الصفحة 161
واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر{(1) وذكر في مجمع البيان في شأن نزول الآية انّه روى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه رفعه إلى أبي عبدالله (عليه السلام) قال : كان الأكل محرّماً في شهر رمضان بالليل بعد النوم وكان النكاح حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان وكان رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقال له مطعم بن جبير أخو عبدالله بن جبير الذي كان رسول الله وكله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرقاة وفارقه أصحابه وبقي في اثنى عشر رجلاً فقتل على باب الشعب وكان أخوه هذا مطعم بن جبير شيخاً ضعيفاً وكان صائماً فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر فلمّا انتبه قال لأهله : قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة فلمّا أصبح حضر حفر الخندق فاُغمي عليه فرآه رسول الله (صلى الله عليه وآله)فرقَّ له وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّاً في شهر رمضان فأنزل الله هذه الآية فأحلّ النكاح بالليل في شهر رمضان والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر .
وحكى فيه أيضاً في تفسير الخيطين انّه روى انّ عدي بن حاتم قال للنبي (صلى الله عليه وآله)انّي وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود فكنت أنظر فيهما فلا يتبيّن لي فضحك رسول الله حتّى رؤيت نواجذه ثمّ قال : يابن حاتم إنّما ذلك بياض النهار وسواد الليل .
ويحتمل أن يكون المراد بالخيط الأبيض هو النهار وبالخيط الأسود الليل أي يتبيّن لكم النهار من الليل ولكن هذا الاحتمال بعيد; لأنّ تشيه النهار بالخيط الأبيض مع أنّ الخصوصية الممتازة في الخيط هو دقّته ممّا لا وجه له كما انّ تشبيه الليل بالخيط الأسود أيضاً كذلك .
(1) سورة البقرة : 186 .
الصفحة 162
فالظاهر انّ المراد بالخيط الأبيض هو البياض الدقيق الحاصل في أوّل الفجر وهو شبيه بالخيط من حيث الدقّة والتعبير عن ظلمة الليل المحيطة في ذلك الوقت لجميع الاُفق إنّما هو للمشاكلة التي هي أحد المحسنات البديعية المذكورة في محلّها .
وامّا لفظة «من» في قوله من الفجر يحتمل أن تكون للتبعيض نظراً إلى انّ الخيط الأبيض بعض الفجر وأوّل شروعه وتحقّقه ، ويحتمل أن تكون نشرية ومرجعه إلى أن التبيّن الكذائي إنّما ينشأ من الفجر وتحقّقه ، ويحتمل أن تكون للتبيين ، وعليه يمكن أن يكون بياناً لنفس الخيط الأبيض ، وعليه فالمعنى حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض الذي هو الفجر ، ويمكن أن يكون بياناً لنفس التبيّن ، وعليه فالمعنى ان تبيّن الخيطين إنّما هو الفجر والغاية لجواز الأكل والشرب إنّما هو الفجر الذي يكون عبارة اُخرى عن تبيّن الخيطين وامتيازهما بخلاف الاحتمال السابق الذي تكون الغاية بناء عليه هو تبيّن الفجر الذي هو عبارة عن الخيط الأبيض ويظهر الاحتمال الأخير من الماتن ـ دام ظلّه ـ في رسالة صنّفها في تعيين الفجر بنحو الاختصار ولكنّه خلاف الظاهر; لأنّه مضافاً إلى أنّه لم يظهر جواز كون لفظة «من» بياناً للجملة هو خلاف ما هو المتفاهم عند العرف من ظاهر الآية الشريفة كما لا يخفى ويترتّب عليه ثمرة مهمّة تأتي إن شاء الله تعالى .
ثمّ إنّه لا يظهر من نفس هذا التعبير انّ المراد بالفجر هو الفجر الصادق الذي له ثلاث مزيات بالإضافة إلى الفجر الكاذب وهو اتصاله بالاُفق وكونه اُفقياً وانتشاره قليلاً قليلاً واشتداد ضوئه تدريجاً بخلاف الفجر الكاذب الذي يكون منفصلاً عن الاُفق ويكون عمودياً عليه ويكون عند حدوثه أشدّ ضوء لزواله تدريجاً .
بل يمكن استفادة الفجر الصادق بضميمة صدور الآية الدالّة على علّية الرفث
الصفحة 163
ليلة الصيام وذيلها الظاهرة في وجوب إتمام الصيام إلى الليل فإنّ المستفاد منهما انّ ظرف وجوب الصيام إنّما هو مجموع النهار ، ومن الواضح انّه لم يقل أحد بدخوله بالفجر الكاذب بل هو كما عرفت مردّد بين تحقّقه بدخول الفجر الصادق وبين توقّفه على طلوع الشمس وقد استظهرنا الاحتمال الأوّل وفاقاً للمشهور ، وعليه فالمستفاد من مجوع الآية هو الفجر الصادق مضافاً إلى تفسيره به في بعض الروايات الآتية .
ثمّ إنّه هل المعتبر في اعتراض الفجر وتبيّنه هو الاعتراض والتبيّن الفعلي أو الأعمّ منه ومن التقديري نظير الاحتمالين في باب تغيّر الماء في بحث المياه ربّما يقال بالأوّل كما عن المحقّق الهمداني (قدس سره) نظراً إلى أنّ الظاهر من التبيّن والتميّز هو التميّز الفعلي الحقيقي كما هو الشأن في جميع العناوين المأخوذة في العقود والقضايا المشتملة على بيان الأحكام وترتّبها عليها وقد اختاره الماتن ـ دام ظلّه ـ في رسالته المذكورة نظراً إلى أنّ ظاهر الآية الشريفة هو أنّ تبيّن الخيطين وامتيازهما هو الفجر واقعاً لا انّ الفجر شيء والتبيّن شيء آخر ، نعم يكون العلم أمارة لهذا التبيّن والامتياز النفس الامري فإذا كان نور القمر قاهراً لا يظهر البياض فلا يتميّز الخيطان حتّى يظهر ضياء الشمس ويقهر على نور القمر وهذا بخلاف ما إذا كان هناك غيم في السماء فإنّ الفرق بين ضوء القمر الذي هو مانع عن تحقّق البياض رأساً مع الغيم الذي هو كحجاب عارضي مانع عن الرؤية واضح ، وعليه فيكون الفجر في الليال المقمرة من الليلة الثالثة عشر إلى أواخر الشهر متأخّراً عن غيرها قريب عشر دقائق أو أقلّ أو أكثر حسب اختلاف ضياء القمر وقربه من الاُفق الشرقي .
أقول : الظاهر انّ المستفاد من الآية الشريفة انّ التبين أمر والفجر أمر آخر لما عرفت من ظهورها في كون كلمة «من» للتبيين وانّه بيان لا للتبيّن ، بل لنفس الخيط
الصفحة 164
الأبيض ، وعليه فمفادها انّ الفجر الذي قد يكون متبيّناً وقد لا يكون كذلك لأنّه عبارة عن البياض المعترض تكون غاية جواز الأكل والشرب هي تبيّنه والظاهر ـ حينئذ ـ انّ التبيّن المأخوذ لا يكون إلاّ طريقاً لعدم كونه عبارة اُخرى عن حقيقة الفجر فإنّ مثل التبيّن والعلم من العناوين المأخوذة يغاير سائر العناوين الظاهرة في الموضوعية كعنوان التغيّر المذكور; لأنّ ظاهر التغيّر المأخوذ في دليل النجاسة وصفاً للماء هو التغيّر الفعلي الحسّي المدرك بأحد الحواس فوجود المانع عن التغيّر يوجب عدم تحقّق الوصف فلا يثبت الحكم ، وامّا عنوان التبيّن فهو كالعلم المأخوذ في قوله : كلّ شيء طاهر حتّى تعلم انّه قذر فإذا علمت فقد قذر لا يكون إلاّ طريقاً لثبوت القذارة ، ويمكن قيام مثل البيّنة والاستصحاب واخبار ذي اليد مقامه ، وعليه فظاهر الآية الشريفة هو مدخلية الفجر في ارتفاع جوز الأكل والشرب والتبيّن طريق إلى ثبوته فإذا تحقّق الخيط الأبيض الذي هو الفجر بمقتضى الموازين العلمية ولو لم يتحقّق لأجل مقهوريته لضوء القمر ونوره تتحقّق الغاية ولا يكون ـ حينئذ ـ فرق بين الليالي المقمرة والليالي المغيمة وسائر الليالي أصلاً .
ويؤيّد ما ذكرنا بعض الروايات كرواية علي بن مهزيار قال : كتب أبو الحسن بن الحصين إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) معي : جعلت فداك قد اختلف موالوك (مواليك) في صلاة الفجر فمنهم من يصلّي إذا طلع الفجر الأوّل المستطيل في السماء ، ومنهم من يصلّي إذا اعترض في أسفل الاُفق واستبان ولست أعرف أفضل الوقتين فاُصلّي فيه ، فإن رأيت أن تعلّمني أفضل الوقتين وتحدّه لي ، وكيف أصنع مع القمر والفجر لا يتبيّن (تبيّن) معه حتى يحمر ويصبح ، وكيف أصنع مع الغيم وما حدّ ذلك في السفر والحضر فعلت إن شاء الله ، فكتب (عليه السلام) بخطّه وقرأته : الفجر يرحمك الله هو الخيط الأبيض المعترض ، وليس هو الأبيض صعداً فلا تصل في سفر ولا حضر حتى
الصفحة 165
تبيّنه ، فإنّ الله تبارك وتعالى لم يجعل خلقه في شبهة من هذا فقال : }وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر{ ، فالخيط الأبيض هو المعترض الذي يحرم به الأكل والشرب في الصوم وكذلك هو الذي يوجب به الصلاة . ودلالتها على كون الفجر غير التبيّن وانّه هو نفس الخيط الأبيض المعترض واضحة ، كما انّ دلالة ذيلها على انّ الموضوع لحرمة الأكل والشرب ووجوب الصلاة هو نفس الخيط الأبيض الذي هو الفجر أيضاً كذلك ، وعليه فالتبيّن لا يكون إلاّ مأخوذاً بنحو الطريقية مع أنّ اشتمال السؤال على أنّه كيف يصنع مع القمر وكيف يصنع مع الغيم والاقتصار في الجواب على بيان معنى الفجر وانّه هو الخيط الأبيض المعترض ربما يدلّ على تساويهما في الحكم ودعوى وضوح الفرق بينهما كما عرفتها في كلام الماتن ـ دام ظلّه ـ لا تتمّ أصلاً وكيف يمكن ادّعاء انّ السائل قد فهم من الجواب الفرق بين المسألتين فالإنصاف انّ الرواية ظاهرة في التساوي وعدم الفرق وانّه في كليهما إذا تحقّق الفجر الواقعي وهو الخيط الأبيض المعترض يرتفع جواز الأكل والشرب ويجوز الدخول في الصلاة .
وقد ظهر بما ذكرنا انّ الفجر بمقتضى الآية هو نفس الخيط الأبيض ولا يكون عبارة عن التبيّن كما انّه لا يكون عبارة عن وصول شعاع الشمس إلى حدّ من الاُفق تكون الفاصلة بينها وبين الطلوع هو مقدار ما بين الطلوعين والظاهر انّه أيضاً بالمعنى اللغوي عبارة عمّا ذكرنا فتدبّر .
كما انّه ظهر ممّا ذكرنا انّه لا فرق بين الليالي من هذه الجهة أصلاً ولا يكون الفجر في الليالي المقمرة متأخّراً عن غيرها .
ثمّ إنّك عرفت انّ دلالة الآية الشريفة ظاهرة ولا حاجة إلى التمسّك بالروايات ولكنّه لا بأس بإيراد طائفة منها فنقول :
الصفحة 166
منها : رواية أبي بصير ليث المرادي قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) فقلت : متى يحرم الطعام والشراب على الصائم وتحلّ الصلاة صلاة الفجر؟ فقال : إذا اعترض الفجر فكان كالقبطية البيضاء فثم يحرم الطعام على الصائم وتحلّ الصلاة صلاة الفجر ، قلت : أفلسنا في وقت إلى أن يطلع شعاع الشمس؟ قال : هيهات أين يذهب بك ، تلك صلاة الصبيان . قال في الوافي : القبطية بضم القاف وإمكان الموحدة وتشديد الياء منسوبة إلى القبط بالكسر على خلاف القياس ثياب رقيقة تتّخذ بمصر ويجمع على قباطى بالفتح والقبط بالكسر يقال لأهل مصر وبنكها ـ بمعنى الأصل ـ والتغيير في النسبة هنا للاختصاص كالدهري بالضمّ في النسبة إلى الدهر بالفتح ويختص بالثياب دون الناس فيقال : رجل قبطي وجماعة قبطية بالكسر فيهما .
ومنها : رواية علي بن عطية عن أبي عبدالله (عليه السلام) انّه قال : الصبح (الفجر) هو الذي إذا رأيته كان معترضاً كان بياض نهر سوراء . ونقله في الوافي هكذا : كأنّه نباض سورى ثمّ قال في بيانه : «النباض بالنون والباء الموحدة من نبض الماء إذا سال وربّما قرأ بالموحدة ثمّ الياء المثناة من تحت ، وسورى على وزن بشرى موضع بالعراق والمراد بنباضها أو بياضها نهرها» والتشبيه على نقل الوسائل إنّما هو في شدّة البياض ووضوحه بحيث كلّما زدت إليه نظراً يظهر لك شدّة بياضه لما عرفت من اشتداد ضوء الفجر الصادق تدريجاً بخلاف الفجر الكاذب الذي يكون حين طلوعه أشدّ نوراً ، وعلى نقل الوافي إنّما هو في ثبوت الأمر وواقعيته بحيث تكون واقعية الفجر ووضوحه كواقعية سيلان نهر سورى وجريانه وحركته .
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلّي ركعتي الصبح وهي الفجر إذا اعترض الفجر وأضاء حسناً . وأورد بعض الأعلام على الاستدلال بها بقصور دلالتها على عدم جواز الإتيان بصلاة الفجر قبل اعتراض
الصفحة 167
الفجر وإضائته لأنّه من الجائز أن يكون استمراره عمله (صلى الله عليه وآله) على الإتيان بها عند الاعتراض مستنداً إلى سبب آخر لا إلى عدم جواز الإتيان بها قبله .
ويدفعه ما عرفت مراراً من أنّه حيث يكون الحاكي لفعل الرسول هو الإمام وكان غرضه من الحكاية بيان الحكم ، غاية الأمر بهذه الصورة لا يبقى مجال لمثل هذا الاحتمال أصلاً .
ومنها : رواية هشام بن الهذيل عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال : سألته عن وقت صلاة الفجر فقال : حين يعترض الفجر فتراه مثل نهر سوراء .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : وروى انّ وقت الغداة إذا اعترض الفجر فأضاء حسناً ، وامّا الفجر الذي يشبه ذنب السرحان فذاك الفجر الكاذب ، والفجر الصادق هو المعترض كالقباطي . والتشبيه بذنب السرحان وهو الذئب إنّما هو لدقّته واستطالته .
الجهة الثانية : في آخر وقت فريضة الصبح ولا خلاف بين المسلمين في امتداده إلى طلوع الشمس إجمالاً وإن وقع الخلاف بينهم في كونه آخر وقت الاجزاء أو آخر الوقت للمضطرّ وانّ آخره للمختار هو طلوع الحمرة المشرقية فذهب إلى الأوّل أبو حنيفة وهو المعروف بين الأصحاب وحكى الثاني عن الشيخ وجماعة بناء على ما اختاروا من أنّ الفرق بين الوقتين الثابتين لكلّ صلاة إنّما هو بالاختيارية والاضطرارية وبه قال الشافعي وأحمد والنصوص الكثيرة الواردة في المسألة مختلفة :
منها : صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : وقت الفجر حين ينشق الفجر إلى أن يتجلّل الصبح السماء ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً ولكنّه وقت لمن شغل أو نسى أو نام .
الصفحة 168
وربما يستدلّ بها على قول الشيخ (رحمه الله) نظراً إلى أنّ كلمة لا ينبغي بمعنى لا يتيسّر ولا يجوز فالرواية تدلّ على عدم جواز التأخير عن تجلّل السماء بسبب الصبح عمداً ولكن دلالتها على أنّ الشغل أيضاً يكون موجباً لجواز التأخير لا تناسب مع تعيّن الوقت الأوّل للاجزاء إذ مع تعيّنه يجب رفع اليد عن جميع المشاغل والإتيان بالفريضة وليس الشغل كالنسيان والنوم أمراً اضطرارياً وعليه فيصير ذلك قرينة ظاهرة على أنّه ليس المراد بكلمة «لا ينبغي» عدم الجواز لو سلم ظهورها في نفسها فيه كما انّه يصير قرينة على أنّ امتداد وقت الفجر إلى زمان التجلّل إنّما هو بلحاظ الفضيلة دون الاجزاء فالرواية من أدلّة القول المشهور .
ومنها : رواية يزيد بن خليفة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : وقت الفجر حين يبدو حتّى يضيء . ودلالتها على قول الشيخ (رحمه الله) وإن كانت ظاهرة إلاّ انّها ضعيفة السند لأجل يزيد بن خليفة .
ومنها : صحيحة ابن سنان يعني عبدالله عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لكلّ صلاة وقتان وأوّل الوقتين أفضلهما ووقت صلاة الفجر حين ينشق الفجر إلى أن يتجلّل الصبح السماء ، ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً ولكنّه وقت من شغل أو نسى أو سهى أو نام ، ووقت المغرب حين تجب الشمس إلى أن تشتبك النجوم ، وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتاً إلاّ من عذر أو علّة . وهذه الرواية أيضاً يمكن الاستدلال بها لكلّ من الفريقين نظراً إلى ظهورها في عدم جواز التأخير عمداً لما مرّ من أنّ كلمة «لا ينبغي» بمعنى انّه لا يجوز ولا يتصيّر ويدلّ عليه ذيل الرواية الظاهر في أنّه لا يجوز لأحد من غير عذر أو علّة أن يجعل آخر الوقتين وقتاً ويؤخِّر صلاته إلى آخر الوقت عمداً وبذلك يظهر انّ المراد من ثبوت الوقتين لكلّ صلاة كما هو ظاهر صدر الرواية إنّما هو ثبوت الوقت الاختياري والوقت الاضطراري فاختلاف
الصفحة 169
الوقتين وافتراقهما إنّما هو بذلك لا بالاجزاء والفضيلة .
هذا ولكن الظاهر دلالة الرواية على خلاف قول الشيخ (قدس سره) من جهة ظهور صدرها في أنّ اختلاف الوقتين إنّما هو بالفضيلة والاجزاء لقوله (عليه السلام) : وأوّل الوقتين أفضلهما ومن جهة تجويز التأخير لمن له شغل وهو لا يكون اضطرارياً ولا يناسب تجويز التأخير معه مع تعيّن الوقت الأوّل للاجزاء كما عرفت في صحيحة الحلبي ، نعم يبقى ذيل الرواية الظاهر في غيره ولكنّه مضافاً إلى اشتماله على كلمة «العذر» الشاملة للشغل قطعاً لا دلالة له على الخلاف; لأنّ مفادها ان جعل آخر الوقت وقتاً استمرارياً للصلاة بحيث لا يرى لها وقت غير ذلك لا يجوز وهذا لا يلازم عدم جواز التأخير اختياراً أحياناً مع رؤية وقتين لها . وبعبارة اُخرى لو كان التعبير في الذيل هكذا : لا يجوز لأحد أن يؤخِّر صلاته إلى آخر الوقت إلاّ من عذر أو علّة لكانت دلالته على ما ذكر غير بعيدة ، وامّا التعبير الوارد في الرواية فمغاير للتعبير الذي ذكرنا ومرجعه إلى فرض الوقت الأوّل كالعدم وعدم رؤية وقتين للصلاة ولو عملاً بوجه فتدبّر ، فالرواية من أدلّة المشهور .
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : وقت صلاة الغداة ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس . ودلالتها على مذهب المشهور ظاهرة إلاّ انّها ضعيفة السند بموسى بن بكر لعدم توثيقه .
ومنها : موثقة عمّار بن موسى عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل إذا غلبته عينه أو عاقه أمران يصلّي المكتوبة من الفجر ما بين أن يطلع الفجر إلى أن تطلع الشمس وذلك في المكتوبة خاصة . . . وهي باعتبار دلالتها على الامتداد إلى طلوع الشمس بالإضافة إلى الرجل الذي عاقه أمر تدلّ على مذهب المشهور لأنّه ليس المراد بالأمر إلاّ أمراً من الاُمور العادية الاختيارية فهو عبارة اُخرى عن الشغل المذكور
الصفحة 170
في الروايتين المتقدّمتين وقد عرفت انّ تجويز التأخير معه لا يناسب إلاّ مع امتداد الوقت أي وقت الاجزاء كما لا يخفى .
ومنها : ما رواه الصدوق باسناده عن عاصم بن حميد عن أبي بصير ليث المرادي قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) فقلت : متى يحرم الطعام والشراب على الصائم وتحلّ الصلاة صلاة الفجر؟ فقال : إذا اعترض الفجر فكان كالقبطية البيضاء فثمّ يحرم الطعام على الصائم وتحلّ الصلاة صلاة الفجر ، قلت : أفلسنا في وقت إلى أن يطلع شعاع الشمس؟ قال : هيهات أين يذهب بك تلك صلاة الصبيان . فإنّ عدّها من فعل الصبيان دليل على المرجوحية وعدم الالتفات إلى فوت الفضيلة المهمّة ولا يناسب ذلك مع تمامية الوقت الاختياري بوجه .
ومثلها ما رواه الشيخ باسناده عن الحسين بن سعيد عن النضر عن عاصم بن حميد عن أبي بصير المكفوف قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الصائم متى يحرم عليه الطعام؟ فقال : إذا كان الفجر كالقبطية البيضاء ، قلت : فمتى تحلّ الصلاة؟ فقال : إذا كان كذلك ، فقلت : ألست في وقت من تلك الساعة إلى أن تطلع الشمس؟ فقال : لا ، إنّما تعدّها صلاة الصبيان ، ثمّ قال : إنّه لم يكن يحمد الرجل أن يصلّي في المسجد ثمّ يرجع فينبه أهله وصبيانه .
والظاهر اتحادهما مع الرواية السابقة وعدم كونهما روايتين ولذا حكى عن الحدائق انّه نقل عن صاحب المنتقى المناقشة في سند الرواية بأنّ الشيخ رواها عن أبي بصير وقيّده بالمكفوف والصدوق رواها عنه وقيّده بليث المرادي والكليني رواها عنه وأطلقه وحيث إنّ الراوي أحدهما وهو مردّد بين الثقة والضعيف ـ لضعف المكفوف ـ فلا يمكن الاستدلال بها بوجه ولكنّه رجّح في الحدائق أن يكون المراد به هو المرادي لغلبة رواية عاصم بن حميد عنه .
الصفحة 171
ومنها : رواية معاوية بن وهب عن أبي عبدالله (عليه السلام) الدالّة على إتيان جبرئيل بمواقيت الصلاة المشتملة على قوله : ثمّ أتاه حين طلع الفجر فأمره فصلّى الصبح إلى قوله : ثمّ أتاه حين نوّر الصبح فأمره فصلّى الصبح ثمّ قال : ما بينهما وقت .
ومنها : رواية ذريح عن أبي عبدالله (عليه السلام) الدالّة على ذلك المشتملة على قوله (عليه السلام)فقال صلِّ الفجر حين ينشق الفجر إلى قوله ثمّ أتاه من الغد فقال : اسفر بالفجر . . . .
ومنها : رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لا تفوت الصلاة من أراد الصلاة ، لا تفوت صلاة النهار حتّى تغيب الشمس ، ولا صلاة الليل حتّى يطلع الفجر ، ولا صلاة الفجر حتّى تطلع الشمس . ونوقش في سندها لأجل علي بن يعقوب الهاشمي نظراً إلى أنّه لم يوثق في كتب الرجال .
وقد ظهر ممّا ذكرنا انّ أكثر الروايات الواردة في الباب يدلّ على قول المشهور وامتداد وقت الاجزاء إلى طلوع الشمس وهي قرينة على التصرّف في الروايات الاُخر بالحمل على امتداد وقت الفضيلة إلى أن يتجلّل الصبح السماء ويتحقّق الاسفار والتنوّر ولو أبيت إلاّ عن ثبوت المعارضة فاللاّزم طرح الطائفة المخالفة للمشهور; لأنّ أوّل المرجّحات هي الشهرة الفتوائية ـ كما قد قرّر في محلّه ـ فالمتحصّل انّ الأقوى ما عليه المشهور على أيّ حال .
المقام الرابع : في أوقات فضيلة الصلوات الخمس المفروضة ، ولابدّ قبل بيانها من التعرّض لمسألة مشهورة بينهم وهي انّ لكلّ صلاة وقتين كما تدلّ عليه الروايات المتعدّدة وقد اختلفوا في المراد من ذلك على قولين :
أحدهما : انّ الوقت الأوّل اختياري والثاني اضطراري بمعنى انّه لا يجوز التأخير إليه إلاّ لذوي الأعذار .
ثانيهما : انّ الوقت الأوّل وقت الاجزاء والثاني وقت الفضيلة وأكثر القدماء
الصفحة 172
كالشيخين وابن أبي عقيل وغيرهم على الأوّل ، والسيد وابن الجنيد وجماعة على الثاني وتبعهم المتأخّرون قاطبة وقد أصرّ صاحب الحدائق على إثبات قول الشيخين خصوصاً بالإضافة إلى الظهرين .
ومنشأ الاختلاف هو اختلاف الأخبار الواردة في الباب فكثيرة منها ظاهرة في كون الافتراق إنّما هو بالفضيلة والاجزاء واستدلّ ببعضها على خلافه ولابدّ من التعرّض لهذه الطائفة وملاحظة تماميتها من حيث السند والدلالة أو عدمها وإن كان لا يترتّب على هذا البحث كثير فائدة; لأنّ الظاهر انّ مراد القائل بعدم جواز التأخير عن الوقت الاختياري هو عدم الجواز التكليفي وترتّب العصيان فقط من دون أن يكون وقت الصلاة خارجاً بالتأخير بحيث يصير قضاء بذلك كما هو مقتضى الحرمة الوضعية فمراده هو ثبوت العصيان مع عدم ثبوت العقاب وعدم ترتّبه كما نطقت به الأخبار الدالّة على أنّ آخر الوقت عفو الله فالتأخير في المقام إنّما يكون مشابهاً لنيّة المعصية التي هي معصية معفوّ عنها ، وعليه فلا يترتّب على هذا البحث ثمرة مهمّة فقهية ولكنّه مع ذلك لا يخلو عن نتائج علمية فنقول :
من جملة الروايات التي استدلّ بها على ذلك صحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) فيما رواه الكليني قال : سمعته يقول : لكلّ صلاة وقتان وأوّل الوقت أفضله وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتاً إلاّ في عذر من غير علّة . بتقريب انّها تدلّ على أنّ لكلّ صلاة وقتين ، ولكّ من الوقتين أوّل وآخر وأوّلهما أفضلهما وليس للمكلّف أن يجعل الوقت الثاني وقتاً للصلاة إلاّ من علّة تقتضيه فذل الرواية ظاهر بل صريح في أنّه ليس للمكلّف أن يؤخِّر الصلاة إلى الوقت الثاني إلاّ من علّة فالواجب على المختار أن يأتي بها في الوقت الأوّل الشامل لأوّله الذي هو أفضل وآخره الذي لا يكون كذلك .
الصفحة 173
ويدفعه انّ انّ دلالة الرواية على خلاف مطلوبه أظهر; لأنّ الظاهر انّ المراد من قوله : وأوّل الوقت أفضل هو أفضلية الأوّل بالإضافة إلى الآخر الذي يكون هو الوقت الآخر الذي دلّ على كليهما قوله (عليه السلام) : لكلّ صلاة وقتان ، فمفاد الرواية انّ لنا وقتين يكون أحدهما وهو الأوّل أفضل من الآخر وهو الآخر ويؤيّد ذلك مضافاً إلى كونه هو المتفاهم منه عرفاً انّه فيما رواه الكليني عن معاوية بن عمّار أو ابن وهب انّه قال أبو عبدالله (عليه السلام) : لكلّ صلاة وقتان وأوّل الوقت أفضلهما . فإنّ تثنية الضمير الراجع إلى الوقتين وإضافة الأفضل إليه ظاهرة في كون الطرف الآخر هو الوقت الآخر .
مع انّ نفس هذه الرواية المستدلّ بها رواها الشيخ عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) هكذا : قال : لكلّ صلاة وقتان وأوّل الوقتين أفضلهما . . . ومع هذا النقل لا يبقى مجال للترديد في كون المراد بيان وقت الفضيلة في مقابل وقت الاجزاء وانّ افتراق الوقتين إنّما هو بذلك .
وامّا قوله : وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتاً . . . فقد عرفت انّ الظاهر انّ المراد به هو جعل الوقت الآخر وقتاً استمرارياً للصلاة بحيث لا يرى لها وقت ولو عملاً إلاّ آخر الوقت ، ومن الواضح انّ ذلك إعراض عن السنّة وتهاون خارج عمّا هو محلّ البحث في المقام من التأخير العمدي لا بهذا الداعي بل بغيره .
ويحتمل أن يكون المراد به ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاستاذ (قدس سره) وهو ترغيب الناس وتحريضهم إلى الإتيان بالصلوات في أوائل أوقاتها ونظير ذلك كثير في الأخبار التي سيقت لبيان المستحبّات إذا كان المقصود الترغيب إلى الإتيان بمستحبّ مؤكّد كما في المقام حيث ورد فيه انّ فضل الوقت الأوّل على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا ونظيره من التعبيرات الواردة في الأخبار .
الصفحة 174
مع أنّ اشتمال نقل الشيخ على تجويز التأخير لمن كان له شغل في عداد النوم والسهو والنسيان يؤيّد ما ذكرنا من عدم كون التأخير دائراً مدار الاضطرار لأنّ الاشتغال بأحد المشاغل كيف يجوز التأخير وترك الصلاة في الوقت الاختياري المقرّر له كما هو ظاهر .
منها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق (عليه السلام) : أوّله رضوان الله وآخره عفو الله والعفو لا يكون إلاّ عن ذنب .
وفيه انّ هذا القسم من المرسلات وإن كان معتبراً كما عرفت مراراً إلاّ انّ الظاهر انّ قوله : والعفو . . . لا يكون جزء من الرواية; لأنّه مضافاً إلى أنّه من دأب الصدوق مثل ذلك الإضافة إلى الرواية وجعل ما استنبطه واجتهده ، أو ما يكون مربوطاً برواية اُخرى ضميمة إليها لا يكون هذا الكلام مسانخاً لكلام الإمام (عليه السلام)لأنّه يشبه أمراً استنباطياً مأخوذاً من شيء آخر والاستنباط من الإمام (عليه السلام)بالإضافة إلى الكتاب أو كلام الرسول أو كلام الإمام المتقدّم وإن كان ممّا لا مانع منه إلاّ انّه لا وجه للاستنباط من كلام نفسه كما لا يخفى .
وكيف كان فلم يثبت كون هذا ذيلاً للرواية وتتمّة لها حتّى يستفاد من عنوان الذنب عدم جواز التأخير في حال الاختيار ومعه يصير معنى الرواية انّ آخر الوقت عفو الله وهذا لا يلازم ثبوت الذنب لأنّ معناه انّ الصلاة في أوّل الوقت رضوان الله الذي وصفه الله في كتابه بأنّه أكبر وآخر الوقت موجب للعفو عن سائر المعاصي والسيئات وهذه فضيلة ولكنّها لا تقاس بفضيلة أوّل الوقت ، وعليه فتكون هذه الرواية أيضاً دليلاً على امتداد وقت الاجزاء مطلقاً .
ومنها : رواية ربعي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : انّا لنقدّم ونؤخِّر وليس كما يقال من أخطأ وقت الصلاة فقد هلك وإنّما الرخصة للناسي والمريض والمدنف والمسافر
الصفحة 175
والنائم في تأخيرها .
والاستدلال بها مبني على أن يكون قوله : من أخطأ . . . كلام الإمام الصادر لبيان الحكم وتوضيحاً للتقدّم والتأخّر المذكورين في الصدر مع انّ الظاهر كونه إلى آخر الرواية مقولا ليقال الذي نفاه الإمام (عليه السلام) بكلمة «ليس» ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى أنّه على مبنى الاستدلال يلزم أن يكون بلا مقول وهو خلاف الظاهر ـ انّ من الواضح ظهور الصدر في كون التقديم والتأخير إنّما هو في حال واحد وهي حالة الاختيار وعلى مبنى الاستدلال يلزم التفكيك بأن يكون المراد هو التقديم في حال الاختيار والتأخير في حال الاضطرار وهو خلاف الظاهر جدّاً فالرواية تنفي التفصيل بين حالتي الاختيار والاضطرار لا انّها تثبته فتدبّر . مع انّ في سند الرواية إسماعيل بن سهل الذي ضعفه أصحابنا على ما حكى عن النجاشي .
ومنها : رواية إبراهيم الكرخي قال : سألت أبا الحسن موسى (عليه السلام) : متى يدخل وقت الظهر؟ قال : إذا زالت الشمس ، فقلت : متى يخرج وقتها؟ فقال : من بعدما يمضي من زوالها أربعة أقدام انّ وقت الظهر ضيّق ليس كغيره ، قلت : فمتى يدخل وقت العصر؟ فقال : إنّ آخر وقت الظهر هو أوّل وقت العصر فقلت : فمتى يخرج وقت العصر؟ فقال : وقت العصر إلى أن تغرب الشمس وذلك من علّة وهو تضييع ، فقلت له : لو انّ رجلاً صلّى الظهر بعدما يمضي من زوال الشمس أربعة أقدام أكان عندك غير مؤدِّ لها؟ فقال : إن كان تعمّد ذلك ليخالف السنّة والوقت لم يقبل منه ، كما لو انّ رجلاً أخّر العصر إلى قرب أن تغرب الشمس متعمّداً من غير علّة لم يقبل منه ، انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد وقّت للصلاة المفروضات أوقاتاً وحدّ لها حدوداً في سنته للناس فمن رغب عن سنّة من سننه الموجبات كان مثل من رغب عن فرائض الله .
الصفحة 176
واُجيب عنها ـ مضافاً إلى أنّها ضعيفة السند بإبراهيم الكرخي لعدم توثيقه ـ بأنّ غاية مفادها هي حرمة التأخير إلى الوقت الثاني إذا كان بصورة الاعراض عن السنّة والتهاون بها وبتعبير الرواية إذا تعمّد ليخالف السنّة والوقت ولا دلالة لها على الحرمة فيما هو محلّ البحث أصلاً .
ومنها : رواية داود بن فرقد قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : قوله تعالى : }انّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً{ ، قال : كتاباً ثابتاً وليس ان عجلت قليلاً أو أخّرت قليلاً بالذي يضرّك ما لم تضيع تلك الإضاعة فإنّ الله عزّوجلّ يقول لقوم : }أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا{ .
والاستدلال بها مبني على أن يكون التعجيل والتأخير راجعين إلى الوقت الاختياري والإضاعة راجعة إلى الوقت الاضطراري بحيث أخّر الصلاة إليه من غير عذر وضرورة .
وأورد عليه : بأنّه دعوى لا مثبت لها; لأنّ التعجيل والتأخير سواء أرجعا إلى الوقت الأوّل أو الثاني لم يدلّ دليل على أنّ الإضاعة بالمعنى المذكور لاحتياجه إلى قرينة وهي مفقودة في الرواية وإنّما تدلّ على أنّه أشار بالإضاعة إلى إضاعة خاصّة ولعلّها كانت معهودة بينه وبين السائل .
أقول : الظاهر انّه حيث كان السؤال عن تفسير قوله تعالى الظاهر في ثبوت الوقت للصلاة وأجاب الإمام (عليه السلام) بأنّه ليس المراد بالموقوت هو بيان الوقت ، بل المراد به هو الثبوت وعدم التغيّر للإشارة إلى الفرق بين الصلاة وبين الصوم اللذين يشتركان في أنّهما قد كتبا على الناس بأنّ الصلاة كتاب ثابت لا يجوز تركها بوجه فقد وقع من هذه الجهة شبهة في ذهن السائل من جهة عدم الاهتمام بالوقت وأجاب الإمام (عليه السلام) بأنّه ليس الوقت في الأهمّية مثل أصل الصلاة فالتعجيل
الصفحة 177
والتأخير قليلاً لا يوجب تحقّق الضرر ، بل المضرّ هي الإضاعة المتحقّقة بترك الصلاة رأساً وعدم الاعتناء بشأنها كذلك فالرواية على هذا التقدير إنّما تكون في مقام مقايسة الوقت مع أصل الصلاة وانّه ليس الوقت من جهة الأهمّية كأصل الصلاة وعليه لا ارتباط لها بالمقام أصلاً .
ومنها : رواية أبي بصير قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : انّ الموتور أهله وماله من ضيّع صلاة العصر قلت : وما الموتور؟ قال : لا يكون له أهل ولا مال في الجنّة قلت : وما تضييعها؟ قال : يدعها حتّى تصفر وتغيب .
ورواه في الوسائل عن الصدوق أيضاً مع زيادة في صدره وذكر «أو» مكان «الواو» في قوله : حتى تصفر وتغيب .
والاستدلال بها مبني على أن يكون العطف بأو مع أنّه لم يثبت كما عرفت مضافاً إلى أنّ العطف بأو في مثل المقام ممّا يكون الأمر الأوّل متحقّقاً قبل الأمر الثاني دائماً ممّا لا وجه له لعدم المعقولية .
مع أنّه على تقدير تسليم ذلك لا دلالة للرواية على حرمة التأخير واستحقاق العقوبة بسببه ، غاية الأمر انّ التأخير يوجب تحقّق الموتورية وفقدان الأهل والمال في الجنّة وكونه كلاًّ على أهلها وهذه منقصة يمكن أن تكون ناشئة من ترك الصلاة في وقت الفضيلة وعدم رعايته فلا دلالة للرواية على مدّعاه مع أنّ الظاهر من قوله : يدعها هو استمرار الترك الناشئ من البناء العملي على التأخير وقد عرفت خروج مثل هذا الفرض ممّا يكون التأخير بداع الإعراض عن السنّة والتهاون بها وعدم الاعتناء بشأنها عن محلّ الكلام ويؤيّده توصيفه بالتعمّد في بعض الروايات .
ومنها : صحيحة أبان بن تغلب قال : كنت صلّيت خلف أبي عبدالله (عليه السلام)بالمزدلفة فلمّا انصرف التفت إليّ فقال : يا أبان الصلوات الخمس المفروضات من أقام
الصفحة 178
حدودهنّ وحافظ على مواقيتهن لقى الله يوم القيامة وله عنده عهد يدخله به الجنّة ، ومن لم يقم حدودهنّ ولم يحافظ على مواقيتهنّ لقى الله ولا عهد له ، إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له .
واُجيب عن الاستدلال بها انّها نظير ما دلّ على أنّ أوّل الوقت رضوان الله وآخره عفو الله فمفادها انّ من صلاّها في أوقات الفضيلة فقد وعده الله أن يدخله الجنّة بذلك ومن صلاّها في غير تلك الأوقات فليس له وعدم من الله سبحانه بل له أن يدخله الجنّة وله أن لا يدخلها .
والحقّ انّ المراد بالمواقيت في الرواية هي مواقيت الاجزاء ومفادها انّ عدم رعايتها وعدم المحافظة عليها يوجب استحقاق العذاب وإن كان غير تارك لأصل الصلاة ، غاية الأمر انّ تحقّق العذاب متوقّف على مشيئة الله والشاهد لما ذكرنا جعل عدم المحافظة في عداد عدم إقامة حدود الصلوات الظاهر في عدم الاهتمام بشرائطها وخصوصياتها المعتبرة فيها ، وعليه فمراد الرواية إنّ إتيان الصلاة في الوقت مع جميع الخصوصيات موجب لثبوت العهد المذكور والإخلال بالوقت أو بالحدود مع عدم الترك رأساً موجب لاستحقاق العذاب ، وعليه فلا تكون الرواية نظير الرواية المذكورة في الجواب فتدبّر .
ومنها : موثقة معاوية بن وهب عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : أتى جبرئيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمواقيت الصلاة فأتاه حين زالت الشمس فأمره فصلّى الظهر ، ثمّ أتاه حين زاد الظلّ قامة فأمره فصلّى العصر ثمّ أتاه حين غربت الشمس فأمره فصلّى المغرب ثمّ أتاه حين سقط الشفق فأمره فصلّى العشاء ثمّ أتاه حين طلع الفجر فأمره فصلّى الصبح . ثمّ أتاه من الغد حين زاد في الظلّ قامة فأمره فصلّى الظهر ثمّ أتاه حين زاد في الظلّ قامتان فأمره فصلّى العصر ثمّ أتاه حين غربت الشمس فأمره فصلّى المغرب
الصفحة 179
ثمّ أتاه حين ذهب ثلث الليل فأمره فصلّى العشاء ثمّ أتاه حين نور الصبح فأمره فصلّى الصبح ثمّ قال : ما بينهما وقت .
والاستدلال بها مبني على دعوى ظهور الرواية في اختصاص الوقت بما بين الزمانين المختلفين الذين جاء فيهما جبرئيل في يومين .
والجواب : مضافاً إلى أنّ ظاهر الرواية هو ثبوت وقت بينهما ، وامّا انّ الوقت هو الوقت الاختياري كما يقول به المستدلّ أو وقت الفضيلة كما يقول به غيره فلا دلالة للرواية عليه .
وبعبارة اُخرى لابدّ من اشتمال الوقت المذكور على خصوصية ولا دلالة للرواية على بيانها أصلاً ، انّ الوقت الاختياري لو كان منحصراً بما بين الحدّين فكيف صلّى النبيّ (صلى الله عليه وآله) الظهر في المرّة الثانية بعد الحدّ الثاني مع ظهور التحديد في لزوم وقوعها فيما ين الحدّين وظهور عدم عروض الاضطرار فيها فاللاّزم الحمل على وقت الفضيلة كما لا يخفى .
ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا صلّيت في السفر شيئاً من الصلوات في غير وقتها فلا يضرّك . وتقريب الاستدلال بها انّ الضرورة قاضية بعدم جواز الإتيان بالفرائض في غير أوقاتها المعيّنة بلا فرق في ذلك بين السفر والحضر فلابدّ من أن يكون المراد بالوقت فيها هو الوقت الاختياري الذي لا يجوز التأخير عنه إلاّ عند الاضطرار ، والسفر أيضاً من جملة الأعذار ففي الحقيقة تكون الرواية مسوقة لبيان ذلك وانّ السفر أيضاً مجوز للتأخير عن الوقت الاختياري فلا يتحقّق الضرر فيه ومفهومه انّ التأخير يضرّ في غير السفر .
وأجاب عنها بعض الأعلام أوّلاً : بأنّ قوله (عليه السلام) شيئاً . . . نكرة في سياق الإثبات وهي لا تدلّ على العموم ، بل يلائم مع البعض فالرواية تدلّ على أنّ بعض
الصفحة 180
الصلوات كذلك وليكن هو النوافل لجواز الإتيان ببعضها في غير أوقاتها في خصوص السفر .
وثانياً : بأنّ الصلاة في غير وقتها أعمّ من تأخيرها عن وقتها لشموله لتقديمها على وقتها أيضاً ، ومن الواضح عدم انطباق ذلك إلاّ على النوافل لوضوح انّ الفرائض لا يجوز تقديمها على أوقاتها في شيء من الموارد بخلاف النوافل كصلاة الليل حيث يجوز تقديمها على الانتصاف للمسافر اختياراً .
وثالثاً : بأنّه لو سلّم ما ذكر لا يكون للرواية مفهوم أصلاً; لأنّ مفهومها إذا لم تصلِّ في السفر شيئاً من الصلوات في غير وقتها فلا يضرّك وهو من السالبة بانتفاء الموضوع; لأنّه مع عدم الإتيان بالصلاة لا موضوع حتى يؤتى به في وقته أو في غير وقته ، نعم تقييد الموضوع بقيد في الكلام يدلّ على أنّ الحكم غير مترتّب على المطلق بل على حصّة خاصّة منه وإلاّ تلزم لغوية التقييد ، وعليه فلابدّ من القول بأنّ السفر له خصوصية في الحكم بعدم الضرر وهذا لا يكفي في دلالة الرواية على المدّعى; لأنّه يكفي في تلك الخصوصية وجود الحزازة في التأخير عن وقت الفضيلة في الحضر وانتفائها في السفر .
ويرد على الجواب الأوّل وضوح ثبوت الإطلاق لكلمة «شيئاً» وانّ الاختيار إنّما هو بيد المصلّي والغرض نفي الإتيان بجميع الصلوات في غير أوقاتها ، وعليه فمقتضى الإطلاق الشمول للنوافل كإطلاق الرجل في قوله : أكرم رجلاً ، الشامل لغير العالم أيضاً .
وعلى الجواب الثاني : انّ إطلاق قوله : في غير وقتها وإن كان شاملاً للتقديم على الوقت أيضاً إلاّ انّ عموم قوله : الصلوات شامل للصلوات المفروضات أيضاً ولا ترجيح للإطلاق على العموم لو لم نقل بالعكس من جهة توقّف الإطلاق على عدم
|