الصفحة 462
كان أقلّ من الدرهم يكون معفوّاً عنه بالإضافة إليهن أيضاً، فالعمدة في عدم العفو في دم الحيض ما ذكرنا.
ومنها: دم النفاس وقد حكى عن جماعة دعوى الإجماع على عدم العفو عنه وعن دم الاستحاضة أيضاً، ولكن المحقّق في المعتبر والنافع نسب إلحاقهما بدم الحيض إلى الشيخ (قدس سره) وهو يشعر بكون المسألة خلافية واختار صاحب الحدائق عدم الإلحاق بل قال: إنّ الإلحاق لا يخرج عن القياس.
وكيف كان فالعمدة في الإلحاق كونه كدم الحيض حكماً بل موضوعاً وقد ورد انّ النفاس حيض والمراد منه امّا كونه منه موضوعاً نظراً إلى انّه حيض محتبس، وامّا كونه مثله في جميع الآثار التي منها عدم العفو في المقام، ولكن الظاهر عدم كونه رواية معتبرة وعلى تقديره فكونه منه موضوعاً لا يقتضي اشتراكه معه في عدم العفو لأنّ امتيازه بوصف الاحتباس يوجب أن يكون موضوعاً آخر عرفاً ولا يشمله أدلّة عدم العفو في الحيض ولا أقلّ من الشكّ في الشمول وكونه مثله في جميع الآثار غير ظاهر من الرواية فالإلحاق مشكل والاستدلال عليه بكون نجاسته مغلظة لأنّه يوجب الغسل فاختصاصه بهذه المزية يدلّ على قوّة نجاسته على باقي الدماء فغلظ حكمه في الإزالة لا يخفى ما فيه من انّه مجرّد اعتبار لا يصلح دليلاً لإثبات حكم شرعي، وعليه فالعمدة هو الإجماع المحكي المتقدّم لو كان له أصالة وكان الإجماع المنقول حجّة.
ومنها: دم الاستحاضة واستدل على الإلحاق فيه بما دلّ على لزوم تبديل القطنة وبأنّ الاستحاضة مشتقّة من الحيض وبتساويهما في إيجاب الغسل وهو يشعر بالتغليظ وفي كلّ منها ما لا يخفى والعمدة فيه أيضاً هو الإجماع المحكي المتقدّم.
ومنها: دم نجس العين كالكلب والخنزير بل الكافر كما هو صريح عبارة
الصفحة 463
المتأخّرين، قال المحقّق في محكي المعتبر: «وألحق ـ أي بدم الحيض ـ بعض فقهاء قم دم الكلب والخنزير ولم يعطنا العلّة ولعلّه نظر إلى ملاقاته جسدهما ونجاسة جسدهما غير معفو عنها» ولكن قال الحلّي في محكي السرائر: «وقد ذكر بعض أصحابنا المتأخّرين من الأعاجم وهو الراوندي المكنّى بالقطب انّ دم الكلب والخنزير لا تجوز الصلاة في قليله وكثيره مثل دم الحيض قال لأنّه دم نجس العين وهذا خطأ عظيم وزلل فاحش لأنّ هذا هدم وخرق لإجماع أصحابنا».
أقول: إنّ دم نجس العين فيه جهات:
إحداها: النجاسة من حيث كونه من أفراد طبيعة الدم.
ثانيتها: النجاسة من جهة كونه دماً لنجس العين فانّ اتصافه بوصف الجزئية له يوجب ثبوت النجاسة له واحتمال ثبوت النجاسة العرضية له بسبب الملاقاة للاجزاء ممّا لا مجال له أصلاً، وإن كانت عبارة المحقّق المتقدّمة ظاهرة في ذلك فانّ ملاك النجاسة فيه وفي سائر الأجزاء وهي الجزئية لنجس العين واحد ولا يعقل بعد الاشتراك في ملاك النجاسة عروض النجاسة العرضية لأجل الملاقاة مع سائر الأجزاء كما لا يخفى.
ثالثتها: كونه من أجزاء غير المأكول فإنّ كلّ نجس العين غير مأكول اللحم لعدم إمكان اجتماع نجاستها مع المأكولية وبعد ثبوت هذه الجهات الثلاث يقع الكلام في انّ المستفاد من أدلّة العفو عمّا دون الدرهم من الدم هل هو العفو عن المانعية من حيث مطلق الدم أو العفو عن المانعية مطلقاً ولو كان فيه جهات اُخر من المانعية؟ يظهر من المصباح الثاني حيث إنّه أورد على نفسه بما حاصله: انّ دم نجس العين تصادق عليه عنوانان من النجاسة وأخبار العفو انّما دلّت على العفو عنه من حيث كونه دماً لا من حيث كونه جزء من كلب أو كافر فوجوب إزالته من هذه الجهة لا
الصفحة 464
ينافي ثبوت العفو عنه من حيث كونه دماً كما انّه لا منافاة بين ثبوت العفو عن دم من حيث كونه دماً ووجوب إزالته من حيث ملاقاته للبول وكون العنوانين متلازمين لا يصلح مانعاً. فأجاب: بأنّه لا يخفى على المتأمّل في أخبار العفو انّها ليست مسوقة لبيان قضية طبيعية نظير قولنا : الغنم حلال والخنزير حرام حتّى يكون موضوعها صرف الطبيعة من حيث هي مع قطع النظر عن عوارضها المشخصة بحيث لا ينافيها خروج بعض الأفراد بواسطة تلك العوارض بل هي مسوقة لبيان الحكم الفعلي الثابت لمصاديق الدم وجزئياته المتحقّقة في الخارج. وكيف لا مع انّ رواية أبي بصير التي استثنى فيها دم الحيض ظاهرها إرادة العموم وكذا أغلب الأخبار المتقدّمة الدالّة على العفو صدرت جواباً عن السؤال عن حكم من رأى بثوبه دماً فكيف يجوز في مثل الفرض تنزيل إطلاق الجواب من غير استفصال على إرادة بيان حكم الطبيعة من حيث هي دون افرادها مع انّ السائل انّما سأل عن حكم الدم الخارجي الذي أصاب الثوب لا عن الحكم المتعلّق بطبيعة الدم من حيث هي فأخبار الباب بظاهرها تعمّ دم الكلب والكافر أيضاً.
ويرد عليه انّه بعد تسليم ثبوت النجاسة من جهتين والالتزام باجتماع نجاستين لا يبقى مجال لما ذكر من عموم أخبار الباب وشمولها لدم نجس العين ضرورة انّ الموضوع للحكم بالعفو في أدلّته هي نفس الدم من دون فرق بين رواية أبي بصير الظاهرة في العموم وبين غيرها الذي يستفاد العموم فيه من ترك الاستفصال فانّ الموضوع في جميعها هو عنوان الدم ولا يعقل أن يكون لشيء آخر فيه مدخلية لعدم حكاية عنوان الدم عن ذلك الشيء بوجه فإذا قيل يجب إكرام كل عالم يكون المتعلّق هو إكرام كلّ من كان ثابتاً له وصف العالمية ولا يعقل بلحاظ نفس هذا الدليل مدخلية شيء آخر زائد كالعدالة ـ مثلاً ـ في الوجوب لعدم حكاية عنوان
الصفحة 465
العالم عن ذلك الشيء أصلاً فاخبار العفو موضوعها الدم، وامّا دم نجس العين فإضافته إليها لها مدخلية في ثبوت عنوان آخر من النجاسة وهي الجزئية لها فكيف يعقل أن تكون أخبار العفو ناظرة إليها أيضاً مع انّ الالتزام بكون بصاق الكلب مانعاً ودمه القليل غير مانع ممّا لا سبيل إليه هذا ولو قطعنا النظر عن ذلك فعنوان غير المأكولية الذي هو من العناوين المانعة في قبال النجاسة لا يصير في المقام معفوّاً عنه باخبار العفو عن الدم بوجه كما لا يخفى. ولكن هذا العنوان لا يكون مانعاً بنحو الإطلاق لعدم كون أجزاء الآدمي مانعاً من هذه الجهة كما سيأتي البحث فيه في محلّه فالمشرك واليهودي والنصراني بناء على نجاستهم خارجون عن هذا العنوان بخلاف الكلب والخنزير فالظاهر بمقتضى ما ذكر عدم العفو في دم نجس العين.
ومنها: دم الميتة، والكلام فيه هو الكلام في دم نجس العين.
الجهة الرابعة: في انّه ـ بعد وضوح كون المراد من الدرهم في الأخبار الواردة في هذا الباب هو سعته دون وزنه ـ ماذا يكون حدّه ومقدار سعته.
فنقول: المحكي عن المتقدّمين تفسير الدرهم المعفوّ عمّا دونه بالوافي وعن الانتصار والخلاف وبعض آخر الإجماع عليه. وعن كثير تفسيره بالبغلي وعن بعض الأساطين انّ كون الدرهم هو البغلي من العمليات والإجماعات عليه لا تحصر والظاهر رجوع التفسيرين إلى أمر واحد لخلوّ الروايات عن هذا الوصف وادّعاء كلا الطرفين الإجماع على مدعاه مع عدم إشعار كلامهما بثبوت الخلاف في هذه الجهة وشهادة المحقّقين الباحثين في النقود الإسلامية بكون الوافي هو البغلي كما انّه له اسماً ثالثاً وهو السود، فدعوى انّه من البعيد جدّاً أن يعبّروا عن شيء واحد بتعبيرين مختلفين كما في كلام بعض الأعلام في شرح العروة ساقطة جدّاً.
الصفحة 466
ثمّ إنّه يظهر من المقريزي انّ أوّل من أمر بضرب السكّة في الإسلام هو عمر بن الخطّاب قال في محكيه: «قد تقدّم ما فرضه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في نقود الجاهلية من الزكاة وانّه أقرّ النقود في الإسلام على ما كانت عليه فلمّا استخلف أبو بكر عمل في ذلك بسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يغيّر منه شيء حتّى إذا استخلف أبو حفص عمر بن الخطّاب وفتح الله على يديه مصر والشام والعراق لم يعرض لشيء من النقود بل أقرّها على حالها فلمّا كانت سنة ثماني عشرة من الهجرة وهي السنة الثامنة (السادسة ـ ظ) من خلافته أتته الوفود منهم وفد البصرة وفيهم الأحنف بن قيس فكلّم عمر بن الخطاب في مصالح أهل البصرة فبعث معقل بن يسار فاحتفر نهر معقل الذي قيل فيه: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. ووضع الجريب والدرهمين في الشهر فضرب ـ حينئذ ـ الدراهم على نقش الكسروية وشكلها بأعيانها غير انّه زاد في بعضها: الحمد لله، وفي بعضها: محمّد رسول الله، وفي بعضها: لا إله إلاّ الله وحده، وفي آخر مدّة عمر وزن كل عشرة دراهم ستّة مثاقيل.
ونقل الدميري عن كتاب «المحاسن والمساوئ» انّه كانت الدراهم في ذلك الوقت يعني قبل سكة عبد الملك انّما هي الكسروية التي يقال لها اليوم يعني أيّام خلافة هارون الرشيد «البغلية» لأنّ رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية «نوش خر» أي كُلْ هنيئاً.
ورأس البغل اسم يهودي، قال صاحب البرهان القاطع في مادة «درخش» درخش اسم بيت نار بناه رأس اليهود المسمّى برأس البغل وهو الذي ضرب بعد ذلك الدراهم البغلية فسمّيت باسمه وذلك في مدينة ارمنية التي بنى فيها ذلك البيت، بيت النار وهو الذي بنى شيراز أيضاً.
الصفحة 467
وفي مجمع البحرين بعد بيان وجه التسمية بمثل ما ذكر بناء على سكون الغين وتخفيف اللام قال: وقيل هو بفتح الغين وتشديد الياء أي بغليّ بلدة قريبة من الحلّة وهي بلدة مشهورة بالعراق والأوّل أشهر على ما ذكره بعض العارفين».
وهذا الوجه هو الذي ذكره الحلّي في السرائر، قال في محكيها: «البغلي نسبة إلى مدينة قديمة يقال لها: بغل قريبة من بابل بينهما قرب من فرسخ متّصلة ببلد الجامعين تجد فيها الحفرة والغسّالون والنباشون دراهم واسعة شاهدت درهماً من تلك الدراهم، وهذه الدراهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام والمعتاد يقرب سعته من أخمص الراحة.
وقال فيها أيضاً: «انّه قال لي بعض من عاصرته ممّن له علم بأخبار الناس والأنساب انّ المدينة والدراهم منسوبة إلى ابن أبي بغل رجل من كبار أهل الكوفة اتّخذ هذا الموضع قديماً وضرب هذا الدرهم الواسع فنسب إليه الدرهم البغلي وهذا غير صحيح لأنّ الدراهم البغلية كانت في زمن رسول الله وقبل الكوفة».
وقد عرفت انّها كانت تسمّى قبل الإسلام بكسروية وحدث لها اسم البغلية في الإسلام وظهر انّ الأشهر في وجه التسمية هو الأمر الأوّل وحكى السيّد العلم الحجّة صاحب أعيان الشيعة فيها والمحدِّث الخبير المرحوم الشيخ عباس ا لقمّي في هدية الأحباب عن الفاضل المتتبّع الشيخ حيدر قلي خان المعروف بسردار الكابلي في رسالة «غاية التعديل في الأوزان والمكائيل» قال: رأيت في دائرة المعارف البريطانية انّ أوّل من أمر بضرب السكة الإسلامية هو الخليفة عليّ بالبصرة سنة 40 من الهجرة الموافقة لسنة 660 مسيحية ثمّ أكمل الأمر بعده عبد الملك الخليفة سنة 76 من الهجرة الموافقة لسنة 695 مسيحية بل في محكي تاريخ جودت پاشا انّ أقدم سكّة رآها في خلافة عليّ كرّم الله وجهه كان مكتوباً على دائرتها التي ضربت
الصفحة 468
في سنة 37 للهجرة بالخط الكوفي: «ولي الله» وانّه رأى على دائرة السكّة التي ضربت في سنة 38 و 39: «بسم الله ربّي».
فعلى هذا أوّل من أحدث السكة الإسلامية وأبطل النقوش الكسروية والقيصرية المصنوعة بيد رجل يهودي معاند لشوكة الإسلام والمسلمين وساع في تخريبه وهدمه وفي ترويج النار وبيتها، هو علي بن أبي طالب أمير المؤمنين المتفطّن لذلك الماحي لآثار الشرك وشعائر المجوسية وما شابهها ولا يترقّب منه إلاّ ذلك ولا يتوقّع من غيره ذلك.
وكيف كان فالظاهر انّ الدرهم الشائع في زمن صدور الروايات الواردة عن الصادقين (عليهما السلام) هو الدرهم المعروف بالبغلي ولابدّ من حمل الأخبار عليه والظاهر اختلاف الدراهم المذكورة من حيث السعة والضيق لأنّها كانت مضروبة بالآلات اليدوية وهي تقتضي وجود الاختلاف لعدم الانضباط لها ومع وجود الاختلاف لا يمكن أن تكون العبرة بأجمعها لأنّ الورود مورد التحديد ينافي ذلك لاستلزامه الحكم بالعفو عن مقدار خاص باعتبار انّه أقلّ من بعض الدراهم وعدم الحكم بالعفو عنه باعتبار انّه مساو لبعض الدراهم الاُخر أو زائد عليه فلا محيص من أن يكون الملاك بعضها.
وامّا ما أفاده في المصباح من انّه لو كانت الدراهم المتعارف مختلفة المقدار فالعبرة في عدم العفو بالزيادة عن جنسها على الإطلاق فلا تضرّ زيادته عن بعض المصاديق دون بعض وهذا بخلاف ما لو قلنا بالعفو عمّا دون الدرهم لا مقداره فانّه يعتبر على هذا التقدير نقصانه عن مطلقه فلا يجدي نقصانه عن بعض مصاديقه.
ففيه انّه لا فرق بين التقديرين بعدما عرفت من انّ الورود مورد التحديد يقتضي أن يكون الملاك درهماً خاصّاً وليس المقام من قبيل المطلق الصالح للانطباق
الصفحة 469
على كل فرد لامتناع التحديد بما يصلح للانطباق على القليل والكثير مع انّه على تقديره أيضاً لا فرق بينهما لأنّ الزيادة عن بعض المصاديق تصدق عليه الزيادة قطعاً لكون ذلك البعض تمام الجنس وكمال الطبيعة كما انّ النقصان عنه يوجب صدق النقيصة كذلك وهذا كما في الوجود والعدم فانّه كما انّ وجود الطبيعة يتحقّق بوجود الفرد كذلك عدمها أيضاً يتحقّق بعدم الفرد ولا مانع من اجتماع الوجود والعدم المضافين إلى الطبيعة في آن واحد كاجتماع الطول والقصر وسائر الاُمور المتضادّة في آن واحد وعليه فصدق الزيادة لا يتوقّف على الزيادة على تمام الأفراد وكذلك النقيصة ولا مانع من اجتماع الأمرين في آن واحد.
فالإنصاف انّه لابدّ من أن يكون الملاك مقداراً معيّناً وسعةً مخصوصة، وقد عرفت انّ الملحوظ في هذا الباب هي السعة والمساحة دون الوزن فالبحث من الجهة الراجعة إلى الوزن لا يجدي في المقام أصلاً، وامّا من جهة السعة فقد اختلفت الكلمات في تحديدها فعن بعضهم تحديده بأخمص الراحة وهو ما انخفض من باطن الكفّ وربّما نسب ذلك إلى أكثر عبارات الأصحاب. وعن الاسكافي تقدير الدرهم بعقد الابهام الأعلى من غير تعرّض لكونه البغلي أو غيره، وعن بعض آخر تقديره بعقد الوسطى، وعن رابع تحديدها بعقد السبابة وهو أقل التحديدات. وعن روض الجنان بعد نقل التقديرات الثلاثة الاُولى قال: إنّه لا تناقض بين التقديرات لجواز اختلاف افراد الدراهم من الضارب الواحد كما هو الواقع واخبار كلّ واحد عن فرد رآه.
والظاهر انّ مستند التقدير الأوّل ما تقدّم من الحلّي من شهادته بكون الدرهم الذي شاهده يقرب من سعة أخمص الراحة ويمكن الإيراد عليه ـ مضافاً إلى انّ الشهادة يعتبر فيها التعدّد ولا تكون من قبيل النقل والرواية وإن اُجيب عن ذلك
الصفحة 470
بأنّ قوله يفيد الوثوق بل القطع إذ لا يحتمل في حقّه التعمّد في الكذب أو الخطأ في الحسّ. وإلى انّ مقتضى شهادته كونه يقرب من تلك السعة لا انّه نفس تلك السعة والفرق بين الأمرين واضح ـ بأنّ ما أفاده انّما هو بالإضافة إلى الدرهم البغلي بالمعنى الذي فسّره به وهو كونه منسوباً إلى مدينة بغل، وامّا بالمعنى الذي هو الظاهر والمعروف من إضافته إلى ضاربه وهو رأس البغل الذي ضربه بأمر عمر بن الخطّاب فلا دلالة لكلامه على كون سعته ذلك.
وقد أورد على سائر التحديدات بأنّها ليست تحديداً للدرهم البغلي الوافي لعدم التقييد به فيها وانّما تكون تحديداً للدرهم المعفو عن مقداره ويدفع هذا الإيراد وضوح كون الدرهم المعفو عن مقداره هو الدرهم الشائع في زمن صدور الأخبار ولا يكون إلاّ الدرهم البغلي الوافي فلا حاجة إلى التصريح به.
وكيف كان فمع وجود هذا الاختلاف في تحديد الدرهم ولعلّ منشأه ما عرفت من الروض من جواز اختلاف أفراد الدرهم من الضارب الواحد لابدّ من الاقتصار على الأقلّ وهو سعة عقد السبابة كما أفاده في المتن لأنّ مقتضى القاعدة فيما إذا كان المخصّص مجملاً بحسب المفهوم ودار أمر بين الأقلّ والأكثر الاقتصار على الأقلّ لأنّه المتيقّن من التخصيص والرجوع في الزائد عليه إلى العام.
الصفحة 471
مسألة 2 ـ لو كان الدم متفرّقاً في الثياب والبدن لوحظ التقدير على فرض اجتماعه فيدور العفو مداره ولكن الأقوى العفو عن شبه النضح مطلقاً ولو تفشّى الدم من أحد جانبي الثوب إلى الآخر فهو دم واحد وإن كان الاحتياط في الثوب الغليظ لا ينبغي تركه، وامّا مثل الظهارة والبطانة والملفوف من طيات عديدة ونحو ذلك فهو متعدّد 1.
1 ـ الكلام في هذه المسألة يقع في فرضين:
الأوّل: ما لو كان الدم متفرّقاً في الثياب أو البدن أو فيهما فهل الملاك لحاظ التقدير على فرض اجتماعه ودوران العفو مداره بمعنى انّه لو كان على تقدير الاجتماع غير متحقّق فيه عنوان العفو وهو الأقل لا يكون معفوّاً عنه وإلاّ فيكون كذلك أو انّ الملاك لحاظ التقدير في كلّ من الوجودات المتفرّقة وانّ اللازم ملاحظة كل وجود على حياله واستقلاله فإن كان أقلّ من الدرهم فهو معفو عنه وإن بلغ مجموع الوجودات أضعاف الدراهم وقد وقع الخلاف بينهم في ذلك فذهب إلى كل واحد من الاحتمالين جماعة ونسب قول كلّ إلى المشهور واللازم ملاحظة الروايات الواردة في الباب فنقول:
منها: صحيحة ابن أبي يعفور في حديث قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثمّ يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي ثمّ يذكر بعدما صلّى، أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته إلاّ أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة. وقد استدلّ بهذه الرواية كلا الطرفين ويجري فيها احتمالات:
أحدها: أن يكون «مقدار الدرهم» خبراً ليكون واسمه الضمير الراجع إلى نقط الدم ويكون «مجتمعاً» حالاً وهذا يجري فيه احتمالان أيضاً أحدهما أن يكون حالاً من الدم الذي هو الاسم، فالمعنى ـ حينئذ ـ إلاّ أن يكون نقط الدم مجتمعاً مقدار
الصفحة 472
الدرهم فيغسله... فيصير مفاده انّ البلوغ إلى مقدار الدرهم لابدّ وأن يلاحظ على الاجتماع فالملاك مجموع الوجودات لا كلّ وجود على حياله واستقلاله، وامّا ما أفاده بعض الأعلام من انّه على هذا التقدير تكون النتيجة عدم العبرة بالعدم المتفرّق وإن كان بقدر الدرهم لأنّ المعنى ـ حينئذ ـ إلاّ أن يكون الدم مقدار الدرهم حال كونه ـ أي الدم ـ مجتمعاً ـ فيرد عليه انّ ما هو اسم ليكون ليس هو الدم بل نقط الدم المفروض في السؤال ووصف الاجتماع له لابدّ وأن يكون تقديرياً بمعنى انّ النقط على فرض الاجتماع يكون مقدار الدرهم فالموصوف لهذا الوصف انّما هو النقط لا الدم. ومن الواضح انّه لا يعقل وصف الاجتماع للنقط إلاّ على سبيل التقدير والفرض.
والاحتمال الثاني أن يكون حالاً من الخبر وهو مقدار الدرهم والمعنى إلاّ أن يكون نقط الدم مقدار الدرهم حال كون مقداره مجتمعاً ونتيجته هي نتيجة الاحتمال الأوّل من دون فرق.
ثانيها: انّ «مقدار الدرهم» خبراً ليكون كما في الاحتمال الأوّل ويكون «مجتمعاً» خبراً بعد خبر ويصير مفاد الجملة الاستثنائية ـ حينئذ ـ انّه يعتبر في وجوب الغسل ولزوم الإعادة أمران:
أحدهما: كون الدم مقدار الدرهم. ثانيهما: كونه مجتمعاً، فالدم المشتمل على هذين الأمرين لا يكون معفوّاً عنه ومع انتفاء أحد الأمرين بحيث لم يكن الدم مقدار الدرهم أو كان ولكن لم يكن مجتمعاً لا يترتّب عليه وجوب الغسل ولزوم الإعادة.
ثالثها: أن يكون مقدار الدرهم اسماً ليكون ومجتمعاً خبراً ومفاده ـ حينئذ ـ أيضاً مدخلية الاجتماع وعدم كفاية بلوغ المجموع كما لا يخفى.
الصفحة 473
ثمّ إنّ الظاهر والمتفاهم عند العرف من الرواية هو الاحتمال الأوّل وهو كون «مجتمعاً» حالاً من الضمير الراجع إلى نقط الدم الذي يكون اسماً له وقد عرفت انّ مقتضاها ـ حينئذ ـ لزوم لحاظ التقدير في فرض الاجتماع وانّ الدم على فرض الاجتماع إذا كان مقدار الدرهم لا يكون معفوّاً عنه.
والوجه في ظهور هذا الاحتمال انّه بناءً على الاحتمال الثالث يلزم عدم الارتباط بين الجملة الاستثنائية وبين ما قبلها فانّ اجتماع مقدار الدرهم المتحقّق مع غير مورد السؤال كيف يكون له مدخلية في حكم مورده كما انّه بناء على الاحتمال الثاني يلزم أن يكون الاستثناء منقطعاً لأنّ المفروض في مورد السؤال هو النقط الذي يكون ملازماً مع التفرق وعدم الاجتماع فالحمل على الاجتماع الفعلي لا يكاد ينطبق مع مورد السؤال وهذا بخلاف المعنى الذي استظهرناه فانّ فرض النقط والتوصيف بالاجتماع دليل على كون المراد هو الاجتماع التقديري وانّه لابدّ في العفو عدم بلوغ الدم مقدار الدرهم ولو في فرض الاجتماع. فانقدح انّ مفاد الرواية مطابق لما في المتن.
ومنها: مرسلة جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) انّهما قالا : لا بأس أن يصلّي الرجل في الثوب وفيه الدم متفرّقاً شبه النضح وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعاً قدر الدرهم.
ويجري فيه الاحتمالان الأوّلان من الاحتمالات الثلاثة الجارية في الرواية المتقدّمة والظاهر أيضاً هو الاحتمال الأوّل لعين ما ذكر هناك.
ومنها: صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ قال: لا وإن كثر فلا بأس أيضاً بشبهه من الرعاف ينضحه ولا يغسله.
الصفحة 474
وربّما يقال بانّها تدلّ على انّ الرعاف إذا كان نقطاً وشبيهاً بدم البراغيث لا يمنع ذلك من الصلاة مطلقاً سواء كان النقط على تقدير الاجتماع بمقدار الدرهم أم لم يكن كذلك فمقتضاها انّ الدم المتفرّق لا يكون مانعاً ولو كان على تقدير الاجتماع بمقدار الدرهم.
واُجيب عنه بأنّ الرواية غير شاملة لما إذا كان النقط على تقدير الاجتماع بمقدار الدرهم لأنّ دم البرغوث لا يكون غالباً بمقدار الدرهم ولو مجتمعاً فمشابهه لابدّ أن يكون كذلك وإلاّ يخرج عن المشابهة فتدبّر.
أقول: يخطر بالبال في الرواية احتمال آخر وهو أن يكون قوله (عليه السلام) : «ينضحه» أمراً استحبابياً بالنضح أي نضح الماء لا تتمة للرعاف وجزء للمخبر به ويؤيّده عطف قوله (عليه السلام) : ولا يغسله فانّ الظاهر كونه عطفاً على ينضحه لا على قوله (عليه السلام): فلا بأس، وعلى ما ذكرنا فالظاهر انّ قوله: بشبهه، كانت بشبهة بمعنى الاشتباه لا المشابهة ويؤيّده الأمر بالنضح في الروايات الكثيرة في موارد اشتباه النجاسة وعدم ثبوتها. وعلى ما ذكرنا فالرواية أجنبية عن المقام.
ثمّ إنّه على تقدير كون معنى الرواية ما ذكروه وكان مقتضى إطلاقها العفو عن الدم المتفرّق ولو بلغ مقدار الدرهم في فرض الاجتماع يتحقّق التعارض بينها وبين صحيحة محمد بن مسلم، قال: قلت له: الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة؟ قال: إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلِّ في غيره وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم وما كان أقلّ من ذلك فليس بشيء رأيته قبل أو لم تره، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله وصلّيت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صلّيت فيه.
لأنّ مقتضى إطلاقها وجوب الإعادة إذا كان الدم أكثر من مقدار الدرهم من
الصفحة 475
دون فرق بين ما إذا كان مجتمعاً أو متفرّقاً ففي الدم المتفرّق يتحقّق التعارض ومقتضى القاعدة بعد التساقط الرجوع إلى عموم دليل مانعية الدم أو النجاسة في الصلاة.
هذا ويمكن أن يقال بأنّ رواية الحلبي لا تكون ناظرة إلى الدم المتفرّق الذي هو محلّ البحث في المقام بل إلى خصوص ما كان بصورة النضح وشبهه فتدلّ على العفو عنه مطلقاً ولعلّه منشأ ما قوّاه في المتن من ثبوت العفو عن الدم شبه النضح مطلقاً من دون فرق بين ما إذا كان في فرض الاجتماع بمقدار الدرهم أو لم يكن ويؤيّده انّه في هذه الصورة يكون التقدير في كمال الصعوبة كما لا يخفى.
بقي في هذا الفرض شيء وهو انّه لو كان للمصلّي أزيد من ثوب واحد كما هو المتداول في هذه الأزمنة وكان الدم في واحد من الثوبين ـ مثلاً ـ أقلّ من مقدار الدرهم ولكن كان المجموع بقدره أو أزيد فهل يكون معفوّاً عنه أو لا؟ فيه وجهان اختار أوّلهما بعض الأعلام نظراً إلى انّ الأخبار الواردة في المسألة انّما يكون موردها الثوب ومقتضاها انّ الدم الكائن فيه إذا كان بمقدار الدرهم فما زاد ـ أو متفرّقاً ـ تجب إزالته وإذا كان أقلّ من ذلك فهو معفوّ عنه فإذا فرضنا وجوده في كلّ واحد من الثوبين فهو موضوع مستقلّ للعفو وتمشله أدلّته إذ يصدق انّه ثوب والدم فيه أقلّ من الدرهم وكذلك الحال في الثوب الثاني والثالث وهكذا ولا دليل على انّ مجموع ما في الثوبين إذا كان بقدر الدرهم يكون مانعاً عن الصلاة.
والظاهر هو الوجه الثاني وذلك لأنّ المستفاد من دليل العفو انّ هذا المقدار من النجاسة الدمية الكائنة في لباس المصلّي أو ثوبه لا يمنع عن صلاته فالملاك هو تحقّق هذا المقدار فيما له إضافة إلى المصلّي ويوجب الاسناد إليه كما سنتعرّض له في بحث اعتبار الطهارة في لباس المصلّي وبدنه من انّ المستفاد من بعض الروايات الصحيحة
الصفحة 476
انّ الطهارة المعتبرة هو طهارة المصلّي وإنّ طهارة الثوب من مراتب طهارته وعليه فدليل العفو مفاده عدم مانعية هذا المقدار فيما له إضافة إلى المصلّي من البدن أو اللباس واللازم ملاحظته بالنسبة إلى المجموع، والعجب منه حيث يصرّح في ذيل كلامه بالفرق بين البدن والثوب وبين الثياب المتعدّدة مع انّه من الواضح عدم الفرق من هذه الجهة أصلاً خصوصاً بعد عدم تعرّض دليل العفو لحكم البدن واستفادة حكمه منه بمعونة إلغاء الخصوصية وعدم ثبوتها على ما هو المتفاهم عند العرف فتدبّر.
الفرض الثاني: فيما لو تفشّى الدم من أحد جانبي الثوب إلى الآخر وقد حكم فيه في المتن بأنّه دم واحد كما هو المنسوب إلى الأشهر وعن الذكرى والبيان انّه اثنان وليس المراد من كونه اثنين هو تعدّد الوجود لعدم كون الدم من الاعراض بل من الجواهر ولها أبعاد ثلاثة من الطول والعرض والعمق فالتفشي لا يوجب تعدّد الوجوب وثبوت الدمين بل المراد انّ ظاهر النصوص ملاحظة السطح الظاهر المرئي فإذا تفشّى كان له سطحان ظاهران، فاللازم ملاحظة المجموع في مقام التقدير ولكن هذا الاستظهار في غير محلّه خصوصاً بالإضافة إلى الثوب الرقيق. نعم يمكن أن يقال في الثوب الغليظ بثبوت التعدّد العرفي وكون كلّ واحد من الدمين مستقلاًّ فاللازم ـ حينئذ ـ ملاحظة المجموع ولكن الظاهر انّ الغلظة أيضاً لا يوجب التعدّد وإن كان الاحتياط فيه ممّا لا ينبغي تركه. نعم في مثل الظهارة والبطانة الظاهر هو التعدّد كما انّه إذا تفشى من أحد الثوبين ووصل إلى الثوب الآخر فانّه لا إشكال في ثبوت التعدّد وقد عرفت من بعض الأعلام انّ دم كل ثوب يكون الملحوظ في التقدير لا دم مجموع الأثواب ومرّ ما فيه أيضاً.
الصفحة 477
مسألة 3 ـ لو اشتبه الدم الذي يكون أقلّ من الدرهم انّه من المستثنيات كالدماء الثلاثة أو لا حكم بالعفو عنه حتّى يعلم انّه منها، ولو بان بعد ذلك انّه منها فهو من الجاهل بالنجاسة على إشكال وان لا يخلو من وجه. ولو علم انّه من غيرها وشكّ في انّه أقلّ من الدراهم أم لا فالأقوى العفو عنه إلاّ إذا كان مسبوقاً بكونه أكثر من مقدار العفو وشكّ في صيرورته بمقداره 1.
1 ـ في هذه المسألة فرعان:
الفرع الأوّل: ما إذا علم كون الدم أقلّ من الدرهم وشكّ في انّه من المستثنيات كالدماء الثلاثة أم لا وقد حكم فيه في المتن بالعفو ما دام كونه مشكوكاً وحكى ذلك عن الدروس والموجز وشرحه وغيرها بل قيل إنّ عليه بناء الفقهاء وما يمكن أن يكون وجهاً له أحد اُمور:
الأوّل: انّه من موارد التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص فانّ عموم دليل العفو عمّا دون الدرهم قد خرج منه مثل دم الحيض والدم المفروض يحتمل أن يكون دم الحيض فيتمسّك مع الشكّ بالعموم وهذا الأمر وإن كان يحتمل أن يكون مستنداً لمثل صاحب العروة ممّن يجوز التمسّك المزبور إلاّ انّه حيث كان مقتضى التحقيق عدم الجواز فلا يصلح للاستناد إليه.
الثاني: ما اختاره المحقّق الهمداني (قدس سره) من استصحاب جواز الصلاة في الثوب لأنّ الصلاة فيه قبل أن يطرأ عليه الدم المردّد كانت جائزة يقيناً ومقتضى الاستصحاب بقاء الثوب على ما كان عليه من جواز الصلاة فيه.
وأورد عليه بأنّ جواز الصلاة في الثوب قبل أن يطرء عليه الدم المردّد انّما كان مستنداً إلى طهارته وهي قد ارتفعت لتنجّس الثوب على الفرض ولا حالة سابقة لجواز الصلاة في الثوب المتنجّس حتّى تستصحبه.
الصفحة 478
ويدفعه انّ ارتفاع الطهارة لا يستلزم ارتفاع الجواز لاحتمال كونه دماً معفوّاً عنه ووصف الطهارة الزائل قطعاً لا يوجب الخلل في اتّحاد القضية المتيقّنة والمشكوكة المعتبر في جريان الاستصحاب فانّ هذا الثوب بعينه كانت الصلاة فيه جائزة والآن تكون مشكوكة فلا مانع من الاستصحاب.
نعم يمكن الإيراد عليه ـ بناءً على كون النجاسة مانعاً لا كون الطهارة شرطاًـ بأنّ الموضوع للحكم الشرعي وهي المانعية هو الدم وليس للدم المردّد في المقام حالة سابقة متيقّنة من جهة المانعية وعدمها واستصحاب عدم وجود المانع في الثوب لا يثبت وصف عدم المانعية للدم كما لا يخفى.
الثالث: ما اختاره القائلون بجريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية نظراً إلى انّ الدم قبل أن يتحقّق في الخارج كان معدوماً يقيناً وغير متّصف بالحيض كذلك وبعد تبدّله إلى الوجود وزوال العدم عنه يشكّ في عروض الاتّصاف بالحيض له فيبنى على عدم تحقّقه بالاستصحاب لأنّ الاتّصاف أمر حادث مسبوق بالعدم والأصل بقائه بحاله فهو دم أقل من مقدار الدرهم بالوجدان وليس بدم الحيض بالاستصحاب فبذلك يحرز دخوله تحت العموم.
والجواب: ما حقّقناه في محلّه من عدم جريان هذا النحو من الاستصحاب وانّه لا يجوز إبقاء القضية السالبة المتيقّنة المنتفية بانتفاء الموضوع واستفادة السالبة بانتفاء المحمول المشكوكة كما في استصحاب عدم قرشية المرأة وعدم قابلية الحيوان للتذكية ونحوهما فهذا الأمر غير صحيح.
الرابع: إنّ هذا المقام من صغريات مسألة اللباس المشكوك فيه وقد تكلّمنا فيه مفصّلاً واخترنا الجواز لجريان أصالة البراءة العقلية بل النقلية وأصالة الحلية على بعض التقريبات وهذا هو العمدة في وجه الجواز في المقام ومعه لا يبقى مجال لقاعدة
الصفحة 479
الاشتغال بوجه.
ثمّ إنّه لو بان بعد ذلك انّ الدم المردّد كان غير معفوّ عنه وانّه دم الحيض ـ مثلاًـ فيمكن أن يقال بأنّه من موارد الجهل بالنجاسة وانّه لا يجب عليه الإعادة والقضاء نظراً إلى انّ الجهل بالنجاسة انّما يوجب الاجزاء من جهة مانعيتها بمعنى انّ مانعية النجاسة انّما هي مع العلم بالنجاسة وإحرازها، وامّا في صورة الجهل فلا يكون هناك مانعية من هذه الجهة والمفروض في المقام احتمال كون الدم معفوّاً عنه غير مانع من تحقّق الصلاة ويمكن أن يقال بالعدم نظراً إلى انّ المجهول في المقام هو كونه معفوّاً عنه بعد الفراغ عن أصل النجاسة وإحرازها ولا دليل على إجراء حكم الجهل بالنجاسة على الجهل بالمعفوية كما لا يخفى.
الفرع الثاني: لو شكّ في كون الدم غير المستثنى أقلّ من الدرهم حتّى يكون معفوّاً عنه أم لا حتّى لا يكون كذلك ويجري فيه الوجه الرابع من الوجوه المتقدّمة في الفرع السابق وكان ذلك الوجه هي العمدة في الحكم بالعفو هناك وهكذا في المقام.
ولكنّه ربّما يقال ـ والقائل هو بعض الأعلام ـ بأنّ العفو وعدمه في مورد الكلام يبتنيان على ملاحظة انّ الدم المانع هل يكون مقيّداً بعنوان وجودي وهو كونه بمقدار الدرهم فما زاد أو بعنوان عدمي وهو عدم كونه أقل من الدرهم، فعلى الأوّل يجري استصحاب عدم كون الدم بقدر الدرهم فما زاد لجريان استصحاب العدم الأزلي فهو دم بالوجدان وليس بمقدار الدرهم بالاستصحاب فيدخل بذلك تحت العموم ويعفى عنه في الصلاة.
وعلى الثاني مقتضى الاستصحاب الجاري في العدم الأزلي عدم اتّصافه بالقلّة فيدخل تحت العموم ويكون مانعاً تجب إزالته والأخبار الواردة في المقام وإن كانت
الصفحة 480
مختلفة ـ حيث إنّه يستفاد من بعضها انّ المانع هو الدم بمقدار الدرهم فما زاد كما في رواية الجعفي «وإن كان أكثر من قدر الدرهم» ويستفاد من بعضها الآخر انّ المانع هو الدم الذي لا يكون أقلّ من قدر الدرهم كما في رواية محمد بن مسلم «وما كان أقلّ من ذل فليس بشيء» ورواية الجعفي في قوله «إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة ـ إلاّ انّ المستفاد من كلماتهم هو الأخير حيث ذكروا: انّ ما دون الدرهم يعفى عنه، وعليه فيكون المانع هو الدم المقيّد بأن لا يكون أقلّ من ذلك وهو وصف عدمي وهذا غير بعيد.
ولكن قد عرفت عدم جريان الاستصحاب في العدم الأزلي بهذه الكيفية لعدم كون الاتصاف ـ وجودياً كان أو عدمياً ـ له حالة سابقة متيقّنة لأنّ ثبوت شيء ـ وجودي أو عدمي ـ لشيء فرع ثبوت المثبت له والسالبة المنتفية بانتفاء الموضوع تغاير المنتفية بانتفاء المحمول ولا مجال لإبقاء الاُولى وإثبات الثانية بوجه.
ثمّ إنّه أفاد في «المستمسك» انّه على تقدير جريان هذا الاستصحاب لا مجال له في المقام لأنّ زيادة الدم ليست من قبيل عوارض الوجود المسبوقة بالعدم الأزلي بل هي منتزعة من نفس تكثّر حصص الماهية فهذه الكثرة كثرة قبل وجودها وبعده لا انّها قبل الوجود لا كثرة وبعد الوجود صارت كثرة.
أقول لا تنبغي المناقشة في انّ الكثرة وصف إضافي يحتاج إلى موضوع وقبل وجود الماهية وتحقّقها لا يكون هناك طرف الإضافة حتّى يتحقّق هذا الوصف ولا مجال لدعوى كونها من لوازم الماهية كالزوجية بالإضافة إلى الأربعة فيمكن أن يقال على تقدير جريان الاستصحاب المذكور بأنّه قبل الوجود لا وجود ولا كثرة وبعد الوجود تكون الكثرة مشكوكة يستصحب عدمها.
وكيف كان فقد عرفت انّ مقتضى التحقيق في هذا الفرع أيضاً هو العفو إلاّ أن
الصفحة 481
يكون الدم مسبوقاً بالزيادة المتيقّنة فتستصحب زيادتها ويحكم بثبوت المانع وعدم العفو كما اُفيد في المتن.
|