(الصفحة281)
أنّه علّل في بعض الأخبار لزوم ترجيح سائر الـواجبات و الـمحرّمات على الـطهارة الـمائيـة، بأنّ اللّه تعا لـى جعل للماء بدلاً، و الـظاهر عدم وجود هذا الـتعليل بهذه الـكيفيـة، و لعلّه أراد الـروايات الـتي استفدنا منها أنّ الانتقال يتحقّق بأدنى عذر، و يتوقّف على ثبوت مجرّد الـمحذور.
ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا: ثبوت الانتقال في جميع الـموارد الـمذكورة، ولكنّ مقتضى الاحتياط صرف الـماء أوّلاً في الـمعارض، ثمّ الـتيمّم; ليتحقّق عدم الـوجدان الـحقيقي أيضاً.
(الصفحة282)
مسأ لـة 11: لافرق في الـعطش الـذي يسوغ معه الـتيمّم بين الـمؤدّي إلى الـهلاك، أو الـمرض، أو الـمشقّـة الـشديدة الـتي لاتتحمّل و إن أمن من ضرره.
كما لافرق فيما يؤدّي إلى الـهلاك بين ما يخاف على نفسه، أو على غيره، آدمياً كان أو غيره، مملوكاً كان أو غيره، ممّا يجب حفظه عن الـهلاك، بل لايبعد الـتعدّي إلى من لايجوز قتله، و إن لايجب حفظه كا لـذمّي.
نعم، الـظاهر عدم الـتعدّي إلى مايجوز قتله بأيّ حيلـة، كا لـمؤذيات من الـحيوانات، و من يكون مهدور الـدم من الآدمي، كا لـحربي، و الـمرتدّ عن فطرة، و نحوهما.
و لو أمكن رفع عطشه بما يحرم تناوله، كا لـخمر و الـنجس، و عنده ماء طاهر يجب حفظه لعطشه، و يتيمّم لصلاته، لأنّ وجود الـمحرّم كا لـعدم1 .
في تفصيل مسوّغيـة الـخوف من الـعطش
(1) قد تقدّم الـكلام في هذه الـمسأ لـة في مسوّغيـة الـخوف من الـعطش باستعمال الـماء، نعم يظهر حكم الـفرع الأخير منها، و هو ما لو أمكن رفع عطشه بما يحرم تناوله، ممّا ذكرناه آنفاً من أنّ الـمستفاد من الـروايات أنّ ثبوت أيّ محذور شرعي يوجب الانتقال إلى الـتيمّم، فلايجب صرف الـماء في الـطهارة الـمائيـة حتّى يضطرّ إلى رفع الـعطش بما يحرم تناوله، و الـترديد الـذي يظهر من «ا لـمدارك» إنّما هو لعدم ثبوت حرمـة شرب الـنجس عنده، و إن كان مخا لـفاً للإجماع ظاهراً.
(الصفحة283)
مسأ لـة 12: لو كان متمكّناً من الـصلاة مع الـطهارة الـمائيـة، فأخّر حتّى ضاق الـوقت عن الـوضوء و الـغسل، تيمّم و صلّى و صحّت صلاته و إن أثم با لـتأخير، و الأحوط احتياطاً شديداً قضائها أيضاً1 .
في الـتأخير عمداً حتّى ضاق الـوقت
(1) قد تقدّم الـبحث في هذه الـمسأ لـة في الـمسأ لـة الـخامسـة الـمتعرّضـة لما إذا ترك الـطلب حتّى ضاق الـوقت، و ذكرنا أنّه لامحيص عن الـحكم بالانتقال إلى الـتيمّم و إن أثم با لـتأخير من جهـة ترك الـمطلوب الـمطلق، الـذي تجب رعايته مهما أمكن; لاشتما لـه على الـمصلحـة الـكاملـة الـتي لايفي بها الـمطلوب الـمقيّد، لكن حيث إنّه يحتمل انصراف أدلّـة مشروعيـة الـتيمّم عن صورة الـتقصير، خصوصاً مع أنّ أصل الـمشروعيـة عند الـضيق مورد لإنكار الـبعض كما تقدّم، فالأحوط احتياطاً شديداً هو الـقضاء مع الـمائيـة بعد الـوقت أيضاً.
(الصفحة284)
مسأ لـة 13: لو شكّ في مقدار ما بقي من الـوقت، فتردّد بين ضيقه حتّى يتيمّم، أو سعته حتّى يتوضّأ أو يغتسل، يجب عليه الـتيمّم، و كذا لو علم مقدار ما بقي ولو تقريباً و شكّ في كفايته للطهارة الـمائيـة، يتيمّم و يصلّي1 .
لو شكّ بين ضيق وسعـة الـوقت
(1) هذه الـمسأ لـة متعرّضـة لفرعين، و أوجب في الـمتن الـتيمّم في كليهما، و قد صرّح في «ا لـعروة» با لـتفصيل بينهما، و وجوب الـوضوء أو الـغسل في الـفرع الأوّل و الـتيمّم في الـثاني، قائلاً بأنّ الـفرق بين الـصورتين أنّ في الاُولى يحتمل سعـة الـوقت، و في الـثانيـة يعلم ضيقه فيصدق خوف الـفوت فيها دون الاُولى، و عن بعض الـمحشّين أنّ الأقرب عدم الانتقال في الـثانيـة أيضاً.
و كيف كان: فقد استدلّ لوجوب الـطهارة الـمائيـة في الأوّل بأمرين:
أحدهما: استصحاب بقاء الـوقت إلى ما بعد الـصلاة و الـطهارة الـمائيـة; لأنّه لامانع من جريان الاستصحاب في الأزمنـة الـمستقبلـة، و لايكون جريانه في الـمقام مبتنياً على الـقول بالاُصول الـمثبتـة; نظراً إلى أنّ استصحاب بقاء الـوقت لايصلح لإثبات كون الـزمان الـخارجي وقتاً، نظير استصحاب بقاء الـكرّ في الـحوض لإثبات كرّيـة الـماء الـموجود في الـحوض، و ذلك ـ أي وجه عدم الابتناء ـ أنّ الـصلاة في الـوقت لايراد منه كون الـوقت بنفسه ظرفاً للصلاة; إذ لاظرفيـة بينهما، بل الـمراد منه وقوع الـصلاة في الأمد الـموهوم الـذي يكون ظرفاً للوقت كما يكون ظرفاً لها، نظير الـصلاة في الـطهارة، فكما يجري استصحاب الـطهارة لإثبات كون الـصلاة في حا لـها، كذلك يجري استصحاب الـوقت لإثبات كونها في الـوقت.
ثانيهما: قاعدة الـشكّ في الـقدرة الـمقتضيـة للاحتياط; لأنّ مرجع الـشكّ في
(الصفحة285)
ضيق الـوقت إلى الـشكّ في الـقدرة على الـصلاة با لـطهارة الـمائيـة، و هو مجرى أصا لـة الاحتياط.
و يرد على كلا الأمرين: أنّه لامجال لهما مع وجود دلالـة لفظيـة و هى صحيحـة زرارة الـمتقدّمـة الـواردة في الـطلب، و أنّه إذا خاف فوات الـوقت ينتقل إلى الـتيمّم، و قد مرّ أنّ الـخوف أمر وجداني لايرتفع بالاستصحاب ضرورة، و لا دلالـة لدليل الاستصحاب و لا لغيره على تنزيل خوف الـفوات منزلـة الـعدم، فليس هذا من الـموارد الـتي ينقّح موضوع الـدليل نفياً أو إثباتاً بالأصل، فمع وجود الـخوف الـكذائي ينطبق الـدليل الاجتهادي الـحاكم بلزوم الـتيمّم، فلا مجال للأصل و لا للقاعدة.
و دعوى: عدم صدق خوف الـفوات في الـصورة الاُولى في نفسه كما في «ا لـعروة» مدفوعـة بوضوح خلافها، ضرورة أنّه يصدق هذا الـعنوان فيها أيضاً، و يمكن أن يكون نظر «ا لـعروة» إلى أنّ جريان الاستصحاب في خصوص الـصورة الاُولى; لتردّد الـوقت بين الـقصير و الـطويل، يمنع عن صدق الـخوف.
و يرد عليه حينئذ: مع أنّه خلاف ظاهر الـعبارة، ما عرفت من أنّ الـخوف أمر وجداني، لايكاد يرتفع بالاستصحاب، فا لـتفصيل في غير محلّه.
(الصفحة286)
مسأ لـة 14: لو دار الأمر بين إيقاع تمام الـصلاة في الـوقت مع الـتيمّم، و إيقاع ركعـة منها مع الـوضوء قدّم الأوّل على الأقوى، لكن لاينبغي ترك الاحتياط با لـقضاء مع الـمائيـة1 .
مسأ لـة 15: الـتيمّم لأجل ضيق الـوقت مع وجدان الـماء لايستباح به إلاّ الـصلاة الـتي ضاق وقتها، فلا ينفع لصلاة اُخرى ولو صار فاقد الـماء حينها، نعم لو فقد في أثناء الـصلاة الاُولى لايبعد كفايته لصلاة اُخرى، و الأحوط ترك سائر الـغايات غير تلك الـصلاة حتّى إذا أتى بها حال الـصلاة، فلايجوز مسّ كتابـة الـقرآن على الأحوط.2
(1) قد تقدّم الـبحث في هذه الـمسأ لـة في مسوّغيـة ضيق الـوقت مفصّلاً، فراجع.
في أنّ الـتيمّم لأجل الـضيق لايستباح به الـغايات الاُخر
(2) الـوجه في عدم استباحـة ما عدى الـصلاة الـتي ضاق وقتها من الصلاة الاُخر واضح; لأنّ مشروعيته إنّما هو لخصوص رعايـة مصلحـة الـوقت الـتي لايمكن تحصيلها مع الـطهارة الـمائيـة، فلاوجه للانتفاع به في صلاة اُخرى من دون فرق بين أن يبقى الـوجدان حينها، أو يصير فاقد الـماء عند الإتيان بها; لأنّ انقضاء وقت الاُولى يوجب خروجه عن الـطهارة، فا لـلازم تحصيلها ثانياً، فإذا صار فاقد الـماء حينها فلابدّ من الـتيمّم لتحصيل الـطهارة، كما لايخفى.
نعم، لو صار فاقد الـماء في أثناء الـصلاة الاُولى الـتي تيمّم لها لأجل ضيق الـوقت، فقد نفى الـبعد في الـمتن عن كفايـة ذلك الـتيمّم لصلاة اُخرى، و الـوجه فيه
(الصفحة287)
ما عرفت من أنّ ثبوت الـمحذور الـشرعي في الـطهارة الـمائيـة، يوجب الانتقال إلى الـترابيـة، و هو هنا حاصل، فإنّ وجوب إيقاع الـصلاة الاُولى مع الـتيمّم حفظاً لمصلحـة الـوقت محذور شرعي بالإضافـة إلى الـصلاة الـثانيـة، الـتي يمكن تحصيل الـطهارة الـمائيـة لها قبل أن يصير فاقد الـماء، فهي في هذه الـحال مبتلاة با لـمحذور، فا لـتيمّم مشروع لها و إن كان الـفقدان لم يتحقّق بعد، و إرادة الإتيان بها لم توجد قبل إيقاع الاُولى.
و بعبارة اُخرى: كما أنّ ضيق الـوقت بالإضافـة إلى الاُولى صار موجباً لشرع الـتيمّم لها، كذلك هو بضميمـة الـفقدان في حال الاشتغال بها الـمتحقّق حينه، يكون موجباً لشرعه للثانيـة في هذا الـحال، أي قبل الـشروع في الاُولى، فكلتا الـصلاتين مشتركتان في مشروعيـة الـتيمّم لهما قبل الـشروع في الاُولى، فلابدّ من الاكتفاء به لـهما.
و هل يجوز الإتيان بسائر الـغايات غير تلك الـصلاة، أم لا؟
و قد نفى الـخلاف الـظاهر عن عدم الـجواز، و لا مايوجب توهّم الـخلاف إلاّ ما طفحت به عباراتهم، و حكي عليه الاتّفاق، و نفي الـخلاف من أ نّه يستباح با لـتيمّم لغايـة ما يستبيحه الـمتطهّر من سائر الـغايات، ولكنّه ينبغي الـجزم بأنّ مرادهم عدم الاحتياج في فعل كلّ غايـة إلى إيقاع الـتيمّم لها و تجديده عند فعلها، لا أ نّه إذا شرع لغايـة ـ لصدق عدم الـوجدان بالإضافـة إليها ـ يستباح به كلّ غايـة و إن لم يصدق عدم الـوجدان بالإضافـة إليها.
و كيف كان: فقد ذكر في «ا لـمصباح» ـ بعد ذهابه إلى ثبوت الـوجهين في الـمسأ لـة ـ في وجه عدم الـجواز: أنّ الـعجز عن الـطهارة الـمائيـة اُخذ قيداً في
(الصفحة288)
موضوعيـة الـموضوع، فهو جهـة تقييديـة لاتعليليـة، فا لـمتيمّم لضيق الـوقت عاجز عن الـطهارة الـمائيـة لصلاة ضاق وقتها لا مطلقاً، فهو با لـمقايسـة إلى سائر الـغايات متمكّن من الـطهارة الـمائيـة، حتّى إذا أراد الإتيان بها في حال الاشتغال با لـصلاة، كما إذا أراد مسّ كتابـة الـقرآن حا لـها، خصوصاً إذا لم يكن الاشتغال با لـوضوء أو الـغسل في خلال الـصلاة منافياً لصورتها.
و ذكر في وجه الـجواز الـذي قوّاه: أنّ الـعجز في الـجملـة أثّر في شرعيـة الـتيمّم، فمتى تيمّم فقد فعل أحد الـطهورين و حصلت الـطهارة، فله الإتيان بجميع ما هو مشروط با لـطهور، و كون الـجهـة تقييديـة لا يؤثّر في إمكان اتّصاف الـمكلّف في زمان واحد بكونه متطهّراً و غير متطهّر، فهو بعد أن فعل أحد الـطهورين متطهّر، و إلاّ لم يجز له فعل الـصلاة، نعم لو كان أثر الـتيمّم مجرّد رفع الـمنع من فعل الـغايات لا الـطهارة، لأمكن الـتفكيك بينها، لكنّ الـحقّ خلافه.
و الـحقّ: أنّه بناء على ما ذكرناه من عدم وفاء مثل الـصلاة مع الـترابيـة بجميع ما تشتمل عليه مع الـمائيـة من الـمصلحـة الـلازمـة الـرعايـة، لدلالـة الـكتاب عليه و الـسنّـة، لامحيص من الالتزام بعدم استباحـة سائر الـغايات غير الـمضطرّ إليها، من دون فرق بين ما إذا أراد الإتيان بها حال الاشتغال با لـصلاة كما في الـمثال الـمذكور، و بين ما إذا أراد الإتيان بها بعدها.
و نحن و إن الـتزمنا بإمكان الـجمع بين الأمرين في بعض مقدّمات مبحث الـتيمّم الـمتقدّمـة، إلاّ أنّه إنّما هو على تقدير وجود دليل على الاستباحـة، و إلاّ فنفس عدم تماميـة الـترابيـة و نقصانها دليل على عدم الاستباحـة، فالأحوط لو لم يكن أقوى الـعدم، كما لايخفى.
(الصفحة289)
بقي الـكلام في بحث مسوّغات الـتيمّم في اُمور تعرّض لبعضها الـماتن دام ظلّه، و لم يتعرّض لأكثرها مع لزومه.
في الـمراد من الـخوف الـمأخوذ في الأدلّـة
فنقول: من الاُمور الـتي لم يقع الـتعرّض لها في الـكتاب أنّه هل الـخوف الـمأخوذ في الأدلّـة هو مطلق الـخوف، أو ما يكون حاصلاً من منشأ مخوف عرفاً؟
فإنّ الـخوف الـوجداني قد يحصل من منشأ مخوف، كا لـخوف الـحاصل في مغازة تكون معرض الـسباع أو اللصوص، و قد يحصل من اعتقاد باطل، كما لو اعتقد كونه في مغازة كذائيـة مع كونه في محلّ أمن، وجهان:
ذكر الـماتن دام ظلّه في «ا لـرسا لـة» أنّ مقتضى الأدلّـة هو الـثاني، و أفاد في توضيحه ما ملخّصه: «أنّ غير دليل الـحرج من الأخبار الـواردة في الـباب ظاهرة فيه أو منصرفـة إليه، ففى روايـة داود الـرقّي قال: قلت لأبي عبدا للّه (عليه السلام): أكون في الـسفر فتحضر الـصلاة و ليس معي ماء، و يقال إنّ الـماء قريب منّا، أفأطلب الـماء و أنا في وقت يميناً و شمالاً؟
قال: «لاتطلب الـماء، ولكن تيمّم، فإنّي أخاف عليك الـتخلّف عن أصحابك، فتضلّ و يأكلك الـسبع».(1)
وفي رواية يعقوب عنه(عليه السلام) بعد فرض كون الماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين.
قال: «لا آمره أن يغرّر بنفسه، فيعرض له لصّ أو سبع».(2)
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 2، الـحديث 1.
(2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 2، الـحديث 2.
(الصفحة290)
فإنّ الـظاهر منهما أنّ الـتيمّم إنّما يكون في خصوص الـمحلّ الـمخوف الـذي يكون معرضاً للخطر و الـخوف.
و في صحيحتي ابن أبي نصر و ابن الـسرحان، عن الـرضا و أبي عبدا للّه (عليهما السلام) في الـرجل تصيبه الـجنابـة و به جروح، أو قروح، أو يخاف على نفسه من الـبرد.
قالا: «لايغتسل و يتيمّم».(1)
و الـظاهر منهما الـخوف من الـبرد الـمحقّق، لامن تخيّله، فكأنّه قيل: إذا كان الـهواء بارداً فخاف على نفسه.
و في روايـة زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) قال: قلت رجل دخل الأجمـة ليس فيها ماء و فيها طين ما يصنع؟
قال: «يتيمّم، فإنّه الـصعيد».
قلت: فإنّه راكب لايمكنه الـنزول من خوف، و ليس هو على وضوء.
قال: «إن خاف على نفسه من سبع أو غيره، و خاف فوات الـوقت فليتمّم، يضرب بيده على اللبد أو الـبرذعـة و يتيمّم و يصلّي».(2)
فإنّها أيضاً ظاهرة فيما ذكر، خصوصاً إذا كانت الأجمـة بمعنى محلّ الأسد كما في «ا لـمنجد»، و كذا الـكلام في روايات خوف الـعطش فإنّها أيضاً ظاهرة في أنّ الـمحلّ كان بحيث يخاف فيه من قلّـة الـماء أو من الـعطش.
و كذا في صحيحـة زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «إذا لم يجد الـمسافر الـماء فليطلب مادام في الـوقت، فإذا خاف أن يفوته الـوقت فليتيمّم و ليصلّ في آخر
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 7.
(2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 9، الـحديث 5.
(الصفحة291)
ا لـوقت ...»(1)
فإنّ الـظاهر منها الـخوف الـحاصل من ضيق الـوقت، كما هو واضح.
و أمّا دليل نفي الـحرج: فقد يمكن أن يقال بصدقه فيما إذا خاف على نفسه من أيّ منشأ كان، فيكون الـتكليف با لـوضوء حرجياً على الـمكلّف مع اعتقاد معرضيـة الـمحلّ للخطر ولو كان اعتقاده خطأً، لكنّه أيضاً مشكل; لأنّ الـظاهر منه عدم جعل الـحرج في الـدين، و غايـة ما يمكن الاستفادة منه أنّ ما يلزم منه الـحرج و الـمشقّـة سواء كان في مقدّماته أو ما يترتّب عليه فهو أيضاً غير مجعول. و أمّا الـحرج الـحاصل من تخيّل باطل أو تخيّل الـحرج، فليس مشمولاً لدليل نفيه; لعدم الـحرج في الـدين و لا من قبله واقعاً، و لا مجال لإلغاء الـخصوصيـة با لـنسبـة إلى ما يلزم من اعتقاد باطل».
أقول: الـظاهر أنّه لافرق بلحاظ دليل نفي الـحرج بين أن يكون الـخوف ناشياً من أمر يقتضيه عادة، أو من مثل الـجبن كما صرّح به غير واحد، لأنّه لافرق في كون الـتكليف لدى الـخوف حرجياً بين الـصورتين، بل كونه كذلك في الـجبان أظهر; لأنّه ربّما يؤدّي ذلك إلى ذهاب عقله لما فيه من ضعف الـقوّة.
و بعبارة اُخرى: بعد كون الـملاك في دليل الـحرج هو الـحرج الـشخصي، و بعد ثبوته في الـمقام ولو كان منشأه مجرّد الـتخيّل و الاعتقاد الـباطل، لا مجال لدعوى عدم جريانه في الـمقام، و بطلان الاعتقاد إنّما هو بحسب الـواقع، لا بلحاظ الـشخص الـمعتقد، ضرورة أنّه لايرى بطلان اعتقاده، و با لـجملـة فا لـحرج في مورد الـتخيّل واقعي و إن كان منشأه لاواقعيـة له.
و أمّا الـروايات: فمضافاً إلى إمكان الـمناقشـة في استفادة ما ذكر من بعضها، نقول: لا دلالـة لها على اختصاص الـحكم بخصوص صورة ثبوت الـمنشأ الـواقعي للخوف،
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 14، الـحديث 3.
(الصفحة292)
بل غايتها الـدلالـة على الانتقال فيها، و الـدليل حينئذ عليه في غيرها نفس الآيـة الـمشتملـة على الـتعليل بعدم تعلّق إرادة اللّه تعا لـى بجعل الـحرج، فا لـظاهر حينئذ هو الاحتمال الأوّل.
و من تلك الاُمور: أنّه هل الـخوف الـمأخوذ في موضوع الأدلّـة على نسق واحد، بمعنى أنّ الـموضوع في جميع الـموارد هو الـخوف بعنوانه، أو أنّ الـموضوع ليس عنوان الـخوف أصلاً، بل الـواقع الـذي خاف منه، فإذا تيمّم من خوف الـعطش ولو في محلّ مخوف، ثمّ تبيّن عدم حصول الـعطش على فرض استعما لـه في الـطهارة الـمائيـة بطل على الـثاني دون الأوّل، أو يفصّل بين الـمقامات؟
وجوه و احتمالات، اختار الـماتن دام ظلّه في «ا لـرسا لـة» الـوجه الـثا لـث، و أفاد في تحقيقه ما ملخّصه: «أنّ الـظاهر من الأدلّـة ـ غير دليل ضيق الـوقت ـ أنّ مجرّد الـمعرضيـة للخطر الـموجبـة للخوف موضوع للانتقال إلى الـتيمّم، فقوله (عليه السلام) في صحيحـة ابن سنان: «إن خاف عطشاً فلا يهريق منه قطرة و ليتيمّم با لـصعيد، فإنّ الـصعيد أحبّ إليّ»(1)
ظاهر في أنّ مجرّد خوف الـعطش يوجب محبوبيـة الـصعيد.
و قوله (عليه السلام) في موثّقـة سماعـة، بعد فرض خوف قلّـة الـماء: «يتيمّم با لـصعيد و يستبقى الـماء، فإنّ اللّه عزّوجلّ جعلهما طهوراً، الـماء و الـصعيد».(2)
و قوله (عليه السلام) في روايـة ابن أبي يعفور، بعد فرض انحصار الـماء بمقدار شربه: «يتيمّم أفضل، ألا ترى أنّه إنّما جعل عليه نصف الـطهور».(3)
ظاهران في مشروعيـة الـتيمّم،
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 25، الـحديث 1.
(2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 25، الـحديث 3.
(3)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 25، الـحديث 4.
(الصفحة293)
و أنّه أحد الـطهورين.
و با لـجملـة: الـظاهر من تلك الـموارد أنّ الـشارع لاحظ حال الـمكلّف; لئلاّ يقع في معرض الـخطر، و هذه الـمعرضيـة أوجبت الانتقال، بل الـظاهر أنّ رفع الـوضوء فيها إنّما هو لنكتـة رفع الـحرج، و لاشبهـة في ثبوته في موارد الـمعرضيـة و إن لم يكن خطر واقعاً.
و أمّا خوف فوت الـوقت، فا لـظاهر أنّه ليس على نسق غيره; لأنّ الـشارع لاحظ فيه حفظ الـتكليف الأهمّ، و أمر با لـتيمّم لا لأجل صيرورة خوف الـفوت موجباً بنفسه للانتقال، بل لأجل الاعتناء باحتمال فوت الأهمّ في مقابل الـمهمّ، بل يمكن أن يقال بعدم تشريع الـتيمّم في هذا الـحال.
فقوله (عليه السلام) في صحيحـة زرارة: «إذا خاف أن يفوته الـوقت فليتيمّم»، إرشاد إلى أهمّيـة الـوقت، و أنّه مع الـدوران بين احتمال فوت الـوقت و فوت الـطهارة الـمائيـة، توجب أهمّيـة الـوقت تقديمه من غير تشريع للتيمّم في هذا الـحال، و معه لا وجه للإجزاء، بل لامعنى للتشريع بعد حكومـة الـعقل، بل يكفي في عدم الإجزاء احتمال ما ذكرناه; لأنّ الإجزاء متقوّم با لـتشريع».
أقول: إن استفدنا أصل مشروعيـة الـتيمّم عند الـضيق واقعاً من الآيـة الـشريفـة من دون حاجـة إلى دلالـة اُخرى، لأمكن أن يقال بعدم دلالـة الـصحيحـة على الـمشروعيـة، بل مفادها الإرشاد.
و أمّا إن كان الـمستند في ذلك هي الـصحيحـة كما مرّ تقريب الاستدلال بها، فكيف يمكن أن تكون للإرشاد؟ فإنّ الأهمّيه لاتتحقّق بدون الـمشروعيـة، و الـمفروض ثبوتها بها، كما لايخفى.
(الصفحة294)
مسأ لـة 16: لافرق بين عدم الـماء رأساً و وجود ما لايكفي لتمام الأعضاء و كان كافياً لبعضها في الانتقال إلى الـتيمّم، ولو تمكّن من مزج الـماء الـذي لايكفيه لطهارته بما لايخرجه عن الإطلاق و يحصل به الـكفايـة فالأحوط وجوبه1 .
مسأ لـة 17: لو خا لـف من كان فرضه الـتيمّم فتوضّأ أو اغتسل، فطهارته باطلـة على الأحوطو إن كان فيه تفصيل، ولو أتى بها في مقام ضيق الـوقت بعنوان الـكون على الـطهارة أو لغايات اُخر صحّت، كما صحّت أيضاً لو خا لـف و دفع ثمناً عن الـماء مضرّاً بحا لـه، أو تحمّل الـمنّـة و الـهوان أو الـمخاطرة في تحصيله و نحو ذلك ممّا كان الـممنوع منه مقدّمات الـطهارة لا نفسها، و أمّا لو كانت بنفسها ضرريـة أو حرجيـة فا لـظاهر بطلانها، نعم لو كان الـضرر أو الـحرج على الـغير فخا لـف و تطهّر فلايبعد الـصحّـة.2
و إذ فرضنا ذلك فيمكن أن يقال: إنّ الـموضوع هو خوف الـفوات، فلا فرق بينه، و بين سائر الـموارد، لكنّ الـتحقيق يوافق ما اُفيد، فتدبّر.
(1) قد تقدّم الـبحث في الـفرع الأوّل من هذه الـمسأ لـة في الأمر الـخامس من الاُمور الـباقيـة الـتي ذكرناها في مسوّغيـة عدم وجدان الـماء، و الـفرع الـثاني منها في الأمر الـسادس من تلك الاُمور، فراجع.
(2) في هذه الـمسأ لـة فروع:
فيما لو خا لـف من كان فرضه الـتيمّم
ا لـفرع الأوّل ـ و هو عمدتها ـ : أنّه لو خا لـف من كان فرضه الـتيمّم فتوضّأ أو
(الصفحة295)
اغتسل، فهل تكون طهارته باطلـة مطلقاً، أم صحيحـة كذلك، أو فيه تفصيل؟ و الـكلام فيه يقع في مقامين:
ا لـمقام الأوّل: في أنّ سقوط الـطهارة الـمائيـة في موارده، هل يكون بنحو الـعزيمـة، أو الـرخصـة؟
و الـكلام فيه تارة بلحاظ دليل نفي الـحرج، و اُخرى با لـنظر إلى الـروايات الـخاصّـة الـواردة في الـموارد الـمختلفـة، الـدالّـة على السقوط فيها.
أمّا بلحاظ دليل نفي الـحرج: فربّما يقال ـ كما قيل، بل اشتهر بينهم، بل صار كالاُصول الـمسلّمـة ـ إنّ دليل نفي الـحرج لايدلّ إلاّ على عدم الـوجوب، و لا دلالـة له على نفي الـجواز، لوروده في مقام الامتنان، و بيان توسعـة الـدين، فثبوت الـتيمّم في موارده إنّما هو على سبيل الـرخصـة لا الـعزيمـة; لأنّ الـعزيمـة كلفـة على خلاف الامتنان.
و اُورد عليه: بأنّ غايـة ما يمكن ادّعائه هو عدم دلالـة دليل نفي الـحرج على كون الـرفع على وجه الـعزيمـة، لا أنّه يدلّ على كونه على نحو الـرخصـة، فلا ينافيه ما يظهر منه الـعزيمـة كقوله تعا لـى: (وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام اُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لايُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(1)
حيث إنّ اللّه إذا أراد بنا اليسر في أحكامه لايجوز لنا مخا لـفـة إرادته، فكما أنّه لو أراد منّا شيئاً لايجوز لنا الـتخلّف عن إرادته، كذلك لو أراد بنا و في حقّنا شيئاً، خصوصاً مع وقوعه عقيب قوله: (وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَر)حيث إنّ الـصوم على الـمسافر، بل الـمريض الـذي يضرّ به الـصوم حرام، فيدلّ على أنّ الـسقوط إنّما هو على نحو الـعزيمـة، و أنّ تعلّق إرادة اللّه تعا لـى با لـيسر إنّما هو
(1)
البقرة / 185.
(الصفحة296)
على نحو لاتجوز مخا لـفته; لأنّه كا لـتعليل، و لايمكن الـتفكيك بينه، و بين ما هو تعليل له كما هو ظاهر.
و تدلّ على الـعزيمـة أيضاً روايـة يحيى بن أبي ا لـعلاء، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال: «ا لـصائم في الـسفر في شهر رمضان كا لـمفطر فيه في الـحضر».
ثمّ قال: «إنّ رجلاً أتى الـنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، أصوم شهر رمضان في الـسفر؟
فقال: لا.
فقال: يارسول اللّه، إنّه عليّ يسير.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ اللّه تصدّق على مرضى اُمّتي و مسافريها بالإفطار في شهر رمضان، أيحبّ أحدكم لو تصدّق بصدقـة أن تردّ عليه صدقته».(1)
فإنّ استشهاد الإمام (عليه السلام) لما أفاده من الـتشبيه الـظاهر في الـحرمـة بقول الـرسول، يدلّ على أنّ ردّ صدقته تعا لـى غير جائز، و الـتعبير بعدم كونه محبوباً لا دلالـة فيه على الأعمّ من الـمبغوضيـة; لأنّه كا لـتعبير الـواقع في باب الـغيبـة بقوله تعا لـى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً).(2)
مع أنّ ردّ الـصدقـة في نفسه مبغوض و ثقيل على الـنفوس الـعا لـيـة.
و با لـجملـة: فلا شبهـة في دلالـة الـروايـة على مبغوضيـة ردّ صدقـة اللّه تعا لـى، و لا شبّهـة في أنّ رفع الـتكليف بمقتضى دليل نفي الـحرج صدقـة و هديـة من اللّه تعا لـى، فلايجوز ردّه.
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب من يصحّ منه الـصوم، الـباب 1، الـحديث 5.
(2)
ا لـحجرات / 9.
(الصفحة297)
و يؤيّده: موثّقـة الـسكوني، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه (عليهما السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ اللّه عزّوجلّ أهدى إليّ و إلى اُمّتي هديـة، لايهديها إلى أحد من الاُمم كرامـة من اللّه لنا.
فقا لـوا: ما ذاك يا رسول اللّه؟
قال: الإفطار في الـسفر، و الـتقصير في الـصلاة، فمن لم يفعل فقد ردّ على اللّه عزّوجلّ هديته».(1)
فإنّ حرمـة الأمرين دليل على حرمـة ردّ هديـة اللّه تعا لـى.
و تؤيّد الـعزيمـة أيضاً: ما عن تفسير الـعيّاشي، عن عمرو بن مروان الـخزّاز قال: سمعت أباعبدا للّه (عليه السلام) يقول: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): رفعت عن اُمّتي أربع خصال: ما اضطرّوا إليه، و ما نسوا، و ما اكرهوا عليه، و ما لم يطيقوا، و ذلك في كتاب اللّه قوله: (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لاتَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لاتُحَمِّلْنا ما لاطاقَةَ لَنا بِهِ)، و قول اللّه (إِلاّ مَنْ اُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاْيمانِ)».(2)
فإنّ ذكر آيـة الـتقيّـة في سياق حديث الـرفع ـ مع أنّ الـتقيّـة واجبـة، ليس للمكلّف تركها، خصوصاً مع ملاحظـة شأن نزولها ـ دليل على أنّ الـرفع في تمام موارده إنّما هو على نحو الـعزيمـة. مع أنّه من الـمحتمل أن لايكون رفع الـحرج عن الـعباد لصرف الامتنان عليهم، حتّى يقال: إنّه لايلائم الإلزام; بل لأنّه تعا لـى لايرضى بوقوع عباده في الـمشقّـة و الـحرج، كالأب الـشفيق الـذي لايرضى بوقوع ابنه الـمحبوب له
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب صلاة الـمسافر، الـباب 22، الـحديث 11.
(2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الأمر و الـنّهي، الـباب 25، الـحديث 9.
(الصفحة298)
في الـحرج ولو اختياراً، فيمنعه إشفاقاً عليه.
كما أنّه يحتمل أن يكون رفع الـحرج في عباداته و ما يتعلّق بها; لعدم رضائه بوقوع الـعبيد في الـمشقّـة من ناحيتها، لكونه مظنّـة لانزجارهم عنها، فينتهي إلى إدبار نفوسهم عن عبادة اللّه و دينه، و هو أمر مرغوب عنه.
ففي روايـة عمرو بن جميع، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي، إنّ هذا الـدين متين فأوغل فيه برفق، و لاتبغض إلى نفسك عبادة ربّك، إنّ الـمنبت ـ يعنى الـمفرط ـ لاظهراً أبقى، و لاأرضاً قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً، و احذر حذر من يتخوّف أن يموت غداً».(1)
و بسند معتبر، عن أبى عبدا للّه (عليه السلام) قال: «لاتكرهوا إلى أنفسكم الـعبادة».(2)
و أمّا ما ورد من بعض الأئمّـة (عليهم السلام) من إيقاع الـمشقّـة على نفوسهم الـشريفـة، فلأنّهم كانوا مأمونين من خطوات الـشيطان و خطراته، و معصومين من الإثم و زلاّته، بل لنفوسهم الـشريفـة مقامات من الـحبّ إلى عبادة اللّه، و الـشوق إلى الـخشوع و الـخضوع لديه، ربّما لايكون ما هو مشقّـة بنظرنا بشاقّ لديهم أصلاً، مع أنّ تحمّل الـمشاق كان في الـمستحبّات الـتي هى خارجـة عن مصبّ دليل الـحرج، و قد تقدّم الـكلام في غسل الإمام (عليه السلام) في الليلـة الـباردة الـشديدة الـريح.
و قد تحصّل ممّا ذكر: أنّ دليل الـحرج لاينهض لإثبات كون الانتقال إلى الـتيمّم على وجه الـرخصـة، بل مقتضى ما ذكر كونه على نحو الـعزيمـة و إن كان على خلافه الـشهرة، هذا كلّه بلحاظ دليل نفي الـحرج.
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب مقدّمـة الـعبادات، الـباب 26، الـحديث 7.
(2)
وسائل الـشيعـة، أبواب مقدّمـة الـعبادات، الـباب 26، الـحديث 2.
(الصفحة299)
و أمّا مع ملاحظـة سائر الأدلّـة، ففيما إذا لزم محذور شرعي من الـوضوء أو الـغسل ولو لم يلزم منه حرمتها، يتعيّن الـتيمّم، و تسقط الـطهارة الـمائيـة على نحو الـعزيمـة، و ذلك كما فيما لو كان في الـتوصّل إلى الـماء خوف تلف الـنفس، أو لزم منه ارتكاب محرّم، أو ترك واجب، أو فوت الـوقت.
و أمّا في غيره، فلا تبعد استفادة ذلك من مجموع الـروايات، و هي على طائفتين:
الاُولى: ما وردت فيما إذا كان الـغسل ضررياً، كصحيحـة محمّد بن مسكين و غيره، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال: قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابـة و هو مجدور، فغسّلوه فمات.
فقال: «قتلوه، ألاّ سأ لـوا، ألاّ يممّوه؟! إنّ شفاء الـعيّ الـسؤال».(1)
و قريب منها مرسلـة ابن أبي عمير.(2)
و روايـة الـجعفري، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال: «إنّ الـنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر له أنّ رجلاً أصابته جنابـة على جرح كان به، فأمر با لـغسل فاغتسل، فكزّ فمات، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قتلوه قتلهم اللّه، إنّما كان دواء الـعيّ الـسؤال».(3)
و إطلاق هذه الـروايات يقتضي شمولها لما إذا خاف على نفسه الـتلف، أو خاف عليها غيره من طول الـمرض و الـبرء، بل لايبعد خروج صورة خوف الـتلف منها، نظراً إلى أنّ الـعقلاء لايرتكبون شيئاً مع خوف الـتلف، و كذا لايأمرون به، فالاغتسال أو الأمر به دليل على عدم كون الـتلف مورداً للخوف بوجه، و عليه فا للوم و الـمذمّـة دليل
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 1.
(2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 3.
(3)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 6.
(الصفحة300)
على كون الـوظيفـة هي خصوص الـتيمّم، أو الأمر به، و إلاّ فمع ثبوت الـرخصـة لا مجال لللوم و الـمذمّـة، كما هو ظاهر.
و مثلها في الـدلالـة أو أدلّ منها صحيحـة ابن أبي نصر، عن الـرضا (عليه السلام) في الـرجل تصيبه الـجنابـة و به قروح، أو جروح، أو يخاف على نفسه من الـبرد.
فقال: «لا يغتسل و يتيمّم».(1)
و مثلها صحيحـة داود بن الـسرحان، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام).(2)
فإنّ الـخوف على الـنفس من الـبرد إمّا ظاهر في خصوص الـخوف من الـتلف، و إمّا يكون أعمّ منه، فخوف الـتلف هو الـقدر الـمتيقّن، و حينئذ لايمكن حمل الـنهي عن الاغتسال على رفع الـوجوب، بدعوى أنّ الـنهي في مقام توهّم الـوجوب لا دلالـة له على أزيد من نفي الـوجوب غير الـمنافي لجواز الإتيان با لـمنهيّ عنه، ضرورة أنّه مع خوف الـتلف لايمكن الـترخيص، و لا أقلّ من كون الـمقام في نظر الـسائل من قبيل الـدوران بين الـمحذورين، و معه لامجال لرفع الـيد عمّا هو ظاهر الـنهي، فتدلّ الـروايـة على أنّ حكم الـقروح و الـجروح هو بعينه حكم خوف الـتلف; لاتّحاد الـسياق، و الاقتصار على بيان واحد في الـجواب عن الـجميع، فيشترك الـجميع في الـعزيمـة، فتدبّر.
و يبقى في هذه الـطائفـة أمران:
الأوّل: أنّها و إن وردت في الـغسل لكن يستفاد منها حكم الـوضوء بلا إشكال، ضرورة أنّ الأمر با لـتيمّم إنّما هو لخوف الـضرر الـذي هو أعمّ من الـهلاك، و لافرق فيه
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 7.
(2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 8.
|