الصفحة 242
أعطاهم هذه المزايا وفضّلهم بهذه الفضائل ومع ذلك يصدر الجميع بإذن الله فهل ترى من نفسك انّ مولى من الموالي العرفية إذا أعطى عبده دراهم وجعلها باختياره في أن يصرفه في أي فقير شاء فإذا اطلع فقير على ذلك وطلب من العبد درهماً مثلاً يكون هذا الطلب منافياً لمقام المولى ومضادّاً لمولويته وشركاً له؟! فالله تعالى أقدر الأئمّة (عليهم السلام) على التصرّف في العالم وجعلهم شفعاء فالتوسّل إليهم وطلب الحاجة منهم في الحقيقة إمضاء لفعل الله وتسليم لعنايته لا انّه شرك ومضاد للألوهية والخالقية.
نعم لا مجال لإنكار انّ السجود لغير الله محرّم شرعاً لقوله تعالى: (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهنّ)(1) فمن سجد لغير الله ارتكب محرماً لكن نقول:
أوّلاً: انّه لم نر أحداً من الشيعة مع اختلاف طبقاتهم في العلم والمعرفة وثبوت الخواص والعوام بينهم أن يسجد للأئمّة (عليهم السلام) أو لقبورهم المطهّرة والشاهد الوجدان.
وثانياً: انّ الكلام في الشرك وهو أمر لا يلائم الاستثناء بوجه، والسجود لغير الله غايته انّه محرم وليس كل حرام موجباً للشرك والدليل على عدم كونه شركاً انّ السجود لآدم كان مأموراً به للملائكة بأجمعهم والشيطان الذي كان من الجنّ ولو كان السجود لغير الله شركاً كيف يمكن أن يكون مأموراً به وهل يجتمع الأمر بالشرك ولو في مورد مع عدم صلاحية الشرك للمغفرة أصلاً، فلو فرض انّ الشيعة تسجد للأئمّة (عليهم السلام) فغايته تحقّق الفعل الحرام لا الشرك غير القابل للغفران نعوذ بالله من الجهل وعدم العرفان.
1 ـ فصّلت: 37 .
الصفحة 243
ثمّ إنّ السجود على التربة خارجة عن هذا البحث كلاّ لأنّ المحرّم انّما هو السجود لغير الله والسجود على التربة انّما هو سجود لله على التربة وفرق واضح بين السجود للشيء وعلى الشيء والدليل عليه إمكان اجتماعهما فإنّ المصلّي في سجوده لا يسجد إلاّ لله وفي هذه الحالة يضع جبينه على التربة فتوهّم الشرك في ذلك لا يكاد ينشأ إلاّ عن الجهل الأكيد والبُعد الشديد عن الحقّ السديد واختيار تربة قبر الحسين (عليه السلام) انّما هو للتبرّك بها لأجل انّه بذل نفسه وأبنائه وأصحابه في الله تبارك وتعالى ودينه وقانونه ففي الحقيقة يرجع ذلك إلى تكريم الدين الإلهي وتعظيم القانون السماوي وتوحيد الله تعالى.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى ما كنّا فيه من بيان أصناف المشركين وأحكامهم فنقول: قد عرفت انّ الشرك امّا أن يكون في الذات أو في الفعل أو في العبادة وقد أطلق الشرك في كتاب الله على جميع الأصناف الثلاثة.
امّا الأوّل: فقد أطلق عليه في مثل قوله تعالى: (لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون)(1) وقوله تعالى: (قل انّما هو إله واحد وانني بريءٌ ممّا تشركون)(2).
وامّا الثاني: فقد أطلق عليه في مثل قوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحقّ تعالى عمّا يشركون)(3) وقوله تعالى: (وقل الحمد لله ا لذي لم يتّخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك)(4) أي في الأعمال والسلطنة.
وامّا الثالث: ففي مثل قوله تعالى: (قل انّما اُمرت أن أعبد الله ولا أشرك به
1 ـ التوبة : 9 .
2 ـ الأنعام : 6 .
3 ـ النحل: 3 .
4 ـ الإسراء: 111 .
الصفحة 244
شيئاً)(1) وقوله تعالى: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء)(2).
وهل يستفاد نجاسة المشرك بجميع أصنافه الثلاثة من الآية الكريمة: (انّما المشركون نجس) أم لا؟ وجهان مبنيان على انّ الألف واللام في الآية هل لإفادة العموم نظراً إلى انّ الجمع المحلّى باللام يفيد العموم فتدلّ الآية على نجاسة جميع الأصناف من المشركين، أو للعهد فيختصّ بالمشركين المعهود في ذلك العصر وهم المشركون في خصوص العبادة لما عرفت من شيوعهم في عصر نزول الوحي وبعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الظاهر هو الثاني ولكن مع ذلك تدلّ الآية على نجاسة جميع الأصناف غاية الأمر انّ دلالتها على نجاسة المشرك في خصوص العبادة انّما تكون بالمنطوق وعلى نجاسة القسمين الآخرين بمفهوم الموافقة الذي يتوقّف على الأولوية كما هو غير خفي. هذا كلّه في المشرك.
وامّا الكافر الذي هو محطّ النظر في المقام فقد عرفت انّ التقابل بين الكفر والإسلام تقابل العدم والملكة وانّ الكافر من لا يكون مسلماً وشأنه أن يكون ذلك فلابدّ في تحصيل مفهوم الكفر من تحصيل مفهوم الإسلام حتّى يتّضح ما يقابله من الكفر.
فنقول: هل الإسلام عبارة عن مجرّد الاعتقاد القلبي بالتوحيد والرسالة ولو لم يقترن بالإقرار باللسان، أو انّه عبارة عن مجرّد الإقرار باللسان ولو لم يكن ناشئاً عن الإذعان بالجنان، أو انّه عبارة عن اجتماع كلا الأمرين: الاعتقاد بالجنان
1 ـ الرعد: 36 .
2 ـ النمل: 35 .
الصفحة 245
والإقرار باللسان، أو انّه لابدّ من التفصيل بين الكافر الذي أسلم وبين من ولد في دار الإسلام واشتدّ في حجر المسلمين وكان أبواه كلاهما ـ أو أحدهما ـ مسلماً؟ وجوه واحتمالات أقواها هو الوجه الثاني الذي يرجع إلى انّ الإسلام لا يتجاوز عن اللسان وانّه عبارة عن مجرّد الإقرار به ولو لم يكن هناك اعتقاد أصلاً.
ويمكن أن يستدلّ عليه من الكتاب بقوله تعالى: (قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم)(1)، فإنّ ظاهره الذي لا ينبغي الخدشة فيه ان ما يفتقر إلى الاعتقاد القلبي هو الايمان دون الإسلام فانّه يتحقّق بمجرّد القول.
وقوله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انّك لرسول الله إلى قوله تعالى: والله يشهد انّ المنافقين لكاذبون)(2) أي كاذبون في شهادتهم بأنّك رسول الله فانّه لا خفاء في انّ النبي كان يعامل مع المنافقين معاملة المسلمين ولم يكن يجري عليهم حكم الكافرين مع وضوح عدم اعتقادهم بصدق النبي في نبوّته وقد شهد الله بكذبهم في دعوى اعتقاد ذلك، وعليه فكون المنافقين غير الكافرين دليل على انّ الإسلام مجرّد الإقرار باللسان وإن لم يكن مقروناً بالاعتقاد القلبي أصلاً، ويؤيّده قوله تعالى في أوائل سورة البقرة: (ومن الناس من يقول آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)(3) ومن السنّة بروايات: منها ما عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قوله عزّوجلّ: (قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) قال (عليه السلام) : ألا ترى انّ الإسلام غير الايمان.
1 ـ الحجرات : 14 .
2 ـ المنافقون : 1 .
3 ـ البقرة : 8 .
الصفحة 246
ومنها: ما عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) فمن زعم أنّهم آمنوا فقد كذب ومن زعم انّهم لم يسلموا فقد كذب».
ومنها: موثقة سماعة قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : اخبرني عن الإسلام والايمان أهما مختلفان؟ فقال: إنّ الايمان يشارك الإسلام، والإسلام لا يشارك الايمان، فقلت: فصفهما لي، فقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس، والايمان: الهدى وما يثبت في القلوب مع صفة الإسلام وما ظهر من العمل به، والايمان أرفع من الإسلام بدرجة، انّ الايمان يشارك الإسلام في الظاهر والإسلام لا يشارك الايمان في الباطن وإن اجتمعا في القول والصفة.
ومنها: غير ذلك من الروايات الظاهرة في مغايرة الإسلام والايمان وإنّ الأوّل مجرّد الإقرار اللساني بالوحدانية والرسالة.
وقد فصل بعض الأعلام ـ على ما تقريرات بحثه ـ بين حدوث الإسلام وبقائه قائلاً: إنّ الحدوث يحتاج إلى الإقرار باللسان دون البقاء والاستمرار فان ولد المسلم لا يحتاج في إسلامه إلى شيء من الإقرار باللسان والاعتقاد بالقلب فانّه ما لم ينكر وحدانيته تعالى أو رسالة الرسول (صلى الله عليه وآله) فمسلم وإن لم يظهر ولم يعتقد بهما واستدل عليه مضافاً إلى السيرة القطعية المتّصلة بزمانهم (عليهم السلام) حيث إنّه لم يسمع إلزامهم أحداً من المسلمين بالإقرار بالشهادتين حين بلوغه ـ بجملة من الروايات:
منها: ما عن زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لو انّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا ولم يكفروا. حيث رتّب الكفر في المسلمين على الجحود لأنّهم المراد بـ «العباد» في الرواية ضرورة انّه لا معنى للجملة المذكورة بالإضافة إلى الكفّار
الصفحة 247
وعليه فما دام المسلم لم يجحد لشيء من الأحكام الإسلامية فهو محكوم بالطهارة والإسلام.
ومنها: ما عن محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) جالساً عن يساره، وزرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبدالله (عليه السلام) ما تقول فيمن شكّ في الله؟ فقال: كافر يا أبا محمّد، قال: فشكّ في رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: كافر، ثمّ التفت إلى زرارة فقال: إنّما يكفر إذا جحد. إلى أن قال: ومنها غير ذلك من الأخبار التي تدلّ على عدم اعتبار شيء من الأمرين المتقدّمين في إسلام من حكم بإسلامه من الابتداء، وامّا من حكم بكفره كذلك فالحكم بطهارته يتوقّف على أن يظهر الإسلام بالإقرار بالشهادتين.
ويمكن أن يورد عليه بأنّ جريان السيرة على الحكم بإسلام أولاد المسلمين بعد البلوغ وعدم إلزامهم أحداً منهم بالإقرار بالشهادتين انّما هو لعلمهم بأنّهم يعتقدون بالعقائد الحقّة أو مع شكّهم في ذلك أيضاً، وامّا لو علم عدم اعتقاده بها ولم يظهر الإسلام فلم يعلم جريان السيرة على ذلك لو لم ندع العلم بخلافه.
وامّا الروايات فالإنصاف انّها بصدد بيان ما يحصل به الكفر لا ما به يتحقّق الإسلام وكيف يمكن الحكم بإسلام من نعلم عدم اعتقاده بشيء من العقائد الحقّة ولم يظهر الإسلام أصلاً بمجرّد كون أحد أبويه مسلماً فتدبّر جيّداً فالإسلام مطلقاً هو الإقرار باللسان فقط.
ثمّ إنّ هنا روايات قد حكم في بعضها بكفر من شكّ، وفي بعضها بأنّه لا يكفر إلاّ بالجحود والاستحلال، وفي البعض الثالث بكفر المنكر والشاكّ ـ بمعنى انّه قد جمع بين الشاكّ والمنكر ـ .
فمن الطائفة الاُولى ما عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: من شكّ في
الصفحة 248
الله ورسوله فهو كافر. والظاهر منها انّه كافر إذا شكّ ولو لم يظهر. ومثلها صحيحة منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : من شكّ في رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قال: كافر. قال: قلت: فمن شكّ في كفر الشاكّ فهو كافر؟ فأمسك عنّي فرددت عليه ثلاث مرّات فاستبنت في وجهه الغضب. والظاهر منها أيضاً كفر الشاكّ ولو لم يظهر.
ومن الطائفة الثانية صحيحة زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لو انّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا. فإنّ مفهومها توقّف الكفر على الجحد فقط. ورواية عبد الرحيم القصير: ولا يخرجه إلى الكفر إلاّ الجحود والاستحلال.
ومن الطائفة الثالثة التي قد جمع فيها بين الشاكّ والمنكر صحيحة محمد ابن مسلم ـ المتقدّمة ـ التي تدلّ بصدرها على انّ من شكّ في الله أو في رسول الله فهو كافر، وبذيلها على انّ الكفر متوقّف على الجحود فظاهرها التنافي بين الصدر والذيل ولا مجال لتوهّم كون الذيل قرينة على تقييد الصدر بصورة الجحود بعد كون طرف الخطاب في الصدر هو أبا بصير وفي الذيل هو زرارة فلا وجه للتقييد.
ويمكن أن يكون قوله (عليه السلام) في الصحيحة: «انّما الكفر...» بالتشديد من باب التفعيل وعليه فيمكن الجمع بين الصدر والذيل وتقرير عدم التنافي بينهما بأنّ من شكّ في الله أو في رسول الله فهو كافر بينه وبين الله، وامّاالحكم بكفره في الخارج وترتيب آثاره عليه فهو يتوقّف على جحوده وإنكاره وبهذا يمكن الجمع بين الطائفتين الأوليين بحمل الطائفة الاُولى الدالّة على كفاية مجرّد الشكّ في الكفر على الكفر بينه وبين الله وحمل الطائفة الثانية الدالّة على توقّف الكفر على الجحود على الكفر في الخارج وعند الناس وهو الذي يكون موضوعاً للآثار المترتّبة عندهم.
نعم يبقى الكلام في انّ مقتضى هذه الروايات ـ بناءً على ما ذكرنا في الجمع بينها ـ
الصفحة 249
هو انّ الكفر أمر وجودي يتوقّف على الجحود والإنكار الذي هو عبارة ـ بحسب الظاهر ـ عن اللفظ الدال عليه أو الأعمّ منه ومن الفعل وعلى أي تقدير فهو أمر وجودي حادث بعد الجحود الذي هو أيضاً كذلك، وقد تقدّم منّا انّ تقابل الكفر والإسلام تقابل العدم والملكة فإذا كان الإسلام عبارة عن الإقرار باللسان ـ كما حقّقناه ـ فالكفر لا محالة يرجع إلى عدم الإقرار ولا يتوقّف على الجحود ـ فكيف يجمع بين هذه الروايات والروايات التي استندنا إليها في معنى الإسلام.
ولا محيص من أن يقال إمّا بكونهما ضدّين وأمرين وجوديين سواء قلنا بثبوت الثالث لهما أو لم نقل به بل كانا ضدّين لا ثالث لهما، أو يقال بأنّ الجحود في هذه الروايات هو مجرّد عدم الإقرار الذي هو أمر عدمي أو يقال بأنّ الروايات الدالّة على توقّف الكفر على الجحود انّما يكون موردها مسبوقيّة الإسلام بدليل قوله (عليه السلام)في رواية القصير: «لا يخرجه» الظاهر في إخراج المسلم من إسلامه إلى الكفر وكذا قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة: «لو انّ العباد...» الظاهر في كون المراد هو المسلمين، كما انّ قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن مسلم: «انّما يكفر» لا يخلو عن إشعار بذلك لو لم ندع الدلالة. وعليه فنقول: إنّ المسلم الذي أقرّ باللسان إذا اُريد الحكم بكفره لا يتحقّق له طريق غير الجحد والإنكار فانّه ما دام لم يجحد يكون محكوماً بالإسلام بمقتضى إقراره إذ لا يلزم تكرار الإقرار دائماً فالطريق المنحصر هو الجحد والإنكار لإثبات كونه من الكفّار، وامّا الكفر غير المسبوق بالإسلام فلا يتوقّف على الجحد بل يكفي فيه مجرّد عدم الإقرار باللسان فلا ينافي روايات الجحد ما ذكرنا من كون تقابل الأمرين تقابل العدم والملكة. نعم في الكفر المسبوق لا طريق له غير الجحد.
وقد انقدح ممّا ذكرنا انّ التفصيل المتقدّم من بعض الأعلام في معنى الإسلام لابدّ من الالتزام بمثله في الكفر بالكيفية التي ذكرناها فتدبّر جيّداً.
الصفحة 250
ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا انّ عدم الإقرار بالصانع أو بالوحدانية في الذات أو في الفعل أو في العبادة يوجب تحقّق مفهوم الكفر بلا إشكال، كما انّه ظهر من الروايات المتقدّمة إنّ إنكار الرسالة أيضاً موجب للكفر وانّ الإسلام يتقوّم بالإقرار بالشهادتين ويدلّ على الثاني أيضاً قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله إلى قوله تعالى: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اُعدّت للكافرين)(1) فإنّ ظاهرها إنّ إنكار إعجاز القرآن الملازم لإنكار الرسالة بل مجرّد الريب وعدم الإقرار موجب لتحقّق عنوان الكفر كما لا يخفى.
والظاهر انّ إنكار الخاتمية لا يكون سبباً للكفر في مقابل إنكار الرسالة بل إيجابه للكفر انّما هو من جهة استلزامه لإنكار الرسالة فانّ الخاتمية من ضروريات دين الإسلام وملازمتها له من الواضحات والقرآن معجزة خالدة أبدية ونفسه تدلّ على اتصافه بهذه الصفة فإنكار الخاتمية ملازم لإنكار الرسالة ولا دليل على استقلاله في حصول الكفر.
وامّا إنكار المعاد فلم يقع التعرّض له في كلمات الأصحاب من جهة كونه سبباً مستقلاًّ لحصول الكفر أو كونه مستلزماً لإنكار الرسالة فلا يكون مستقلاًّ في السببية؟ قال بعض الأعلام: إنّا لا نرى لإهمال اعتباره وجهاً وقد قرن الايمان به بالايمان بالله سبحانه في غير واحد من الموارد كما في قوله عزّوجلّ: (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)(2) وقوله تعالى: (من كان منكم يؤمن بالله واليوم
1 ـ البقرة : 23 .
2 ـ النساء : 59 .
الصفحة 251
الآخر)(1) وقوله تعالى: (انّما يعمّر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر)(2).
وفيه: إنّ صرف المقارنة بين الايمان به والايمان بالله لا دلالة له على انّ إنكاره سبب لتحقّق الكفر مستقلاًّ فانّه ـ مضافاً إلى عدم كون المقارنة في جميع الموارد كقوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وممّا رزقناهم ينفقون إلى قوله تعالى: وبالآخرة هم يوقنون)(3) فانّك ترى عدم المقارنة في الآية ـ تكون المقارنة في بعض الآيات لأجل كونها بصدد بيان حال المؤمنين وتعريف الايمان دون الإسلام والمسلمين، وفي مقام بيان بعض الآثار التي يكون الايمان باليوم الآخر دخيلاً فيها.
وبالجملة: إنّ تلك الآيات المشتملة على المقارنة مسوقة لبيان مثل أوصاف المتّقين والعامرين للمساجد والمستحقّين لأنعُم الله في الدار الآخرة لا لبيان أركان الإسلام ـ في مقابل الكفر ـ الذي يكون من آثاره الطهارة وحقن الدماء فكيف يمكن أن يرفع اليد بسببها عن الروايات الكثيرة الدالّة على انّ الإسلام هو الإقرار بالشهادتين أو الالتزام بتقييدها بها. نعم قد عرفت انّه لا محيص عن الالتزام بكون إنكار المعاد موجباً للكفر لأنّ الاعتقاد به من ضروريات الإسلام بحيث لا يكاد يخفى على من اعتقد بالنبي ومعجزته الباهرة فإنكاره يستلزم إنكار النبوّة ولأجله يوجب الكفر فلا يكون له موضوعية أصلاً.
بقي الكلام في هذا المقام في إنكار ضروري من ضروريات الدين وانّه هل يكون سبباً للكفر مستقلاًّ فيوجب تحقّق الكفر ولو لم يلتفت إلى كونه ضرورياً
1 ـ البقرة: 232 .
2 ـ التوبة: 18 .
3 ـ البقرة : 3 .
الصفحة 252
بحيث يرجع جحوده إلى إنكار الرسالة ـ مثلاً ـ أو انّه سبب غير مستقلّ ولا يكون له موضوعية في حصول الكفر أصلاً بل انّما يوجبه في خصوص ما إذا رجع إنكاره إلى مثل إنكار الرسالة ولازمه التوجّه والالتفات إلى كونه ضرورياً في الدين؟ وجهان بل قولان نسب في مفتاح الكرامة إلى ظاهر الأصحاب انّ إنكار الضروري سبب مستقلّ للكفر بنفسه.
وقد استدلّ عليه بوجهين:
الوجه الأوّل: ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) من انّ الإسلام ـ عرفاً وشرعاً ـ عبارة عن التديّن بهذا الدين الخاص الذي يراد منه مجموع حدود شرعية منجزة على العباد كما قال الله تعالى: (انّ الدين عند الله الإسلام) ثمّ قال: وامّا ما دل على كفاية الشهادتين في الإسلام فالظاهر انّ المراد منه حدوث الإسلام ممّن ينكرهما من غير منتحلي الإسلام فلا ينافي ما ذكرنا من انّ عدم التديّن ببعض الشريعة أو التديّن بخلافه موجب للخروج عن الإسلام. وكيف كان فلا إشكال في انّ عدم التديّن بالشريعة كلاًّ أو بعضاً مخرج عن الدين والإسلام.
ويرد عليه أوّلاً: انّ مقتضى هذا الاستدلال ثبوت الكفر على كل منكر لأيّ حكم من الأحكام الثابتة في الشريعة ـ قاصراً كان المنكر أو مقصّراً، منجزاً كان ذلك الحكم أو غير منجّز ـ لأنّه لو كان المناط إنكار حكم من أحكام الإسلام فلا فرق فيه بين المنجز وغيره لأنّ عدم التنجّز على المكلّف لا يوجب خروج غير المنجز عن كونه من أحكام الإسلام وقواعده فلا وجه للتقييد بالمنجز، مع انّه ينافي ما قاله في ذيل كلامه ـ تأييداً لعموم كلام الفقهاء في نجاسة الخوارج والنواصب وشموله للقاصر والمقصر ـ من انّه يؤيّدها ما ذكرنا من انّ التارك للتديّن ببعض الدين خارج عن الدين. وأنت خبير بأنّ التكليف بالإضافة إلى القاصر لا يكاد
الصفحة 253
يتّصف بالتنجّز أصلاً.
وثانياً: قد عرفت انّ مقتضى الآيات والروايات انّ الإسلام غير الايمان وانّه عبارة عن مجرّد الشهادتين من دون أن يكون هناك فرق بين الحدوث والبقاء وعدم إشعار شيء من الروايات بذلك فضلاً عن الدلالة، مع انّه ورد بعضها في مورد المسلمين ومن زعم الشيخ (قدس سره) انّ إسلامه هو التديّن بمجموع الأحكام كصحيحة حمران بن أعين أو حسنته عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الايمان ما استقرّ في القلب وأفضى به إلى الله عزّوجلّ وصدقه العمل بالطاعة لله والتسليم لأمره، والإسلام ما ظهر من قول أو فعل وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها. الحديث.
الوجه الثاني: بعض الروايات الواردة في معنى الإسلام والكفر كصحيحة أبي الصباح الكناني عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): من شهد أن لا إله إلاّ الله وانّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) رسول الله كان مؤمناً؟ قال: فأين فرائض الله؟! قال: وسمعته يقول: كان علي (عليه السلام) يقول: لو كان الايمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام . قال: وقلت لأبي جعفر (عليه السلام) : انّ عندنا قوماً يقولون: إذا شهد أن لا إله إلاّ الله وانّ محمّداً رسول الله فهو مؤمن، قال: فلم يضربون الحدود ولم تقطّع أيديهم؟! وما خلق الله عزّوجلّ خلقاً أكرم على الله عزّوجلّ من المؤمن لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين وان جوار الله للمؤمنين وانّ الجنّة للمؤمنين وإنّ الحور العين للمؤمنين ثمّ قال: فما بال من جحد الفرائض كان كافراً؟
وعن شيخنا الأنصاري (قدس سره) انّ هذه الرواية واضحة الدلالة على أن التشريع بالفرائض ـ أي التديّن بها ـ مأخوذ في الايمان المرادف للإسلام.
والحقّ انّ صدرها واضحة الدلالة على انّ المراد من الايمان ليس هو الإسلام بل
الصفحة 254
الإيمان الكامل المنافي لترك ما فرضه الله كيف وعدم ضرب الحدود وعدم قطع الأيدي من أوصاف المؤمن بالمعنى الأخصّ لا المسلم ولا المؤمن بالمعنى الوسيع كما هو واضح.
وامّا ذيلها أي قوله (عليه السلام) : «فما بال من جحد الفرائض كان كافراً» فالظاهر انّ مفاده انّ جحد الفرائض موجب للكفر ولكنّه من الممكن أن يكون المراد جحد جميع الفرائض حيث إنّ الفرائض جمع محلّى باللاّم ومن الواضح انّ إنكار جميع الفرائض يستلزم إنكار النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يوجب الكفر بلا خلاف كما تقدّم، أو يكون الجحود مغايراً للإنكار ـ كما هو الظاهر ـ فإنّ الجحد هو الإنكار عن علم نحو إنكار وجوب الصلاة مع العلم بوجوبها وهو أيضاً مستلزم لإنكار النبي (صلى الله عليه وآله) كما هو غير خفيّ، فالرواية لا دلالة لها على اعتبار أمر زائد على الاعتقاد بالرسالة ـ بعد الاعتقاد بالإلوهية وشؤونها ـ في معنى الإسلام المقابل للكفر.
ورواية حمران بن أعين قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قوله ـ عزّوجلّ ـ : (انّا هديناه السبيل امّا شاكراً وامّا كفوراً) قال : امّا آخذ فهو شاكر وامّا تارك فهو كافر. ويمكن أن يكون المراد من التارك هو من ترك الجميع لأنّ الترك لا يكاد يتحقّق إلاّ به، ومن الآخذ من أخذ ولو بالبعض فانّه يتحقّق بأخذ البعض أيضاً فتدبّر .
ورواية عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله ـ عزّوجلّ ـ : (ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله) قال: ترك العمل الذي أقرَّ به، من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم ولا شغل.
ورواية مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) وسُئل ما بال الزاني لا تسمّيه كافراً وتارك الصلاة قد سمّيته كافراً وما الحجّة في ذلك؟ فقال: لأنّ الزاني وما أشبهه انّما يفعل ذلك لمكان الشهوة لأنّها تغلبه، وتارك الصلاة لا يتركها إلاّ
الصفحة 255
استخفافاً بها، وذلك لأنّك لا تجد الزاني يأتي المرأة إلاّ وهو مستلذّ لإتيانه إيّاها قاصداً إليها، وكلّ من ترك الصلاة قاصداً إليها فليس يكون قصده لتركها اللذّة، فإذا نفيت اللذّة وقع الاستخفاف وإذا وقع الاستخفاف وقع الكفر الحديث.
ورواية أبي عمرو الزبيري عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث طويل في بيان وجوه الكفر: والوجه الرابع من الكفر، ترك ما أمر الله عزّوجلّ به وهو قول الله عزّوجلّ: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون ثمّ أنتمن هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وان يأتوكم اُسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منك) فكفرهم بترك ما أمر الله به عزّوجلّ به ونسبهم إلى الايمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون)الحديث.
والظاهر من هذه الروايات انّ ترك بعض ما أمر الله تعالى به يوجب الكفر، ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى: (ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فانّ الله غنيٌ عن العالمين)(1) بناءاً على أن يكون المراد هو الكفر بسبب الترك.
وظاهر بعض الأخبار انّ إنكار بعض ما أمر الله به يوجب الكفر كرواية زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ذكر عنده سالم بن أبي حفصة وأصحابه فقال: إنّهم ينكرون
1 ـ آل عمران : 97 .
الصفحة 256
أن يكون من حارب عليّاً (عليه السلام) مشركين فقال أبو جعفر (عليه السلام) : فانّهم يزعمون انّهم كفّار، ثمّ قال لي: إنّ الكفر أقدم من الشرك ثمّ ذكر كفر إبليس حين قال له: اسجد فأبى أن يسجد قال: الكفر أقدم من الشرك فمن اجترى على الله فأبى الطاعة وأقام على الكبائر فهو كافر يعني مستخفّ كافر. وروى هذه بسند آخر عن زرارة عنه (عليه السلام) مع اختلاف يسير نحو: «ومن اختار على الله عزّوجلّ وأبى الطاعة فهو كافر».
والظاهر منها خصوصاً من قوله: ومن اختار على الله، في الطريق الآخر انّ من أنكر بعض ما أمر الله به فهو كافر وهو القدر المتيقّن منها وإن أمكن أن يقال: إنّها تدلّ على انّ من خالف الله وأقام على الكبائر وفعلها فهو كافر وإن لم يكن هناك إنكار.
وصحيحة محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كلّ شيء يجره الإقرار والتسليم فهو الايمان، وكلّ شيء يجره الإنكار والجحود فهو الكفر.
ورواية عبد الرحيم القصير وفيها: فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عزّوجلّ عنها كان خارجاً من الايمان ساقطاً عنه اسم الايمان وثابتاً عليه اسم الإسلام، فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الايمان ولا يخرجه إلى الكفر إلاّ الجحود والاستحلال: أن يقول للحلال: هذا حرام، وللحرام: هذا حلال، ودان بذلك فعندها يكون خارجاً من الإسلام والايمان داخلاً في الكفر، وكان بمنزلة من دخل الحرم ثمّ دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثاً فاُخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلى النار.
هذه هي الروايات الواردة في المقام وقد عرفت انّ مقتضى بعضها انّ الإنكار ـ أي إنكار بعض ما أمر الله تعالى به ـ يوجب الكفر، ومقتضى بعضها الآخر، انّ
الصفحة 257
استحلال الحرام موجب للكفر وكذا العكس، وظاهر بعضها انّ مجرّد ترك الواجبات أو بعضها موجب للكفر.
فقيل في مقام الجمع بين الروايات انّ المراد من الترك هو ترك الضروري مع ضميمة الإنكار، ومن الحلال والحرام الضروري منهما.
وفيه: إنّه ليس في الروايات من «الضروري» عين ولا أثر ولم يقم دليل على كون المراد ذلك.
فالحقّ أن يقال: امّا بأنّ المراد من الاستحلال هو أن يقول للحرام مع العلم بكونه حراماً: هذا حلال وبالعكس، أو بأنّه لابدّ من حمل الروايات على بيان مراتب الكفر والشرك والايمان والإسلام فإنّ للمذكورات مراتب كثيرة فانّه قد يطلق المشرك ـ مثلاً ـ على المرائي ، وقد اطلق أيضاً ـ في رواية اُخرى ـ على أن يقال للنواة: هذا حصاة ، وللحصاة: هذا نواة فانّه قد ورد انّ أدنى الشرك أن يقال كذلك، وهكذا الكفر فانّ منه ما يكون مقابلاً للإسلام وهو محطّ النظر في المقام ومورد البحث والكلام، ومنه ما يكون مقابلاً للايمان بمراتبه الكثيرة فإنّ مقابل كل مرتبة من مراتب الايمان مرتبة من مراتب الكفر لا محالة.
والحاصل انّ الروايات الواردة في انّ إنكار بعض ما أمر الله أو مجرّد تركه كفر لا تكون في مقام بيان الكفر المقابل للإسلام بل الكفر المقابل للايمان.
فتلخّص ممّا ذكرنا إنّ إنكار الضروري بنفسه لا يكون من أسباب الكفر لعدم الدليل عليه ولا إجماع في المسألة بل ولا شهرة بعد إمكان حمل كلمات الأصحاب على إرادة المعاني المختلفة منه.
المقام الرابع: في نجاسة الخوارج والنواصب والغلاة وقد حكم في المتن في الأوّلين بنجاستهما مطلقاً من غير توقّف على جحودهما الراجع إلى إنكار الرسالة
الصفحة 258
وفصل في الأخير بأنّه إن كان الغلو مستلزماً لإنكار الإلوهية أو الوحدانية أو الرسالة فهو يوجب الكفر والنجاسة وإلاّ فلا ونقول:
امّا الخارجي: فالظاهر انّ المراد منه من خرج على إمام زمانه ولابدّ من ملاحظة انّ مطلق الخروج على الإمام (عليه السلام) هل يوجب الكفر والنجاسة، أو انّه لابدّ من ملاحظة ما هو الباعث له على الخروج، والمحرّك له على الطغيان فلو كان باعثه على الخروج الوظيفة الدينية التي قد اعتقد بها كالذين كانوا معتقدين بكفر أمير المؤمنين (عليه السلام) نعوذ بالله من مثل هذا اليقين ـ فهو من النواصب وسيأتي الكلام فيهم، ولو لم يكن الباعث له على ذلك هي الوظيفة لدينية بل طلب الجاه والرئاسة المعارضة في الملك والسلطنة كطلحة والزبير وأمثالهما فلا دليل على كونه بمجرّده موجباً للكفر لعدم ثبوت إجماع أو غيره في ذلك، وعليه فمجرّد عنوان الخارجي لا يوجب ظاهراً الكفر والنجاسة.
وامّا الناصبي فقد ورد في الروايات نجاسته وصرّح بها في موثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال: وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم فإنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب وانّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه. مضافاً إلى انعقاد الإجماع على نجاسته وعدم ثبوت الخلاف فيها والإشكال أصلاً.
انّما الإشكال في انّ المراد من الناصب ماذا؟ وانّه هل هو مطلق من أظهر العداوة والبغضاء لأهل البيت (عليهم السلام) من دون أن يكون هناك فرق من جهة منشأ الإظهار والداعي على الاعمال أو انّ المراد بالناصب أمر آخر؟
لا مجال للاحتمال الأوّل لأنّه بناءً عليه لابدّ من الحكم بأنّ جميع المحاربين مع أمير
الصفحة 259
المؤمنين ـ عليه أفضل صلوات المصلِّين ـ نصاب محكومون بالنجاسة ولا يمكن الالتزام بذلك لأنّه لم ينقل مجانبة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأصحابه عن عائشة أو طلحة أو زبير أو سائر المبغضين له من أصحاب الجمل وصفّين وكثير من أهالي الحرمين الشريفين. ودعوى: انّ الحكم لم يكن معلوماً في ذلك الزمان وانّما صار معلوماً في عصر الصادقين (عليهما السلام) الذي هو عصر انتشار الأحكام والاطّلاع عليها.
مدفوعة: بأنّه لو ثبت انّ الناصب في الموثقة ونحوها هو كلّ من أظهر العداوة والبغضاء فلا محيص عن توجيه عدم نقل المجانبة عنهم بمثل ما ذكر ولكنّه مع عدم ثبوت ذلك فلا مجال لهذا التوجيه خصوصاً مع ملاحظة انّ اجتناب الأئمّة (عليهم السلام)وأصحابهم عن جميع المخالفين والمعاندين لهم كالعبّاسيين وغيرهم بعد عصر الصادقين (عليهما السلام) أيضاً غير معلوم.
فالحقّ انّ المراد من الناصب الذي حكم بنجاسته هو من جعل النصب والعداوة لأهل البيت (عليهم السلام) جزء من دينه وفريضة من فرائضه وبه يتقرّب إلى الله عزّوجلّ وهو الذي يكون أنجس من الكلب كما صرّح به في الموثقة.
وقد يناقش في دلالة الموثّقة على النجاسة الظاهرية من جهتين:
الاُولى: انّه من الممكن أن يكون المراد من النجاسة فيها هي الخباثة وما يعبّر عنه بالفارسية بـ «پليدى» كما مرّ سابقاً في معنى «الرجس».
الثانية: انّه لو قيل بنجاسة الطوائف الثلاث الذين عطف الناصب عليهم فالظاهر ـ حينئذ ـ الحكم بنجاسة الناصب للموثقة، وامّا مع القول بطهارة تلك الطوائف فلا يمكن الحكم بنجاسة الناصب استناداً إليها كما لا يخفى.
والجواب عن الاُولى انّه لا مجال لإنكار كون الظاهر من الموثقة هي النجاسة الظاهرية لأنّ الكلب قد امتاز من بين النجاسات بأنّه قد وقع التصريح بنجاسته،
الصفحة 260
والمتفاهم العرفي من قوله (عليه السلام) : «الكلب نجس» ليس إلاّ النجاسة الظاهرية فلو قيل: إنّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه فلا محيص من حمل النجاسة فيه أيضاً على النجاسة الظاهرية، وأنجسيته من الكلب لوجود المرتبة الفاضلة من النجاسة فيه فالمناقشة من هذه الجهة مندفعة.
وعن الثانية; أوّلاً: بأنّه مع الإغماض عن صدر الموثقة ـ بدعوى إجمالها لأجل دلالتها على نجاسة أهل الكتاب مع انّ مقتضى الروايات المعتبرة المتقدّمة هي طهارتهم أو الإعراض عنه لأجل ذلك ـ لا مجال للمناقشة في الذيل الوارد في حكم الناصب خصوصاً مع التعليل الصريح في نجاسته فإنّ ثبوت الإجمال في الصدر لا يلازم وجوده في الذيل وهكذا الإعراض فانّ المنشأ وجود روايات معتبرة صريحة في الطهارة ولم يرد شيء من هذه الروايات في الناصب أصلاً.
وثانياً: انّ صدر الرواية ليست في مقام بيان نجاسة أهل الكتاب ولا دلالة له عليها حتّى يدّعى الإغماض أو الإعراض لما مرّ سابقاً من انّ غسالة الحمّام تكون أضعافاً من الكرّ نوعاً والواردون في الحمّام لا ينحصرون بأهل الكتاب والناصب بل عدد هؤلاء قليل بالإضافة إلى المسلمين الواردين فيه وعليه فالظاهر عدم ابتناء النهي عن الاغتسال في غسالة الحمّام على نجاستها بل النهي تنزيهي منشأه عدم مناسبة وقوع الاغتسال الذي هو عمل عبادي يوجب القرب منه تعالى في الغسالة التي قد اجتمعت من غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي وغيرهم فلا إجمال في الصدر بوجه حتّى يسري إلى الذيل ويوجب عدم جواز الاستناد إليه فالإنصاف انّ دلالة الموثقة على نجاسة الناصب بالمعنى المصطلح فيه ممّا لا ريب فيه أصلاً.
هذا وقد وردت روايات ظاهر بعضها انّ كلّ من اعتقد بإمامة الشيخين فهو
الصفحة 261
ناصبي، وظاهر بعضها الآخر انّه ليس الناصب من نصب للأئمّة (عليهم السلام) بل الناصب من نصب لشيعتهم، وفي بعضها الاشتمال على التعليل بأنّك لا تجد أحداً يقول إنّي أبغض محمّداً وآل محمّد ـ عليه وعليهم السلام ـ .
والإنصاف: انّها مجملة يرد علمها إلى أهلها ومصادرها ولا نفهمها نحن لأنّه لو أبغض أحد للشيعة ونصب لهم لكونهم موالين لأهل البيت (عليهم السلام) كيف يمكن أن لا يكون مبغضاً للأئمّة (عليهم السلام) ، مع انّ بغض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعداوته لا يكون له مدخل في النصب لأنّ الناصب هو المسلم ظاهراً فما معنى قوله (عليه السلام) : «لأنّك لا تجد أحداً يقول انّي أبغض محمّداً وآل محمّد» مع انّه لا يمكن القول بأنّ كلّ عامّي ناصب فانّ النواصب طائفة مخصوصة منهم وهم الذين يتديّنون بنصبهم ويتقرّبون إلى الله بعداوتهم كما يشهد به ما في القاموس: «انّ الناصب من يبغض علياً ويتديّن بذلك» وهو المتيقّن من معاقد الإجماعات وموارد الروايات.
وامّا الغلاة فهم على طوائف:
الاُولى: من يعتقد الرّبوبية لأمير المؤمنين (عليه السلام) أو لأحد من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)فيعتقد بأنّه هو الله تعالى وانّه الربّ الجليل والإله المجسّم الذي نزل إلى الأرض وهذه الطائفة لو ثبت اعتقادهم بذلك فلا إشكال في كفرهم ونجاستهم لأنّه إنكار لإلوهيته سبحانه وهو من أحد الأسباب الموجبة للكفر والنجاسة.
الثانية: من يعتقد بشركة عليّ أو أحد الائمّة ـ عليه وعليهم السلام ـ مع الله تعالى في تدبير العالم وإدارته وهو أيضاً نجس لكونه مشركاً كما عرفت.
الثالثة: من اعتقد بأنّ الله تعالى قد اتّحد مع عليّ (عليه السلام) أو حلَّ فيه، وهذه الطائفة لو اعتقوا انّ علياً (عليه السلام) قد صار بعد الحلول أو الاتّحاد إلهاً في مقابل الله تعالى فهم مشركون لا إشكال في نجاستهم، ولو اعتقدوا انّ العبد قد يفنى في الله فناء الظلّ في
|