الصفحة 481
ولكنّ الظاهر انّه لا دلالة لها على وجوب الأذان والإقامة في الجماعة فإنّ محطّ السؤال إنّما هو اجزاء أذان واحد عن الإذانين المعلوم حكمهما عند السائل والاكتفاء بواحد عن الاثنين ، وامّا انّ حكمها هو الوجوب أو الاستحباب فلا دلالة للسؤال عليه وكذا الجواب ، بل يمكن أن يقال : بأنّ نفس هذا السؤال دليل على عدم ثبوت الوجوب عند السائل لأنّه على تقدير كون الحكم هو الوجوب والواجب هو الأمرين لا مجال للسؤال عن الاكتفاء بالواحد عن الآخر بعد اتصاف كلّ منهما بالوجوب وهذا بخلاف الاستحباب كما لا يخفى مع أنّ التعبير بـ «ينبغي» في الجواب لا يخلو عن الإشعار بعدم الوجوب أيضاً ، ثمّ انّ السؤال مشعر بكون الإقامة أيضاً أذاناً كما ذكرناه في أوّل البحث .
ومنها : صحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : يجزيك إذا خلوت في بيتك إقامة واحدة بغير أذان .
فإنّ الخلوة في البيت كناية عن الصلاة منفرداً ومفهومها ـ حينئذ ـ عدم الكفاية في صلاة الجماعة .
والجواب عن الاستدلال بها ما ذكرنا من عدم كون الرواية مسوقة لحكم الأذان والإقامة بل الاكتفاء بأحدهما في الصلاة منفرداً مع الفراغ عن وضوح حكمهما .
ومنها : صحيحة عبيدالله بن علي الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) انّه كان إذا صلّى وحده في البيت أقام إقامة ولم يؤذّن .
ومن الواضح انّها حكاية فعل وهو أعمّ من الوجوب فتدبّر .
ومنها : موثقة عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال : سئل عن الرجل يؤذن ويقيم ليصلّي وحده فيجيء رجل آخر فيقول له : تصلّي جماعة هل يجوز أن يصلّيا
الصفحة 482
بذلك الأذان والإقامة؟ قال : لا ولكن يؤذِّن ويقيم .
وظهورها في كون محطّ السؤال هو الاجتزاء بالأذان والإقامة اللذين أتى بهما الرجل ليصلّي وحده لعدم حضور رجل آخر عندهما بعد الفراغ عن وضوح حكمهما عند السائل لا ريب فيه ، وامّا كون الحكم هو الوجوب أو الاستحباب فلا دلالة لها عليه بوجه .
هذا كلّه مضافاً إلى معارضتها ببعض الروايات الظاهرة في عدم الوجوب في الجماعة مثل صحيحة علي بن رئاب قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) قلت : تحضر الصلاة ونحن مجتمعون في مكان واحد أتجزينا إقامة بغير أذان؟ قال : نعم . ومن الواضح انّ المراد بقول السائل : نحن مجتمعون . . . هي الصلاة جماعة لا صرف الاجتماع فتدلّ على عدم لزوم الأمرين في الجماعة .
ورواية الحسن بن زياد قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : إذا كان القوم لا ينتظرون أحداً اكتفوا بإقامة واحدة .
ولا دلالة لهذه الرواية على التفصيل بين صورة انتظار بعض المأمومين وبين صورة عدم الانتظار حتى تجعل شاهدة للجمع بحمل الطائفة الدالّة على الوجوب على صورة الانتظار وحمل صحيحة ابن رئاب على صورة العدم وذلك لأنّ مرجع هذا التفصيل إلى ما ذكرنا من كون الأذان إعلاماً للغائبين بالحضور في الجماعة وفائدته مجرّد الشركة فيها وبعدما لا تكون الجماعة إلاّ فضيلة لا واجبة لا مجال لوجوب الاعلام بها وقد ظهر ممّا ذكرنا عدم تمامية القول باعتبارهما في الجماعة .
وقد استدلّ على اعتبار الأذان في خصوص الصبح والمغرب ولو مع الإتيان بهما فرادى بروايات أيضاً :
منها : ذيل رواية أبي بصير المتقدّمة وقد مرّ الجواب عن الاستدلال بها .
الصفحة 483
ومنها : صحيحة صفوان بن مهران عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : الأذان مثنى مثنى والإقامة مثنى مثنى ، ولابد في الفجر والمغرب من أذان وإقامة في الحضر والسفر لأنّه لا يقصر فيهما في حضر ولا سفر ، وتجزئك إقامة بغير أذان في الظهر والعصر والعشاء الآخرة ، والأذان والإقامة في جميع الصلوات أفضل .
ويمكن المناقشة في دلالتها بأنّه بعد كون الفرق بين المغرب والصبح وبين الصلوات الثلاث الاُخر هو في الأذان دون الإقامة كما هو مقتضى صدر الرواية يكون عطف الإقامة على الأذان في الحكم بالفضيلة في جميع الصلوات في الذيل شاهداً على أنّ الحكم لا يتعدّى عن مرتبة الفضل والكمال فتدبّر .
ومنها : صحيحة الصباح بن سيابة قال : قال لي أبو عبدالله (عليه السلام) : لا تدع الأذان في الصلوات كلّها فإن تركته فلا تتركه في المغرب والفجر فإنّه ليس فيهما تقصير .
ويمكن المناقشة في دلالتها أيضاً بأنّ الظاهر من قوله (عليه السلام) : «فإن تركته» ليس هو الترك عصياناً موجباً لاستحقاق العقوبة أو بطلان العمل بل هو ترك ما لا ينبغي أن يترك من الفضيلة والكمال ، وعليه فيظهر انّ النهي عن ترك الأذان في الصلوات كلّها ليس نهياً تحريمياً أو إرشادياً إلى البطلان وإلاّ يكون المراد بالترك ما نفيناه ومقتضى اتحاد السياق أن لا يكون النهي في الذيل أيضاً كذلك .
ومنها : صحيحة ابن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : تجزئك في الصلاة إقامة واحدة إلاّ الغداة والمغرب .
والمناقشة في دلالتها تظهر ممّا ذكرنا من أنّ الظاهر هو الاجزاء عن العملين اللذين يكون حكمهما معلوماً ، وامّا انّه الواجب أو غيره فلا دلالة لها عليه .
ثمّ على تقدير تسليم ظهور هذه الروايات في وجوب الأذان في الفجر والمغرب لابدّ من حملها على الاستحباب بشهادة صحيحة عمر بن يزيد قال : سألت أبا
الصفحة 484
عبدالله (عليه السلام) عن الإقامة بغير الأذان في المغرب فقال : ليس به بأس وما أحبّ أن يعتاد . ومن المعلوم عدم الفصل بين المغرب وبين الفجر مضافاً إلى اشتراكهما في التعليل المذكور فيها وهو انّه لا يقصر فيهما فيستفاد من ذلك عدم صلاحية التعليل المشترك لإفادة اللزوم .
وامّا الإقامة فقد استدلّ على وجوبها مطلقاً أو في الجملة بروايات أيضاً :
منها : موثقة عمّار قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : لابدّ للمريض أن يؤذّن ويقيم إذا أراد الصلاة ولو في نفسه إن لم يقدر على أن يتكلّم به ، سئل : فإن كان شديد الوجع؟ قال : لابدّ من أن يؤذّن ويقيم لأنّه لا صلاة إلاّ بأذان وإقامة .
وبعد كون الحكم في الأذان هو الاستحباب كما أثبتناه لابدّ من حمل قوله : لا صلاة إلاّ . . . على نفي الكمال دون الصحّة ولا مجال للتفكيك بين الأذان والإقامة بعد كون العبارة واحدة كما لا يخفى .
ومنها : الروايات الظاهرة في أنّ الإقامة من الصلاة أو مثلها من التعبيرات مثل رواية سليمان بن صالح عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لا يقيم أحدكم الصلاة وهو ماش ولا راكب ولا مضطجع إلاّ أن يكون مريضاً ، وليتمكّن في الإقامة كما يتمكّن في الصلاة فإنّه إذا أخذ في الإقامة فهو في صلاة .
ورواية يونس الشيباني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قلت له : أوذّن وأنا راكب؟ قال : نعم ، قلت : فاُقيم وأنا راكب؟ قال : لا ، قلت : فاُقيم ورجلي في الركاب؟ قال : لا ، قلت : فاُقيم وأنا قاعد؟ قال : لا ، قلت : فاُقيم وأنا ماش؟ قال : نعم ماش إلى الصلاة ، ثمّ قال : إذا أقمت الصلاة فأقم مترسلا فإنّك في الصلاة الحديث .
ورواية أبي هارون المكفوف قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : يا أبا هارون الإقامة من الصلاة فإذا أقمت فلا تتكلّم ولا تؤم بيدك . وغيرها من الروايات الدالّة على هذا
الصفحة 485
المضمون .
والجواب : انّه لا مجال لحمل هذه الروايات على كون الإقامة حقيقة من الصلاة ومن أجزائها وأبعاضها وانّ الداخل فيها داخل في الصلاة حقيقة كيف ويدفع ذلك ـ مضافاً إلى وضوح هذا الأمر عند المتشرّعة من الخاص والعام ـ الروايات الكثيرة الدالّة على أنّ افتتاح الصلاة إنّما هو بالتكبير المسمّى بتكبيرة الافتتاح ، وجملة من الروايات الواردة في الإقامة الظاهرة في المغايرة بينهما مثل الروايات الواردة في نسيان الإقامة حتّى إذا دخل في الصلاة وغيرها .
فلابدّ من أن يكون المراد هو التنزيل والتشبيه بلحاظ بعض الخصوصيات المعتبرة في الصلاة كالتمكّن والترسل وعدم التكلّم والايماء باليد وأشباه ذلك . ومن الواضح انّ ثبوت هذه الخصوصيات في الإقامة لا يلازم مع وجوبها . وممّا ذكرنا يظهر انّ اعتبار مثل القيام والطهارة على تقديره لا يستلزم وجوبها بوجه .
ومنها : الروايات الدالّة على أنّه لا أذان ولا إقامة على النساء مثل صحيحة جميل بن دراج قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن المرأة أعليها أذان وإقامة؟ فقال : لا . ومرسلة الصدوق قال : قال الصادق (عليه السلام) : ليس على النساء أذان ولا إقامة ولا جمعة ولا جماعة . وغيرهما من الروايات الواردة بهذا المضمون نظراً إلى كون المنفي عن النساء ليس أصل المشروعية والرجحان لوضوح ثبوت مشروعيتهما بالإضافة إليهنّ إجماعاً فالمنفي هو اللزوم والوجوب ، ونفيه بالإضافة إليهنّ يدلّ على ثبوته بالإضافة إلى الرجال فيستفاد من هذه الروايات وجوب الإقامة على الرجال كما هو أحد الأقوال فيها .
والجواب انّ الاستدلال بالرواية الاُولى على الوجوب للرجال إنّما يبتني على كون السؤال عن اللزوم على المرأة كاشفاً عن مفورغية اللزوم على الرجال في نظر
الصفحة 486
السائل مع أنّه ممنوع لعدم دلالته على مفروغية ذلك بوجه لأنّه يحتمل أن يكون في ذهنه اللزوم بالإضافة إلى خصوص النساء لعدم شركتهنّ في صلاة الجماعة نوعاً وهما يوجبان صيرورة الفرادى جماعة ، وامّا مثل المرسلة فلا دلالة لها على الوجوب للرجال إلاّ من طريق مفهوم اللقب وهو غير حجّة مع أنّ التشريك بينهما وبين الجماعة التي لا تجب على الرجال أيضاً ضرورة يوجب الضعف في الدلالة المذكورة .
ومنها : موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا قمت إلى صلاة فريضة فاذّن وأقم وافصل بين الأذان والإقامة بقعود أو بكلام أو بتسبيح .
والجواب انّ وقوع الأمر بالإقامة في وسط الأمرين اللذين للاستحباب لما مرّ من استحباب الأذان ولوضوح عدم وجوب الفصل بينه وبين الإقامة بما ذكر في الرواية يوجب سقوط ظهوره في الوجوب وكونه كالأمرين في كون المراد منه الاستحباب فتدبّر .
ومنها : الروايات الظاهرة في لزوم الانصراف فيما إذا نسى الأذان والإقامة أو خصوص الإقامة حتّى إذا دخل في الصلاة قبل أن يركع أو قبل أن يقرأ أو قبل أن يفرغ من صلاته على اختلافها وقد أوردها في الوسائل في الباب التاسع والعشرين والثامن والعشرين من أبواب الأذان والإقامة .
والجواب انّه لو كان الانصراف في المورد المفروض واجباً لكان كاشفاً عن لزوم الإقامة لأنّه لا معنى لوجوب الانصراف مع عدم وجوبها ، وامّا لو لم يكن كذلك كما هو صريح بعض الروايات الاُخر فلا يكشف ذلك عن اللزوم لأنّه لابدّ بملاحظتها من حمل الأمر بالانصراف على الجواز أو الرجحان وشيء منهما لا يستلزم الوجوب بوجه .
الصفحة 487
وذلك مثل رواية داود بن سرحان عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رجل نسي الأذان والإقامة حتّى دخل في الصلاة قال : ليس عليه شيء . ورواية زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قلت له : رجل ينسى الأذان والإقامة حتّى يكبّر قال : يمضي على صلاته ولا يعيد . وغيرهما من الروايات الدالّة على عدم لزوم الانصراف والإعادة .
ومنها : رواية أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن رجل نسى أن يقيم الصلاة حتّى انصرف أيعيد صلاته؟ قال : لا يعيدها ولا يعود لمثلها . بناء على كون المراد من السؤال ما هو ظاهره من الترك نسياناً والمراد من النهي عن العود إلى مثلها هو لزوم التحفّظ والمراقبة لئلاّ يبتلى بالنسيان الموجب للترك .
وامّا بناء على جعل قوله : لا يعود لمثلها قرينة على أنّ المراد من النسيان هو الترك عن عمد لأنّه لا معنى للنهي عن العود إلى مثلها مع أنّ النسيان لا يكون من الاُمور الاختيارية فالرواية تصير دليلا على عدم وجوب الإعادة مع كون الترك إنّما هو عن عمد لا يجتمع مع الوجوب ، نعم لو كان المراد من وجوب الإقامة هو الوجوب الاستقلالي الذي لا يرجع إلى الشرطية للصلاة ـ كما لا يأبى عنه بعض كلمات القائلين بالوجوب على ما ربّما يقال ـ لما كان عدم وجوب الإعادة كاشفاً عن عدمه لأنّه إنّما ينفي الشرطية فقط دون الوجوب مطلقاً . ولكن هذا المعنى مع أنّه محكي عن ظاهر الشيخ والحلّي وابن سعيد في غاية البعد لأنّ حمل النسيان على ضدّ معناه وهو الترك عن عمد في غاية الغرابة والذيل لا يصير قرينة عليه بعدما ذكرنا من كون المراد منه هو لزوم التحفّظ والمراقبة .
ثمّ إنّ هذه الروايات التي استدلّ بها على وجوب الإقامة لو سلم دلالتها عليه وتماميتها لكان مقتضاها الوجوب لو لم يكن في مقابلها ما يدلّ على العدم مثل ما
الصفحة 488
عبّر فيه بأنّ الأذان المراد به الأعمّ من الإقامة سنّة ، وما دلّ على أنّ الإقامة توجب اقتداء صفّ طويل من الملائكة بالمصلّي الظاهر في أنّ ثمرتها صيرورة الفرادى جماعة وما دلّ على أنّ الأذان والإقامة في جميع الصلوات أفضل .
ودعوى انّه إنّما يثبت أفضلية الأذان والإقامة مجتمعاً لا أفضلية كلّ واحد منهما بالإضافة إلى تركه .
مدفوعة بأنّ هذا التعبير لا يجتمع مع وجوب الإقامة كما لا يجتمع مع وجوب الأمرين كما هو واضح والتعبير بـ «ينبغي» في بعض الروايات المتقدّمة وكونها أيضاً نداء كالأذان والنداء خارج عن حقيقة الشيء وإن كان هذا التعبير إنّما ينفي الوجوب الشرطي لا الاستقلالي وغير ذلك ممّا يظهر منه عدم الوجوب ، ولكن في النفس شيء وهو انّه لا يوجد في الروايات الواردة في الإقامة ـ مع كثرتها في الغاية ـ مورد رخص فيه في تركها ما عدى النساء مع وجود الترخيص في ترك الأذان في كثير من الموارد مثل السفر وغير الفجر والمغرب وبعض الموارد الاُخر فهذا يوجب التزلزل في الحكم بعدم الوجوب مطلقاً كما هو المشهور ، وعليه فينبغي أن لا يترك الاحتياط في الإقامة بالإضافة إلى الرجال فتدبّر .
بقي الكلام في مشروعية أذان الاعلام وعدمها فنقول : يظهر من جماعة من الفقهاء كصاحب الحدائق وتلميذه العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) المشروعية ، واستدلّ على ذلك صاحب الجواهر (قدس سره) بجريان السيرة القطعية به وباستفادتها من النصوص المستفيضة كصحيح معاوية بن وهب عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من أذّن في مصر من أمصار المسلمين سنة وجبت له الجنّة . وغيره من الأخبار الواردة في مدح المؤذّنين .
وقد فرّفوا بينه وبين الأذان للصلاة في جملة من الأحكام التي منها اعتبار
الصفحة 489
الذكورة في هذا الأذان دون أذان الصلاة ، قال العلاّمة الطباطبائي بعد قوله : «وما له الأذان في الأصل وسم ، شيئان : اعلام وفرض قد علم» وبعد بيان افتراقهما في الأحكام : «فافترق الأمران في الأحكام ، فرقاً خلا عن وصمة الابهام» .
أقول : امّا السيرة فلا خفاء في أنّ الغالب في الأذان هو كونه للصلاة والغرض منه دعوة الناس إليها والشركة في صلاة الجماعة ، ويؤيّده انّ المحلّ المعدّ لذلك هو المسجد أو مثله من الأمكنة التي تقام فيها الجماعة كالمشاهد المشرفة ولم يعهد إعداد محلّ له غير مرتبط بالصلاة ، نعم لا ينبغي إنكار وقوع الأذان من المتشرّعة لمجرّد الاعلام بدخول الوقت خصوصاً في شهر الصيام إلاّ انّ اتصال هذه السيرة بزمن الأئمّة المعصومين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ بحيث كان بمرئى منهم ولم يتحقّق منهم ردع عنها غير معلوم وللمدّعي إثبات ذلك .
وامّا الروايات الدالّة على ثبوت الفضيلة والأجر للأذان والواردة في مدح المؤذنين فلا دلالة لها على المقام بوجه ضرورة انّ موضوعها هو الأذان المشروع ولابدّ من ثبوت المشروعية بدليل آخر والملائمة بين تلك الفضائل والأذان للصلاة ظاهرة لأنّه حيث يكون الأذان كذلك متوقّفاً على الصوت البليغ الذي يسمعه الناس كما يدلّ عليه التعبير عنه في الآيتين بالنداء ومن المعلوم انّ الصوت كذلك ممّا يأبى عنه بعض الناس بل أكثرهم لمنع صفة التكبّر الموجودة فيهم عنه ترتّبت عليه تلك المثوبات العظيمة والفوائد الخطيرة .
وبالجملة هذه الروايات إنّما وردت في خصوص مورد المشروعية ولا دلالة لها على التشريع فهل يمكن استفادة مشروعية الأذان قبل الوقت ـ مثلا ـ من هذه الروايات .
فلم تثبت مشروعية أذان الأعلام خصوصاً بعد ملاحظة ما ذكرنا من أنّ
الصفحة 490
تشريع الأذان في الابتداء كان لدعوة الناس إلى إقامة الصلاة ، غاية الأمر انّه قد شرع للمنفرد أيضاً لأن تصير صلاته جماعة والآيتان الواردتان فيه قد عبّر فيهما عنه بالنداء إلى الصلاة ويؤيّده أيضاً فصوله الأخيرة التي هي بمنزلة المعرف لماهيته كالحيّعلات شاهدة على ما ذكرنا من ارتباطه بالصلاة وكونه دعوة إليها ، غاية الأمر انّه يدعوهم إلى الصلاة بعبارات مختلفة موجبة للأوقعية في النفوس ففي الابتداء يدعوهم إليها بعنوانها وفي المرتبة الثانية يدعوهم إليها بعنوان الفلاح الذي هو مطلوب الناس وفي الثالثة يدعوهم إليها بعنوان خير العمل الذي هو منتهى رغبة الناس وغاية مطلوبهم فهذه الفصول التي هي بمنزلة الفصول تدلّ على كمال الارتباط بينه وبين الصلاة كما هو ظاهر .
وعلى ما ذكرنا لا مجال للإتيان بأذان الاعلام ، نعم لا بأس به رجاء نظراً إلى اخبار «من بلغ» بدعوى عدم اختصاص البلوغ بالرواية وصدقه بمجرّد الفتوى أيضاً وفيه تأمّل .
الصفحة 491
مسألة 2 ـ يسقط الأذان في العصر والعشاء إذا جمع بينهما وبين الظهر والمغرب من غير فرق بين موارد استحباب الجمع مثل عصر يوم الجمعة وعصر يوم عرفة ، وعشاء ليلة العيد في المزدلفة حيث إنّه يستحبّ الجمع بين الصلاتين في هذه المواضع الثلاثة ، وبين غيرها ، ويتحقّق التفريق المقابل للجمع بطول الزمان بين الصلاتين ، وبفعل النافلة الموظفة بينهما على الأقوى فبإتيان نافلة العصر بين الظهرين ونافلة المغرب بين العشائين يتحقّق التفريق الموجب لعدم سقوط الأذان ، والأقوى انّ سقوط الأذان في حال الجمع في عصر يوم عرفة وعشاء ليلة العيد بمزدلفة عزيمة بمعنى عدم مشروعيته فيحرم إتيانه بقصدها ، والأحوط الترك في جميع موارد الجمع 1 .
1 ـ ظاهر المتن انّ سقوط الأذان في موارد الجمع ـ المذكورة فيه ـ إنّما هو بملاك واحد وهو مجرّد الجمع من غير فرق بين موارد استحبابه كالمواضع الثلاثة المذكورة وبين موارد جوازه من دون رجحان ويظهر من بعض الكلمات انّ السقوط في المواضع الثلاثة إنّما هو لخصوصية فيها لا لأجل مجرّد الجمع وانّه لا دليل على سقوط الأذان في تمام موارد الجمع ، وعليه فالمناسب البحث أوّلا في خصوص تلك المواضع وثانياً في إمكان استفادة الكلّية المذكورة من الدليل وعدمه فنقول :
الموضع الأوّل عصر يوم الجمعة والقدر المتيقّن هو سقوط الأذان بالإضافة إليها إذا تحقّق الجمع بينها وبين خصوص صلاة الجمعة وقد اعتمد في الجواهر في الحكم بالسقوط فيها على الإجماعات الصريحة أو الظاهرة المحكية عن الغنية والسرائر والمنتهى وغيرها الكافية في رفع اليد بها عن إطلاقات الاستحباب أو عموماته مضافاً إلى السيرة العملية الجارية على ذلك .
الصفحة 492
ولسيّدنا الاستاذ العلاّمة البروجردي (قدس سره) في نظائر هذا المقام ممّا يكون خالياً عن النص ومع ذلك أفتى به الأصحاب طريق خاص وهو استكشاف وجود نصّ معتبر في الجوامع الأوّلية وانّه لم يصل إلينا من نفس تلك الفتاوى والآراء المتطابقة المتوافقة خصوصاً مع كون الحكم على خلاف القاعدة العامّة أو المطلقة .
وربّما يستدلّ على ذلك برواية حفص بن غياث عن جعفر (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام)قال : الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة .
والظاهر اتحادها مع روايته الاُخرى المذكورة في الوسائل بعدها عن أبي جعفر (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال : الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة .
وجه الاستدلال انّ الظاهر انّ المراد بالأذان الثالث هو أذان صلاة العصر لأنّها الصلاة الثالثة وقبلها الظهر والصبح .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لا دلالة للرواية على كون المراد بالصلاة الثانية هي خصوص صلاة الجمعة لاحتمال كون المراد بها صلاة الظهر أو الأعمّ منها ومن صلاة الجمعة وإلى أنّه لا دلالة لها على خصوص صورة الجمع لشمول إطلاقها لصورة التفريق أيضاً ـ انّه لم تقم قرينة على كون المراد بالأذان الثالث هو أذان صلاة العصر لاحتمال كون المراد به هو الأذان الثاني لصلاة الجمعة الذي ابتدعه عثمان بعد الخطبتين والمراد بالأذانين قبله هما أذان الصبح والأذان الأوّل لصلاة الجمعة الواقع قبل الخطبتين أو أذان الاعلام واذان الصلاة كما ربّما يقال ويؤيّده إطلاق البدعة عليه الظاهرة في التشريع الذي قد ارتكبه أحد وصدر منه بخلاف مطلق التشريع فتدبّر . كما انّه يؤيّده ورود التعبير في بعض الأخبار بأنّ الأذان الثاني بدعة نظراً إلى أنّ الظاهر عدم ثبوت البدعتين في أذان يوم الجمعة وانّ الذي عبّر عنه بالأذان الثالث هو الذي عبّر عنه في بعض الأخبار بالأذان الثاني والظاهر
الصفحة 493
انّ المراد منه هو الأذان الثاني لصلاة الجمعة الواقع بعد الخطبتين كما لا يخفى . وكيف كان فالاستدلال بالرواية على حكم خصوص المقام غير تام .
الموضع الثاني : عصر يوم عرفة والمراد منه صورة الجمع بينها وبين الظهر ولم يظهر فيه خلاف ، بل عن جماعة كثيرة دعوى الإجماع صريحاً وظاهراً ويدلّ عليه صحيحة ابن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : السنّة في الأذان يوم عرفة أن يؤذِّن ويقيم للظهر ثمّ يقوم فيقيم للعصر بغير أذان وكذلك في المغرب والعشاء بمزدلفة . وظهورها في الجمع ممّا لا ينبغي أن ينكر وإن وقع فيها التعبير بـ «ثم» إلاّ انّ هذا التعبير وقع في الإتيان بالصلاة الاُولى بعد الأذان والإقامة مع أنّه لا فصل بينهما ومقتضى إطلاقها انّه لا فرق بين عرفة وغيرها من المواضع لأنّ الموضوع هو يوم عرفة وظاهره كون الخصوصية للزمان لكن عن ظاهر السرائر اختصاص الحكم بعرفة وأيّده في الجواهر بكونه المنساق من النصّ ولعلّ نظره إلى الوقوع في سياق المزدلفة مع أنّه لا دلالة له على الاختصاص بوجه خصوصاً بعد احتمال كون الملاك في ذلك هو الفضيلة الخاصّة للدعاء في ذلك اليوم التي لا فرق فيها بين عرفة وغيرها من المواضع فالإنصاف ثبوت الإطلاق للرواية .
الموضع الثالث : عشاء ليلة المزدلفة إذا جمع بينها وبين صلاة المغرب ويشهد له مضافاً إلى صحيحة ابن سنان المتقدّمة في الموضع الثاني صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : صلاة المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامتين ولا تصل بينهما شيئاً وقال : هكذا صلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) . وصحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام)أيضاً قال : قال : لا تصلِّ المغرب حتّى تأتي جمعاً فصلِّ بها المغرب والعشاء الآخرة بأذان وإقامتين . والمراد من الجمع هي المزدلفة وفي رواية محمد بن علي بن الحسين عن النبي والأئمّة ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ـ انّه إنّما سمّيت
الصفحة 494
المزدلفة جمعاً لأنّه يجمع فيها بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين . وبمثلها يندفع الإشكال من جهة عدم الدلالة على خصوص صورة الجمع كما لا يخفى .
ثمّ إنّه لا مجال لاستفادة سقوط الأذان في جميع موارد الجمع من السقوط في هذه المواضع الثلاثة لعدم وضوح دلالة الأدلّة الواردة فيها على كون الملاك للسقوط هو مجرّد الجمع خصوصاً بعد افتراقها مع سائر الموارد في كون الجمع فيها مستحبّاً دون سائر الموارد ، بل لابدّ من استفادة السقوط في غير هذه المواضع من دليل آخر لو كان وظاهر المتن هو وجود الدليل عليه كما انّ الذي يظهر من العروة عدم وجوده .
والظاهر إمكان الاستفادة من الروايات المتعدّدة :
منها : صحيحة عمر بن اُذينة عن رهط منهم الفضيل وزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين وجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين .
ويمكن المناقشة في الاستدلال بها ـ تارة ـ بأنّ هذه الرواية رواها الصدوق بنحو الإرسال . إلاّ انّه قال : بين الظهر والعصر بعرفة ثمّ قال : بين المغرب والعشاء بجمع ، وعليه فلا دلالة لها على السقوط في غير يوم عرفة وبمزدلفة و ـ اُخرى ـ بأنّ ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأذان في الصلاة الثانية لا دلالة له على السقوط فلعلّه كان تركاً للمستحبّ إشعاراً بجواز تركه كأصل الجمع بين الصلاتين ، وبعبارة اُخرى لا دلالة للرواية إلاّ على مجرّد جواز ترك الأذان في الثانية وهو لا ينافي بقائه على استحبابه كسائر الموارد .
وتندفع المناقشة الاُولى بأنّ رواية الصدوق إيّاها بالنحو المذكور لا توجب خللا في إطلاق الرواية بالنحو الأوّل خصوصاً بعد كونها بهذا النحو مسندة بسند صحيح .
الصفحة 495
والثانية : بما أشرنا إليه مراراً من أنّ الحاكي لفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) لو كان هو الإمام (عليه السلام) وكان غرضه منه بيان الحكم ، غاية الأمر بهذا النحو ومن هذا الطريق تكون الحكاية كاللفظ الصادر منه في جواز التمسّك بإطلاقه واستفادة الحكم من الخصزصيات التي وقعت مورداً للتعرّض ، وعليه فالتصريح بترك الأذان في كلا موردي الجمع يكشف عن العناية بذلك وانّ غرضه (عليه السلام) منه هو سقوطه فيه وثبوت الفرق بينه وبين غيره من سائر الموارد التي لا يتحقّق الجمع فيها كما لا يخفى .
ومثلها صحيحة عبدالله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين وجمع بين المغرب والعشاء في الحضر من غير علّة بأذان واحد وإقامتين .
ودعوى انّ التعرض لذكر ترك الأذان ليس إلاّ كالتعرّض لأصل الجمع الذي لا مجال فيه إلاّ للحمل على مجرّد الجواز من دون احتمال كونه على سبيل الاستحباب .
مدفوعة بأنّ التعرّض لذكر الجمع إنّما هو في مقابل العامّة القائلين بعدم جوازه لاعتقادهم باختلاف مواقيت الصلاة وتباينها من جهة الوقت والجمع مستلزم لورود صلاة في وقت صلاة اُخرى فالتعرّض له لا يراد به إلاّ مجرّد عدم المنع في قبال القول به .
وامّا التعرّض لترك الأذان فلا محمل له إلاّ السقوط وثبوت الفرق بينه وبين سائر الموارد التي لا يتحقّق الجمع فيها ، فالإنصاف تمامية الاستدلال بمثل هذه الروايات على السقوط ، نعم وقع الكلام في أنّه هل هو على نحو العزيمة أو الرخصة وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .
بقي الكلام في اُمور :
الأوّل : انّ سقوط الأذان في الموارد المذكورة هل يكون على سبيل الرخصة أو
الصفحة 496
بنحو العزيمة أو تفصيل بين الموارد ولابدّ قبل ذلك من التعرّض لمعنى العزيمة والرخصة .
فنقول : امّا العزيمة فمعناها هو عدم المشروعية وثبوت الحرمة التشريعية لا الذاتية ضرورة عدم ثبوت الحرمة الذاتية في المقام .
وامّا الرخصة فمعناها في نفسها هو جواز الترك وعدم لزوم الفعل وحيث إنّ الأذان كان مستحبّاً ولازمه جواز الترك فالسقوط في تلك الموارد بمعنى الرخصة لابدّ وأن يكون المراد به أحد معنيين :
الأوّل : هي الكراهة في العبادات المكروهة التي لا بدل لها كصوم يوم عاشوراء ومرجعها إلى طروّ خصوصية للعبادة بعد الفراغ عن كونها عبادة راجحة في مقابل تركها موجبة لأرجحية الترك كانطباق عنوان أرجح على الترك كالتشبّه ببني اُميّة في مثال الصوم المذكور فالصوم إن لوحظ بالإضافة إلى الترك مع قطع النظر عن الخصوصية المذكورة يكون راجحاً ولأجله يكون عبادة وإن لوحظ بالإضافة إلى العنوان الأرجح المنطبق على الترك يكون تركه أرجح من فعله وفي المقام نقول : إنّ الخصوصية المحتملة هي سرعة الإتيان بالصلاة الثانية والمبادرة إليها وعدم الفصل بينها وبين الاُولى حتّى بالأذان .
وهذا الوجه إنّما يلائم مع استحباب الجمع كما في المواضع الثلاثة المتقدّمة لا مع مجرّد جوازه كما في غيرها من الموارد إلاّ أن يقال بثبوت خصوصية اُخرى غير المبادرة والسرعة مستكشفة من دليل السقوط فيها ولا مجال لاعتبار العلم بتلك الخصوصية كما يظهر من بعض العبارات .
الثاني : سقوط بعض مراتب الرجحان وبقاء مراتب اُخرى كافية في أصل الرجحان والاستحباب ، وبعبارة اُخرى أقلّية الثواب بالإضافة إلى الأذان في غير
الصفحة 497
موارد السقوط .
إذا ظهر معنى العزيمة والرخصة فنقول : لابدّ من البحث في كلّ واحد من الموارد المتقدّمة مستقلاًّ وملاحظة دليله كذلك ليظهر حاله من هذه الجهة .
امّا صلاة العصر يوم الجمعة فإن كان مستند السقوط فيه هي رواية حفص المتقدّمة فلا خفاء في كون السقوط بنحو العزيمة لتصريحها بكون الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة لكن عرفت عدم تمامية الاستدلال بها وإن كان المستند ما ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) من الإجماع القولي على السقوط والسيرة العملية على الترك ففي الجواهر انّ المرجع أصالة عدم المشروعية المقتضية للحرمة لأنّه لا وجه للتمسّك بإطلاق أوامر الأذان أو عموماته ضرورة الاتفاق على عدم شمولها للمفروض وإلاّ لاقتضيا بقاء ندبه .
وأورد عليه في المستمسك بأنّ البناء على انتفاء البعث إليه بظهور السيرة في ذلك لا يقتضي البناء على عدم المصلحة المصحّحة للتشريع والتعبّد لاحتمال ملازمته لعنوان مرجوح فلا موجب لرفع اليد عن دلالة الأدلّة العامّة على رجحانه ووجود المصلحة فيه لأنّ دلالة الأوامر العامّة على البعث والحثّ عليه بالمطابقة وعلى وجود المصلحة المصحّحة للتشريع بالالتزام ولا تلازم بين الدلالتين في الحجّية فسقوط الاُولى عن الحجّية لظهور السيرة في خلافها لا يقتضي سقوط الثانية عنها ولذا بنى على التساقط في المتعارضين وعلى كونهما حجّة في نفي الثالث .
والجواب عنه ما اُفيد من أنّ العمومات المذكورة مخصّصة على أي حال فإنّ استحباب الأذان بمقتضى ظواهر الأدلّة مقدّمي أي موجب لتكميل الصلاة المتعقبة له كما ينادي بذلك المستفيضة الدالّة على أنّ من صلّى بأذان وإقامة صلّى خلفه صفّان من الملائكة ومن صلّى بإقامة صلّى خلفه صفّ واحد فالأدلّة الدالّة على
الصفحة 498
أفضلة الأذان كلّها راجعة إلى أنّ الصلاة المتعقبة للأذان أفضل من الصلاة الفاقدة له فلو فرضنا إطلاق هذه الأدلّة في تمام الحالات فمقتضاها كون صلاة العصر في يوم الجمعة مع الأذان أفضل ومقتضى الإجماع والسيرة أفضلية الاكتفاء للعصر بإقامة وإيجادها بلا أذان وهل هذا إلاّ التنافي بالعموم والخصوص المطلق فالعمومات مخصّصة بهما لا محالة ومقتضاه عدم المشروعية ، نعم لو كان هناك ما يدلّ على أصلها لقلنا بها لكن المفروض عدمه .
وامّا صلاة العصر يوم عرفة والعشاء بمزدلفة فظاهر دليل السقوط فيهما هو انّ السقوط بنحو العزيمة فإنّ قوله (عليه السلام) في رواية ابن سنان المتقدّمة السنّة في الأذان يوم عرفة أن يؤذن ويقيم للظهر ثمّ يصلّي ثمّ يقوم فيقيم للعصر بغير أذان وكذلك في المغرب والعشاء بمزدلفة ظاهر في أنّ الأذان المشروع والراجح بمقتضى الإطلاقات أو العمومات الواردة فيه يكون المراد به هو الأذان في غير الموضعين بالإضافة إلى الصلاة الثانية ففي الحقيقة تكون الرواية حاكمة ومفسّرة لأدلّة المشروعية ومخصّصة لها بغير الموضعين خصوصاً مع التصريح بترك الأذان والإتيان بها بدونه فالإنصاف ظهور مثل الرواية في تخصيص أدلّة المشروعية وتوضيح اختصاصها بغيرهما وإنّ ما في ذهن السائل من السنّة في الأذان ينحصر بغيرهما كما لا يخفى .
وامّا الصلاة الثانية في سائر موارد الجمع فالظاهر انّ مقتضى الجمع بين دليل السقوط ومثل قوله : لا صلاة إلاّ بأذان وسائر الأدلّة العامّة أو المطلقة الواردة في مشروعية الأذان في مطلق الصلوات وكونه عبادة مستحبّة هو كون السقوط فيها أيضاً بنحو العزيمة على ما هو المتفاهم عند العرف بعد ملاحظة الدليلين كما عرفت في صلاة العصر يوم الجمعة والإنصاف إنّ السقوط فيها بنحو العزيمة لو لم يكن أقوى فلا أقلّ من كونه مقتضى الاحتياط الوجوبي كما في المتن .
الصفحة 499
والأمر الثاني : الظاهر انّ المراد من الجمع هو الجمع بين خصوص الظهرين وخصوص العشائين كما هو الظاهر من المتن ، وامّا الجمع بين العصر والمغرب ـ مثلاـ فالظاهر انّه لا دليل على السقوط فيه ، نعم ورد النصّ على سقوط الأذان في مورد الجمع بين قضاء الصلوات أيضاً وامّا في الاداء فلا دليل عليه في غير ما ذكر .
الأمر الثالث : في معنى الجمع ويظهر من الكلمات انّه يجري فيه احتمالات أربعة :
الأوّل : انّ المراد به إتيان الصلاتين في وقت فضيلة واحدة منهما سواء فرق بينهما بالزمان أو صلاّهما من غير تراخ وفي مقابله التفريق الذي هو عبارة عن إيقاع كلّ صلاة في وقت فضيلتها فلو أوقع صلاة الظهر في آخر وقت فضيلتها وصلاة العصر في أوّل وقتها كذلك فلا جمع ولو لم يتحقّق الفصل بينهما بزمان .
وهذا الوجه هو الظاهر من المحقّق (قدس سره) في مقام جوابه عن تلميذه جمال الدين الشامي حين سئل عنه واعترض عليه بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) إن كان يجمع بين الصلاتين فلا حاجة إلى الأذان الثاني إذ هو للإعلام ، وإن كان يفرق فلِمَ جعلتم الجمع أفضل؟ فأجاب (قدس سره) : بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يجمع تارة ويفرّق اُخرى وانّه إنّما استحببنا الجمع في الوقت الواحد إذا أتى بالنوافل والفرضين فيه لأنّه مبادرة إلى تفريغ الذمّة .
فإنّ الظاهر انّ المراد بالوقت الواحد هو وقت الفضيلة وإلاّ فهو مشترك ، وعليه فهو ظاهر في أنّ المراد بالجمع ما ذكر وإنّ الإتيان بالنوافل لا يقدح فيه ، كما انّه يظهر منه استحباب الجمع في جميع الموارد لكونه مبادرة إلى تفريغ الذمّة .
الثاني : أن يكون المراد بالجمع والتفريق معناهما العرفي الذي يرجع إلى تحقّق الفصل بين الصلاتين بما يتحقّق معه التفريق وعدمه بما يتحقّق معه الجمع ففي الحقيقة هما أمران عرفيان لا دخالة للشرع فيهما بوجه .
الثالث : أن يكون المراد بالجمع مجرّد عدم الفصل بينهما بالنافلة سواء وقعتا في
الصفحة 500
وقتهما أو في وقت واحد وسواء تحقّق الفصل بينهما وعدمه ، وعليه فمرجعه إلى ثبوت معنى شرعي للجمع والتفريق لا يرتبط بما هو معناهما عند العرف ، نعم يقع الكلام ـ حينئذ ـ في أنّ المراد هل هو الفصل بنفس النافلة بحيث لو حصل الفصل بمقدارها لا يكون تفريقاً أو أنّه يكفي الفصل بمقدار ادائها كما انّه يقع الكلام في أنّ المراد هل هو مطلق النافلة أو انّ المراد خصوص النافلة الموظفة كنافلة العصر الواقعة بين الظهرين ونافلة المغرب الواقعة بين العشائين .
الرابع : ما يظهر من المتن من أنّ المراد بالجمع معناه العرفي الذي يرجع إلى عدم الفصل بينهما إلاّ انّ الشارع قد خطأ العرف وحكم بأنّ النافلة الموظفة تمنع عن تحقّقه الجمع أيضاً فالتفريق يتحقّق امّا بالفصل بمقدار يصدق معه التفريق عرفاً ، وامّا بالإتيان بالنافلة الموظفة بين الصلاتين .
إذا عرفت ذلك فنقول : لابدّ من ملاحظة الروايات الواردة في هذا المقام وهي كثيرة :
منها : رواية محمد بن حكيم عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : سمعته يقول : إذا جمعت بين صلاتين فلا تطوّع بينهما . والظاهر اتحادها مع روايته الاُخرى التي رواها في الوسائل بعد هذه الرواية قال : سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول : الجمع بين الصلاتين إذا لم يكن بينهما تطوّع فإذا كان بينهما تطوّع فلا جمع .
وربما يقال بظهور الرواية في الاحتمال الثالث ولكن الإنصاف انّ ظاهرها قدح التطوّع في الجمع لا انّ المراد من الجمع عدم التطوّع ولو مع الفصل الطويل كما لايخفى .
ومنها : خبر الحسين بن علوان عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) قال : رأيت أبي وجدّي القاسم بن محمد يجمعان مع الأئمة المغرب والعشاء في الليلة المطيرة ولا يصلّيان
|