الصفحة 601
حفظه من الزنا إلاّ هذه الآية التي هي مورد البحث في المقام ضرورة انّ الاختلاف من هذه الجهة لا يوجب الاختلاف بينها من ناحية التعبير بالحفظ المشترك بين جميعها فالظاهر ما قوّاه المحقّق الهمداني (قدس سره) من عدم الوجوب مع الشكّ في وجود الناظر لما عرفت .
الرابع : قد استثنى من الحكمين المذكورين موارد :
منها : الزوج والزوجة فإنّه يجوز لكلّ منهما النظر إلى جميع أعضاء الآخر كما يجوز اللمس وقد دلّ عليه الروايات مضافاً إلى أنّ جواز الوطء دليل على انّه يجوز النظر بطريق أولى ولا إشكال في هذا الحكم أصلا .
ومنها : المالك فإنّه يجوز له النظر إلى جميع أعضاء المملوكة ما دام لم يزوّجها أو يحلّلها من الغير فإنّه لا يجوز له النظر ـ حينئذ ـ إلى عورتها كما دلّ عليه بعض الروايات المتقدّمة في معنى العورة ، وامّا المملوكة فالظاهر انّه يجوز لها النظر إلى المالك مطلقاً مع الشرط المذكور بخلاف المالكة فإنّه لا دليل على جواز نظرها إلى مملوكها أو مملوكتها وإطلاق الآية يقتضي عدم الجواز .
ومنها : المحلّلة والمحلّل له فإنّه يجوز لكلّ منهما النظر إلى عورة الآخر لاقتضاء جواز الوطء ذلك على ما مرّ هذا تمام الكلام في المقام الأوّل .
المقام الثاني : في حكم النساء لا إشكال في أصل وجوب التستّر على النساء وحرمة الابداء والكشف لهنّ وهو من ضروريّات الفقه بل من ضروريات الدين إنّما الإشكال في وجوب ستر الوجه والكفّين وقد ادّعى سيّدنا العلاّمة الاستاذ البروجردي (قدس سره) انّ المشهور بين الخاصّة والعامّة وجوب ستر الوجه والكفّين أيضاً ، ولكن الحقّ انّ المسألة مختلف فيها فذهب بعض إلى الوجوب كالشيخ (قدس سره) في النهاية قال فيها : «من أراد أن يزوّج له أن ينظر إلى الوجه والمحاسن والكفّين والرجلين
الصفحة 602
وكيفية المشي ونحوها ، وامّا في غير هذه الصورة فلا يجوز له النظر إلى المواضع المذكورة» بناء على أن لا يكون المراد مجرّد حرمة نظر الغير بل وجوب التستّر عليها أيضاً وإلاّ فحرمة النظر لا تلازم وجوب التستّر ، نعم جواز النظر لا يجتمع مع وجوب التحفّظ كما لا يخفى . وتبعه في ذلك العلاّمة وابنه وكاشف اللثام وصاحب الجواهر ـ قدّس الله أسرارهم ـ .
وذهب الشيخ (قدس سره) في بعض كتبه إلى جواز النظر إلى الوجه والكفّين واختاره صاحبا الحدائق والمستند والشيخ الأعظم الأنصاري في رسالة النكاح .
وقال المحقّق في الشرائع وتبعه العلاّمة في بعض كتبه بالتفصيل بين النظرة الاُولى وبين النظرة الثانية وما بعدها .
فاللاّزم ملاحظة الأدلّة فنقول :
امّا الكتاب فمن الآيات الواردة في هذا الاب آية الغضّ المعروفة المتقدّمة وهي بلحاظ اشتمالها على إيجاب الغضّ وحفظ الفرج على الرجال والنساء قد تقدّم الكلام فيها وانّها لا ترتبط بالمقام من هذه الجهة ، وامّا بلحاظ قوله تعالى فيها : (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) فلابدّ من البحث فيها حيث إنّه يستفاد منها انّ الزينة على قسمين ظاهرة وباطنة وقد وقع الخلاف في تفسير الزينة الظاهرة ، فعن عبدالله بن مسعود : انّ المراد بالزينة الظاهرة التي لا يحرم ابدائها هي الثياب ويؤيّده قوله تعالى : (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد) أي خذوا ثيابكم التي تتزيّنون بها عند إرادة الصلاة .
وعن عبدالله بن عبّاس : انّ المراد بالزينة الظاهرة هو الكحل والخاتم والخدان والخضاب في الكفّ .
وحكي انّ المراد منها هو الوجه والكفّان والظاهر انّه مروي أيضاً .
الصفحة 603
والتحقيق انّ في الآية الكريمة جهات من البحث :
الاُولى : انّه ما الوجه في استعمال لفظ الزينة في الآية؟
الثانية : انّه هل الأمر بضرب الخمر على الجيوب بعد النهي عن إبداء الزينة الظاهرة تكليف آخر غير ذلك النهي وحكم مستقلّ أو انّه تأييد وتأكيد له؟
الثالثة : انّه ما الوجه في تكرار النهي عن إبداء الزينة في قوله تعالى : (ولا يبدين زينتهن إلاّ لبعولتهنّ . . .) خصوصاً مع إطلاق الزينة وعدم استثناء الظاهرة هنا .
الرابعة : انّه ما المراد من الضرب بالأرجل ليعلم ما يخفين من زينتهنّ الذي تعلّق النهي به في ذيل الآية الشريفة؟
الخامسة : انّه ما الوجه في التعبير في صدر الآية بالزينة الظاهرة الظاهر في الظاهرة بنفسها بصورة الفعل اللاّزم والتعبير في الذيل بالفعل المتعدّي الظاهر في تعلّق الإخفاء بها لا كونها مخفية بنفسها؟
امّا الجهة الاُولى فالظاهر انّ الزينة ليست بمعنى الأمر الصناعي الزائد على الخلقة فقط كما ربّما يخطر بالبال ابتداء ، بل لها معنى أعمّ من ذلك ومن الزينة الخلقية ، بل يمكن أن يقال بالاختصاص بخصوص الزينة الخلقية التي هي الأساس في الجهة المطلوبة من النساء ، وعليه يكون النهي عن إبداء الزينة عبارة اُخى عن النهي إبداء أنفسهنّ والسرّ في هذا التعبير بيان نكتة الحكم وهي انّ النهي إنّما هو لأجل كون النساء زينة بتمام أعضائهن واستثناء ما ظهر يدلّ على أنّهنّ وإن كنّ زينة بتمام الأعضاء إلاّ انّ منها ما تكون زينة غير ظاهرة ومنها ما تكون زينة ظاهرة ، ومن الواضح ـ حينئذ ـ انّ المراد بالزينة الظاهرة ليس إلاّ مثل الوجه والكفّين والتعبير بما ظهر بصورة الفعل الماضي لعلّه كان لإفادة انّ مثلهما كان ظاهراً في السابق قبل نزول الآية كقوله تعالى : (وان تجمعوا بين الاختين إلا ما سلف)
الصفحة 604
وعليه يكون الاستثناء منقطعاً ولا بأس به ، فالآية على هذا التقدير تدلّ على جواز إبداء الوجه والكفّين وعدم حرمة كشفهما ولا ينافي ما ذكرنا إضافة الزينة إلى النساء في المستثنى منه الظاهرة في المغايرة بين الزينة وبين الأعضاء لأنّ هذه الإضافة إنّما هي كإضافة الأنفس إليهن فكأنّه قال ولا يبدين أنفسهنّ إلاّ ما ظهر منهنّ فتدبّر .
وامّا ما ربّما يقال من أنّ الظاهر انّ المراد بالزينة التي تعلّق النهي بإبدائها هي مواضع الزينة فالمراد بالزينة ـ حينئذ ـ هو الأمر الصناعي الزائد على الخلقة فيرد عليه أوّلا انّه خلاف الظاهر لابتنائه على التقدير الذي هو خلاف الأصل ، وثانياً انّه لو كان المراد مواضع الزينة فيلزم أن لا تكون الآية متعرّضة لحكم غير مواضع الزينة فلا دلالة لها ـ حينئذ ـ على حرمة إبداء غير تلك المواضع ، ودعوى انّ ما يقع في معرض الابداء مواضع الزينة لا غيرها مدفوعة بأنّه قد يقع غيرها في معرض الابداء أيضاً ، والظاهر انّ الآية في مقام إفادة حكم كلّي من هذه الجهة .
والحقّ أن يقال : إنّ المرأة بنفسها زينة إلهية خلقية كما قال به الفخر الرازي في تفسيره واستدلّ عليه بوجهين :
الأوّل : انّ الكثير من النساء ينفردن بخلقتهن عن سائر ما يعدّ زينة فإذا حملناه على الخلقة وفينا العموم حقّه ولا يمنع دخول ما عدا الخلقة فيه أيضاً .
الثاني : إنّ قوله : (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) يدلّ على أنّ المراد بالزينة ما يعمّ الخلقة وغيرها فكأنّه تعالى منعهنّ من إظهار محاسن خلقتهن بأن أوجب سترها بالخمار .
ومن جميع ما ذكرنا ظهر عدم تمامية ما تقدّم نقله عن ابن مسعود من أنّ المراد بالزينة الظاهرة هي الثياب لأنّه بعد كون المراد بالمستثنى منه الذي هي الزينة
الصفحة 605
أعضائها ونفسها لا يبقى مجال لكون المراد من المستثنى هي الثياب التي تكون زائدة على الخلقة فكما يكون المستثنى منه ناظراً إلى المرأة بنفسها وأعضائها يكون المستثنى أيضاً راجعاً إليها ومن جملة أعضائها كما لا يخفى .
وامّا الجهة الثانية فالظاهر انّ قوله تعالى : (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)ناظر إلى ستر النحر والصدر والعنق ويكون النظر فيه بعد النهي عن إبداء الزينة إلاّ ما ظهر منها الإرشاد إلى كيفية العمل بقوله تعالى : (ولا يبدين زينتهن إلاّ ما ظهر منها) وان ضرب الخمر على الجيب يكفي في تحقّق موافقة النهي لكون سائر الأعضاء مستوراً عادة فضرب الخمار على الجيب كاف في تحقّق عدم إبداء غير الزينة الظاهرة ، ويمكن أن يكون الوجه فيه دفع توهّم كون الاُمور المذكورة أي النحر والصدر والعنق من الزينة الظاهرة لكونهن يجعلن طرفي الخمار على ظهرهنّ على خلاف وضعه الطبيعي ولأجله يمكن التوهّم المذكور وقد دفعه الله بقوله ذلك وبيّن انّه يجب إرخاء الخمار على الجيب وجعله بمقتضى وضعه الطبيعي ليتحقّق ستر الاُمور المذكورة ، وعلى أيّ تقدير فلا دلالة له على وجوب ستر الوجه لأنّ مفاده إنّما هو وجوب جعل طرفي الخمار على الجيب وهو ضلع أعلى القميص ليستر ما ظهر من الصدر والعنق ولا يقتضي ستر الوجه أصلا ، بل يستفاد منه انّ تغطية الوجه لا تكون مدلولة لقوله تعالى : (ولا يبدين زينتهن) بل تكون مصداقاً لقوله تعالى : (إلاّ ما ظهر منها) .
وامّا الجهة الثالثة فقد قال بعض أفاضل الهند في رسالته في الحجاب المسمّاه باسداء الرغاب في مسألة الحجاب : انّ قوله تعالى في الأوّل (ولا يبدين زينتهنّ . . .)ليس ناظراً إلى فرض وجود الأجنبي والعلم به ، غاية الأمر انّه نعلم من الخارج عدم تضيق الحكم بنحو يعمّ وجوده وعدمه ولهذا نقول : إنّه ناظر إلى
الصفحة 606
صورة مظنّة وجود الناظر وإن لم نعلم به ، وعليه فلا مانع من إظهار الوجه والكفّين في هذه الصورة ، وامّا قوله تعالى بعد ذلك (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن)فالمفروض في مورده صورة وجود الناظر والعلم به ، وعليه فالابداء المنهي عنه في هذه الصورة يكون خالياً عن الاستثناء ويعمّ الباطنة والظاهرة معاً ، فإبداء الوجه والكفّين في صورة وجود الناظر منهي عنه وإن كانتا من الزينة الظاهرة لخلوّ هذه الجملة الشريفة من الاستثناء .
والظاهر انّ الالتزام بما أفاده في بيان معنى الآية مشكل جدّاً بل ظاهر الآية يأباه لظهورها في اتحاد معنى الجملتين وعدم اختلاف موردهما والوجه في التكرار إنّما هو استثناء المحارم الذين لا يحرم للمرأة إبداء الزينة غير الظاهرة لهم وعدم استثناء الزينة الظاهرة في هذه الجملة إنّما هو للاتّكال على وضوحه بقرينة الجملة السابقة مضافاً إلى أنّ الروايات أيضاً تدلّ على أنّ الجملتين بمعنى واحد وسيأتي نقل بعضها .
وامّا الجهة الرابعة وهي انّ المراد من قوله تعالى : (ولا يضربن بأرجلهنّ ليعلم ما يخفين من زينتهن) ماذا ويجري فيه احتمالان : الأوّل أن يكون المراد ضرب الرجل على الأرض ليعلم ذلك ، الثاني أن يكون المراد ضرب الرجل بعضه ببعض لهذه الغاية ، وعلى أي تقدير فقوله تعالى : (ليعلم . . .) قيد للمنهي لا للنهي والمراد من ذلك كون متعلّق النهي هو الضرب لهذا الغرض فمجرّد الضرب ولو لغرض آخر وإن ترتّب عليه الاطلاع على ما يخفين من زينتهن لا يكون منهياً عنه لأنّ الضرب للغرض المذكور مقدّمة لتحريك الرجال وجلب توجّههم إليهنّ فيترتّب عليه المفاسد ، ومن ذلك ظهر انّ المراد بالزينة في هذه الجملة هي الزينة الزائدة على الخلقة كالخلخال لأنّها هي التي يكون الضرب بالأرجل موجباً للاطّلاع عليها
الصفحة 607
والعلم بها ، وامّا زينة الخلقة فلا يتوقّف ظهورها على ذلك ، وعليه فيتحقّق هنا شاهد آخر على أنّ المرادب الزينة الظاهرة في الاستثناء الواقع في صدر الآية هي الزينة الخلقية التي تكون على قسمين ظاهرة وباطنة لأنّ الزينة الزائدة التي وقع التعرّض لها في الذيل يكون إنقسامها بالاخفاء والإظهار لا بالخفاء والظهور .
فانقدح الفرق بين الصدر الذي وقع الاستعمال فيه بنحو الفعل اللاّزم والذيل الذي وقع الاستعمال فيه بنحو الفعل المتعدّي وانّ الأوّل ناظر إلى الزينة الذاتية الخلقية والثاني ناظر إلى الزينة العرضية الزائدة ، وبذلك يظهر البحث في الجهة الخامسة من الجهات المتقدّمة ، هذا كلّه بالنظر إلى نفس مفاد الآية مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسيرها .
وامّا بلحاظ الروايات ففي تفسير نور الثقلين عن الكافي عن زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى : (إلاّ ما ظهر منها) قال : الزينة الظاهرة الكحل والخاتم . وحيث إنّ النظر إلى الكحل والخاتم ملازم للنظر إلى العين واليد ولا يمكن الانفكاك بينهما فتلائم الرواية مع ما ذكرنا من أنّ المراد من الزينة الظاهرة هي الوجه والكفّان .
وفيه أيضاً عنه عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله تعالى : (ولا يبدين زينتهن إلاّ ما ظهر منها) قال : الخام والمسكة وهي القلب . والقلب بالضم السوار والظاهر منها أيضاً موضعهما كما لا يخفى .
وفيه أيضاً عن تفسير جوامع الجامع : فالظاهرة لا يجب سترها وهي الثياب إلى قوله : وعنهم (عليهم السلام) الكفّان والأصابع .
وفيه أيضاً عن تفسير مجمع البيان : وفي تفسير علي بن إبراهيم الكفّان والأصابع .
الصفحة 608
وفيه أيضاً عن تفسير علي بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام)في قوله : (ولا يبدين زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها) فهي الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكفّ والسوار والزينة ثلاث : زينة للناس وزينة للمحرم وزينة للزوج ، فامّا زينة الناس فقد ذكرناها ، وامّا زينة المحرم فوضع القلادة فما فوقها ، والدملج وما دونه والخلخال وما أسفل منه ، وامّا زينة الزوج فالجسد كلّه .
وهاهنا رواية صحيحة من حيث السند ومعضلة من حيث الدلالة رواها الفضيل قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الذراعين من المرأة هما من الزينة التي قال الله تعالى : (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) قال : نعم وما دون الخمار من الزينة وما دون السوارين . ونفس السؤال في الرواية دليل على أنّ مفاد هذه الجملة لا يغاير مفاد قوله تعالى قبل ذلك : (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) يعني انّ هذه الجملة أيضاً مشتملة على الاستثناء وعدم التعرّض له إنّما هو للاتكال على الجملة السابقة فيدلّ على خلاف ما التزم به الفاضل الهندي المتقدّم من الفرق بين الجملتين ، كما انّ نفس السؤال عن انّ الذراعين هل تكونان من الزينة تدلّ على أنّ المراد بالزينة ليس الأمر الزائد على الخلقة بل نفس أعضاء المرأة ومن المعلوم وقوع التقرير بالإضافة إلى الأمرين .
ثمّ إنّ هذه الصحيحة ممّا استدلّ به الطرفان أي القائل باستثناء الوجه والكفّين والقائل بعدمه والوجه فيه انّه قد اختلف في معنى قوله (عليه السلام) : وما دون الخمار من الزينة وما دون السوارين فالمحكي عن المجلسي (قدس سره) في مرآة العقول والفيض في الوافي وصاحب الحدائق والجزائري في قلائد الدرر انّها صحيحة دالّة على استثناء الوجه والكفّين وانّ المراد من قوله : ما دون الخمار هو ما تحت الخمار في مقابل ما فوق الخمار ومعنى ما دون الخمار ما كان مستوراً بالخمار وامّا قوله : وما دون السوارين
الصفحة 609
فقالوا : إنّ معناه انّ ما دونهما إلى المرفق من الزينة المقصودة من الآية .
وقد يقال : إنّ المراد ممّا دون الخمار الوجه لأنّ السائل وهو الفضيل لم يكن شاكّاً ولا جاهلا بأنّ ما تحت الخمار من الزينة لوضوح كونه منها وما يمكن أن يكون السائل جاهلا بحكمه هو الوجه لاحتمال عدم وجوب ستره مضافاً إلى أنّ كلمة «دون» بمعنى ما يكون أسفل من الشيء والوجه إنّما وقع في موقع أسفل من الخمار وتحته ودونه مع أنّ الزمخشري قال في «الكشاف» انّ كلمة «دون» بمعنى أدنى من الشيء قليلا وما يكون أدنى من الخمار قليلا إنّما هو الوجه ، ولو قلنا بأنّ معنى دون الشيء ما هو أدنى منه الذي يعبّر عنه في الفارسية بـ «پست تر» يكون الوجه أيضاً كذلك . وامّا ما دون السوارين فالمراد منه ما وقع تحتهما وهو الكفّان لوقوعهما أسفل من السوارين ومحلّهما .
والتحقيق انّ السائل إنّما سأل عن الذراعين والذراع إنّما يكون مجموع ما بين المرفق إلى الكفّ أي أطراف الأصابع ، وعليه فالجواب بقوله (عليه السلام) : نعم ، ظاهر في أنّ هذا المجموع من الزينة التي يحرم إبدائها ، وعليه فلا يعلم المراد من قوله (عليه السلام) : وما دون السوارين لأنّه يبقى له بعد الحكم بكون مجموع الذراع من الزينة مجال سواء كان المراد به هو ما وقع تحت السوارين أي الكفّان أو كان المراد ما دونهما أي ما بعدهما إلى المرفق ، وعليه فالرواية من هذه الجهة مجملة لا سبيل إلى استكشاف المراد منها فلا يصحّ جعل الرواية مفسِّرة للآية الشريفة على خلاف ما استفدنا منها .
نعم لو لم يقبل الاستظهار المذكور وقلنا : بأنّ الزينة الظاهرة والمستثناة مردّدة بين الثياب كما هو المنقول عن عبدالله بن مسعود وبين ما قاله ابن عبّاس : من أنّها الكحل والخاتم والخدان والخضاب في الكفّ فيتحقّق الصغرى لمسألة اُصولية
الصفحة 610
محرّرة في محلّها وهي انّه لو خصّص العام بمخصّص متّصل كان مجملا مردّداً بين المتباينين أو بين الأقلّ والأكثر يسري إجمال المخصّص إلى العام ويصير العام مجملا لا دلالة له على حكم محتملات الخاص ، وعليه فالآية كما لا دلالة لها على جواز إبداء الوجه والكفّين لا دلالة لها على حرمة ابدائهما أيضاً بنحو العموم .
فانقدح من جميع ما ذكرنا انّ الآية امّا أن تكون دالّة على جواز إبداء الوجه والكفّين لكونها من الزينة الظاهرة ، وامّا ان لا دلالة لها على حرمة إبدائهما بنحو العموم كما لا يخفى .
ومن الآيات قوله تعالى : (يا أيّها النبي فل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما)(1) . وقد ورد في شأن نزول الآية انّ الاماء في الصدر الأوّل كنّ يخرجن مكشوفة الرؤوس وكان أهل الريبة والفسوق يتعرّض لهنّ ويمازحهنّ وربّما كان يتجاوز المنافقون إلى ممازحة الحرائر فإذا قيل لهم في ذلك قالوا حسبنا هن اماء فقطع الله عندهم وقد يقال بعدم كون الاماء مكوشفة الرؤوس في ذلك الزمان بل كان لهنّ القميص والخمار فقط .
وكيف كان فغرض الآية من الإيجاب المذكور أن يعرفن بالعمل على وفقه بكونهنّ حرائر فلا يتوجّه إليهن الايذاء والممازحة .
وامّا الجلباب ففي المفردات انّه الخمر والقمص ويظهر من بعض آخر انّه غيرهما ، قال في جامع الجوامع : الجلباب ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقى منه ما ترسله على صدرها . وعن ابن عبّاس : الرداء
(1) سورة الأحزاب : 59 .
الصفحة 611
الذي يستر من فوق إلى أسفل ، وقيل : الجلباب الملحفة وكلّما يتستّر به من كساء وغيره .
وامّا معنى الآية فربّما يقال : إنّه عبارة عن أمر الله سبحانه نبيّه أن يأمر نسائه وبناته ونساء المؤمنين أن يرخين جلابيبهنّ وملاحفهنّ على وجوههن ويغطين الوجوه بفضل جلابيبهن ويسترن جميع البدن حتى لا يتعرّض لهن أهل الريبة والفسوق ويعلم انّهن أهل العفّة والشرف فلا يطعموا فيهن ففي الآية دلالة على الأمر بستر وجوههن والتعليل الواقع فيها يؤكّد ذلك لأنّ مرجعه إلى انّهن يعرفن بسترهن للوجوه انّهن أهل العفّة لا أهل الريبة .
هذا ولكن الظاهر انّ مفاد هذه الآية هو مفاد قوله تعالى في الآية المتقدّمة (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) نظراً إلى أنّ الاماء كن لم يضربن الخمار على الجيوب لتصديهن لمثل الاشتراء من السوق وتهيؤهن لأنواع الخدمات فأمر الله تعالى الحرائر بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليعرفن بذلك انّهن حرائر فلا يؤذين بالتعرّض والممازحة أو نظراً إلى أنّ المراد كون ذلك أقرب إلى أن يعرفن بالستر والصلاح فلا يتعرض لهن لأنّ الفاسق إذا عرف امرأة بالستر والصلاح لم يتعرّض لها .
ويحتمل أن يكون معنى الآية بناء على كون المراد من الجلباب الملحفة أو الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل كما عن ابن عبّاس ان ادناء الجلباب عبارة عن جعله قريباً من البدن بحيث صار كالمتّصل به في مقابل البعد والفصل بينه وبين البدن فإنّه مع عدم الادناء كثيراً ما يظهر من الجسد شيء أو أشياء بخلاف ما إذا كان قريباً من البدن فإنّه موجب لستره بجميع أجزائه .
وكيف كان فدلالة الآية على وجوب ستر الوجوه بحيث كانت ظاهرة في ذلك
الصفحة 612
ممنوعة جدّاً .
ومن الآيات التي استدلّ بها على ستر الوجه والكفّين قوله تعالى في سورة الأحزاب أيضاً (آية 53) : (وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن . . .) نظراً إلى أنّ مفاد الآية ليس من خصائص زوجات النبيّ (صلى الله عليه وآله) بل حكم عام وارد في موردهن ، كما انّ سؤال المتاع ليس له خصوصية والمنظور الملاقاة والمواجهة .
ولكنّه ينبغي أن يعلم انّ الخطاب فيها متوجّه إلى الرجال دون النساء ، فالواجب عليهم هو الملاقاة من وراء الحجاب والمانع ولا دلالة لها على وجوب التستّر على النساء فضلا عن أن تدلّ على وجوب ستر الوجه والكفّين .
وبالجملة انّ هذه الآية ناظرة إلى النهي عن الدخول في الدار بغير إذن فإنّ معنى الحجاب هو المانع ، وامّا خصوصية المانع من جهة لزوم كونه مانعاً عن أيّ شيء فلا دلالة في الآية عليها وعلى تقديرها فقد عرفت انّ مدلولها الإيجاب على الرجال ولا ملازمة بينه وبين وجوب التستّر على النساء كما لا يخفى .
إن قلت : إنّ المستفاد من التعليل المذكور في ذيلها انّ الأطهرية التامّة تحصل بستر الوجه والكفّين أيضاً .
قلت : لا دلالة لها على وجوب تحصيل الأطهرية التامّة وإلاّ لكان اللاّزم على النساء عدم الخروج من البيوت أصلا لتحقّق الأطهرية التامّة بذلك ضرورة انّ الخروج ولو مع ستر جميع البدن يوجب التوجّه إليهن والاطّلاع على حالهن ولو ببعض المراتب وذلك ينافي الأطهرية التامّة فالآية غير دالّة على ذلك .
ومن الآيات التي استدلّ بها على ذلك قوله تعالى في سورة الأحزاب أيضاً (آية 32 ـ 33) : (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء أن تقيتن فلا تخضعن بالقول
الصفحة 613
فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفاً* وقرن في بيوتكم ولا تبرجن تبرّج الجاهلية الاُولى . . .) وتقريب الاستدلال بها من وجهين :
الأوّل : الأولوية فإنّه إذا كان الخضوع بالقول حراماً فإبداء الوجه والكفّين حرام بطريق أولى .
الثاني : عموم العلّة نظراً إلى اقتضاء الآية انّ كلّ شيء موجب لتحقّق الطمع لمن كان في قلبه مرض فهو حرام ، ومن المعلوم ان ابداء الوجه والكفّين موجب لذلك .
والجواب عن الأوّل : انّ الخضوع بالقول لا يقاس به إبداء الوجه والكفّين فإنّه محرّك شديد وموجب للتحريك نوعاً دونه كما لا يخفى ، وعن الثاني انّه لا يمكن الأخذ بعموم التعليل المذكور وإلاّ لكان اللاّزم أن لا يخرجن النساء من البيوت رأساً ، وامّا الحكم بوجوب القرار في البيوت في قوله : (وقرن في بيوتكن) بناء على كونه من القرار لا الوقار فليس المراد به معناه المطابقي الذي كان مرجعه إلى حرمة الخروج من البيت بل هو كناية عن كون شأنهن إدارة البيوت والتصدّي لشؤونها وليس من شأنهن الورود في الاُمور الاجتماعية التي يكون ظرفها خارج البيت كما استدلّت به اُمّ سلمة في مكتوبها إلى عائشة في قصّة حرب الجمل ، كما انّ المراد من التبرّج المنهي عنه هو إظهار المرأة وإرائة محاسنها كما كان في الجاهلية فهذه الآية لا دلالة لها أيضاً على وجوب ستر الوجه والكفّين ، وقد انقدح من جميع ذلك عدم تمامية دلالة شيء من الآيات التي استدلّ بها على ذلك .
وامّا السنّة فهي على طوائف :
الاُولى : ما يكون مفادها انّ النساء عورة فقد حكى عن العلاّمة (قدس سره) في المنتهى انّه قال : روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) انّه قال : المرأة عورة . وتقريب الاستدلال بها انّ الظاهر كون المراد بالعورة هي السوأة ويكون حملها على المرأة من باب التشبيه البليغ الذي
الصفحة 614
تكون أداة التشبيه فيه محذوفة ليعرف ثبوت وجه الشبه في المشبّه على نحو ثبوته للمشبّه به حتّى كأن الأوّل يكون من أفراد الثاني ومصاديقه ولما كان أظهر خواص العورة وآثارها هو قبح إظهارها عرفاً وشرعاً ووجوب سترها شرعاً لأجل كون إظهارها موجباً لتحريك الشهوات وفعل ما لا ينبغي صدوره فبذلك التشبيه البليغ يعلم ثبوت هذا الأثر في المرأة التي هي المشبّه لأنّ ظهورها موجب لصدور الأفعال القبيحة الممنوعة عند الشرع ، ومن المعلوم انّ ما هو المناط في وجوب الستر ثابت في الوجه على النحو الأتمّ فتدلّ الرواية ـ حينئذ ـ على أنّه يجب على المرأة ستر جميع البدن حتّى الوجه والكفّين .
ويرد عليه انّه يمكن أن يكون المراد من العورة في الرواية ما هو معناها بحسب اللغة وهو كلّ شيء يستره الإنسان للاستحياء من ظهوره لكونه قبيحاً ومن مصاديقها العورة بمعنى السوأة ، وعليه تكون المرأة من المصاديق الحقيقية للعورة اللغوية لأنّ المرأة شيء يستحيي من ظهورها لاحتفافها بالأعمال القبيحة والأفعال الممنوعة التي ينبغي صدورها منها وإلاّ فنفس المرأة ليست شيئاً يستحيي منها مع قطع النظر عن احتفافها بها ، ولكن الكلام في أنّه لو سترت المرأة جميع بدنها سوى الوجه والكفّين فهل يتحقّق الاحتفاف ـ حينئذ ـ أم لا ، والظاهر انّ الرواية لا تكون في مقام بيان انّ المرأة بجميع بدنها عورة بل هي ناظرة إلى امتيازهن عن الرجال وبيان انّ الطائفتين ليستا بمتساويتين وانّ المرأة عورة دون الرجل فأين الدلالة على أنّ كلّ جزء من أجزاء بدنها كذلك كما لا يخفى .
ومن هذه الطائفة ما رواه الخاصّة عن النبي (صلى الله عليه وآله) انّه قال : النساء عيّ عورة فداووا عيّهن بالسكوت وعوراتهن بالبيوت وقد أمر فيها بمداوى عوراتهن بالبيوت ، ومن المعلوم انّ المستورية بالبيت هي المستورية بجميع الأعضاء ولكن
الصفحة 615
إضافة العورات إليهنّ تدلّ على عدم كونها بتمامها عورة ، ويمكن أن يكون عدم التمامية بلحاظ كون العورة من خواص الجسم ولا ارتباط لها بالروح مع أنّ المرأة مركبة منهما .
وكيف كان فالظاهر انّه لا يمكن الالتزام بالرواية لظهورها في وجوب سترهن بالبيوت وانّه لا يجوز لها الخروج من البيت ولو مع ستر جميع بدنها . ومن الواضح انّه لا يمكن الالتزام بذلك لعدم وجوب سكونتها في البيت دائماً وعدم خروجها منه كذلك ، غاية الأمر استحباب ذلك اللهمّ إلاّ أن يقال بالتفكيك وانّ الوجوب إنّما تعلّق بأصل الستر والاستحباب تعلّق بالستر بالبيوت الذي هو أعلى مرتبة الستر ولكنّه إنّما يصحّ لو تمّت دلالة الرواية على أصل الوجوب أيضاً ، ومن الواضح عدم تماميتها ضرورة انّه لو كان هناك رواية دالّة على عدم وجوب ستر خصوص الوجه والكفّين فهل يتحقّق التعارض بينها وبين هذه الرواية وليس ذلك إلاّ لأجل عدم دلالة هذه الرواية على وجوب ستر الأمرين أيضاً فتدبّر جيّداً .
الطائفة الثانية ما ورد في باب النظر إلى الأجنبية وهي كثيرة :
منها : رواية علي بن عقبة عن أبيه عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سمعته يقول : النظرة سهم من سهام إبليس مسموم وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة . والموضوع في الرواية وإن كان هي النظرة المطلقة إلاّ انّ المحمول فيها شاهد على كون المراد منه هي النظرة المحرّمة ، وعليه فلابدّ من إثبات تحريم النظر إلى الوجه والكفّين من دليل آخر ولا دلالة للرواية عليه أصلا فالرواية أجنبية عن الدلالة على حرمة النظر إليهما وعلى تقديره فقد عرفت انّ حرمة النظر لا تستلزم وجوب الستر بخلاف العكس .
ومنها : مرسلة ابن أبي نجران عمّن ذكره عن أبي عبدالله (عليه السلام) وإن كانت مروية
الصفحة 616
مسندة عن أبي جميلة عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) قالا : ما من أحد إلاّ وهو يصيب حظّاً من الزنا ، فزنا العينين النظر وزنا الفم القبلة وزنا اليدين اللمس صدق الفرج ذلك أو كذب . والظاهر انّ المراد من النظر فيها هو النظر مع التلذّذ لدلالة لفظ الزنا المحمول عليه عليه ذلك لملازمته مع التلذّذ والتكيّف ولكنّها لا دلالة للرواية على أنّ النظر المحرم المحكوم عليه بكونه زنا العينين هو أيّ نظر اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ النساء المسلمات حيث كنّ يسترن بدنهنّ فالعضو الواقع منهن في معرض النظر هو الوجه والكفّان ولكن الظاهر انّ الرواية ناظرة إلى أنّ النظر إلى العضو الذي يحرم النظر إليه يكون زناً بالنسبة إلى العينين ، وامّا انّ النظر المحرم ماذا فلا دلالة لها عليه .
ومنها : رواية سعد الاسكاف عن أي جعفر (عليه السلام) قال : استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنعن خلف آذانهن فنظر إليها وهي مقبلة فلمّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه فلما مضت المرأة نظر فإذاً الدماء تسيل على ثوبه وصدره فقال : والله لآتين رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولأخبرنّه ، فلمّا رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله)قال : ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل بهذه الآية : (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم انّ الله خبير بما يصنعون) .
ولا يخفى انّ المستفاد منها انّ الأمر بالغضّ في الكريمة يكون المراد منه الأمر بالغضّ عن النظر إلى الأجنبية خلافاً لما ذكرناه سابقاً واستفدناه من نفس الآية وبعض الروايات من أنّ المراد هو الأمر بالغضّ عن النظر إلى فرج الغير وعورته رجلا كان أو امرأة .
وكيف كان فمفاد الآية ليس حرمة النظر إلى الوجه والكفّين أيضاً لأنّ النساء كنّ يتقنعن خلف آذانهن وفي الآية قد أمرن بإلقاء القناع على جيوبهن فأين الدلالة
الصفحة 617
على حرمة النظر إليهما وعلى تقديره فلا دلالة لها على وجوب سترهما على النساء لأنّ التحفّظ والتحرّز عن شقّ الوجه له طريقان ستر النساء الوجه والكفّين وعدم نظر الرجال إليهن ولا دلالة لها على تعين الأوّل .
ومنها : رواية عقبة قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها لله عزّوجلّ لا لغيره أعقبه الله أمناً وإيماناً يجد طعمه . والظاهر انّها بعينها هي الرواية الاُولى المتقدّمة ، غاية الأمر انّ الراوي عن عقبة هناك هو ابنه وهنا هشام بن سالم فلا تكونان روايتين وعلى تقديره فمفاد الرواية بعينه هو مفاد تلك الرواية ولا دلالة لشيء منهما على وجوب ستر الوجه والكفّين .
ومنها : رواية ابن يقطين عن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) قال : لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة وليست بمسفرة إذا عرفت بعينها أو حضر من يعرفها ، فامّا ان كانت لا تعرف بعينها أو لا يحضر من يعرفها فلا يجوز للشهود أن يشهدوا عليها وعلى إقرارها دون أن تسفر وينظرون إليها .
ومنها : رواية محمد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى الفقيه (عليه السلام) في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم هل يجوز أن يشهد عليها وهي من وراء الستر ويسمع كلامها إذا شهد رجلان عدلان انّها فلانة بنت فلان التي تشهدك وهذا كلامها أو لا يجوز له الشهادة عليها حتّى تبرز ويثبتها بعينها؟ فوفّع (عليه السلام) : تتنقّب وتظهر للشهود إن شاء الله .
وقد استدل بهما على وجوب ستر الوجه فإنّ مفادهما انّ المرأة إنّما يجوز لها أن تظهر في حال الضرورة لا غير ولو لم يكن الستر واجباً عليها في حال لما كان وجه للسؤال عن أنّه هل يجوز لها الحضور والظهور كذلك أم لا كما لا يخفى ، وامّا النقاب فيستر ثلثي الوجه لا أزيد وإلاّ لا تتحقّق معرفتها أصلا وإذا كان كذلك فلا يجوز لها
الصفحة 618
الظهور لغير الضرورة .
وربّما يناقش في الاستدلال بأنّ قوله (عليه السلام) : تتنقّب ، ليس معناه إيجاب التنقّب وإلزامه بل إنّما هو لأجل استحياء النساء غالباً عن النظر إلى وجوههن خصوصاً إذا كان النظر لمعرفتها فالتنقّب إنّما هو لمراعاة ذلك لا للزومه ووجوبه .
إن قلت : إنّ ظهورها للشهود حتى يعرفوها مستلزم لأن يكون الشهود قد رأوها سابقاً وعرفوها كذلك ضرورة انّ مجرّد الظهور من دون سبق الرؤية لا يترتّب عليه المعرفة والأثر بوجه فلو كان النظر إلى وجهها حراماً يكون لازمه خروج الشهود بذلك عن العدالة المعتبرة فيهم وإذا لم يكن حراماً يكون لازمه عدم وجوب الستر لأنّه لا معنى لوجوب الستر مع عدم حرمة النظر كما لا يخفى .
قلت : إنّ في باب الشهادات وتحمل الشهادة قد استثنى مثل ذلك النظر بل أهمّ منه كالنظر إلى الفرج حتّى تتحقّق الرؤية كالميل في المكحلة في باب الزنا ولا يخرج بذلك الشاهد عن العدالة وإلا ينسد باب الشهادة .
وكيف كان فلا دلالة للروايتين على وجوب ستر الوجه كما انّه لا دلالة لهما على عدم الوجوب .
الطائفة الثانية : الروايات الواردة في جواز النظر إلى محاسن المرأة وشعرها ووجهها عند إرادة التزويج معها وهي كثيرة أيضاً :
منها : رواية محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يريد أن يتزوّج المرأة أينظر إليها؟ قال : نعم إنّما يشتريها بأغلى الثمن . ومن المعلوم انّ النظر إلى الوجه داخل في مورد السؤال قطعاً .
ومنها : رواية هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وحفص بن البختري كلّهم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لا بأس بأن ينظر إلى وجهها ومعاصمها إذا أراد أن يتزوّجها . وقد
الصفحة 619
وقع التصريح بالوجه فيها .
ومنها : رواية الحسن بن السري قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجل يريد أن يتزوّج المرأة يتأمّلها وينظر إلى خلفها وإلى وجهها؟ قال : نعم لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوّجها إلى خلفها وإلى وجهها .
وقد استدلّ بهذه الطائفة على وجوب ستر الوجه نظراً إلى أن الحكم بجواز النظر إليه قد وقع بيانه بصورة قضية شرطية ومفهومها عدم الجواز عند عدم إرادة التزويج معها الذي هو المفروض في محلّ البحث .
ولا يخفى انّه لو قلنا بعدم ثبوت المفهوم للقضية الشرطية رأساً أو بأن ثبوته لها إنّما هو فيما لو لم يكن الشرط وارداً لبيان الموضوع ، وامّا مع كون الشرط مسوقاً لبيان الموضوع كما في قوله : إن رزقت ولداً فاختنه فلا مفهوم له والمقام أيضاً من هذا القبيل فإنّ إرادة التزويج يوجب تحقّق الموضوع للنظر لأنّه لا داعي إليه بدونها فالاستدلال بهذه الطائفة غير صحيح .
وإن أبيت عن ذلك وقلت بثبوت المفهوم وانّ المقام من قبيل قوله : إن جاءك زيد فاكرمه فمفهوم الروايات ثبوت البأس عند عدم إرادة التزويج ومن المعلوم انّ البأس أعمّ من الحرمة لشموله للكراهة أيضاً .
وقد أجاب الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في رسالة النكاح بأنّ بين النظر للتزويج والنظر المبحوث عنه في المقام فرق; لأنّ النظر للتزويج إنّما يكون لتشخيص خلقتها وللاختبار وكشف الواقع بخلاف النظر في غير مورد إرادة التزويج فإنّه عبارة عن مجرّد النظر بدون التلذّذ والريبة كالنظر إلى وجه الرجل ، كما انّه يمكن الفرق بأنّ البحث في المقام إنّما هو في جواز النظر وحرمته ، وامّا النظر في هذه الروايات فيمكن أن يكون مستحبّاً مندوباً كما يرشد إليه الرواية الاُولى فتدبّر
الصفحة 620
فبين النظرين بون بعيد .
سلّمنا دلالة هذه الطائفة على حرمة النظر إلى الوجه مع عدم إرادة التزويج ولكنّها لا دلالة لها على وجوب ستره لما عرفت .
الطائفة الرابعة : الروايات الواردة في موارد مختلفة التي منها ما في صحيح البخاري عن ابن عبّاس قال : كان الفضل رديف النبي (صلى الله عليه وآله) فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي (صلى الله عليه وآله) يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت : إنّ فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أنا أحجّ عنه قال : نعم وذلك في حجّة الوداع ، وزاد في فتح الباري في شرح صحيح البخاري انّه (صلى الله عليه وآله) قال في آخره : رأيت غلاماً حدثاً وجارية حدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان بتقريب انّه لو كان النظر إلى وجه المرأة غير محرم لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) يصرف وجه الفضل إلى الجانب الآخر .
والجواب عنه أوّلا : انّ صرف النبي (صلى الله عليه وآله) وجهه لعلّه كان لخشيته (صلى الله عليه وآله) دخول الشيطان بينهما كما علّله بذلك في الزيادة المنقولة ، وعليه فالمحذور إنّما هو دخول الشيطان وانجرار النظر إلى الأعمال القبيحة وإلاّ فنفس النظر لا يكون محرماً حتى يكون إطاعة للشيطان .
وثانياً : انّ رؤية النبي (صلى الله عليه وآله) نظر المرأة إلى الفضل كما هو ظاهر الرواية تشهد على تحقّق نظره إليها وهو دليل على جوازه فتدبّر .
وثالثاً : لو كان ستر الوجه واجباً على المرأة فلِمَ لم يأمرها بذلك حتى يتحقّق الأمر بالمعروف ولا يحتاج إلى صرف وجه الفضل بوجه ، فالإنصاف انّ الرواية من هذه الجهة أقوى الأدلّة على عدم وجوب ستر الوجه كما لا يخفى .
كلّ ذلك مضافاً إلى أنّه لم يعلم انّ انصراف وجه الفضل وعدم النظر إليها كان
|