(الصفحة241)
مسأ لـة 8: الـظاهر عدم اعتبار كون الـطلب في وقت الـصلاة، فلو طلب قبل الـوقت و لم يجد الـماء لايحتاج إلى تجديده بعده، و كذا إذا طلب في الـوقت لصلاة فلم يجد يكفي لغيرها من الـصلوات.
نعم، لو احتمل تجديد الـماء بعد ذلك الـطلب مع وجود أمارة ظنّيـة عليه، بل مطلقاً على الأحوط، يجب تجديده1 .
ا لـثا لـث: ما لـو اشتبه الـحال، و فيه إشكال ينشأ من وجوب الـطلب في حقّه في ظرفه، لاحتمال وجود الـماء في محلّ الـطلب، و عدم كون اعتقاد الـضيق بمجرّده رافعاً له، فكانت وظيفته الـطلب ثمّ الـصلاة، و من أنّه لايجب عليه الـطلب فعلاً; لعدم الـقدرة عليه من جهـة الـضيق أو غيره، و لامزيـة لإحدى الـصلاتين على الاُخرى; لأنّ كلاًّ منهما وقعت مع الـطهارة الـترابيـة، و حيث إنّه لاترجيح لأحد الـمنشأين فا لـلازم رعايـة الاحتياط بالإعادة أو الـقضاء، فتدبّر.
في عدم اعتبار كون الـطلب في وقت الـصلاة
(1) قال الـعلاّمـة (قدس سره) في محكيّ «ا لـمنتهى»: «لو طلب قبل الـوقت لم يعتدّ به و وجبت إعادته، لأنّه طلب قبل الـمخاطبـة با لـتيمّم فلم يسقط فرضه، كا لـشفيع لو طلب قبل الـبيع».
إلى أن قال: «لايقال: إذا كان قد طلب قبل الـوقت، و دخل الـوقت و لم يتجدّد حدوث ماء، كان طلبه عبثاً. لأنّا نقول: إنّما يتحقّق أنّه لم يحدث ماء إذا كان ناظراً إلى مواضع الـطلب، و لم يتجدّد فيها شيء، و هذا يجزئه بعد دخول الـوقت; لأنّ هذا هو الـطلب، و أمّا إذا غاب عنه جاز أن يتجدّد فيها حدوث الـماء، فاحتاج إلى الـطلب».
و ظاهر الـذيل هو الـفرق بين الـطلب قبل الـوقت و بعده، و وجوب الـتجديد مع
(الصفحة242)
احتمال الـعثور في الأوّل و عدمه في الـثاني.
و يظهر ذلك من الـمحقّق في الـمعتبر و الـشهيد أيضاً، و استدلّ عليه في «ا لـجواهر».
تارة: بظاهر ما دلّ على وجوبه من الإجماعات و غيرها، و هو لايتحقّق إلاّ بعد الـوقت.
و اُخرى: بأنّ صدق عدم الـوجدان يتوقّف على الـطلب في الـوقت.
و ثا لـثـة: بظهور الآيـة في إرادة عدم الـوجدان عند إرادة الـتيمّم للصلاة و الـقيام إليها.
و رابعـة: بصحيحـة زرارة الـمتقدّمـة الـدالّـة على أنّه إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب مادام في الـوقت ...
و خامسـة: بأنّه لو اكتفى به قبل الـوقت لصحّ الاكتفاء به مرّة واحدة للأيّام الـمتعدّدة، و هو معلوم الـبطلان.
و سادسـة: بأنّ الـمنساق إلى الـذهن من الأدلّـة إرادة الـطلب عند الـحاجـة إلى الـماء. ثمّ استشكل في الاستصحاب بأنّه لا يعارض ما ذكره من ظهور أدلّـة شرطيـة الـطلب في اعتبار أن يكون بعد الـوقت.
و أنت خبير بأنّ مقتضى أدلّته عدم الاكتفاء با لـطلب قبل الـوقت مطلقاً و لو لم يحتمل تجدّد الـماء بعد ذلك الـطلب، و إن كان الاقتصار على الاستصحاب في مقام بيان الـمعارضـة، و الاستشكال فيه ربّما يعيّن كون محلّ كلامه خصوص صورة احتمال تجدّد الـماء، و لايشمل صورة الـعلم باستمرار الـعدم الأوّل.
و كيف كان: فإن كان الـمراد عدم الاكتفاء با لـطلب قبل الـوقت مطلقاً:
(الصفحة243)
فيرد على دليله الأوّل: ما عرفت من أنّ وجوب الـطلب لايكون شرعياً بوجه، بل هو حكم عقلي، منشأه حفظ الـمطلوب الـمطلق، و تحصيل الـصلاة مع الـمائيـة، و لادليل على الـوجوب غير حكم الـعقل ولو فرض فهو إرشاد إليه، مع أنّ الـقدر الـمتيقّن من الإجماع هو وجوب الـطلب، و أمّا لزوم وقوعه في الـوقت فهو أمر زائد، لايعلم مدخليته في معقد الإجماع بوجه.
و على دليله الـثاني: أنّ توقّف عدم الـوجدان على الـطلب في الـوقت أوّل الـكلام، بل ممنوع; لأنّ الـظاهر كون الـمراد منه هو عدم الـوجدان في الـوقت، و هو لايتوقّف على الـطلب فيه، بل يمكن وقوعه قبله، ثمّ إحرازه في الـوقت با لـعلم باستمرار الـعدم الأوّل، أو بالاستصحاب، و لامانع لأن يكون الأصل محقّقاً لموضوع وجوب الـتيمّم و مشروعيته.
و دعوى: أنّ شرط الـتيمّم هو عدم وجدان الـماء، و هو صفـة اعتباريـة وجوديـة، و لايحرز بالاستصحاب لعدم حجّيـة الاُصول الـمثبتـة.
مدفوعـة: بما عرفت في بيان الـمراد من عدم الـوجدان الـمعلّق عليه شرعيـة الـتيمّم، من أنّه عبارة عن عدم الـماء الـذي يمكن عقلاً و شرعاً استعما لـه في الـطهارة، فإذا علم بعدم وجوده علم بتحقّقه، ولاوجه بعده للطلب، كما أنّه مع الـطلب و عدم الـوجدان يتحقّق الـموضوع، و في هذا الـفرض إذا كان الـطلب قبل الـوقت و لم يجد الـماء يستصحب عدم الـوجدان في الـوقت، و يتحقّق موضوع الـتيمّم.
و على دليله الـثا لـث: ما أوردناه على سابقه من إحراز عدم الـوجدان حين إرادة الـتيمّم و الـصلاة با لـعلم أو بالاستصحاب، مع أنّ لازمه عدم الاكتفاء با لـطلب في أوّل الـوقت إذا أراد الـتيمّم و الـصلاة في وسط الـوقت أو آخره، كما لايخفى.
(الصفحة244)
و على دليله الـرابع: ما ذكرناه سابقاً من أنّه لامحيص عن حمل الـصحيحـة على الاستحباب، جمعاً بينها و بين روايـة الـسكوني الـمتقدّمـة الـتي عمل بها الأصحاب قديماً و حديثاً.
و على دليله الـخامس: منع كون صحّـة الاكتفاء به مرّة واحدة للأيّام الـمتعدّدة معلوم الـبطلان بعد الـعلم أو جريان الاستصحاب، و إحراز عدم الـوجدان به في جميعها، و قد صرّح في الـمتن بالاكتفاء.
و على دليله الأخير: ما عرفت من عدم دلالـة الأدلّـة على وجوب الـطلب حتّى يكون الـمنساق إلى الـذهن منها هو إرادته عند الـحاجـة إلى الـماء، بل الـدليل هو حكم الـعقل، و لافرق بنظره بين الـطلب قبل الـوقت، و بعده أصلاً.
و إن كان الـمراد هو عدم الاكتفاء با لـطلب قبل الـوقت في خصوص ما إذا احتمل تجدّد الـماء و حدوثه في الـوقت، فإن لم يكن لاحتما لـه منشأ عقلائي، و لايكون معتدّاً به عندهم، فا لـظاهر عدم لزوم الـطلب في الـوقت; لجريان استصحاب عدم الـوجدان الـمحقّق لموضوع الـتيمّم و مشروعيته.
و إن كان لاحتما لـه منشأ كذلك، كما إذا نزل الـمطر بعد الـطلب، و احتمل اجتماع الـماء في محلّ الـطلب بقدر ما يكفيه لطهارته من الـوضوء أو الـغسل، فقد ذكر في «ا لـمستمسك» أنّ الـظاهر وجوب الـطلب ثانياً و إن وقع الأوّل في الـوقت; لظهور الـنصّ في أنّه يعتبر في صحّـة الـتيمّم و الـصلاة به بقاء الـمكلّف على الـحا لـة الـتي كان عليها.
و بعبارة اُخرى: ظاهر الـنصّ الـدال على اعتبار الـطلب في صحّـة الـتيمّم ظاهراً إنّما هو اعتبار نفس الـحا لـة الـتي تحصل للطا لـب بعد الـطلب، و هو الـيأس من
(الصفحة245)
ا لـقدرة على الـماء، لااعتبار نفس الـسعي و الـطلب، فإذا فرض زوال تلك الـحا لـة بحدوث ما يوجب رجاء الـقدرة عليه، وجب تحصيلها ثانياً.
و مرجع هذا الـكلام إلى عدم إعتبار الاستصحاب في الـمقام; لأنّه مع بقاء تلك الـحا لـة لاحاجـة إليه، و مع عدم بقائها لاتتحقّق بالاستصحاب كما هو ظاهر.
مع أنّك عرفت أيضاً: أنّ الـطلب لايكون معتبراً في صحّـة الـتيمّم، بحيث يكون وجوبه غيرياً، بل مفاد الآيـة تعليق الـمشروعيـة على عدم الـوجدان، و قد مرّ تفسير عدم الـوجدان، و أنّ الـمراد منه هو عدم الـماء الـذي يمكن عقلاً و شرعاً استعما لـه في الـطهارة، و أنّه يمكن إحرازه بالاستصحاب.
و على ما ذكرنا: فا لـحكم بوجوب تجديد الـطلب مع وجود أمارة ظنّيـة على حدوث الـماء، بل مطلقاً على الأحوط كما في الـمتن، إن كان منشأه عدم جريان الاستصحاب في الـمقام، فيرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لاوجه لعدم جريانه كما صرّح به في «ا لـرسا لـة» ـ أنّه لايبقى فرق حينئذ بين وجود الأمارة الـظنّيـة و عدمه، فا لـفرق بينهما با لـفتوى بوجوب الـتجديد في الأوّل و بالاحتياط به في الـثاني ـ كما هو ظاهره باعتبار تقديم الأحوط على الـحكم بوجوب الـتجديد، فتدبّر ـ غير ظاهر، إلاّ أن يكون الـمراد بالأمارة الـظنّيـة هو الأمارة الـمعتبرة شرعاً، كا لـبيّنـة و خبر الـواحد على مبناه، ولكنّه خلاف الـظاهر.
(الصفحة246)
مسأ لـة 9: إذا لم يكن عنده إلاّ ماء واحد يكفي الـطهارة، لاتجوز إراقته بعد دخول الوقت، ولو كان على وضوء، ولم يكن عنده ماء، لايجوز إبطاله. ولو عصى فأراق أو أبطل صحّ تيمّمه و صلاته، و إن كان الأحوط قضائها، بل عدم جواز الإراقة والإبطال قبل الوقت مع فقد الـماء حتّى في الـوقت لايخلو من قوّة1 .
(1) قد تقدّم الـبحث في هذه الـمسأ لـة في بعض الاُمور الـتي قدّمناها على الـورود في شرح فصل الـتيمّم، و ذكرنا هناك أنّ الـمطلوب الـمطلق هي الـصلاة مع الـطهارة الـمائيـة، و أنّ الانتقال إلى الـتيمّم إنّما هو في حال الاضطرار و الـعجز عن تحصيل الـمطلوب الـمطلق.
و ذكرنا أيضاً: أنّ الـصلاة مع الـترابيـة لاتفي بتمام ما عليه الـصلاة مع الـمائيـة من الـمصلحـة الـواجبـة الـرعايـة، و عليه فلايجوز الإبطال أو الإراقـة من دون فرق بين ما إذا دخل الـوقت، و ما إذا لم يدخل; لعدم كون الـمقدّمـة واجبـة من أجل الـتبعيـة، بل عدم كونها واجبـة شرعاً با لـمرّة; لأنّ وجوب الإتيان بها عقلي محض، ولا فرق في لزوم تحصيل الـمقدّمـة و حفظها بين الـوقت و قبله.
و لاينافي ما ذكرنا صحّـة الـتيمّم و الـصلاة على فرض الإبطال و الإراقـة، لأنّه على هذا الـفرض يتحقّق موضوع الـتيمّم و الـمشروعيـة، و قد مرّ أنّه لايختصّ عدم الـوجدان بما إذا لم يتحقّق هناك معصيـة، فا لـصحّـة في الـمقام بلامناقشـة.
ولكنّه وقع الإشكال و الـخلاف في الـقضاء و الإعادة، فعن الأكثر عدم الـوجوب با لـكلّيـة، و عن «ا لـمقنعـة» و «ا لـدروس» و «ا لـبيان» وجوب الإعادة.
ولكنّه ضعيف، لما سيأتي في الـمسأ لـة الآتيـة من الاجتزاء با لـصلاة مع الـتيمّم الـصحيح، للنصوص الـواردة، ولكنّ الاحتياط لاينبغي أن يترك خروجاً من خلاف من أوجب الإعادة.
(الصفحة247)
مسأ لـة 10: لو تمكّن من حفر الـبئر بلا حرج وجب على الأحوط1 .
و منها: الـخوف من الـوصول إليه من اللصّ، أو الـسبع، أو الـضياع، أو نحو ذلك ممّا يحصل معه خوف الـضرر على الـنفس، أو الـعرض، أو الـمال الـمعتدّ به، بشرط أن يكون الـخوف من منشأ يعتني به الـعقلاء.2
(1) و الـوجه في الـوجوب ما مرّ من تمكّنه من تحصيل الـصلاة مع الـطهارة الـمائيـة، الـتي هي الـمطلوب الـمطلق، الـوافي با لـمصلحـة الـكاملـة الـتي تجب رعايتها.
و بعبارة اُخرى: أنّه مع الـتمكّن من حفر الـبئر بلا حرج لايكون عنوان عدم وجدان الـماء محقّقاً بالإضافـة إليه; لأنّه يقدر على الـوصول إليه و إيجاده من غير حرج، كما هو الـمفروض.
و أمّا جعل الـوجوب أحوط من دون الـفتوى به جزماً; فلأ نّه يمكن أن يقال بانصراف الـدليل عن مثل ذلك، و أنّ الـقدرة على تحصيل الـماء كذلك لاينسبق إليها ذهن الـعرف، بل يكون مثل هذا الـمورد عندهم من مصاديق عدم الـوجدان، و يمكن أن يقال با لـفرق بينه، و بين ما إذا وهبه غيره بلا منّـة و لا ذلّـة، و إن جعلهما الـسيّد (قدس سره)في «ا لـعروة» في صفّ واحد، فتدبّر.
ا لـثاني: في الـخوف من الـوصول إلى الـماء
(2) هذا هو الـمسوّغ الـثاني للتيمّم، و كان ينبغي أن يجعل عنوان هذا الـمسوّغ عدم الـوصلـة إلى الـماء الـموجود ـ كما صنعه في «ا لـرسا لـة» ـ ليشمل ما إذا كان غير قادر على الـوصول إلى الـماء للتعذّر الـعقلي أو الـعادي، كما لو كان في بئر لايمكنه إخراجه و الـوصول إليه بوجه، أو كان في محلّ لايمكنه الـوصول إليه لكبر و نحوه، و منه
(الصفحة248)
عدم الـثمن لشرائه، و كذا يشمل ما إذا كان الـوصول إليه حرجياً، كما إذا كان في بئر يمكنه الـوصول إليه مع الـحرج و الـعسر، و قد جعل الـماتن دام ظلّه الأخير مسوّغاً مستقلاًّ، و سيأتي الـبحث فيه إن شاء اللّه تعا لـى.
و الـدليل على مسوّغيـة الأوّل واضح، ضرورة أنّه مع الـتعذّر ـ عقلاً أو عادة ـ عن الـوصول إلى الـماء، لايكاد يتحقّق إلاّ عنوان عدم الـوجدان الـمعلّق عليه مشروعيـة الـتيمّم; لأنّه ليس الـمراد به عدم وجود الـماء، بل عدم الـوصول إليه ولو كان موجوداً، كما هو الـمتفاهم منه عرفاً.
و أمّا مسوّغيـة الـخوف، فيدلّ عليها دليل نفي الـحرج.
ولكنّه ربّما يقال: إنّ الـظاهر من عدم مجعوليـة الـحرج في الـدين أنّ أحكام الـدين سهلـة غير حرجيـة، و أنّ الـحكم الـحرجي غير مجعول في الـشريعـة، و من الـواضح اختصاص ذلك بالأحكام الـمجعولـة، فإذا لزم من الـوضوء أو الـغسل أو نحوهما حرج، يكشف ذلك عن عدم كونه مجعولاً بالإضافـة إلى هذا الـحال با لـمرّة، و أمّا إذا كان الـحرج في الـمقدّمات فلا يشمله ما ينفي الـحرج من الأدلّـة; لأنّ الـمقدّمات ليست من الـدين و الـشريعـة، بل وجوبها عقلي لا شرعي و من باب الـتبعيـة، فما هو من الـدين كا لـوضوء في الـمقام لايكون حرجياً، و ما فيه الـحرج ليس مجعولاً شرعياً.
و الـجواب: أنّ الـمتفاهم من دليل نفي الـحرج بملاحظـة وروده في مقام الامتنان أنّه تعا لـى لم يجعل في الـدين تكليفاً موجباً للحرج، سواء كان إيجابه له بنفسه أو بمقدّماته أو بنتائجه، و يؤيّده روايـة عبدالأعلى الـمعروفـة، الـواردة في الـمسح على الـمرارة، نظراً إلى أنّ الـحرج ليس في مسح الإصبع برطوبـة الـيد، بل في مقدّماته من
(الصفحة249)
نزع الـخرقـة و رفع الـمرارة، فتدبّر.
هذا، مضافاً إلى إمكان استفادته من ذيل آيـة الـتيمّم، الـدالّ على بيان الـنكتـة في تشريعه في جميع موارده حتّى الـمسافر، مع أنّ من الـمعلوم أنّ حرجيّـة الـوضوء أو الـغسل بالإضافـة إلى الـمسافر لاتختصّ بما إذا لم يجد الـماء، بل تشمل ما إذا خاف عن الـوصول إليه للتخلّف عن الـرفقـة و غيره، فالاستدلال بدليل نفي الـحرج في الـمقام تامّ، و ربّما استدلّ لذلك بروايات:
منها: صحيحـة الـحلبي أنّه سأ لـه أباعبدا للّه (عليه السلام) عن الـرجل يمرّ با لـركيـة و ليس معه دلو.
قال: «ليس عليه أن يدخل الـركيـة، لأنّ ربّ الـماء هو ربّ الأرض، فليتيمّم».(1)
و مثلها روايـة الـحسين بن أبي ا لـعلاء.(2)
و منها: روايـة عبدا للّه بن أبي يعفور و عنبسـة بن مصعب جميعاً، عن أبي عبدا للّه(عليه السلام)قال: «إذا أتيت الـبئر و أنت جنب، فلم تجد دلواً و لا شيئاً تغرف به، فتيمّم با لـصعيد، فإنّ ربّ الـماء هو ربّ الـصعيد، و لاتقع في الـبئر، و لاتفسد على الـقوم مائهم».(3)
و قد نوقش في الأخيرة: بأنّ الـنهي عن الـدخول إنّما هو لإفساد الـماء الـمعدّ لشرب الـقوافل و الـمارّة، و تلك الآبار لايجوز إفسادها و الـدخول فيها; لعدم كونها كا لـمياه الـمباحـة، لأنّها إنّما حفرت لاستقاء الـمارّة لجميع حوائجهم الـتي عمدتها
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 3، الـحديث 1.
(2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 3، الـحديث 4.
(3)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 3، الـحديث 2.
(الصفحة250)
ا لـشرب منها، و عليه يمكن أن يكون الـوجه في الأوليين أيضاً ذلك، و إن كان لايلائمه الـتعبير بـ «على» في قوله: «ليس عليه أن يدخل الـركيـة».
ولكنّه يمكن الاستفادة منها أنّ أمر الـتيمّم يكون مبتنياً على الـتوسعـة و الـتسهيل، و لايتوقّف على الـعجز الـعقلي، بل يكفي في مشروعيته أدنى عذر، فتدبّر.
و منها: روايـة الـسكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام) أنّه سئل عن رجل يكون في وسط الـزحام يوم الـجمعـة أو يوم عرفـة، لايستطيع الـخروج من الـمسجد من كثرة الـناس.
قال: «يتيمّم و يصلّي معهم، و يعيد إذا انصرف».(1)
و منها: طائفـة من الـروايات الـواردة في الـطلب الـنافيـة لوجوبه، أو الـناهيـة عنه بالإضافـة إلى الـمسافر; معلّلاً بخوف الـتخلّف عن أصحابه و الـضلال و أكل الـسبع، أو دالاًّ على أنّه (عليه السلام) لايأمره أن يغرّر بنفسه فيعرض له لصّ أو سبع، و قد تقدّم نقل هذه الـطائفـة و جمعها في «ا لـوسائل» في الـباب الـثاني من أبواب الـتيمّم.
و يتـحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّه لامجال للإشكال فيما إذا تحقّق الـخوف بالإضافـة إلى الـنفس; لدلالـة دليل نفي الـحرج مضافاً إلى الـطائفـة الأخيرة كما هو واضح.
و أمّا فيما إذا تحقّق الـخوف على الـعرض، فإنّهم و إن لم ينصّوا في معاقد إجماعاتهم الـمحكيـة ككثير من الأصحاب في فتاويهم عليه، إلاّ أنّه لاتنبغي الـمناقشـة فيه; لأنّه من أوضح موارد الـحرج، فإنّ تحمّل هتك الـعرض ربّما يكون أشقّ من تلف الـمال، بل ربّما يهون دونه بذل الـنفوس.
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 3، الـحديث 3.
(الصفحة251)
و أمّا فيما إذا تحقّق الـخوف على الـمال، ففيما إذا حصل الـحرج فا لـدليل على الانتقال إلى الـتيمّم هو ما يدلّ على عدم مجعوليـة الـحرج في الـدين، و فيما إذا لم يحصل، بل يكون في الـوصول إلى الـماء خوف مجرّد ضرر ما لـي، فقد استدلّ على سقوط الـطهارة الـمائيـة بدليل نفي الـضرر، و بالإجماع الـمحكيّ عن جمع من الـكتب الـفقهيـة، و با لـطائفـة من الـروايات الـتي اُشير إليها، الـواردة في الـنهي عن الـطلب أو نفي وجوبه، و باستقراء أخبار الـتيمّم الـكاشف عن الـسقوط بأقلّ من ذلك.
ولكن قد حقّق في محلّه: أنّ دليل نفي الـضرر لايكون كدليل نفي الـحرج بصدد رفع الأحكام الـضرريـة، بل هو حكم سياسي سلطاني صادر من الـرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بما هو سلطان على الـناس و زعيم با لـنسبـة إليهم، لا بما هو واسطـة في تبليغ أحكام اللّه تعا لـى و مبيّن للتكا لـيف الـمجعولـة الإلهيـة، نعم لو كان إفادته با لـكتاب أو بلسان الـرسول، لابما هو سلطان و حاكم، لكان كدليل نفي الـحرج ناظراً إلى الأحكام، و مبنياً لرفع الـضرريـة منها.
و الإجماع الـمحكيّ في مثل هذه الـمسأ لـة ـ الـتي يجري فيها دليل نفي الـحرج، أو الـضرر باعتقادهم، و ورد فيها روايات ـ لا أصا لـة له أصلاً لو سلّم حجّيته بنفسه.
و الـطائفـة الـمذكورة و إن كان بعضها مشتملاً على ذكر اللصّ، إلاّ أنّه يحتمل قويّاً أن يكون الـنظر فيه إلى اللصّ الـمتعرّض للنفس، لا الـمتعرّض للمال فقط، و على تقديره فلا دلالـة لها على خوف الـضرر الـما لـي من غير ناحيـة اللصّ، و الـفرق بينهما أنّ لأخذ اللصّ الـمال و الـتسلّط عليه مهانـة و ذلّـة، تأبى عنها الـنفوس غا لـباً، و لأجله يكون تحمّله حرجياً، بخلاف مجرّد ترتّب الـضرر الـما لـي من غير هذه الـناحيـة.
(الصفحة252)
و منها: خوف الـضرر من استعما لـه لمرض، أو رمد، أو ورم، أو جرح، أو قرح، أو نحو ذلك ممّا يتضرّر معه باستعمال الـماء على وجه لايلحق با لـجبيرة و ما في حكمها، و لافرق بين الـخوف من حصوله أو الـخوف من زيادته و بطوء برئه، و بين شدّة الألم باستعما لـه على وجه لايتحمّل للبرد أو غيره1 .
و الـتمسّك بالاستقراء في غير محلّه، بعد ورود وجوب شراء ماء الـوضوء با لـغاً ما بلغ، كما مرّ، و يأتي إن شاء اللّه تعا لـى.
و قد انقدح بذلك: أنّه لادليل على سقوط الـمائيـة بمجرّد خوف الـضرر الـما لـي إلاّ إذا كان بقاء وجوبها حرجياً، فتدبّر جيّداً.
ا لـثا لـث: في خوف الـضرر من استعمال الـماء
(1) و الـدليل على مشروعيـة الـتيمّم في هذه الـموارد اُمور:
أحدها: الآيـة الـكريمـة الـواردة في الـتيمّم، الـدالّـة على مشروعيته بالإضافـة إلى الـمريض، فإنّ إطلاق عنوان «ا لـمرض» و إن كان يشمل الـمرض الـذي لايضرّه استعمال الـماء، إلاّ أنّ الـمناسبـة بين الـحكم و الـموضوع، و كذا ذكر الـمرض عقيب إيجاب الـطهارة الـمائيـة، توجب الانصراف إلى خصوص ما كان استعمال الـماء مضرّاً به و منافياً له.
كما أنّه يستفاد من هذه الـمناسبـة مشروعيـة الـتيمّم في مثل الـقرح و الـجرح، ممّا لايعدّ مرضاً عرفاً إذا كان استعمال الـماء مضرّاً به، فالآيه بلحاظ اشتما لـها على ذكر الـمرض، و مناسبـة الـحكم و الـموضوع الـمذكورة، من أدلّـة الـمقام.
ثانيها: الآيـة الـكريمـة بلحاظ اشتما لـها على الـتعليل بقوله تعا لـى: (ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج ...) نظراً إلى لزوم الـحرج من وجوب الـطهارة الـمائيـة
(الصفحة253)
في الـموارد الـمذكورة، و الآيـة بهذا اللحاظ تدلّ على مشروعيـة الـتيمّم حتّى فيما لم يكن مرضاً بوجه، بل كان مثل الـبرد الـذي لايتحمّل.
ثا لـثها: الـروايات الـواردة الـمستفيضـة لو لم تكن متواترة:
منها: صحيحـة محمّد بن سكّين، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال: قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابـة و هو مجدور، فغسّلوه فمات.
قال: «قتلوه ألاّ سأ لـوا، ألاّ يمّموه؟! إنّ شفاء الـحيّ الـسؤال».(1)
و منها: صحيحـة محمّد بن مسلم قال: سأ لـت أباجعفر (عليه السلام) عن الـرجل يكون به الـقرح و الـجراحـة يجنب.
قال: «لابأس بأن لايغتسل، يتيمّم».(2)
و منها: صحيحـة أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن الـرضا (عليه السلام) في الـرجل تصيبه الـجنابـة، و به قروح أو جروح، أو يكون يخاف على نفسه من الـبرد.
فقال: «لايغتسل و يتيمّم».(3)
و مثلها صحيحـة داود بن سرحان، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام).(4)
و منها: مرسلـة ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال: «يؤمّم الـمجدور و الـكسير إذا أصابتهما الـجنابـة».(5)
و غير ذلك من الـروايات الـواردة، الـدالّـة على الانتقال إلى التيمّم في مورد
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 1.
(2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 5.
(3)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 7.
(4)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 8.
(5)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 10.
(الصفحة254)
خوف الـضرر من استعمال الـماء.
لكن في مقابلها روايات تدلّ على خلاف ذلك، كصحيحـة سليمان بن خا لـد و أبي بصير، و عبدا للّه بن سليمان جميعاً عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) أنّه سأل عن رجل كان في أرض باردة، يتخوّف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت من الـغسل، كيف يصنع؟
قال: «يغتسل و إن أصابه ما أصابه».
قال: و ذكر أنّه كان وجعاً شديد الـوجع، فأصابته جنابـة و هو في مكان بارد، و كانت ليلـة شديدة الـريح باردة «فدعوت الـغلمـة فقلت لهم: احملوني فاغسلوني، فقا لـوا: إنّا نخاف عليك، فقلت لهم: ليس بدّ، فحملوني و وضعوني على خشبات، ثمّ صبّوا عليّ الـماء فغسلوني».(1)
و صحيحـة محمّد بن مسلم قال: سأ لـت أباعبدا للّه (عليه السلام) عن رجل تصيبه الـجنابـة في أرض باردة، و لايجد الـماء، و عسى أن يكون الـماء جامداً.
فقال: «يغتسل على ما كان».
حدّثه رجل أنّه فعل ذلك فمرض شهراً من الـبرد.
فقال: «اغتسل على ما كان، فإنّه لابدّ من الـغسل».
و ذكر أبوعبدا للّه (عليه السلام) أنّه اضطرّ إليه و هو مريض، فأتوة به مسخّناً، فاغتسل و قال: «لابدّ من الـغسل».(2)
و قد يجمع بين الـصحيحتين و الـطائفـة الـمتقدّمـة بحملهما على الـجنابـة الاختياريـة، و حمل تلك الـطائفـة على الاحتلام، و اختاره صاحب «ا لـوسائل» حيث
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 17، الـحديث 3.
(2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 17، الـحديث 4.
(الصفحة255)
جعل عنوان الـباب الـسابع عشر وجوب تحمّل الـمشقّـة الـشديدة في الـغسل لمن تعمّد الـجنابـة دون من احتلم، و عدم جواز الـتيمّم للمتعمّد حينئذ، و ربّما يستشهد لهذا الـجمع بمرفوعـة علي بن أحمد، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال: سأ لـته عن مجدور أصابته جنابـة.
قال: «إن كان أجنب هو فليغتسل، و إن كان احتلم فليتيمّم».(1)
و مرفوعـة إبراهيم بن هاشم قال: «إن أجنب فعليه أن يغتسل على ما كان منه، و إن احتلم تيمّم».(2)
و قد حكي عن «ا لـخلاف» دعوى إجماع الـفرقـة على وجوب الـغسل على من أجنب اختياراً، و عن الـمفيد و الـصدوق اختياره.
و يرد على هذا الـجمع: أنّ مرفوعـة ابن هاشم لاتكون متعرّضـة لنقل الـحكم عن الإمام (عليه السلام)، و لايبعد أن يكون فتواه و منشأها تخيّل اقتضاء الـجمع بين الـروايات لذلك.
و أمّا مرفوعـة علي بن أحمد فهي لاتكون شاهدة للجمع، بعد عدم حجّيتها في نفسها للرفع و الـجها لـة، مع أنّ الـتعبير بإصابـة الـجنابـة في أكثر روايات تلك الـطائفـة، و كذا في الـصحيحتين، لايبعّد دعوى كونه ظاهراً في الـجنابـة غير الاختياريـة، فإنّ الـتعبير الـشايع فيها هو مثل «اجنب» كما في الـمرفوعـة، فكيف يمكن الـتفكيك بينهما و حملهما على الاختياريـة دونها؟
و دعوى أنّ قرينـة تنزّه الإمام (عليه السلام) عن الاحتلام دليل على كون الـمراد بإصابـة
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 17، الـحديث 1.
(2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 17، الـحديث 2.
(الصفحة256)
ا لـجنابـة الـمذكورة هو الـجنابـة الاختياريـة، مدفوعـة ـ مضافاً إلى أنّ هذه الـقرينـة لاتقتضي إلاّ كون الـمراد بها ذلك في خصوص الـروايـة الـمشتملـة عليه، لا في جميع الـموارد ولو كانت خا لـيـة عن هذه الـقرينـة ـ بأنّها لاتنفع الـجمع الـمذكور بعد اشتراك الـطائفتين في الـتعبير بالإصابـة، كما عرفت.
و أمّا دعوى «ا لـخلاف» فمع عدم حجّيتها في نفسها مندفعـة بدعوى الـعلاّمـة في «ا لـمنتهى» الإجماع على خلافها، قال في محكيّه: «لو أجنب مختاراً و خشي الـبرد تيمّم عندنا». و في «ا لـجواهر»: «ا لـمشهور بين الأصحاب نقلاً و تحصيلاً عدم الـفرق بين متعمّد الـجنابـة و غيره».
هذا كلّه مضافاً إلى ما أفاده الـماتن دام ظلّه في «ا لـرسا لـة» من منافاة ما ذكر للكتاب وا لـسنّـة، و إباء أدلّـة نفي الـحرج من الـتقييد، و مخا لـفته لسهولـة الـملّـة و سماحتها، و مخا لـفـة بعض مراتبه للعقل كخوف تلف الـنفس، قال: «و لهذا خصّه بعضهم بما إذا لم يخف منه» زاعماً لكونه جمعاً بين الأخبار، و بين مثل صحيحـة عبدا للّه بن سنان أنّه سأل أباعبدا للّه (عليه السلام) عن الـرجل تصيبه الـجنابـة في الليلـة الـباردة، فيخاف على نفسه الـتلف إن اغتسل.
فقال: «يتيمّم و يصلّي، فإذا أمن الـبرد اغتسل و أعاد الـصلاة».(1)
و كيف كان: فهذا الـجمع ضعيف غير مقبول، و لاتساعده الـعقول، و لايمكن تأييده با لـمنقول.
و قد جمع بينهما في «ا لـمصباح» بوجه آخر، قال ما ملخّصه: «يمكن حملهما ـ أي الـصحيحتين ـ على الاستحباب فيما هو الـغا لـب من موردهما، فإنّ الـغا لـب أنّ
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 16، الـحديث 1.
(الصفحة257)
ا لـخوف على الـنفس بمرض شديد، أو تلف من الـغسل في أرض باردة، عند صحّـة الـمزاج و اعتدا لـه كما هو منصرف الـسؤال; إنّما ينشأ من احتمال موهوم في الـغايـة، حيث إنّ الـمظنون فيه الـتحفّظ و الـسلامـة بشرط أن يتعقّبه الـتحفّظ من الـبرد بإكثار الـثياب و الـتحمّي، بل الـغا لـب في مثل الـفرض الأمن إلاّ من أمراض يسيرة من زكام و نحوه، و يفصح عن ذلك ما لووقع قهراً في الـماء فخرج و تحفّظ.
و الـحاصل: أنّ الـغا لـب أنّه لايترتّب على الـغسل كذلك إلاّ الـمشقّـة الـرافعـة للتكليف، و أمّا الـخوف من الـتلف أو الـمرض الـذي يجب الـتحرّز عنه، فلايكون غا لـباً إلاّ على سبيل الاحتمال الـموهوم الـذي لايؤثّر في حرمـة الـعمل، و لامانع من تنزيل الـصحيحتين على مثل الـفرض، و حملهما على الاستحباب، و لايعارضهما عمومات نفي الـحرج و الـصحاح الـمتقدّمـة; لأنّ الـعمومات لايفهم منها إلاّ الـرخصـة، و الـصحاح أيضاً كذلك، لورودها في مقام توهّم الـوجوب».
و يرد عليه: أنّ دعوى كون الاحتمال في مورد الـصحيحتين موهوماً في غايـة الـضعف، و لايساعدها الـتأمّل فيه، و كيف يكون كذلك؟! مع أنّه ذكر الإمام (عليه السلام) في صحيحـة عبدا للّه بن سليمان أنّه كان وجعاً شديد الـوجع، و كان الـمكان بارداً و الليلـة شديدة الـريح باردة، بحيث صار ذلك موجباً لخوف الـغلمان عليه، الـظاهر في الـخوف على نفسه، و لم ينكر في الـجواب ذلك حتّى يقال إنّ الـملاك هو خوف الـمكلّف لاغيره، بل قرّرهم و قال: «ليس بدّ» مع أنّ مورد الـسؤال فيه هو إصابـة الـعنت من الـغسل، و الـعنت بمعنى الـمشقّـة الـشديدة الـتي ربّما توجب الـهلاكـة، و الـجواب دالّ على وجوب الاغتسال و إن أصابه ما أصابه.
و كذا صحيحـة محمّد بن مسلم واردة في مورد ثبوت الـبرودة، بحيث صار الـماء
(الصفحة258)
جامداً، و الـجواب فيها دالّ على وجوب الاغتسال و إن كان موجباً للمرض شهراً، و الأمراض الـيسيرة ربّما لاتكون مرضاً بنظر الـعرف; لقلّـة زمانه و عوارضه فضلاً; عن أن يطول شهراً.
و با لـجملـة: حمل الـروايتين على كون موردهما صورة موهوميـة الاحتمال أسوء من طرحهما و الإعراض عنهما و ردّ علمها إلى أهله، مع أنّ الـحمل على الاستحباب لايلائم لحنهما بوجه، فإنّه كيف يمكن حمل قوله (عليه السلام): «يغتسل و إن أصابه ما أصابه» على الاستحباب؟! و كذا الـتعبيرات الاُخر الـواقعـة في هذه الـروايـة و الـروايـة الاُخرى، فا لـجمع با لـحمل على الاستحباب غير صحيح.
و الإنصاف: أنّه لامحيص من الـطرح و الإعراض ولو لأجل الـمعارضـة و الـمخا لـفـة للمشهور، بل مع الـكتاب و الـسنّـة، بل و الـموافقـة للعامّـة كما حكي ذلك عن أصحاب الـرأي و أحمد في إحدى الـروايتين.
بقي الـكلام في الـشين الـذي ادّعى عدم الـخلاف في جواز الـتيمّم معه، بل ادّعى الإجماع عليه ظاهراً، بل صريحاً.
و أنّه هل الـمراد به بعض الأمراض الـجلديـة من قبيل الـجرب و الـسوداء؟
أو الـخشونـة الـتي تعلوا الـبشرة، و تشوّه الـخلقـة، أو توجب انشقاق الـجلد و خروج الـدم؟
فعلى الأوّل: لامجال للإشكال في صحّـة الـتيمّم معه; لأنّه من الأمراض الـتي يضرّها استعمال الـماء، فيدلّ على حكمه الآيـة بلحاظ ذكر الـمريض، و بلحاظ اشتما لـها على الـتعليل بنفي الـحرج.
و على الـثانى: يمكن الـمناقشـة فيه; لعدم الـدليل عليه، و عدم دلالـة دليل نفي
(الصفحة259)
ا لـحرج على حكمه مطلقاً، و معاقد الإجماعات و إن كان أكثرها مطلقـة إلاّ أنّها لاتكون حجّـة في مثل الـمقام، مضافاً إلى ثبوت الـقدر الـمتيقّن، خصوصاً مع ما حكي عن موضع من «ا لـمنتهى» و جماعـة من الـمتأخّرين من تقييده با لـفاحش، و عن جماعـة اُخرى تقييده بما لايتحمّل، و عن «ا لـكفايـة» أنّه نقل بعضهم الاتّفاق على أنّ الـشين إذا لم يغيّر الـخلقـة و يشوّهها لايشرع معه الـتيمّم.
حول الـحرج الـمذكور في الـمقام
ثمّ إنّه يظهر من تقييد بعضهم بما لايتحمّل عادة، أنّ الـحرج عبارة عن الـمشقّـة الـتي لاتتحمّل كذلك، و أهل اللغه يظهر منهم الاختلاف في معنى الـحرج، و أنّ الـمراد به هل هو مطلق الـضيق كما يظهر من كثير من كتبهم؟ أو أنّه ضيق خاصّ، و هو أضيق الـضيق كما عبّر به بعضهم؟ و في كلام الـشيخ علي بن إبراهيم: «ا لـحرج الـذي لامدخل له، و الـضيق ما يكون له مدخل».
لكنّ الـمستفاد من الـروايات الـواردة في الـموارد الـمختلفـة تفسيره بمطلق الـضيق صريحاً، أو يظهر منها ذلك، كما أنّه يظهر من بعضها أنّه ليس الـمراد با لـضيق ما لايتحمّل، بل مطلق الـمشقّـة و الـكلفـة، ففي صحيحـة زرارة الـمعروفـة الـطويلـة الـتي نقلها الـمشايخ الـثلاثـة، بعد الـجواب عن سؤال زرارة: من أين علمت و قلت إنّ الـمسح ببعض الـرأس؟
قال في آخرها: ثمّ قال: «ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج، و الـحرج الـضيق».(1)
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـوضوء، الـباب 23، الـحديث 1.
(الصفحة260)
و في موثّقـة أبي بصير الـواردة في باب الـمياه قال: قلت لأبي عبدا للّه (عليه السلام): إنّا نسافر فربّما بلينا با لـغدير من الـمطر، إلى أن قال: «اخرج الـماء بيدك ثمّ توضّأ، فإنّ الـدين ليس بمضيق، فإنّ اللّه يقول: (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الـدِّيْنِ مِنْ حَرَج).(1)
و يظهر من روايـة عبدالأعلى الـمعروفـة ـ الـواردة في الـمسح على الـمرارة ـ أوسعيـة الأمر ممّا قيل، فإنّ رفع الـمرارة و الـمسح على الـبشرة ليس ممّا لايتحمّل عادة، بل غايته أنّه مشقّه و كلفـة.
مضافاً إلى أنّ لسان الآيات الـشريفـة الـواردة في مقام الامتنان في الـموارد الـمختلفـة ـ ا لـمعبّرة بتعبيرات متعدّدة ـ لسان عدم جعل مطلق الـضيق، كقوله تعا لـى في ذيل آيـة الـصوم: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لايُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)،(2)
و قوله تعا لـى: (رَبَّنا وَ لاتَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا).(3)
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـماء الـمطلق، الـباب 9، الـحديث 14.
(2)
البقرة / 185.
(3)
البقرة / 286.
|