في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>


الصفحة 222

فانّ مورد السؤال نفس دعوة المجوسي إلى الطعام الكاشفة عن مرتبة من الموادّة والمحابّة كما هو غير خفي.

ومنها: صحيحة عيص بن القاسم قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني والمجوسي فقال: إن كان من طعامك وتوضّأ فلا بأس.

والتقييد بطعام المسلم امّا لأجل حفظ عزّة المسلم وعدم ذلّته من جهة مجي الكافر إلى طعامه دون العكس، وامّا من جهة حلّية طعام المسلم دون الكافر لاشتماله نوعاً على مثل الخنزير والميتة. وعلى أي حال لو لم تكن في الرواية دلالة على طهارة أهل الكتاب ـ من جهة التقييد بالتوضّي الظاهر في غسل اليد ـ لا دلالة فيها على النجاسة قطعاً.

ومنها: صحيحته الاُخرى قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني فقال: لا بأس إذا كان من طعامك، وسألت عن مؤاكلة المجوسي فقال: إذا توضّأ فلا بأس.

والظاهر عدم كونه رواية اُخرى بل هي بعينها الرواية الاُولى لأنّه من البعيد أن يسأل العيص عن حكم مسألة واحدة مرّتين خصوصاً مع وضوح المراد من الجواب وعدم وجود الابهام فيه ويؤيّده بعد الفرق بين المجوسي وبين اليهودي والنصراني بهذه الكيفة المذكورة في هذه الرواية من تقييد نفي البأس فيهما بما إذا كان من طعام المسلم ونفي البأس فيه بما إذا توضّأ وغسل يديه، فالظاهر انّها هي الرواية الاُولى وقد عرفت عدم دلالتها على النجاسة لو لم نقل بظهورهها في الطهارة.

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على النهي عن الأكل من آنيتهم.

كصحيحة إسماعيل بن جابر وعبدالله بن طلحة قالا: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : لا تأكل من ذبيحة اليهودي ولا تأكل في آنيتهم.

الصفحة 223

وصحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن آنية أهل الذمّة والمجوس فقال; لا تأكلوا في آنيتهم، ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر.

وهذه الرواية لو كان ذيلها مقيّداً لصدرها لتصير من الروايات الدالّة على طهارتهم حيث قيّد النهي عن الأكل في آنيتهم بما إذا كانت الآنية يشرب فيها الخمر فالآنية من حيث هي لا تكون نجسة ولو كانت ممسوسة لهم مع الرطوبة أيضاً ـ على ما هو مقتضى الإطلاق ـ ولو بقى الصدر على إطلاقه لتكون مثل الروايات السابقة في انّه يحتمل أن يكون النهي لترك المعاشرة والاختلاط معهم لا للنجاسة فلا دلالة لها عليها بوجه.

وامّا النهي عن أكل طعامهم الذي يطبخون فيحتمل أن يكون منشأه انّ أهل الكتاب يأكلون لحم الخنزير وشحمه، والمطبوخ من الطعام لا يكون خالياً عن اللحم والشحم عادةً، أو لأنّ آنيتهم التي يطبخون فيها الطعام يتنجّس بطبخ مثل لحم الخنزير فيها ومن المعلوم انّها بعدما تنجّست لا يرد عليه غسل مطهر على الوجه الشرعي نوعاً، ويؤيّد هذا الاحتمال ذيل الرواية خصوصاً لو كان مقيّداً للصدر أيضاً.

ورواية زكريا بن إبراهيم قال: دخلت على أبي عبدالله (عليه السلام) فقلت: إنّي رجل من أهل الكتاب وانّي أسلمت وبقي أهلي كلّهم على النصرانية وأنا معهم في بيت واحد لم اُفارقهم بعد فآكل من طعامهم؟ فقال لي: يأكلون الخنزير؟ فقلت: لا ولكنّهم يشربون الخمر فقال لي: كُلْ معهم واشرب. وفيما رواه الكليني انّه قال: فأكون معهم في بيت واحد وآكل من آنيتهم.

وهذه الرواية لها دلالة ظاهرة على عدم نجاسة النصرانية من حيث هم كذلك

الصفحة 224

بل نجاستهم انّما هي من جهة الاُمور العارضة كالخنزير وشرب الخمر، ولعلّ الفرق بين الخمر ولحم الخنزير مع اشتراكهما في النجاسة انّما هو من جهة انّهم لو كانوا يأكلون الخنزير فقد كانت مادّة طعامهم نجسة امّا بلحم الخنزير أو بشحمه بخلاف ما لو كانوا يشربون الخمر لعدم ارتباط الخمر بأطعمتهم. وبعبارة اُخرى الاختلاط يوجب الارتباط نوعاً مع لحم الخنزير الذي هو مادّة الطعام دون الخمر الذي لا ارتباط لها بالطعام والشراب فإنّ شرب الخمر أمر زائد على الأكل والشرب العاديين اللذين لابدّ منهما لحفظ الحياة وإدامة العيش فتدبّر.

وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن آنية أهل الكتاب فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة والدم ولحم الخنزير.

وصحيحة إسماعيل بن جابر قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله، ثمّ سكت هنيئة ثمّ قال: لا تأكله، ثمّ سكت هنيئة ثمّ قال: لا تأكله ولا تتركه تقول إنّه حرام ولكن تتركه تتنزّه عنه انّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير.

وهاتان الروايتان أيضاً ظاهرتان في عدم نجاستهم الذاتية وإنّ النهي عن الأكل في آنيتهم ـ تحريماً ـ كما هو ظاهر صحيحة محمد بن مسلم ـ أو تنزيهاً ـ كما هو ظاهر الصحيحة الاُخرى انّما هو لأجل وجود النجاسات الاُخر فيها كالميتة ولحم الخنزير والخمر امّا يقيناً كما عليه يحمل الصحيحة الاُولى أو احتمالاً كما عليه يحمل الثانية جمعاً بينهما كما لا يخفى.

وصحيحة زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) في آنية المجوس فقال: إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء.

والظاهر منها في بادئ النظر الدلالة على نجاسة آنية المجوس لظهور الأمر

الصفحة 225

بالغسل بالماء فيها ولكنّه يمكن أن يقال: إنّ تقييد الغسل بصورة الاضطرار الظاهر في انّه مع الاختيار لا يجوز الأكل من آنيتهم ولو مع الغسل بالماء يوجب صرف ظهورها الابتدائي في النجاسة لاحتمال أن يكون المراد انّ المسلم ما دام لم يضطرّ فلا يصلح له أن يميل إلى المجوس وآنيتهم ولا يأكل فيها اختياراً ولو مع الغسل وإن اضطرّ فعليه أن يغسل آنيتهم تنفّراً منهم وحذراً من أن تقع محبّتهم في قلبه، وعليه فلا تدلّ الرواية على النجاسة أصلاً.

الطائفة الرابعة: ما ورد في سؤر أهل الكتاب:

كصحيحة سعيد الأعرج أو حسنته قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن سؤر اليهودي والنصراني فقال: لا. وفيما رواه الصدوق إضافة «أيؤكل أو يشرب» في السؤال.

وفي الاستدلال بهذه الرواية ونحوها ممّا ورد في اسئارهم ممّا يدلّ على النهي عنها نظر فانّه بعد التأمّل فيها يظهر انّ السؤال فيها إنّما يكون عن السؤر بما هو سؤر من جهة انّ له أحكاماً مخصوصة وآثاراً غير مرتبطة بباب الطهارة والنجاسة أصلاً فانّ سؤر الحيوانات بأجمعها مكروهة إلاّ الهرّة مع عدم كونها نجسة، ومن الممكن بل الظاهر انّ سؤال السائل انّما كان عن سؤرهم مع اعتقاد كونهم طاهرين.

ويؤيّد ما استظهرناه مرسلة الوشاء عن أبي عبدالله (عليه السلام) انّه كره سؤر ولد الزنا وسؤر اليهودي والنصراني، والمشرك، وكل من خالف الإسلام، وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب. فانّه من الواضح انّ ولد الزنا وكذا سؤره لا يكون نجساً فيظهر انّ محط النظر ليس هي النجاسة والطهارة خصوصاً مع التعبير بالكراهة أيضاً وإن كان هذا التعبير ليس له ظهور في المعنى المصطلح ـ كما مرّ مراراً ـ .

وموثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل هل يتوضّأ

الصفحة 226

من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على انّه يهودي؟ فقال: نعم، فقلت: من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال: نعم. والظاهر انّ المراد بقوله «على انّه يهودي» انّه على فرض كون الرجل يهودياً. وأنت خبير بأنّ هذه الرواية أيضاً ممّا تدلّ على الطهارة وتكون قرينة على انّ السؤال في الروايات السابقة انّما كان عن السؤر بما سؤر وامّا في هذه الرواية فالسؤال عن النجاسة والطهارة اللّتين لهما دخالة في باب الوضوء والجواب حاكم بالطهارة.

الطائفة الخامسة: ما ورد في الابتلاء بهم في الحمّام:

كموثّقة عبدالله بن أبي يعفور عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال: وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت فهو شرّهم فانّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وانّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه.

وهذه الرواية وإن كانت ظاهرة في النجاسة حيث عطف الناصب فيها على أهل الكتاب مع التصريح بأنّ الناصب أنجس من الكلب إلاّ انّه من الممكن أن تكون مسوقة لبيان الكراهة والشاهد عليه ما ورد في حديث آخر من قوله (عليه السلام): «لا تغتسل من غسالة ماء الحمّام فانّه يغتسل فيه من الزنا أو يغتسل فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم».

فانّ غسالة المغتسل من الزنا وكذا غسالة ولد الزنا لا تكونان نجستين ومع ذلك قد نهى في هذه الرواية عن الاغتسال من غسالة الحمّام لوجودهما فيها فيظهر انّ عطف الناصب عليهما ليس لأجل النجاسة هذا مع انّ تخصيص النهي بالاغتسال والتحذير في الموثقة عن خصوصه لا مطلق التقلّب فيها والتطهير بها لا يلائم مع كون المنظور هي النجاسة كما لا يخفى.

الصفحة 227

ويشهد لما قلنا أيضاً رواية محمد بن علي بن جعفر (عليه السلام) عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)في حديث قال: من اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومنَّ إلاّ نفسه، فقلت لأبي الحسن (عليه السلام) : إنّ أهل المدينة يقولون: إنّ فيه شفاء من العين فقال: كذبوا يغتسل فيه المجنب من الحرام والزاني والناصب الذي هو شرّهما، وكل من خلق الله ثمّ يكون فيه شفاء من العين. فانّه من الواضح عدم كون النجاسة محطّاً للنظر فيها لعدم نجاسة الزاني وكذا الجنب من الحرام ـ على ما يأتي ـ .

أضف إلى ذلك كلّه انّ الغسالة المجتمعة في الحمّام لابدّ وأن يكون أكثر من الكرّ ـ كما هو كذلك عادةً ـ إذ لو كانت أقلّ منه تصير نجسة بمجرّد ورود غسالة المسلم الذي ينجس بدنه فيها كما هو الغالب في الواردين في الحمّام ولم يقع التعرّض لذلك فيها، ومن الواضح انّ الكرّ لا ينفعل بورود غسالة اليهودي والنصراني فيه ولو كانت نجسة فمن ذلك يظهر انّ مثل هذه الروايات الواردة في الغسالة لا تكون ناظرة إلى حيثية الطهارة والنجاسة أصلاً.

ومن جملة روايات الطائفة الخامسة صحيحة علي بن جعفر (عليه السلام) انّه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمّام؟ قال: إذا علم انّه نصراني اغتسل بغير ماء الحمّام إلاّ أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمّ يغتسل، وسألته عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلاّ أن يضطرّ إليه.

والظاهر منها ابتداء وإن كان هو نجاستهم لأمر الإمام (عليه السلام) بغسل الحوض الذي قد اغتسل فيه النصراني، إلاّ انّك قد عرفت سابقاً في مباحث ماء الحمّام انّه معتصم لا يكاد ينفعل بالملاقاة وإن لم يكن متّصلاً بالمخزن الذي يشتمل على أزيد من الكرّ نوعاً فلابدّ من حمل هذه الرواية على النهي عن الاغتسال بماء قد اغتسل فيه

الصفحة 228

النصراني والنهي عن الاغتسال أعمّ من كونه نجساً، ويرشدك إلى ما قلنا قوله (عليه السلام)في ذيل الرواية: «إلاّ أن يضطرّ إليه» فانّه على تقدير النجاسة لا فرق بين حالة الاضطرار وغيرها بل استثناء هذه الحالة من شواهد الطهارة كما هو غير خفيّ على أهل الدراية.

وقد استدلّ على طهارة أهل الكتاب بوجهين:

الأوّل: قوله تعالى: (اليوم أحلَّ لكم الطيّبات، وطعام الذين اُوتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم)(1) بتقريب انّ الظاهر من «الطعام» ما يكون مطبوخاً، وحلّية ما يكون مطبوخاً بيد الكتابي تستلزم طهارته لأنّه لو كان نجساً يصير الطعام متنجّساً أيضاً فلا يمكن أن يكون حلالاً.

وفيه أوّلاً انّ الطعام ليس بمعنى المطبوخ لا لغةً ولا اصطلاحاً في الحجاز بل يكون بمعنى خصوص الحنطة ـ على قول اللغويين ـ وقد يطلق على الأعمّ منها ومن الشعير، وقد يطلق على مطلق الحبوبات، وعلى ذلك فلا تستلزم طهارة الطعام طهارة صاحبه لكونه جافّاً لا ينجس بمجرّد الملاقاة فيصير المعنى انّ اشتراء الطعام والتصرّف فيه من الذين اُوتوا الكتاب حلال للمسلمين.

ويؤيّده قوله تعالى: (وطعامكم حلٌّ لهم) إذ لو كان المراد بيان الحلّية من جهة عدم النجاسة يشكل الأمر في هذا القول لعدم اعتقاد أحد من أهل الكتاب نجاسة المسلم، وعدم ترتّب أثر عليه مع فرض اعتقادهم ذلك بخلاف ما لو كان المراد ما ذكرنا فانّ معنى هذا القول ـ حينئذ ـ انّ بيع الطعام من الذين اُوتوا الكتاب حلال فتدبّر.


1 ـ المائدة : 5 .

الصفحة 229

وثانياً: لو كان المراد من الطعام ما يكون مطبوخاً وكانت الآية مسوقة لبيان حلّيته ـ مطلقاً ـ فلابدّ من الالتزام بدلالة الآية على حلّية طعامهم حتّى فيما إذا كان بعض موادّه حراماً كالميتة ولحم الخنزير، إذ ليست الحلّية من جهة الطباخ أولى منها من جهة المادّة بالنظر إلى الآية الكريمة على هذا التقدير مع انّه ممّا لا يمكن أن يتفوّه به فلا محيص عن حمل الآية على ما ذكرنا بعد كونه موافقاً لمعنى الطعام على ما عرفت.

إن قلت: لو كان كذلك فما وجه تخصيص أهل الكتاب بذلك فإنّ طعام المشركين والحنطة المرتبطة بهم أيضاً حلال.

قلت: وجه التخصيص أحد أمرين امّا وقوع السؤال عن خصوصهم كما في قوله تعالى: (يسألونك ماذا اُحلَّ لهم)(1) وامّا كونهم محلّ الابتلاء للمسلمين فإنّ الآية قد نزلت في أواخر عمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة وقد كان المسلمون في ذلك العصر معاشرين لأهل الكتاب ولم يكن للمشركين عدّة وعدّة أصلاً.

وبالجملة قوله تعالى: (اليوم اُحلَّ لكم الطيّبات) مسوق لبيان حلّية الطيّبات بما هي طيّبات، وقوله تعالى: (وطعام الذين اُوتوا الكتاب حلٌّ لكم)مسوق لبيان حلية طعامهم بما هو طعامهم وإنّ مالكه أهل الكتاب، كما انّ قوله تعالى: (وطعامكم حلٌّ لكم) مفاده حلّية طعام المسلمين لهم بالنقل إليهم.

وبهذا يظهر الخلل فيما أفاده الفاضل المقداد صاحب كنز العرفان ـ وهو أوّل كتاب قد اُلِّف في آيات الأحكام ـ من انّ قوله تعالى: (وطعام الذين اُوتوا الكتاب حلٌّ لكم) ذكر الخاص بعد العام ولابدّ له من نكتة لا نفهمها. فانّك عرفت عدم


1 ـ المائدة : 4 .

الصفحة 230

كونه من هذا الباب وثبوت المغايرة بين الأمرين.

وقد ذهب العامّة إلى انّ «الطعام» في الآية بمعنى الذبيحة وتبعهم في ذلك بعض أصحابنا الإمامية، وعليه فيمكن الاستدلال بها على حلّية ذبيحة أهل الكتاب.

ولكن يرد عليهم انّ الطعام لا يكون بمعنى الذبيحة لا لغةً ولا اصطلاحاً، مع انّه لو كان بمعنى الذبيحة لا يترتّب على قوله تعالى: (وطعامكم حلٌّ لهم) أثر. فانقدح انّ الآية أجنبية عن الدلالة على طهارة أهل الكتاب أو حلّية ذبائحهم.

الوجه الثاني: دلالة كثير من الروايات على طهارتهم وقد تقدّمت جملة منها كصحيحة عيص بن القاسم المشتملة على قوله (عليه السلام) : «إذا كان من طعامك وتوضّأ فلا بأس» ورواية زكريا بن إبراهيم المشتملة على قوله (عليه السلام) : «كُلْ معهم واشرب» وصحيحة إسماعيل بن جابر التي فيها هذه العبارة الشريفة: «ولا تتركه تقول انّه حرام» وغيرها من الروايات التي يمكن الاستشهاد بها على الطهارة.

وامّا ما لم يتقدّم فمنها ما ورد في جواز تزويج الكتابية استدامة أو متعة وجواز كون المرضعة كتابية، وجواز تغسيل الذمّي الميّت المسلم مع عدم المسلم أو عدم إقدامه على التغسيل أو عدم إمكانه له.

ومنها: صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا (عليه السلام) : الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم انّها نصرانية لا تتوضّأ ولا تغتسل من الجنابة؟ قال: لا بأس تغسل يديها. وهذه صريحة في عدم نجاستها ذاتاً لأنّها لو كانت نجسة بالنجاسة الذاتية لما كان غسل اليدين رافعاً لها بل موجباً لسرايتها بل يظهر من الرواية انّ عدم النجاسة الذاتية كان مفروغاً عنه عند السائل لأنّ الشبهة العارضة له انّما كانت من جهة عدم التوضّي والاغتسال من الجنابة. والظاهر انّ المراد ليس هو الوضوء والغسل بل نفس استعمال الماء لإزالة خبث البول والغائط والمني.

الصفحة 231

ومنها: صحيحته الاُخرى: قال: قلت للرضا (عليه السلام) : الخيّاط أو القصّار يكون يهودياً أو نصرانياً وأنت تعلم انّه يبول ولا يتوضّأ؟ قال: لا بأس.

وهذه الرواية وإن أمكن حملها بالإضافة إلى خصوص الخيّاط على صورة عدم العلم بالملاقاة رطباً إلاّ انّها بالنسبة إلى القصّار لامجال لهذا الحمل فيها لأنّه يغسل الثوب بيده فنفي البأس يستفاد منه طهارته وعدم تنجّس الثوب بقصارته الملازمة للملاقاة مع الرطوبة.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا انّ الروايات التي استدلّ بها على النجاسة لا يمكن الاستناد بها عليها لعدم تماميتها من حيث الدلالة وانّ أخبار الطهارة ظاهرة الدلالة فلا وجه لتوهّم المعارضة بينهما ولكن صاحب الحدائق (قدس سره) حيث اعتقد ثبوت المعارضة بينهما ولزوم الرجوع إلى الأخبار العلاجية في الباب قال: «إنّ أخبار الطهارة مخالفة للكتاب لقوله ـ عزّ من قائل ـ : (انّما المشركون نجس)وموافقة للعامّة فانّهم صرّحوا بطهارة الآدمي مطلقاً، وأخبار النجاسة موافقة للكتاب ومخالفة للعامّة وقد بيّن في محلّه انّ موافقة الكتاب ومخالفة العامّة من المرجّحات، وقد ورد في رواياتنا الأمر بأخذ ما يخالف مذهب المخالفين من المتعارضين، ومقتضى ذلك الأخذ بما دلّ على نجاسة أهل الكتاب وحمل أخبار الطهارة على التقية».

وقد تعجّب من صاحب المدارك (قدس سره) واعترض عليه اعتراضاً شديداً وقال: إنّ قاعدة حمل الظاهر على النص ممّا أحدثوه بعقولهم ولا دليل عليه من كتاب أو سنّة وهي جرأة واضحة لذوي الألباب، إلى أن قال: ما هذا إلاّ عجب عجاب من هؤلاء الفضلاء الأطياب.

وقال سيّدنا العلاّمة الاستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ في «رسالة النجاسات» بعد ذكر

الصفحة 232

أخبار الباب التي استدلّ بها على النجاسة «فتحصّل من جميع ذلك انّ لا دليل على نجاسة أهل الكتاب ولا الملحدين ما عدى المشركين بل مقتضى الأصل طهارتهم بل قامت الأدلّة على طهارة الطائفة الاُولى، إلى أن قال: فالمسألة مع هذه الحال التي نراها لا ينبغي وقوع خطأ عمّن له قدم في الصناعة فيها فضلاً عن أكابر أصحاب الفن ومهرة الصناعة فكيف بجميع طبقاتهم، ومن ذلك يعلم انّ المسألة معروفة بينهم من الأوّل وأخذ كل طائفة من سابقتها وهكذا إلى عصر الأئمّة (عليهم السلام)والتمسّك بالأدلّة أحياناً ليس لابتناء الفتوى عليها. ولقد أجاد العَلَم المحقّق صاحب الجواهر ـ قدّس الله نفسه ـ حيث قال: فتطويل البحث في المقام تضييع للأيّام في غير ما أعدّها له الملك العلاّم، وتعريض بعض الأجلّة عليه وقع في غير محلّه».

ويمكن أن يوجّه الحكم بالنجاسة مع الأخبار المتعارضة التي عرفتها بوجه ثالث، وهو انّ روايات الطهارة وإن كانت تامّة من حيث السند والدلالة إلاّ انّ إعراض المشهور عنها يوجب سقوطها عن الاعتبار والحجّية، فإنّ الإعراض موجب للسقوط فيما إذا لم يكن هناك معارض ففي المقام الذي يكون المعارض موجوداً يوجب السقوط بطريق أولى فالترجيح لا محالة مع أخبار النجاسة هذا غاية ما يمكن أن يقال تأييداً لهذا القول الموافق للمشهور كما عرفت.

والتحقيق إنّ شيئاً من الوجوه الثلاثة التي قد ذكرت لترجيح أخبار النجاسة لا يكون تامّاً:

امّا ما أفاده صاحب الحدائق (قدس سره) فيرد عليه أوّلاً انّه قد فرض في كلامه ثبوت المعارضة بين الروايات الواردة في الباب وتمامية دلالة بعضها على النجاسة وبعضها على الطهارة مع انّك عرفت عدم تمامية شيء من أخبار النجاسة من حيث الدلالة والتعارض انّما يكون بعد تمامية دلالة الخبرين المتعارضين فلا وجه

الصفحة 233

للرجوع إلى الأخبار العلاجية.

وثانياً: إنّ أخبار النجاسة ـ على فرض الدلالة ـ تكون ظاهرة فيها بخلاف أخبار الطهارة فانّها لو لم تكن نصّاً فيها فلا أقلّ من أن تكون أظهر في مفادها من أخبار النجاسة، وتقديم النص أو الأظهر على الظاهر ـ مع انّه ممّا اتفق عليه عند العقلاء والعرف الذين هم الملاك في فهم المرادات من الألفاظ والروايات ـ انّما تكون واردة على طبق هذه القاعدة ومثلها ممّا لا محيص عنه ولولاه يكون قولك: «رأيت أسداً يرمي» مجملاً من حيث المراد لأنّ لفظة «يرمي» ظاهرة باعتبار كون الرمي رمي السهم المتحقّق باليد في الرجل الشجاع، و«الأسد» ظاهر في الحيوان المفترس غاية الأمر انّ الدلالة الاُولى أظهر من الثانية ولأجل تقدّم عليها فلا وجه لإنكار القاعدة ونفيها وإلاّ يلزم سدّ باب المحاورات وإفادة المرادات في كثير من المقامات فتدبّر.

نعم لو تحقّق التعارض المتوقّف على أصل الدلالة واتحاد مرتبتها لكان تقديم أخبار النجاسة لأجل الموافقة للشهرة الفتوائية التي هي أوّل المرجّحات ـ على ما قرّر في محلّه ـ لا لأجل كون أخبار الطهارة مخالفة للكتاب مضافاً إلى ما عرفت من عدم دلالة الكتاب على نجاسة غير المشركين ولم يثبت انّ أهل الكتاب بأجمعهم يكونون مشركين، نعم مثل القائل بالأقانيم الثلاثة أو ثبوت الابن لله تعالى وتصرّفه في عالم الوجود مستقلاًّ يكون مشركاً.

وامّا ما أفاده سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ من استظهار عدم استناد الأصحاب في الفتوى بالنجاسة إلى اخبارها لعدم تمامية دلالتها على ذلك ففيه:

أوّلاً: انّا إذا راجعنا كلمات الأصحاب لا نرى انّ أحداً منهم تفوّه بأن المسألة لا تحتاج إلى إقامة الدليل على النجاسة فيها بل نرى استنادهم فيها إلى الأخبار جدّاً

الصفحة 234

والنقض والإبرام فيها أو إلى الآية الكريمة مع ضميمة دعوى توسعة المشركين بحيث يعمّ أهل الكتاب أيضاً بل صرّح في الحدائق بأنّ المشهور قد أعرضوا عن أخبار الطهارة واستندوا إلى أخبار النجاسة ولو كان الحكم مسلماً لم يكن حاجة إلى الاستناد إلى هذه الأخبار كما هو ظاهر.

وثانياً: لو كانت نجاستهم ممّا لا تحتاج إلى الدليل فلابدّ وإن كانت واضحة عند أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) مع عدم وضوحها عندهم بل وضوح خلافه والدليل عليه سؤالات الأصحاب عنهم (عليهم السلام) بنحو يكشف عن ارتكاز الطهارة الذاتية عندهم وإنّ منشأ السؤال هو عروض النجاسة لعدم المبالاة بالنجاسة وشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير ولا بأس بإيراد بعضها ـ مضافاً إلى ما تقدّم ـ فنقول:

منها: صحيحة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) ـ عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث (أجناب خ ل) وهم يشربون الخمر، ونسائهم على تلك الحال، ألبسها ولا أغسلها واُصلّي فيها؟ قال: نعم.

ومنها: صحيحة عبد الله بن سنان قال: سأل أبي أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر: إنّي اُعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم انّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اُصلّي فيه؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فانّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن انّه نجّسه فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن انّه نجّسه.

ومنها: ما رواه في الاحتجاج عن محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري انّه كتب إلى صاحب الزمان ـ عج ـ عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة ولا يغتسلون من الجنابة وينجّسون لنا ثياباً فهل تجوز الصلاة فيها من قبل أن تغسل؟ فكتب إليه في الجواب: لا بأس بالصلاة فيها.

الصفحة 235

ومنها: ما رواه الصدوق باسناده عن أبي جميلة عن أبي عبدالله (عليه السلام) انّه سأله عن ثوب المجوسي ألبسه واُصلّي فيه؟ قال: نعم، قلت: يشربون الخمر؟! قال: نعم نحن نشتري الثياب السابرية فنلبسها ولا نغسلها.

وأنت ترى انّ الظاهر من هذه الروايات ومثلها ممّا تقدّم من الروايات السابقة وما لم يتقدّم انّ المرتكز في أذهان أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) من الصدر الأوّل إلى زمان الغيبة هي الطهارة وما أوجب ذهاب أصحابنا الإمامية من الفقهاء المتأخّرين عن ذلك العصر إلى النجاسة هو الروايات الواردة الظاهرة باعتقادهم في النجاسة وقد عرفت انّه بعد إمعان النظر فيها لا دلالة لها على النجاسة فكيف تكون النجاسة مسلمة مأخوذة من الأئمّة (عليهم السلام) بحيث لم تكن قابلة للمناقشة ولا تكون حاجة إلى الاستدلال عليها أصلاً.

وامّا حديث إعراض المشهور عن الروايات الدالّة على الطهارة فلو سلّم لكان مقتضاه سقوطها عن الاعتبار والحجّية وقد بيّنا انّ أخبار النجاسة لا دلالة لها عليها فتصبح المسألة فاقدة للدليل على أحد الطرفين فلا محيص عن الرجوع إلى قاعدة الطهارة بعد عدم وجود الدليل في البين.

مع انّ إعراض المشهور عن روايات الطهارة لو أوجب الكشف عن وجود خلل فيها فامّا أن يكون كاشفاً قطعياً عن ذلك وامّا أن يكشف بالكشف الظنّي؟

لو كان الأوّل فلا بحث فيه لأنّ القطع حجّة من أي طريق حصل والقاطع مجبول على ابتاع قطعه ولكنّه لم يحصل هذا القطع لنا بعد.

ولو كان الثاني فنقول: الخلل المكشوف بالاعراض بالكشف الظنّي امّا أن يكون من حيث أصل الصدور وامّا أن يكون من حيث جهة الصدور وامّا أن يكون من جهة الدلالة وامّا أن يكون من جهة الابتلاء بالمعارض الأقوى؟

الصفحة 236

امّا من حيث أصل الصدور فوجود الامارة الظنّية التي لم يقم دليل على اعتبارها على ما هو المفروض لا يمنع عن شمول أدلّة حجّية خبر الواحد لعدم ابتناء حجّيته على عدم حصول الظنّ الشخصي على الخلاف وعدم اشتراط اعتباره بذلك وبالجملة الامارة الظنّية غير المعتبرة لا تزاحم دليل الحجّية بوجه.

وامّا من حيث جهة الصدور فلا يمكن رفع اليد عن ظهور كلام المتكلِّم في كونه مسوقاً لبيان الحكم الواقعي وحمل الروايات على كونها صادرة تقية لأنّ التقية امّا أن تكون في مقام بيان الإمام (عليه السلام) وحكمه بجواز معاملة الطهارة مع أهل الكتاب لكون آراء أهل السنّة متوافقة على عدم نجاسة الآدمي ـ خلافاً للكتاب المصرّح بنجاسة المشركين ـ وامّا أن تكون في مقام العمل بأن يكون مرادهم (عليهم السلام)معاملة السائلين وغيرهم من الشيعة معاملة الطهارة مع أهل الكتاب حفظاً لنفوسهم وتحفّظاً لهم وكلاهما بعيدان في الغاية:

امّا التقية في مقام البيان وإفادة الحكم فلأنّه من البعيد أن يكون بحضرتهم في جميع مجالسهم التي صدرت فيها أخبار الطهارة من كانوا يتّقون عنه خصوصاً مع صدور بعضها عن الناحية المقدّسة كمكاتبة الحميري المتقدّمة.

وامّا التقية في مقام العمل حفظاً لنفوس الشيعة عن المهلكة ففيه انّه كيف يمكن أن يأمر الإمام (عليه السلام) بمعاملة الطهارة معهم ولا يأمرهم بغسل أيديهم وألبستهم بعد الرجوع إلى منازلهم وزوال موضوع التقية خصوصاً مع ملاحظة ما للنجاسة من الآثار والأحكام الوضعية الكثيرة.

والحاصل: انّ مجرّد الامارة الظنّية غير المعتبرة لا تقاوم اصالة الصدور لا للتقية ونحوها التي هي من الاُصول العقلائية وعليها المدار في باب الألفاظ وكشف المرادات الواقعية منها.

الصفحة 237

وامّا من حيث الدلالة بأن كان إعراض المشهور موجباً لثبوت الوهن في أخبار الطهارة من حيث الدلالة ففيه:

أوّلاً: انّ الدلالة في بعضها قطعية لا مجال للخدشة فيها واحتمال الخلاف أصلاً كما عرفت.

وثانياً: انّها على فرض كون الدلالة في جميعها غير متجاوزة عن مرتبة الظهور نقول: إنّ أصالة الظهور تكفي في حجّية الظهور بعد كونها من الاُصول العقلائية المعتبرة وعدم اشتراط اعتبارها بعدم حصول الظنّ الشخصي على الخلاف فالأمارة الظنّية غير المعتبرة ـ على تقدير وجودها ـ لا تنهض في مقابل أصالة الظهور أصلاً.

وامّا من حيث احتمال وجود معارض أقوى فهل ذلك المعارض اخبار لم تصل إلينا ومفادها النجاسة أو هو الأخبار التي استدلّ بها عليها ممّا قد تقدّمت؟

امّا الأوّل فلا أكثر من الظنّ بذلك ولم يقم دليل على اعتباره ـ كما هو المفروض ـ وامّا الثاني فقد عرفت عدم دلالتها على النجاسة أولاً وعدم كونها في الظهور بمثابة يمكن أن تتعارض مع أخبار الطهارة ثانياً.

فقد انقدح انّ إعراض المشهور عن روايات الطهارة ـ على تقدير ـ لا يوجب خللاً فيها من حيث الصدور ولا من حيث جهة الصدور ولا وهناً فيها من حيث الدلالة أو الابتلاء بالمعارض الأقوى فمقتضى القواعد المحكمة والروايات المعتبرة طهارة أهل الكتاب والشهرة الفتوائية وإن كانت متحقّقة على خلاف ما قلنا إلاّ انّها ليست بحجّة شرعية والإجماع المنقول أيضاً كذلك والمحصل منه ـ على تقديره ـ لا يكون كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) لأنّه يحتمل قويّاً بل الظاهر انّ مستند المجمعين هي أخبار النجاسة التي عرفت حالها.

الصفحة 238

وهذه الشهرة صارت مانعة لبعض المحقّقين عن الفتوى الصريح بالطهارة وأوجبت الالتزام بالجمع بين الأدلّة بطريق آخر حيث قال في «مصباحه»: «إنّ الحقّ انّ المسألة في غاية الإشكال ولو قيل بنجاستهم بالذات والعفو عنها لدى عموم الابتلاء أو شدّة الحاجة إلى معاشرتهم ومساورتهم أو معاشرة من يعاشرهم كما يؤيّدة أدلّة نفي الحرج ويشهد له صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة الدالّة على جواز الوضوء بما باشره اليهودي والنصراني لدى الضرورة والمنع منه في غيرها لم يكن بعيداً عمّا يقتضيه الجمع بين الأدلّة، وقد التزم بذلك صاحب الحدائق (قدس سره) في العامة حيث قال بنجاستهم والعفو عنها لدى عموم الابتلاء بهم لمكان الحرج والله تعالى عالم بحقائق أحكامه».

وأنت خبير بأنّ هذا الجمع ممّا لا مانع منه لو كانت أخبار النجاسة تامّة دلالة وقد عرفت عدم تماميتها.

ثمّ إنّه لو بنينا على نجاسة أهل الكتاب بمقتضى الأدلّة المتقدّمة فغير خفي انّ تلك الأدلّة تختص باليهود والنصارى والمجوس ويحتاج الحكم بالنجاسة في بقيّة أصناف الكفّار كمنكر الضروري من المسلمين إلى دليل وهو مفقود. وامّا المرتدّ فإن صدق عليه أحد عناوين أهل الكتاب فهو محكوم بحكمه كما إذا ارتدّ بتهوّده أو تنصّره أو تمجّسه، وامّا إذا لم يصدق عليه شيء من تلك العناوين فهو وإن كان كافراً ـ كما سيجيء في البحث عن معنى الكافر ـ إلاّ انّ الحكم بنجاسة ما لم يكن مشركاً مشمولاً للآية الكريمة مشكل جدّاً.

وقد يستدلّ على نجاسة بقيّة أصناف الكفّار بالأولوية بدعوى انّ أهل الكتاب لو كانوا محكومين بالنجاسة مع اعتقادهم لأصل التوحيد والنبوّة العامة فمن ينكر أصل وجود الصانع أو التوحيد أو النبوّة فهو نجس بطريق أولى.

الصفحة 239

ولا يخفى انّ هذه الأولوية مسلمة بالإضافة إلى بعض أصناف الكفّار كالمذكورين في مقام الاستدلال وامّا بالنسبة إلى البعض الآخر كالمرتدّ غير المشرك أو منكر الضروري من المسلمين فلا مجال لها وعليه فتعميم الحكم بالنحو المذكور في المتن مشكل ولو التزمنا بنجاسة الذمّي أيضاً.

المقام الثالث: في معنى الكافر والمراد منه وقد صرّح في المتن بأنّه من انتحل غير الإسلام أو جحد ما يعلم من الدين ضرورة بحيث يرجع جحده إلى إنكار الرسالة أو تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله) أو تنقيص الشريعة أو صدر منه ما يقتضي كفره من قول أو فعل والظاهر انّ المراد من القسم الأخير هو صدور القول أو الفعل بمجرّده وإن لم يعلم بكونهما ناشيين عن الاعتقاد كما انّ المراد بالأوّلين هو الاعتقاد في الانتحال أو الجحد وهذا انّما يبتني على عدم كون الكفر أمراً اعتقادياً محضاً بل قد يكون بالقول أو الفعل لكن أخذ «الكفر» في تعريف الكافر وبيان المراد منه ـ مع انّه أخذ الشيء في تعريفه ـ ربّما يشعر بخلاف ما ذكر فتدبّر.

والتحقيق في هذا المقام انّ «الكفر» عنوان في مقابل عنوان «الإسلام» فمن لا يكون مسلماً يكون كافراً لا محالة سواء كان منكراً لوجود الصانع تعالى أو لم يتوجّه إليه أصلاً أو توجّه وكان شاكّاً في وجوده ـ والدليل على نجاسة هؤلاء الآية الكريمة الدالّة على نجاسة المشركين لأنّه لو كان المشرك المعتقد بأصل وجوده تعالى نجساً فمن كان منكراً له أو غير متوجّه إلى أصل وجوده حتّى يعتقده نفياً أو إثباتاً، أو شاكّاً فيه بعد التوجّه والالتفات يكون نجساً بطريق أولى ـ أو كان منكراً لنبوّة نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان معتقداً بالنبوّة العامّة، أو جعل شريكاً لله تعالى في الذات أو في تدبير العالم وإدارته أو في مقام العبادة فالمشرك على ثلاثة أقسام: الأوّل: المشرك بحسب الذات القائل بتعدّد واجب الوجود وعدم كون الوجوب ملازماً للوحدة

الصفحة 240

وعدم قيام دليل عليها. الثاني: المشرك في الأفعال وهو الذي جعلشريكاً له تعالى في الأفعال وتدبير العالم. الثالث: المشرك في مقام العبادة كالمشركين المعاصرين لزمان البعثة ونزول الوحي.

ولابدّ في توضيح معنى الشرك في العبادة من بيان معنى العبادة وأقسامها فنقول: إنّها قد تطلق على مجرّد الإطاعة والتبعية كقوله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان)(1) وقد تطلق على الخضوع والتذلّل كقوله تعالى حكاية: (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)(2) أي خاضعون ذليلون وهذان المعنيان غير المعنى الذي تكون العبادة منصرفة إليه عند الإطلاق وتستعمل فيه بنحو الشيوع، والمعنى الشائع المنصرف إليه هو التخضّع في مقابل المعبود بعنوان الإلوهية وهذا المعنى هو المراد من قوله تعالى في مقام التعليم: (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)(3) الظاهر في الانحصار به تعالى والمشركون في عصر الإسلام كانوا يعبدون الأصنام ويجعلونها آلهة ويتوهّمون انّ الإنسان لا يمكن له أن يتقرّب بنفسه إلى الله الخالق للسماوات والأرض الوحيد في ذاته وفعله وانّ الأصنام قادرة على أن يشفعوا لهم عند الله ويقرّبهم إلى الله زلفى. ومن هنا يمكن أن يقال: إنّ كلمة التوحيد الموجبة للفلاح والخروج عن ظلمة الشرك إنّما تكون ناظرة إلى التوحيد في العبادة وانّ المراد بالأدلّة المنفي فيها هو الصالح للعبودية لشيوع الشرك في العبادة في ذلك العصر.

لا يقال: إنّ ما يعتقده الشيعة الإمامية بالإضافة إلى أئمّتهم (عليهم السلام) من كونهم شفعاء


1 ـ يس : 60 .
2 ـ المؤمنون: 47 .
3 ـ الفاتحة : 5 .

الصفحة 241

عند الله تعالى وما يراعونه من احترام قبورهم المقدّسة وزيارتهم وتقبيل الضرائح الموضوعة عليها وطلب الحاجة منهم لعلّه يشبه الشرك كما هو معتقد فرقة ضالّة من العامّة العمياء وبعض من ينتحل التشيّع ممّن لا تحصيل له ولأجله يتحرّك بحركة تلك الفرقة وتقلّبه الأيادي السياسية التي هدفها المحض تفرقة الشيعة وإيجاد الاختلاف بينهم لئلاّ ينتشر مرامهم الذي هو المرام الوحيد الذي يقبله العقل السليم ويؤيّده العلم العصري مع بلوغه إلى المرتبة التي لا يتوقّع مثلها.

لأنّا نقول: وإن كان البحث الفقهي لا يناسب هذه المباحث إلاّ انّ الإشارة الإجمالية الموجزة لعلّها لم تكن خالية عن المناسبة خصوصاً بعد ملاحظة إمكان التأثير في بعض القلوب الصافية غير المظلمة على حقيقة الأمر فنقول:

امّا احترام قبورهم وزيارتها وتقبيل الضرائح المقدّسة فهو ـ مضافاً إلى انّه ليس بشرك ـ دليل على كمال التوحيد لأنّه ـ مضافاً إلى عدم كونه عبادة فانّ احترام القبر وزيارته والتقبيل أمر والعبادة أمر آخر فهل ترى انّ احترام العالم الحي عبادة له أو انّ زيارة المؤمن كذلك التي هي من المستحبّات الشرعية تعدّ عبادة له، أو انّ تقبيل الطفل محبّة أو الرجل المحترم احتراماً وتعظيماً عبادة له فكيف يتفوّه بذلك فيما يتعلّق بالقبور المقدّسة وهل فرق بين تقبيل الحجر الأسود الذي هو من المستحبّات وتقبيل الضرائح المقدّسة؟! وهل يمكن أن يتوهّم أحد انّ الأوّل مع كونه شركاً صار مستثنى ؟! وهل الشرك يمكن أن يقع الاستثناء من حكمه مع انّه لا يغفر أن يشرك به؟! ـ يكون كاشفاً عن التعظيم وتكريم جماعة أكرمهم الله بتاج الكرامة واصطفاهم للخلافة والولاية بما انّهم كذلك ففي الحقيقة يكون تكريمهم لإضافتهم الخاصّة إلى الله تعالى وقربهم في نظره وهذا دليل على كمال التوحيد.

وامّا التوسّل إليهم وجعلهم شفعاء وطلب الحاجة منهم فلأجل انّ الله تعالى قد

<<التالي الفهرس السابق>>