انّهم قالوا : لا ينتقض الوضوء بالنوم بحال إلاّ أن يتيقّن خروج الحدث ، وقد وقع الخلاف بينهم في الناقضية في بعض الموارد فقال الشافعي : إذا نام مضطجعاً أو مستلقياً أو مستنداً ينقض الوضوء ، وقال مالك وجماعة : إنّ النوم إن كثر نقض الوضوء ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا وضوء من النوم إلاّ على من نام مضطجعاً أو متورّكاً ، وامّا من نام قائماً أو ركعاً أو ساجداً أو قاعداً سواء كان في الصلاة أو غيرها فلا وضوء عليه .
الصفحة 338
هذا ولكن مقتضى إطلاق الآية المباركة والأخبار المستفيضة الواردة انّ النوم بإطلاقه ناقض للوضوء من دون فرق بين الحالات ، ولكن هنا روايات ربّما يمكن أن يستدلّ بها على خلاف ما ذكر :
منها : مرسلة الصدوق قال : سُئل موسى بن جعفر(قدس سرهما) عن الرجل يرقد وهو قاعد هل عليه وضوء؟ فقال : لا وضوء عليه ما دام قاعداً إن لم ينفرج . وقد نسب الفتوى على طبق الرواية إلى الصدوق باعتبار انّه التزم في ديباجة كتابه أن لا يورد فيه إلاّ ما يفتى على طبقه ويراه حجّة بينه وبين ربّه ، ونحن نزيد عليه بأنّ مثل هذا النحو من المرسلات ممّا اُسند إلى الإمام دون الرواية لا مجال للمناقشة في سندها أيضاً فطرحها باعتبار الإرسال لا وجه له لأنّ الإسناد إليه(عليه السلام) يرجع إلى توثيق الوسائط من الرواة ولا يقصر توثيق الصدوق عن توثيق أرباب الرجال ولا يلزم كون الراوي مبنيّاً باسمه وشخصه فلا فرق بين هذا القسم من المرسلات وبين المسندات التي وثّق رواتها كالروات الواقعة في اسناد كتاب كامل الزيارة على ما اعترف به صاحب هذه المناقشة فتدبّر .
نعم ربّما يناقش في دلالتها بظهور قوله(عليه السلام) : إن لم ينفرج في كونه كناية عن عدم ذهاب شعوره بحيث يميل كلّ عضو من أعضائه إلى ما يقتضيه طبعها ، وهذه المناقشة ليست ببعيدة وعلى تقدير الجواب عنها بدعوى عدم قصور الرواية من حيث الدلالة على المدّعي لا محيص عن طرحها بالشذوذ وإعراض الأصحاب عنها كما لا يخفى ، ويحتمل الحمل على التقيّة لما عرفت من أقوالهم .
ومنها : موثقة سماعة بن مهران انّه سأله عن الرجل يخفق رأسه وهو في الصلاة قائماً أو راكعاً فقال : ليس عليه وضوء . وقصور دلالتها على الخلاف واضح; لأنّ خفق الرأس لا يكاد يلازم النوم لأنّ المراد به ـ كما سيأتي ـ ما هو الغالب على
الصفحة 339
حاسّتي السمع والبصر ، ومجرّد الخفقة لا يوجب تحقّقه فلا منافاة بينها وبين ما يدلّ على كون النوم ناقضاً كما لا يخفى .
ومنها : رواية عمران بن حمران انّه سمع عبداً صالحاً (عليه السلام) يقول : من نام وهو جالس لا يتعمَّد النوم فلا وضوء عليه .
ومنها : رواية بكر بن أبي بكر الحضرمي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) هل ينام الرجل وهو جالس؟ فقال : كان أبي يقول : إذا نام الرجل وهو جالس مجتمع فليس عليه وضوء ، وإذا نام مضجطعاً فعليه الوضوء . والروايتان الأخيرتان ضعيفتان من حيث السند .
هذا مضافاً إلى معارضة هذه الروايات الدالّة بالصراحة على ناقضية النوم في جميع الحالات .
كرواية عبد الحميد بن عواض عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سمعته يقول : من نام وهو راكع أو ساجد أو ماش على أيّ الحالات فعليه الوضوء .
ورواية زيد الشحّام قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الخفقة والخفقتين فقال : ما أدري ما الخفقة والخفقتين إنّ الله تعالى يقول : (بل الإنسان على نفسه بصيرة) انّ عليّاً(عليه السلام) كان يقول : من وجد طعم النوم فإنّما أوجب عليه الوضوء .
ومثلها رواية عبد الرحمن بن الحجّاج إلاّ انّه قال : من وجد طعم النوم قائماً أو قاعداً فقد وجب عليه الوضوء . والظاهر عدم كون هذه الرواية رواية مستقلّة لأنّ الراوي عن زيد الشحّام في الرواية المتقدّمة هو عبد الرحمن بن الحجّاج أيضاً ومن البعيد روايته عن الإمام(عليه السلام) من دون واسطة ومعها بمضمون واحد فيقوى في النظر أن تكون هذه الرواية أيضاً عن زيد الشحّام والاختلاف إنّما هو في السند كما لا يخفى .
الصفحة 340
وغير ذلك من الروايات الدالّة على بطلان الوضوء بالنوم في حال السجود أو النوم على الدابة وأشباههما ، ومن المعلوم انّ الترجيح في صورة المعارضة مع هذه الطائفة لموافقتها للشهرة الفتوائية ولظاهر الكتاب ـ على تقدير كون المراد هو القيام من النوم وثبوت الإطلاق لها ـ ومخالفتها للعامّة بل في بعض تلك الروايات شهادة على الصدور تقيّة فتدبّر ، فلا يبقى مناص عن القول بأنّ النوم ناقض مطلقاً وفي جميع الحالات ، نعم هنا رواية تدلّ على خروج مورد واحد وهو رواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(عليه السلام) في الرجل هل ينقض وضوئه إذا نام وهو جالس؟ قال : إن كان يوم الجمعة في المسجد فلا وضوء عليه ، وذلك انّه في حال الضرورة . وحملها الشيخ(قدس سره) على صورة عدم التمكّن من الضوء قال : والوجه فيه انّه يتيمّم ويصلّي فإذا انفض الجمع توضّأ وأعاد الصلاة لأنّه ربّما لا يقدر على الخروج من الزحمة .
واستبعده في «المنتفى» واحتمل أن تكون صادرة لمراعاة التقية بترك الخروج للوضوء في تلك الحال .
واعترض عليه بأنّ المورد ليس من موارد التقيّة بوجه لأنّ التقية بترك الخروج إنّما يتحقّق فيما إذا كان سبب الوضوء منحصراً بالنوم ، مع انّه لا يكون كذلك . وربّما تردّ الرواية بأنّها شاذّة ولم ينسب العمل بها إلى أحد .
كما انّه ربّما يجاب عن الاعتراض على المنتقى بأنّ الرجل يوم الجمعة بعد ما ازدحم الناس إلى الصلاة وقامت الصفوف إن كان خرج من المسجد وخرق الصفوف من دون أن يصرّح بعذره فلا شبهة في انّه على خلاف التقيّة المأمور بها فإنّه إعراض عن الواجب المتعيّن في حقّه من غير عذر ، وإن كان قد خرج مصرّحاً بعذره ارتكب خلاف التقيتة لأنّ النوم اليسير أو النوم جالساً ولو كان غير يسير ليس من النواقض عند كثير منهم ، وعليه فلا مناص من الحكم بصحّة صلاته
|