في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>


الصفحة 62

عرفت انّ الأدلّة الواردة في أصل نجاسة الميتة قاصرة عن إثبات الحكم للجزء المبان من الحي بعد عدم صدق عنوان الميتة عليه عند العرف.

نعم وردت في المقام رواية نقلها المشايخ الثلاثة في كتبهم وهي ما رواه أيّوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة فإذا مسّه إنسان فكل ما ك ان فيه عظم فقد وجب على من يمسّه الغسل فإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه. فانّه يستفاد من تنزيل القطعة المبانة من الإنسان منزلة الميت كونها كذلك في جميع الآثار والأحكام أو في خصوص الآثار البارزة التي منها النجاسة بل لا وجه لتنزيل ما لا عظم له أيضاً منزلة الميت إلاّ في النجاسة لعدم وجوب غسل المسّ فيه على ما هو صريح ذيل الرواية.

وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في انّ الرواية في مقام بيان حكمين: أحدهما التنزيل منزلة الميتة مطلقاً، وثانيهما التفصيل في وجوب غسل المسّ بين ما كان فيه عظم وما لم يكن فيه عظم وليس الحكم الثاني قرينة على كون التنزيل في خصوص ما فيه عظم ضرورة انّه إن كان المراد هو التنزيل في خصوصه بالإضافة إلى وجوب غسل المسّ فمن الواضح إيجاب ذلك للاستهجان فانّه من المستهجن إفادة حكم واحد بهذه الكيفية كما هو ظاهر، وإن كان المراد هو التنزيل في خصوصه في ترتّب النجاسة عليه فيردّ عليه مضافاً إلى منع كون الذيل قرينة على الاختصاص انّه لا يضرّ فيما نحن بصدده لأنّه بعد ثبوت النجاسة لما فيه عظم تثبت لما ليس فيه بعدم القول بالفصل من هذه الجهة فتدبّر. نعم الرواية مرسلة والظاهر انجبارها باستناد المشهور إليها والفتوى على طبقها فلا يبقى خلل فيها لا من حيث السند ولا من حيث الدلالة.

بقي الكلام في هذا الفرع فيما استثنى من الأجزاء المبانة من الإنسان بل مطلق

الصفحة 63

الحيوان وهي عبارة عن الأجزاء الصغار كالبثور والثالول وما يعلو الشفة والقروح عند البرء وقشور الجرب التي تنفصل من بدن الأجرب عند الحكّ ونحو ذلك فقد حكم في المتن بطهارتها، وقد عرفت انّ الروايات الواردة في الاجزاء المبانة من الحي لا يمكن إلغاء الخصوصية عنها وتعميمها بحيث تشمل الأجزاء المبانة من الإنسان إلاّ انّ الكلام هنا في انّه على فرض شمولها لها فهل تشمل الأجزاء الصغار أيضاً أم لا؟ قد يقال بأنّه يستفاد من كلمات العلاّمة (قدس سره) في المنتهى انّ الأدلّة شاملة لها لتمسّكه لطهارتها بدليل الحرج الظاهر في انّه لولا دليله لكان مقتضى الأدلّة النجاسة.

وقال سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ في مقام بيان محتملات الروايات المتقدّمة خصوصاً صحيحة محمد بن قيس ، ما حاصله:

«انّ في قوله (عليه السلام) : ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يداً أو رجلاً فذروه فانّه ميت، احتمالات:

أحدها: أن يكون المراد من قوله (عليه السلام) : فإنّه ميت، انّه ميّت حكماً على معنى ان مصحح الادعاء ـ بعد عدم الصدق على نحو الحقيقة ـ هو محكومية الجزء بأحكام الميت كقوله: الطواف بالبيت صلاة فيكون مفاده انّ وجوب الرفض انّما هو لأجل كونه ميتة حكماً، إلى أن قال: لكن لا يكون هذا التعليل معمّماً كسائر التعليلات.

الثاني: انّ المصحّح لدعوى انّه ميّت هو مشابهة الجزء للكلّ في زهاق الروح فكأنه قال فذروه لأنّه زهق روحه، وعليه فيكون العلّة للحكم برفضه هي زهاق روحه والعلّة تعمّم فتشمل الأجزاء المتّصلة إذا زهق روحها وذهبت إلى الفساد والنتن.

الثالث: أن يقال: إنّ المراد بقوله: فإنّه ميّت انّه غير مذكّى لإفادة انّ الحيوان

الصفحة 64

بأجزائه إذا لم يكن مذكّى بما جعله الشارع سبباً للتذكية فهو ميّت، فالميتة مقابلة المذكّى في الشرع كما يظهر بالرجوع إلى الروايات وموارد الاستعمالات، وليست التذكية في لسان الشارع وعرف المتشرّعة عبارة عمّا في عرف اللغة فانّ الذكوة ـ لغة ـ عبارة عن الذبح، ولا كذلك في الشرع إذ التذكية ذبح بخصوصيات معتبرة في الشرع إلى أن قال: فدعوى انّ التذكية حقيقة شرعية قريبة جدّاً، وكذا للميتة التي هي في مقابلها، فالمذبوح بغير ما قرّر شرعاً ميتة وإن قلنا بعدم صدقها عرفاً إلاّ على ما مات حتف أنفه أو بغير الذبح وكذا الاجزاء المبانة من الحيوان ميتة وإن لم تصدق عليها في العرف واللغة، ثمّ قال ـ دام ظلّه ـ : انّ الاحتمالات المتقدّمة انّما تأتي في صحيحة محمد بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ما أخذت... لو خليت ونفسها، وامّا مع لحاظ سائر الروايات فيسقط الاحتمال الثاني جزماً لعدم تأتيه في غيرها وبعد عدم صحّة الاحتمال الثاني في غير الصحيحة يسقط فيها أيضاً للجزم بوحدة مفاد الجميع فبقي الاحتمالان، والأقرب الأخير منهما لما عرفت من كثرة استعمال الميتة قبال المذكى بحيث صارت كحقيقة شرعية أو متشرعية أو نفسهما بل لو ادّعاها أحد ليس بمجازف فاتّضح ممّا مرّ قوّة التفصيل بين الأجزاء الصغار التي زالت حياتها بالقطع وغيرها كالثولؤل والبثور» انتهى ملخّص كلامه دام بقاه.

وغير خفي انّ ما أفاده من القول بالحقيقة الشرعية ونحوها في الميتة والمذكّى صحيح جدّاً وسيأتي البحث عن معنى الميتة إن شاء الله تعالى إلاّ انّه بالإضافة إلى الحيوانات غير الإنسان فانّه لا يتصوّر للإنسان عنوان الميتة مقابل المذكى وكذا العكس وعليه فلا يمكن أن يستفاد حكم الأجزاء الصغار للإنسان عن مثل صحيحة محمد بن قيس التي تجري فيها الاحتمالات المتقدّمة، وقد استفدنا حكم الاجزاء الكبار له من مرسلة أيّوب بن نوح المتقدّمة. ومن الظاهر انّ التنزيل فيها

الصفحة 65

منزلة الميتة ليس بحيث يعمّ الأجزاء الصغيرة أيضاً ضرورة انّ مورده هي القطعة وهي غير شاملة لها وعليه فتبقى الأجزاء الصغار من دون دليل على النجاسة وهو يكفي في الحكم بطهارتها ولا حاجة بعد عدم وجود الدليل على النجاسة إلى رواية علي بن جعفر انّه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن الرجل يكون به الثالول أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثؤلول وهو في صلاته أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال: إن لم يتخوّف أن يسيل الدم فلا بأس، وإن تخوّف أن يسيل الدم فلا يفعله. وإن استدلّ بها الشيخ الأعظم (قدس سره) لأنّه إذا لم يكن دليل على نجاستها تصل النوبة إلى الأصل وهو يقتضي الطهارة ولا حاجة إلى الاستدلال بالرواية حتّى يقال إنّها لا تكون ناظرة إلى عدم قادحية الفعل المذكور ـ أي قطع الثؤلول ـ من جميع الجهات فيستدلّ به على الطهارة لأنّه قد يقطعه بيده وهو في صلاته ثمّ يطرحه فلو كان الثؤلول ميتة كان حمله في الصلاة ولو آناً ما مبطلاً لها ويؤيّده اشتراط عدم سيلان الدم بل هي ناظرة إلى عدم قادحيته في الصلاة من جهة كونه فعلاً يسيراً لا يقطع الصلاة، واشتراط عدم سيلان الدم مستند إلى ان قطع الثؤلول ونتف بعض اللحم يستلزم سيلانه غالباً فكأنّها تدلّ على انّ مثل القطع لا يمنع عن الصلاة في نفسه لو لم ينجر إلى ما يكون ملازماً له غالباً وهو سيلان الدم فتدبّر فانّ الرواية مع ذلك لا تخلو عن الدلالة على الطهارة خصوصاً بعد كون القطع بسبب اليد نوعاً ووجود الرطوبة غالباً خصوصاً مع كون بلد السؤال ممّا يعرق فيه الأبدان كثيراً فإنّ عدم التعرّض لذلك في الرواية دليل على عدم النجاسة كما لا يخفى.

الفرع الثاني: في أجزاء الميتة وهي على قسمين: قسم تحلّه الحياة كاللحم وقسم لا تحلّه كالعظم والقرن والسنّ والمنقار والظفر والحافر والشعر والصوف والوبر والريش وقد حكم في المتن بنجاسة القسم الأوّل وطهارة القسم الثاني.

الصفحة 66

امّا نجاسة القسم الأوّل الذي يكون المراد به هي الأجزاء المبانة من الميتة التي تحلّها الحياة ضرورة انّه مع عدم الانفصال لا يكون البحث فيه بحثاً مستقلاًّ عن بحث نجاسة الميتة الذي قد تقدّم مفصّلاً فيدلّ عليها اُمور:

الأوّل: الأدلّة المثبتة للحكم بالنجاسة على الميتة فإنّ معروض النجاسة العارضة بسبب الموت هي أجزاء الميتة على ما يقتضيه نظر العرف من غير فرق عندهم بين صورتي الاتصال والانفصال خصوصاً إذا كان حصول عنوان الميتة بنفس الانفصال كما إذا قطعنا الحيوان نصفين، وبالجملة لا إشكال عند العرف بعد قيام الدليل على نجاسة الميتة في انّ انفصال الجزء لا يكون مغيّراً لحكمه وموجباً لزوال النجاسة على ما هو ظاهر.

الثاني: ما روى من الأمر بالاجتناب عن ظروف أهل الكتاب معلّلاً بأنّهم يأكلون فيها لحم الخنزير والدم والميتة، مع وضوح انّ ما يقع في الاناء من الميتة ليس إلاّ أجزائها غالباً لا مجموعها.

الثالث: الاستصحاب أي استصحاب نجاسة الجزء حال الاتصال فانّه لا مانع من جريانه وإن كان غير محتاج إليه لمكان الدليل الاجتهادي على النجاسة.

وخالف فيما ذكر صاحب المدارك (قدس سره) فانّه بعد تضعيفه الحكم بنجاسة الأجزاء المبانة من الميتة بأنّ غاية ما يستفاد من الأخبار هي نجاسة جسد الميّت وهو لا يصدق على الأجزاء قطعاً، قال: «نعم يمكن القول بنجاسة القطعة المبانة من الميّت استصحاباً لحكمها حال الاتصال ولا يخفى ما فيه».

ولعل نظره (قدس سره) من المناقشة في جريان الاستصحاب إلى تبدّل عنوان الموضوع فانّ الموضوع في القضية المتيقّنة هو عنوان الميتة وهو لا يصدق على الجزء بعد الانفصال كالماء المتغيّر بالنجاسة بعد زوال تغيّره من قبل نفسه فانّه لا يصحّ إجراء

الصفحة 67

الاستصحاب فيه لكون الموضوع الذي ثبت له النجاسة هو الماء الموصوف بوصف التغيّر والمفروض عدم بقائه فعلاً فلا مجال لاستصحاب حكمه.

والحقّ هو جريان الاستصحاب وإنّ منشأ المناقشة فيه هو الخلط بين موضوع الدليل الاجتهادي وبين موضوع الاستصحاب، بيان ذلك:

انّ الدليل الاجتهادي مثل «الماء المتغيّر بالنجاسة نجس» قد رتّب الحكم فيه على العنوان المأخوذ فيه كالماء المتغيّر في المثال ومع الشكّ في ثبوت هذا العنوان لا مجال للتمسّك بالدليل فضلاً عمّا إذا قطع بزواله بانتفاء بعض قيوده ولذا لو شكّ ـ ابتداء ـ في حصول التغيّر وعدمه لا يجوز التمسّك بالدليل للزوم إحراز الموضوع في شمول الدليل الاجتهادي وجريانه.

ولكن فيما إذا تحقّق العنوان خارجاً واُحرز الموضوع حقيقة وصار الماء في المثال متغيّراً بالنجاسة قطعاً يصير المصداق الخارجي معروضاً للحكم بالنجاسة الذي هو مفاد الدليل الاجتهادي فإذا تبدّل بعض حالاته وزال التغيّر من قبل نفسه وشككنا في بقاء النجاسة وعدمه من جهة احتمال كون التغيّر دخيلاً في ترتّب الحكم حدوثاً من غير اعتباره في البقاء والمفروض قصور الدليل الاجتهادي عن إفادة حكمه نفياً أو إثباتاً فلا مانع من الاستمداد من قوله: لا تنقض اليقين بالشكّ واستفادة بقاء حكم النجاسة بمعاونته نظراً إلى انّ هذا الماء كان في السابق نجساً ـ وإن كانت العلّة هي التغيّر ـ والآن نشكّ في بقائها والمفروض عدم كونه شخصاً آخر وفرداً ثانياً فأيّ مانع من جريان الاستصحاب فيه، وفي المقام نقول: إنّ موضوع النجاسة في الدليل الاجتهادي وإن كان هو عنوان الميتة وهو لا يصدق على الأجزاء بناءاً على قول صاحب المدارك إلاّ انّه لا إشكال في انّ معروض النجاسة سابقاً هي نفس هذه الأجزاء وبعد انفصال الجزء نشكّ في انّ هذا الجزء

الصفحة 68

الذي كان في السابق نجساً هل يكون باقياً على ما كان أم لا ولا محيص في مثله من الرجوع إلى الاستصحاب بعد فرض قصور الدليل الاجتهادي. فانقدح انّه إذا وصلت النوبة إلى الأصل يكون مقتضاه بقاء النجاسة أيضاً.

القسم الثاني: الأجزاء التي لا تحلّها الحياة من الميتة كالأمثلة المذكورة ولا إشكال في طهارتها ومغايرتها لسائر الأجزاء انّما الإشكال في انّه هل لا تكون هذه الأجزاء مشمولة لأدلّة نجاسة الميتة فلا تحتاج إلى دليل على الاستثناء بل يكفي في إثبات طهارتها القاعدة أو انّها تشملها وتحتاج إليه؟ قولان ذهب إلى الأوّل سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ بدعوى انّ ما دلّ على نجاسة الميتة ـ على كثرتها ـ انّما علق فيها الحكم على عنوان الجيفة والميتة وهما بما لهما من المعنى الوضعي لا تشملان ما لا تحلّه الحياة فانّ الجيفة هي الجثّة المنتنة من الميتة والنتن وصف لما تحلّه الحياة، ولا ينتن الشعر والظفر وغيرهما من غير ما تحلّه الحياة، ودعوى انّ الجيفة وإن كانت معناً وصفياً ولكنّها صارت اسماً للمجموع الذي من جملته ما لا تحلّه الحياة، في غير محلّها لعدم ثبوت ذلك بل الظاهر من اللغة انّ الجيفة اسم للجثّة المنتنة فتكون تلك الأجزاء خارجة عن مسمّاها، ففي القاموس والصحاح «الجيفة: جثّة الميّت وقد أراح أي : أنتن» وفي المنجد: «الجيفة : جثّة الميّت المنتنة» وفيه «جافت الجيفة أي: أنتنت» والميتة ما زال عنها الروح في مقابل الحي ولا تطلق على الأجزاء التي لم تحلّها الحياة ولو بتأوّل كما تطلق كذلك على ما تحلّها، وصيرورتهما اسماً للمجموع الداخل فيه تلك الأجزاء غير ثابت فالحكم بنجاسة الجيفة والميتة لا يشمل تلك الأجزاء لا لفظاً ولا بمدد الارتكاز ـ أي ارتكاز العقلاء باسراء النجاسة إلى الأجزاء ـ فأصالة الطهارة بالنسبة إليها محكمة. انتهى كلامه.

ولكن الحقّ هو الثاني لأنّ العرف يستفيد من أدلّة نجاسة الميتة نجاستها بجميع

الصفحة 69

أجزائها حتّى ما لا تحلّه الحياة فانّ أهل العرف يطلقون الميتة على مجموعها والظاهر انّه لا يكون من باب التغليب والمسامحة.

إن قلت: لا فرق فيما لا تحلّه الحياة بين حال حياة الحيوان ومماته فكيف يكون في حال حياته محكوماً بالطهارة وبعدها بالنجاسة؟!.

قلت: الفرق موجود لنموّه حال حياة الحيوان وعدم نموّه بعد مماته والمراد من عدم حلول الحياة فيه هو عدم حلول الحياة الحيوانية فيه وإلاّ فالحياة النباتية موجودة في حال حياة الحيوان مرتفعة بموته مع انّه إذا أطلق العرف عليه عنوان الميتة فلا مانع من شمول الدليل له ولا تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة إلاّ انّ كثيراً من النصوص الواردة في المقام قد دلّت على طهارتها:

ففي الصحيح عن الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة، انّ الصوف ليس فيه روح. ومعنى: ليس فيه روح انّه ليس من شأنه أن يكون فيه روح حتّى حال حياة الحيوان، وهذه الرواية وإن وقع التصريح فيها بحكم الصوف إلاّ انّ العلّة وهي قوله: إنّ الصوف ليس فيه روح تعمّم نفي البأس بالإضافة إلى كلّ ما ليس فيه روح في حال حياة الحيوان.

وفي موثقة حسين بن زرارة قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) وأبي يسأله عن اللبن من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة؟ فقال: كلّ هذا ذكى وقال ـ أي الكليني راوي الحديث ـ : وزاد فيه علي بن عقبة وعلي بن الحسن بن رباط قال: والشعر والصوف كلّه ذكي.

وفي رواية صفوان ـ على ما قال الكليني ـ عن الحسين بن زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: الشعر والصو والريش وكل نابت لا يكون ميتاً قال: وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة؟ فقال: يأكلها.

الصفحة 70

وفي قبال هذه الروايات قد وردت روايات اُخر مشعرة بل ظاهرة في نجاسة المذكورات:

منها: رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه قال: قال جابر بن عبدالله: انّ دباغة الصوف والشعر غسله بالماء، وأي شيء يكون أطهر من الماء. فانّ ظاهرها احتياج الصوف والشعر إلى الدباغة أي التطهير، والتعبير بالدباغة مكان التطهير لعلّه بمناسبة قول العامّة بأنّ دباغة جلد الميتة مطهرة له، وبالجملة تكون هذه الرواية ظاهرة في انّ الشعر والصوف لا يكونان طاهرين بل محتاجين إلى الدباغة لحصول الطهارة ودباغتهما غسلهما بالماء.

وفي الاستدلال بها نظر لكونها ـ مع وهنها بالنقل عن جابر إذ لا وجه لنقل الإمام (عليه السلام) عن جابر ومع عدم وجه للتعبير عن التطهير بالدباغة ـ مخالفة لفتوى الأصحاب والأخبار الكثيرة الدالّة على انّ المذكورات ذكية فلابدّ من أن تحمل الرواية على غسل موضع الملاقاة للميتة فيما إذا نتفا منها كما لا يخفى.

ومنها: ما روا يونس عنهم (عليهم السلام) قالوا: خمسة أشياء ذكية ممّا فيه منافع الخلق: الأنفحة والبيض والصوف والشعر والوبر. والظاهر منها انحصار الذكية وما فيه منافع الخلق في الخمسة المذكورة في الرواية وإن لم نقل بثبوت المفهوم للعدد لأنّ الإمام (عليه السلام) في مقام تعداد الأشياء الذكية الكذائية قد اكتفى بالمذكورات خصوصاً مع التصريح بعنوان الخمس فالظاهر الانحصار مع انّك قد عرفت انّ كل ما ليس فيه روح ذكي ومن المعلوم ثبوت المنافع لجلّها لولا كلّها.

وقد أجاب عنها سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ بأنّه من الممكن أن يكون قوله (عليه السلام): «ذكية» صفة لخمسة وخبرها بعدها فيكون المراد الاخبار بأنّ في بعض المستثنيات منافع للناس.

الصفحة 71

واحتماله وإن كان صحيحاً في نفسه إلاّ انّ مضمون الرواية يصير ـ على هذا ـ أمراً غير مرتبط بشأن الإمام (عليه السلام) ولعلّه لذلك أمر بالتأمّل في آخر كلامه والصحيح في الجواب أن يقال: إنّها لا تصلح لمعارضة سائر النصوص الواردة في المقام الدالّة على طهارة كلّ ما ليس فيه روح.

ومنها: رواية الفتح بن زيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكياً، فكتب (عليه السلام) : لا ينتفع من الميتة باهاب ولا عصب وكلّما كان من السخال، الصوف إن جز والشعر والوبر والأنفحة والقرن ولا يتعدّى إلى غيرها إن شاء الله تعالى. والظاهر منها انّ جواز الانتفاع في الصوف مشروط بالجز وإنّ ما ينتفع من الميتة منحصر في المذكورات ولا يتعدّى إلى غيرها.

والجواب عنها أوّلاً ضعف سندها وثانياً وهن متنها فانّها تكون في مقام بيان ما لا ينتفع من الميتة ثمّ تنتقل إلى بيان ما ينتفع بدون ذكر كلمة : «وينتفع منها» وثالثاً مخالفتها للنصوص المعتبرة الصريحة وفتوى الأصحاب.

ثمّ انّه قد نسب إلى الشيخ الطوسي (قدس سره) التفصيل في الصوف والشعر والوبر بين ما إذا أخذ ذلك بجزّ وبين ما إذا أخذ بنتف بطهارة الأوّل ونجاسة الثاني والظاهر انّ مراده عدم طهارة اُصولها المتّصلة بجلد الميتة ونجاستها نجاسة الميتة والوجه في ذلك أحد أمرين:

أحدهما: انّ الشعر والصوف ونحوهما يستصحب عند انفصاله بالنتف جزء من أجزاء الميتة ممّا تحلّه الحياة وهو غير مستثنى عن نجاسة الميتة.

ثانيهما: رواية فتح بن زيد الجرجاني ـ المتقدّمة آنفاً ـ الدالّة على اشتراط الانتفاع بالصوف بما إذا جز.

ولا يخفى ما في كلا الأمرين :

الصفحة 72

امّا الأوّل فلأنّ محلّ الكلام ما إذا كان الصوف والشعر والوبر مجرّداً عن أجزاء الميتة لا ما إذا كان مستصحباً لشيء من أجزائها.

وامّا الثاني فلما عرفت فيها من ضعف السند واضطراب المتن والمخالفة لفتوى الأصحاب حيث إنّهم قد تعدّوا عن المذكورات فيها مضافاً إلى انّ مقتضاها اشتراط الجزّ في خصوص الصوف من السخال لا الصوف والشعر والوبر من كلّ حيوان فلا تنطبق على المدّعى.

والدليل على عدم الفرق بين الجزّ والنتف ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم وجود الدليل على الفرق ـ رواية حريز قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) لزرارة ومحمد بن مسلم: اللبن واللباء والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شيء يفصل من الشاة والدابّة فهو ذكي وإن أخذته منه بعد أن تموت فاغسله وصل فيه. فانّها تدلّ على عدم نجاسة اُصول الشعر والصوف ونحوهما في صورة النتف بالنجاسة العينية المبحوث عنها في المقام ولزوم الغسل للنجاسة العرضية التي حصلت لاُصولها بالاتصال بجلد الميتة.

إن قلت: قد أمر في الرواية بغسل مطلق ما اُخذ من الحيوان بعد أن يموت سواء كان بالجزّ أو بالنتف، وفي صورة الجزّ لم يتّصل ما أخذ منه بالجلد حتّى يغسل للنجاسة العرضية.

قلت: حيث إنّ الأخذ أي أخذ الصوف والشعر من الحيوان بعد أن مات يكون بالنتف غالباً فالرواية ناظرة إلى خصوص هذه الصورة ومحمولة عليه.

الفرع الثالث: البيض من الميتة الذي اكتسى القشر الأعلى والمراد من القشر الأعلى هو الجلد الغليظ الأبيض نوعاً وقد حكم في المتن بطهارته مشروطاً بالشرط المذكور فيه وهو كونه مكتسياً لذلك القشر وهل الطهارة فيه على طبق

الصفحة 73

القاعدة من دون حاجة إلى مثل رواية خاصّة أو انّ مقتضى القاعدة النجاسة؟ قال بعض الأعلام ـ على ما في تقريراته ـ : إنّ مقتضى القاعدة الطهارة من دون فرق بين صورة الاكتساء لذلك القشر وعدمه لقصور ما دلّ على نجاسة الميتة عن شمول بيضتها لأنّ أجزاء الميتة وإن كانت نجسة كنفسها إلاّ انّ أدلّة نجاستها غير شاملة لما هو خارج عن الميتة وإن كانت ظرفاً لوجوده من غير أن تتّصل بشيء من أجزاء الميتة فالحكم بطهارة البيضة على وفق القاعدة في كلتا الصورتين.

ولا يخفى ما فيه من المناقشة لأنّ البيضية قبل الانفصال يكون جزء من الحيوان وإن لم تكن متّصلة بشيء من أجزائه كبوله وفضلته ونحوهما، فالأدلّة الدالّة على نجاسة الميتة تشمل البيضة لكونها جزء منها وعليه فيكون مقتضى القاعدة نجاستها مطلقاً.

سلمنا انّ العمومات الدالّة على نجاسة الميتة لا تشمل البيضة لعدم كونها جزء منها ولكنّه لابدّ أن يفصل في ما هو مقتضى القاعدة بين ما إذا كانت البيضة على حالة تسري النجاسة من الميتة إلى باطنها وبين ما إذا لم تكن كذلك إلاّ أن يقال بأنّ البيضة في تلك الحالة لا يطلق عليها عنوانها أو يقال بأنّ الكلام في النجاسة العينية لا النجاسة العرضية الحاصلة من السراية فتدبّر.

وكيف كان فقد وردت في البيضة الخارجة من الميتة طوائف ثلاث من الروايات:

منها: ما دلّ على طهارتها ـ مطلقاً ـ كموثقة حسين بن زرارة قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) وأبي يسأله عن السنّ من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة، فقال: كلّ هذا ذكي. وهذه الرواية ناظرة إلى خصوص الطهارة والنجاسة بقرينة إرداف البيضة في السؤال من السنّ.

الصفحة 74

ومنها: ما دلّ على جواز أكلها كذلك كرواية صفوان عن الحسين بن زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: الشعر والصوف والريش وكل نابت لا يكون ميتاً وقال: وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة فقال: تأكلها.

ومنها: ما فصل فيه بين حالتي الاكتساء وعدمه كموثقة غياث بن إبراهيم عن أبي عبدالله (عليه السلام) في بيضة خرجت من است دجاجة ميتة قال: إن كانت اكتست الجلد الغليظ فلا بأس بها.

وناقش في سندها صاحبا المعالم والمدارك (قدس سرهما) نظراً إلى انّ غياث بن إبراهيم زيدي والراوي عنه ـ وهو محمد بن يحيى ـ مردّد بين محمد بن يحيى الخزاز ومحمد بن يحيى الخثعمي والثاني ممّن لم يذك بعدلين.

وهذه المناقشة انّما تتمّ على مذهبهما من عدم حجّية غير الصحاح من الروايات واعتبار تذكية الرواة بعدلين، وامّا بناء على حجّية خبر الثقة ـ كما هو الحقّ ـ فلا مجال للمناقشة في سندها لأنّ غياث بن إبراهيم سواء كان هو غياث بن إبراهيم الزيدي أو غياث بن إبراهيم التميمي ثقة كما انّ محمد بن يحيى ثقة سواء كان هو محمد بن يحيى الخزاز المذكى بتذكية عدلين أو محمد بن يحيى الخثعمي لأنّ الثاني أيضاً ثقة فلا إشكال في سند الرواية.

وامّا دلالتها الظاهر انّ السؤال فيها يكون عن الحلّية والحرمة لا عن النجاسة والطهارة لكون المنفعة المقصودة من البيضة هي الأكل ولا يتبادر من السؤال عن البيضة إلاّ كون المقصود السؤال عن جواز الأكل وعدمه فنفي البأس في الجواب مشروطاً بالاكتساء للجلد الغليظ لا يكون ناظراً إلاّ إلى جهة الأكل وعليه فالرواية المفصّلة في المقام خارجة عمّا هو محل البحث فيه من الطهارة والنجاسة ودعوى الملازمة بين الأمرين مدفوعة بأنّ جواز الأكل وإن كان ملازماً لثبوت الطهارة

الصفحة 75

اخلاّ انّ عدم الجواز لا يكشف عن ثبوت النجاسة كما هو ظاهر وعليه فلا دليل على تقييد موثقة حسين بن زرارة الدالّة على طهارة البيضة الخارجة من الميتة مطلقاً والتفصيل في الحلّية والحرمة لا ينافي إطلاق الطهارة على ما هو مقتضى الرواية في المسألتين اللهمّ إلاّ أن يقال انّها قبل اكتسائها الجلد الغليظ تسري نجاسة الميتة إلى باطنها ولكنّه على تقدير صحّته لا يرتبط بالمقام لأنّ الكلام في النجاسة العينية المتحقّقة بعنوان الجزئية للميتة وعدمها لا النجاسة العرضية الناشئة من السراية كما مرّ.

إن قلت: مقتضى رواية صفوان ـ المتقدّمة ـ جواز الأكل مطلقاً.

قلت: نعم لكنّه لا مانع من تقييدها بمفهوم رواية غياث بناء على ثبوت المفهوم وصلاحيته للتقييد.

ثمّ انّه قد فصل العلاّمة (قدس سره) في الحكم بطهارة البيضة الخارجة من الميتة بين الحيوان الحلال وغيره واشترط في الحكم بها حلّية الحيوان مستنداً في ذلك إلى ورود جملة من الروايات في البيضة الخارجة من الدجاجة وهي ممّا يؤكل لحمه، وانصراف غيرها من الأخبار المطلقة إلى الحيوانات المحلّلة لأنّه قد سُئل فيها عن جواز أكل البيضة ولا يجوز أكل شيء من أجزاء ما لا يؤكل لحمه.

والحقّ ـ وفاقاً للمتن ـ عدم الفرق بين الحيوان الحلال وغيره لا لما أفاده بعض الأعلام من انّ الحكم بطهارتها لا يتوقّف على ورود رواية أصلاً لأنّه على طبق القاعدة لما عرفت من المناقشة فيه بل لعدم صحّة دعوى انصراف الأخبار المطلقة إلى الحيوانات المحلّلة لعدم معقولية كون السؤال في جميعها عن جواز الأكل وعدمه فهل يمكن حمل موثقة ابن زرارة الدالّة على الطهارة مطلقاً وعلى كون البيضة في رديف السنّ على جواز الأكل ضرورة انّه لا يعقل السؤال عن جواز أكل السن

الصفحة 76

فالرواية ناظرة إلى خصوص الطهارة والنجاسة، ولكن ما ذكرنا انّما يبتني على كون مورد السؤال الأوّل هو السن ـ كما في الوسائل المطبوعة أخيراً ـ وامّا بناء على أن يكون هو اللبن كما يدل عليه الاستشهاد بالرواية على طهارة لبن الميتة ـ كما سيأتي ـ فهذه الرواية أيضاً ظاهرة في كون السؤال فيها عن جواز الأكل وعليه فيسري الإشكال إلى ما ذكرنا من إطلاق الطهارة وعدم اختصاصها بصورة الاكتساء أيضاً فتدبّر جيّداً.

الفرع الرابع: الأنفحة من الميتة وفيها بحثان: الأوّل في حكمها. والثاني في موضوعها ومعناها.

أمّا الأوّل: فالظاهر انّه لا إشكال في طهارتها فتوى ـ كما نقل عن الغنية والمنتهى والمدارك وغيرها ـ وامّا نصّاً فقد اختلف فيها النصوص:

فمنها: ما يدلّ على الطهارة كصحيحة زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الأنفحة تخرج من الجدي الميت، قال: لا بأس به. وموثقة حسين بن زرارة المتقدّمة قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) وأبي يسأله عن السن (اللبن) من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة فقال: كلّ هذا ذكى.

ورواية يونس عنهم (عليهم السلام) المتقدّمة أيضاً قالوا: خمسة أشياء ذكية ممّا فيه منافع الخلق: الأنفحة والبيض والصوف والشعر والوبر.

ومنها: ما يظهر منه خلاف ذلك كرواية بكر بن حبيب قال: سُئل أبو عبدالله (عليه السلام)عن الجبن وانّه توضع فيه الأنفحة من الميتة قال: لا تصلح، ثمّ أرسل بدرهم فقال: اشتر من رجل مسلم ولا تسأله عن شيء.

ورواية عبدالله بن سليمان عنه (عليه السلام) في الجبن قال: كل شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان انّ فيه ميتة. ومن المعلوم انّ الميتة التي يمكن أن تقع في الجبن عادة

الصفحة 77

ليست إلاّ الأنفحة من الميتة.

ورواية أخرى لعبدالله بن سليمان قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن إلى أن قال: قلت : ما تقول في الجبن؟ قال: أولَم ترني آكله؟ قلت: بلى ولكني أحبّ أن أسمعه منك، فقال: سأخبرك عن الجبن وغيره، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه. والظاهر منها أيضاً انّ الجبن الحرام ما وقعت فيه الأنفحة من الميتة.

ورواية أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن فقلت له: اخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة فقال: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم ما في جميع الأرضين؟! إذا علمت انّه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل، والله انّي لاعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظن كلّهم يسمون هذه البربر وهذه السودان؟!. والظاهر منها انّه لو علم انّ فيه الميتة أي الانفحة منها يكون حراماً.

كما انّ الظاهر انّه لا يكاد يمكن الجمع الدلالي بين الطائفتين من الأخبار بل بينهما المعارضة واللازم الرجوع إلى المرجحات وأوّلها الشهرة الفتوائية وهي في جانب الطهارة كما انّها مخالفة لمذهب العامّة.

ولا يخفى انّ الأخبار الدالّة على النجاسة وإن كانت مطروحة للمعارضة إلاّ انّ مطروحيتها من هذه الجهة فقط أي من جهة دلالتها على نجاسة الانفحة من الميتة لا من جميع الجهات فلا تنافي دلالتها على حجّية البيّنة واعتبارها ـ كما استشهد بها عليها ـ أو على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة الموضوعية كما هو ظاهر.

وامّا البحث الثاني فقد اختلف كلام اللغويين في معناها: فعن الصحاح: «الأنفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء مخفّفة كرش الحمل أو الجدي ما لم يأكل فإذا أكل فهو

الصفحة 78

كرش» وعن القاموس: «انّها شيء يستخرج من بطن الجدي الراضع أصفر فيعصر في جوفه فيغلظ كالجبن فإذا أكل الجدي فهو كرش وتفسير الجوهري «الأنفحة بالكرش سهو».

والظاهر اتفاق أهل اللغة على انّ الانفحة في الجدي أو الحمل قبل الأكل هي ما يعبّر عنه بالكرش بعد الأكل، والكرش عبارة عن الجلدة التي يقع فيها ما يؤكل يقوى في النظر أن تكون الأنفحة اسماً للجلدة أو هي مع المادة المتمايلة إلى الصفرة التي تكون فيها، ويؤيّده انّه لو لم تكن موضوعة كذلك وقلنا باختصاصها بالمظروف فحسب فما هو اللفظ الذي وضع في لغة العرب بازاء ظرفه ومن البعيد جدّاً أن لا يكون له اسم مع توسع هذه اللغة بحيث لم ير لها نظير في سائر اللغات أصلاً كما يظهر بمراجعة كتب اللغة سيما مثل «فقه اللغة» للثعالبي.

ولكنّه قد استظهر من رواية أبي حمزة الثمالي (قدس سره) انّها هي المادّة التي تكون في الجلدة فانّه نقل عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث انّ قتادة قال له: اخبرني عن الجبن، فقال: لا بأس به فقال: إنّه ربّما جعلت فيه أنفحة الميتة فقال: ليس به بأس انّ الأنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم انّما تخرج من بين فرث ودم وانّما الأنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أُخرجت منها بيضة فهل تأكل تلك البيضة. الحديث. فانّ ما ليس له عروق ولا فيه دم وانّما يخرج من بين فرث ودم ليس إلاّ المادّة الموجودة في الجلدة، ولكنّه يظهر من قوله (عليه السلام): «انّما الأنفحة بمنزلة دجاجة ميتة...» خلاف ذلك فانّه (عليه السلام) قد نزل الانفحة منزلة البيضة التي تخرج من بطن الدجاجة الميتة ومن المعلوم انّ ما يخرج من بطن الجدي أو الحمل عبارة عن الظرف والمظروف كالبيضة التي هي عبارة عن ظرف وهو قشرها ومظروف وهو مادّتها وتخرج من بطن الدجاجة، والحاصل انّ ما يصلح أن ينزل منزلة البيضة ليس إلاّ

الصفحة 79

مجموع الجلدة والمادة معاً فهذه الرواية مع قوّة سندها لا تصرفها عن المعنى الذي يستفاد من كلام اللغة من مدخلية الظرف في معناه.

وكيف كان فلا إشكال في طهارة المظروف امّا لطهارة ظرفه إن كان دخيلاً في معنى الانفحة، وامّا لعدم انفعاله منه إن كان المظروف عبارة عن الانفحة وهو امّا لعدم نجاسة باطن الظرف حتى يكون منجساً أو لعدم منجسيته.

ولو شكّ في انّها ظرف أو مظروف فيمكن أن يقال بوقوع التعارض بين اصالة الإطلاق في أدلّة نجاسة أجزاء الميتة بأجمعها، واصالة الإطلاق في دليل منجسية النجس للعلم بطهارة المظروف على أي حال فيرجع إلى اصالة الطهارة في الظرف بعد تساقط الأصلين بالمعارضة.

وقد خالف فيه سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ نظراً إلى انّه لابدّ وأن يؤخذ بإطلاق دليل نجاسة الميتة ولا تعارض اصالة الاطلاق فيه مع اصالة الاطلاق في دليل منجسية النجس لعدم جريانها فيما علم الطهارة وشكّ في انّه من باب التخصيص أو التخصص نظير اصالة الحقيقة فيما إذا دار الأمر بينها وبين المجاز فانّها جارية مع الشكّ في المراد لا مع الشكّ في كيفية الاستعمال بعد العلم بالمراد.

وفيه انّه لم يظهر المراد ممّا علم طهارته وشكّ في انّه من باب التخصيص أو التخصيص هل هو المظروف فانّه لا كلام فيه أو الظرف فمن أين علم طهارته والكلام فيما إذا شكّ في طهارة لاظرف ونجاسته فلا مناص من أن يرجع بعد التعارض إلى القاعدة ومن الواضح انّ مورد التعارض انّما هو السطح الداخل من الجلد الذي يعبّر عنه بالباطن لأنّه هو الذي ينجس المادّة على فرض نجاسته وامّا السطح الخارج الظاهر فلا يكون مورداً للتعارض لعدم تماسه مع المادّة وعليه فيشمله عموم دليل نجاسة الميتة بلا معارض فلا محيص عن الحكم بها في صورة

الصفحة 80

الشكّ.

وليعلم انّ المراد من طهارة الانفحة طهارتها الذاتية كالشعر والوبر والصوف فلا ينافيها لزوم غسل ظاهرها الملاقى للميتة برطوبة . نعم لو كانت الأنفحة بمعنى المظروف وفرضنا كونه مايعاً كما هو الظاهر فلا يحتاج إلى تطهير ظاهرها كاللبن، كما انّ الظاهر اختصاص الحكم بالانفحة المتعارفة التي تجعل في الجبن كانفحة الجدي والحمل على فرض صحّة اطلاق الانفحة على ما يؤخذ من غيرهما ـ على خلاف ما يظهر من كلام اللغويين من الاختصاص بهما ـ فتدبّر.

الفرع الخامس اللبن من الميتة الواقع في ضرعها وقد اختلف كلمات الأصحاب فيه، فعن الصدوق والشيخ وصاحب الغنية والشهيد (قدس سرهم) القول بالطهارة بل عن الخلاف دعوى الاجماع عليها، وذهب جماعة آخرون منهم العلاّمة والمحقّق وابن إدريس إلى النجاسة بل عن الحلّي انّه قال: لا خلاف فيه بين المحصلين من أصحابنا ويظهر من ذلك انّه لا إجماع بل ولا شهرة في أحد طرفي المسألة فلابدّ من ملاحظة الروايات ليظهر انّها هل تدل على الطهارة أم لا إذ الحكم بالنجاسة لا يتوقّف على دلالتها عليه ضرورة انّ إطلاق أدلّة نجاسة الميتة وشمولها للضرع بضميمة ما دلّ على منجسية كل نجس يقتضي نجاسة اللبن بل يمكن أن يقال بشمول إطلاق أدلّة نجاسة الميتة له من دون حاجة إلى ضمّ دليل آخر لأنّ اللبن الواقع في ضرع الميتة يكون من أجزائها كالبول والروث والبيض على ما تقدّم وعليه فتكون نجاسته عينية وإن كانت العينية لا يترتّب عليها أثر في مثل اللبن كما لا يخفى وكيف كان فالروايات الواردة في المقام:

منها: صحيحة زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الانفحة تخرج من الجدي الميت قال: لا بأس به، قلت: اللبن يكون في ضرع الشاة وقد ماتت؟ قال: لا

الصفحة 81

بأس به، قلت: والصوف والشعر وعظام الفيل والجلد والبيض يخرج من الدجاجة؟ فقال: كل هذا لا بأس به. ورواه الصدوق مثله إلاّ انّه أسقط لفظ الجلد قال صاحب الوسائل: وهو الصواب.

وربما يناقش فيها بدلالتها على طهارة جلد الميتة مع انّ نجاستها مجمع عليها في المذهب فالرواية غير صالحة للاعتماد عليها.

والجواب عنها:

أوّلاً: ما عرفت من انّها في رواية الصدوق لا تكون مشتملة على لفظ الجلد واستصوبه صاحب الوسائل.

وثانياً: من الممكن أن يكون ذكر الجلد في رديف الأشياء الطاهرة ناشياً عن التقية لاهتمام العامة به وكونه محلاً للكلام في تلك الأعصار ومعركة للآراء بين المسلمين.

وثالثاً: انّه لم يقم دليل على كون السؤالات المتعدّدة الواقعة في الرواية واقعة في مجلس واحد ويؤيّده تعدّد الأجوبة وعليه فلا يقدح الاشتمال على الجلد في الاستدلال.

ومنها: موثقة حسين بن زرارة قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) وأبي يسأله عن اللبن من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة فقال: كلّ هذا ذكي الحديث. هكذا نقل في بعض نسخ الوسائل وكذا في مرآة العقول للمجلسي (قدس سره) ولذا استشهد بها الأعلام في اللبن مع انّ التناسب في السؤال أيضاً يقتضي أن يكون عن اللبن لا عن السن ـ كما في الوسائل المطبوعة أخيراً ـ .

ومنها: صحيحة حريز قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) لزرارة ومحمد بن مسلم: اللبن واللباء والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شيء يفصل من

<<التالي الفهرس السابق>>