(الصفحة221)
بالقاعدة بناءً على أن يكون الحديث(1) الذي هو مدركها مسوقاً لإفادة نفي الأحكام الضررية ، لا أن يكون نهياً صادراً في مقام إعمال السلطنة والحكومة كما عليه الماتن دام ظلّه(2) .
وكيف كان ، فالظاهر أنّ الإبدال في مثل المقام ممّا لا مجال للخدشة في جوازه لما ذكر ، ويقع الكلام بعد ذلك في جواز فسخ المعاملة تارةً مع التمكّن من الإبدال ، واُخرى مع التعذّر .
أمّا مع التمكّن منه فالظاهر أنّه لادليل عليه لعدم دلالة القاعدة عليه ، ووضوح عدم شمول أخبار خيار العيب(3) لما إذا كان مورد المعاملة كلياً لو لم نقل باختصاصه بباب البيع ، وإلاّ فلا يجوز التعدّي عنه .
وأمّا مع التعذّر فقد احتمل فيه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) وجوهاً ثلاثة :
فسخ العقد ، كما هو المشهور(4) في باب السلم عند تعذّر المسلم فيه وبه بعض الأخبار(5) ، ووجوب الصبر والانتظار كما هو الشأن في الدين الذي لايتمكّن من وفائه ، ومطالبة القيمة ، وذكر أنّ الأوفق بالقواعد هو الأخير ; لأنّ التعذّر لا يوجب صيرورة اللزوم ضررياً بعد وقوع العقد على الكلّي ، وخيار تعذّر التسليم إنّما المتيقن منه تعذّر تسليم الشخصي الذي لا دافع لضرره إلاّ الخيار ،
(1) وسائل الشيعة : 25 / 428 ـ 429، كتاب إحياء الموات ب12 ح3 ـ 5 وج23 / 14، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب موانع الإرث ب1 ح10 .
(2) الرسائل للإمام الخميني : 1 / 49 ـ 56 .
(3) وسائل الشيعة : 18 / 29 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب16 ، وص97 ، أبواب أحكام العيوب .
(4) رياض المسائل : 5 / 311 ، الحدائق الناضرة : 20 / 45 .
(5) وسائل الشيعة : 18 / 309 ، كتاب التجارة، أبواب السلف ب11 ح114 .
(الصفحة222)
حيث لايستحقّ عليه المالية بل ماله بنفسه متعذّر ، وليس كالدين الذي لا يتمكّن من أدائه حتّى ينتظر الميسرة لفرض تمكّنه من أداء القيمة ، إلاّ أنّ ظاهر المشهور فيما يشبه المقام هو الخيار من باب تعذّر التسليم لا من باب خيار العيب(1) .
وما جعله الأوفق بالقواعد وإن كان كذلك إلاّ أنّ الظاهر مخالفته لما عليه العقلاء في معاملاتهم من الفسخ ، كما عليه الشهرة .
ثمّ إنّه على تقدير جواز الفسخ فهل يتخيّر بينه وبين الأرش كما اختاره العلاّمة في القواعد(2) ، وحكي عن بعض آخر(3) ، ولعلّ الوجه فيه إمّا دعوى إلغاء الخصوصية من أخبار خيار العيب ، وإمّا دعوى شمولها للمقام بتقريب ذكره الجواهر في باب الصرف والسلف على ما حكي(4) ; وهو أنّ العقد يستقرّ على ما تعيّن كلّي المبيع فيه ، إلاّ أنّ ردّ المعيب يختلف مقتضاه ، فإن كان شخصياً فردّه يستلزم انفساخ العقد ; لاستحالة زوال الملك المسبّب عن العقد مع بقاء السبب ، وإن كان كليّاً تعيّن في فرده ، فردّ الفرد واستلزامه لزوال ملكه عنه يستلزم زوال التطبيق المعيّن لملك الكلّي فيه لا زوال العقد ; لعدم الملازمة بين زوال الملك عن الفرد وزوال الملك عن الكلّي ، وعليه : فأخبار خيار العيب الدالّة على جواز الفسخ وثبوت الأرش يشمل المقام .
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 56 .
(2) قواعد الأحكام : 2 / 286 .
(3) كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد : 7 / 118 ، والشهيد الثاني في مسالك الأفهام : 5/180 والروضة البهية : 5 / 334 ، والسبزواري في كفاية الأحكام : 124 .
(4) جواهر الكلام: 24 / 330 ـ 331، والحاكي هو المحقّق الإصفهاني في بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 55 ـ 56 .
(الصفحة223)
نعم ، في كون مدلولها التخيير بين الفسخ والأرش ، أو كون الأرش ثابتاً مع سقوط حق الفسخ بمثل التصرّف ونحوه ، كما اختاره بعض الأجلّة(1) كلام تحقيقه في محلّه .
هذا ، ويرد على دعوى إلغاء الخصوصية إنّها بلا بيّنة وبرهان ، وعلى ما حكي عن الجواهر أنّه خلاف ظاهر تلك الأخبار ; لأنّ ظاهرها أنّ المراد بالفسخ هو فسخ أصل العقد ، خصوصاً مع الحكم بعده باسترجاع الثمن ، وعليه فلا دليل على ثبوت الأرش في مثل المقام بعد كونه حكماً على خلاف القاعدة ، ولا تقتضيه قاعدة الضرر على ما حقّق في محلّه .
المقام الثاني : فيما إذا كانت الأُجرة جزئيّة معيّنة ، والمشهور(2) أنّه يتخيّر المؤجر حينئذ بين الفسخ والأرش ، بل قال في مفتاح الكرامة : هذا ـ يعني التخيير بينهما ـ ممّا لا أجد فيه خلافاً ، ولكنّه حكى عن الخلاف(3) والمبسوط(4) والمهذّب(5)والغنية(6) والسرائر(7) أنّه اقتصر فيها على أنّه يملك الفسخ كالبيع ، وذكر أنّ التشبيه بالبيع دليل على ثبوت الأرش عندهم أيضاً(8) ، مع أنّ الدلالة ممنوعة ;
(1) الحدائق الناضرة : 19 / 63 ـ 64 ، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 5 / 275 ، مصباح الفقاهة : 7/100 .
(2) شرائع الإسلام : 2 / 181 ، تحرير الأحكام : 3 / 129 ، اللمعة الدمشقية : 94 ، جامع المقاصد : 7/118 ، الروضة البهية : 4 / 334 .
(3) الخلاف : 3 / 488 مسألة 2 .
(4) المبسوط : 3 / 222 .
(5) المهذّب: 1 / 471.
(6) غنية النزوع : 287 .
(7) السرائر : 2 / 457 .
(8) مفتاح الكرامة : 7 / 122 .
(الصفحة224)
إذ لا موجب لإفادة ثبوت الأرش من طريق التشبيه ، خصوصاً مع ظهور العبارة في كون التشبيه في أصل ثبوت حقّ الفسخ .
وكيف كان ، فالدليل في المقام إمّا الإجماع ، وإمّا قاعدة نفي الضرر، وإمّا أخبار خيار العيب .
أمّا الأوّل : ـ فمضافاً إلى عدم ثبوته لما عرفت من اقتصار القدماء على ملك الفسخ ـ أنّه على تقدير الثبوت لا حجية فيه ; لاحتمال استناد المجمعين إلى قاعدة نفي الضرر ، أو إلى أخبار خيار العيب .
وأمّا الثاني : ـ فمضافاً إلى ما ذكرناه مراراً من أنّ دليل(1) هذه القاعدة أجنبيّ عن التمسّك به في الفقه ، لكون «لا» فيه ناهية صادرة من مقام السلطنة والحكومةـ أنّه على تقدير دلالته على النفي لا دلالة فيه على ثبوت الأرش ، بل ولا على ثبوت حقّ الفسخ ، بل غايته نفي اللزوم على طريق نفيه في العقود الجائزة ، ودعوى أنّها مسوقة للامتنان ومقتضاه ثبوت الحقّ على نحو يكون قابلاً للإسقاط وللانتقال إلى الوارث مدفوعة ; بأنّ نفي اللزوم فقط أيضاً امتنان ، ولا يلزم بلوغه إلى تلك المرتبة المثبتة للحقّ ، كما هو ظاهر .
وأمّا أخبار خيار العيب ، فهي واردة في خصوص البيع ، ولا وجه لدعوى إلغاء الخصوصية، فالتحقيق حينئذ أنّه لا وجه للحكم بثبوت التخيير بين الفسخ والأرش، بل غايته الحكم بثبوت الفسخ ; لحكم العقلاء بذلك فيما إذا كان المعيّن معيباً. نعم، لو كان تدارك وصف الصحّة بالأرش حكماً ثابتاً بمقتضى القاعدة ، لكان اللاّزم الحكم بالاطّراد في جميع الموارد التي فات فيها هذا الوصف ، لكنّه غير معلوم
(1) تقدّم في ص220 ـ 221.
(الصفحة225)
كما قرّر في محلّه ، ولعلّه لما ذكرنا استشكل في المتن في ثبوت الأرش في المقام .
ثمّ إنّ ظاهر كلماتهم هنا أيضاً أنّه لا فرق في العيب بين كونه سابقاً على العقد أو على خصوص القبض ، ولذا قيّد المحقّق (قدس سره) في عبارته المتقدّمة العيب بكونه سابقاً على القبض(1) ، وظاهره أنّه الملاك في الحكم دون العقد ، مع أنّه يشكل الحكم هنا ، نظراً إلى أنّه فيما إذا كان العيب حادثاً بين العقد والقبض لا وجه لثبوت الحكم ; لعدم ورود العقد على المعيب ، وقد حقّق هذا الإشكال المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في كتاب الإجارة بما لا مزيد عليه ، ولا بأس بنقل كلامه بطوله لاشتماله على فوائد مهمّة .
قال فيما إذا كانت الأُجرة شخصية ما لفظه : إن سبقه فيها على العقد يوجب ورود العقد على المعيب ، فتعمّه أخبار خيار العيب في البيع وقاعدة الضرر هنا ويرتفع لزومه ، وأمّا مع حدوثه بعد العقد وقبل القبض فلا تعمّه أخبار خيار العيب ; لأنّ موردها من اشترى شيئاً وبه عيب أو عوار ، فالعيب الحادث بعد العقد حادث في ملك المشتري ، ولا قاعدة الضرر ; لأنّ مورد العقد لم يكن ضررياً حتّى يرتفع حكمه ، فالضرر الحادث قبل القبض كالحادث بعده ، وكون إمساكه ضرراً على المشتري أو على المؤجر هنا لا يقتضي تحميل الضرر على البائع والمستأجر مع حدوث الضرر بعد صيرورته ملكاً للمشتري والمؤجر ، فلا مناص من تصحيح ذلك في البيع بقاعدة التلف قبل القبض ثمّ إلحاق الإجارة بالبيع .
فنقول : قوله (صلى الله عليه وآله) : «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه»(2) إمّا يراد منه كونه من مال بائعه حكماً فخسارته ودركه عليه ، كما عن الشهيد الثاني(3) وتبعه
(1) في ص217.
(2) عوالي اللئالي : 3 / 212 ح59 ، مستدرك الوسائل : 13 / 303 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب9 ح1 .
(3) مسالك الأفهام : 3 / 209 .
(الصفحة226)
غيره ، وإمّا يراد منه أنّه يتلف منه حقيقة ، ولا يكون كذلك إلاّ إذا قدّر قبل التلف ملكاً له ، وهو مع بقاء العقد على حاله يوجب اجتماع ملكين استقلاليين على عين واحدة ، فلا محالة يلتزم بانفساخ العقد قبل التلف ورجوعه إلى البائع .
فإن قلنا بالأوّل مع عموم التلف لجميع مراتبه ـ ذاتاً ووصفاً ، كلاًّ وبعضاً ـ فمفاده في الجميع لزوم غرامة الكلّ في تلف الكلّ وغرامة الجزء في تلفه ، وتدارك ما به تفاوت الصحيح والمعيب في تلف الوصف ، ومقتضاه فيما نحن فيه تعيّن الأرش ، لا تعيّن الردّ ولا التخيير بينهما .
وإن قلنا بالثاني كما هو المشهور ، فالالتزام بمقالة المشهور من انفساخ العقد في تلف الكلّ والجزء وإجراء حكم خيار العيب في تلف الوصف في غاية الإشكال ، وغاية ما يقال في تقريبه ما عن شيخنا العلاّمة الأنصاري (قدس سره) في مباحث التلف قبل القبض(1) ; وهو أنّ مقتضى كونه من مال بائعه حقيقة فرض العقد كأن لم يكن قبل التلف ، ومقتضاه في تلف الكلّ أنّه يرد التلف على ما لا عقد له ، فيكون ملك بائعه ، وفي تلف الجزء كأنّه لا عقد عليه بالخصوص ، فينفسخ العقد بالنسبة إلى الجزء التالف دون غيره ، وفي تلف الوصف له اقتضاءان :
أحدهما : انفساخ العقد عن الموصوف بما هو موصوف ، فيرجع الانفساخ إلى حيثيّة الوصف التالف .
والثاني : استقرار العقد على ذات الموصوف الفاقد للوصف ، حيث لا موجب لزوال العقد عنه ، ومقتضى استقرار العقد على المعيب إجراء أحكام خيار العيب عليه ، فنلتزم حينئذ بالانفساخ في جميع مراتب التلف ـ كما هو ظاهر النبويّ ـ مع
(1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 6 / 271 .
(الصفحة227)
الالتزام بأحكام خيار العيب ; لأنّه لازم انفساخ العقد في الوصف فقط .
إلاّ أنّ هذا التقريب غير وجيه ثبوتاً وإثباتاً . أمّا ثبوتاً : فلأنّ كلا الجزءين من التقريب فيه محذور ، أمّا الانفساخ فالبرهان قائم على أنّ ما لا عقد عليه لا حلّ له ، ومالا عقد عليه استقلالاً وبالذات لا حلّ له استقلالاً وبالذات . ومن الواضح أنّ الوصف غير مملوك بالذات بل بالعرض ، لاستحالة ملك الوصف بما هو ، وإذا كان مملوكاً بالعرض فهو معقود عليه بالعرض ، وكلّ ما بالعرض تابع لما بالذات ـ ثبوتاً وسقوطاً ، عقداً وحلاًّ ـ فإذا فرض شمول التلف لجميع المراتب وكون العقد منحلاًّ في الوصف كان دليلاً على انفساخ العقد في الموصوف ، وليس الانفساخ حكمياً حتّى يعقل التنزيل في ترتيب أثر الانفساخ في خصوص الوصف حتّى يلزمه بقاء العقد على المعيب .
وأمّا اللاّزم الآخر ; وهو إجراء أحكام خيار العيب ، فلأنّ ظاهر أخباره ورود البيع على المعيب لا تعيّب المبيع بقاءً ، وحيث إنّ العقد واقع ، وزواله عن ذات الموصوف بلا موجب عنده (قدس سره) ، فليس لازم الانفساخ في الوصف إلاّ بقاء العقد على ما زال وصفه المحقّق عند حدوث العقد ، فلا موجب لإجراء أحكام خيار العيب ، ولا دليل على تنزيل بقاء العقد على المعيب منزلة حدوثه ، فإنّ المفروض دلالة النبوي على الانفساخ الحقيقي من دون تضمّنه لتنزيل ، فلابدّ من الالتزام بما هو لازم الانفساخ ، ولازم الانفساخ الحقيقي ليس إلاّ بقاء العقد على ماهو معيب لا تنزيل البقاء منزلة الحدوث ، هذا كلّه فيما يتعلّق بمقام الثبوت .
وأمّا إثباتاً : فلأنّ ظاهر قوله (صلى الله عليه وآله) : «كلّ مبيع . . .» ما هو مبيع بالحمل الشائع وليس هو إلاّ الكل والجزء ، فتلف مثلهما موجب للانفساخ دون تلف الوصف
(الصفحة228)
الذي ليس مبيعاً بالحمل الشائع بل وصف له ، ووصف المبيع بالتلف حينئذ من باب وصف الشيء بحال متعلّقه ، ومن جميع ماذكرنا تبيّن أنّه بناءً على وفاء مقام الإثبات لابدّ من القول بالانفساخ دون الردّ والأرش ، فلا دليل على الردّ والأرش ، بل الردّ أولى بالإشكال ; إذ على القول بمقالة الشهيد الثاني (رحمه الله) في مفاد النبوي يتعيّن خصوص الأرش كما عرفت(1) .
والإنصاف ورود هذا الإشكال على المشهور في باب البيع ، وأمّا باب الإجارة فيمكن التخلّص عن هذا الإيراد فيه بكون المستند في المقام هو الإجماع ، وظاهر المجمعين كما اعترف به (قدس سره) عدم الفرق في العيب بين كونه سابقاً على العقد أو كونه سابقاً على القبض . نعم ، لو كان المستند في المقام مقايسة الإجارة بالبيع بدعوى أنّه لا خصوصية للبيع ، أو بدعوى أنّ الإجارة بيع حقيقة وإن كانت متعلّقة بالمنافع فيأتي فيها ما يأتي في البيع حرفاً بحرف كما ادّعاها المحقّق الرشتي (قدس سره)(2) ، لكان الإشكال ممّا لا محيص عنه هنا أيضاً ، لكن كلتا الدعويين ممنوعتان ، كما أنّك عرفت الإشكال في ثبوت الإجماع في المقام وفي حجيّته على تقدير ثبوته ، فالإنصاف أنّ أصل الحكم وكذا إطلاقه لصورة طروّ العيب بعد العقد وقبل القبض في غاية الإشكال .
***
[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
إذا وجد المستأجر بالعين المستأجرة عيباً، وقد حكم في الشرائع فيه بأنّ له الفسخ أو الرضا بالاُجرة من غير نقصان ، ولو كان العيب ممّا
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 57 ـ 59 .
(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 88 .
(الصفحة229)
يفوت به بعض المنفعة(1) .
أقول : الكلام في هذه المسألة في مقامين :
المقام الأوّل : في ثبوت أصل حقّ الفسخ والتخيير بينه وبين الإمضاء ، من دون فرق بين ما إذا كان العيب ممّا يفوت به بعض المنفعة ، وما إذا لم يكن كذلك كالدابّة المستأجرة للركوب إذا كانت مقطوعة الاُذن أو الذنب ، حيث لا يتفاوت من حيث الركوب مع الدابّة الصحيحة السليمة ، والظاهر أنّه لا خلاف في ذلك بين الأصحاب كما عن العلاّمة في التذكرة(2) ، بل عن الغنية الإجماع عليه(3) ، والدليل على ثبوت هذا الحقّ ـ مضافاً إلى أخبار خيار العيب الواردة في البيع ، بناءً على عدم اختصاصها به وإلحاق الإجارة بالبيع ، ويؤيّده أنّه لم يستشكل أحد في جريان خيار العيب فيما إذا كانت الاُجرة معيبة ، وإن ناقشنا سابقاً في استفادة ثبوت الأرش من بعض الكلمات ، كما أنّا منعنا الإلحاق ; نظراً إلى أنّه لا وجه لدعوى إلغاء الخصوصية ، وعدم الخلاف في ثبوت حقّ الفسخ فيما إذا كانت الاُجرة معيبة ـ لم يعلم كون منشأه عدم الخلاف في إلحاق الإجارة بالبيع ، وإجراء أخبار خيار العيب الواردة فيه في باب الإجارة أيضاً ; إذ يحتمل أن يكون منشأه قاعدة نفي الضرر ، أو بعض الاُمور الاُخر .
وكيف كان ، فدعوى إلغاء الخصوصية في غاية الإشكال ، كما أنّ التمسّك بقاعدة نفي الضرر قد مرّ الإشكال فيه ; بأنّه لم يعلم كون «لا» في قوله (صلى الله عليه وآله) : «لاضرر» للنفي ، بحيث كان صادراً في مقام الإخبار عن عدم
(1) شرائع الإسلام: 2 / 187 المسألة الاُولى.
(2) تذكرة الفقهاء : 2 / 322 .
(3) غنية النزوع : 287 .
(الصفحة230)
ثبوت الأحكام الضرريّة ، بل يحتمل لو لم نقل بأنّه الظاهر أن تكون للنهي ، وكان الكلام صادراً في مقام إعمال الحكومة والسلطنة الثابتة للنبيّ (صلى الله عليه وآله)بلا إشكال ، وعليه فما يمكن أن يستدلّ به لثبوت حقّ الفسخ في المقام أنّه حيث يكون مورد الإجارة هي العين ، بل هي كما عرفت في صدر الكتاب في تعريف الإجارة(1) ليست إلاّ إضافة خاصّة متعلّقة بالعين المستأجرة ، ومن الواضح اختلاف الرغبات باختلاف الأعيان المستأجرة من حيث الصحّة والعيب ، وإن لم يكن فرق بينهما من حيث المنفعة أصلاً ، فلا محالة تكون العين المستأجرة متّصفة في حال الإجارة بكونها واجدة لصفة السلامة بالتوصيف الضمني ، أو مشروطة بكونها كذلك بالشرط الضمني ، وتخلّف الوصف أو الشرط يوجب الخيار بين الفسخ والإمضاء .
وربما يقال بعد الاستشكال فيما ذكر : بأنّه خلاف ما هو المسلّم عندهم من عدم تأثير لغرض العاقد إذا لم يكن مذكوراً في العقد ، فكيف يكون وصف الصحّة بمنزلة الشرط المذكور ، بأنّه لو جعل هذا من خيار الرؤية لم يرد ما ذكر ; لأنّ أصل الصحّة بمنزلة الرؤية السابقة .
ولكنّه يرد عليه : أنّ أصل الصحّة وإن كان بمنزلة الرؤية السابقة ، إلاّ أنّه لا دليل على جريان حكم الرؤية في باب البيع الثابت بدليله في باب الإجارة أيضاً ، فإذا كان مورد أخبار خيار الرؤية(2) هو البيع فلا مجال لدعوى إلغاء الخصوصيّة ، إلاّ أن يلتزم بثبوت خيار الرؤية في باب الإجارة أيضاً ، مع أنّ أصل الاستشكال في غير محلّه ; للفرق بين وصف الصحّة الذي هو متعلّق رغبة العقلاء نوعاً ، وبين سائر الأغراض
(1) في ص9 ـ 10 .
(2) وسائل الشيعة : 18 / 28 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب15 .
(الصفحة231)
والدواعي التي تختلف باختلاف الأشخاص والموارد ، كما لا يخفى .
المقام الثاني : في ثبوت الأرش لو اختار الإمضاء وعدمه .
أقول : أمّا إذا لم يكن العيب موجباً لفوات بعض المنفعة ونقصانها فعدم ثبوت الأرش ظاهر ; لأنّه إن كان الخيار الثابت في هذا المقام هو خيار تخلّف الوصف أو الشرط الضمني فمن الواضح عدم ثبوت الأرش فيه ، وأمّا إذا كان الخيار هنا خيار العيب الثابت بالأخبار الواردة فيه(1) في باب البيع ، بناءً على إلحاق الإجارة به ، فلأنّه حيث يكون المفروض عدم تأثير العيب في نقصان بعض المنفعة ، فلا محالة لا تكون المنفعة التي وقعت بإزائها الاُجرة ناقصة من حيث المالية ، ومن المعلوم أنّ الأرش تدارك نقص ماليّ في أحد العوضين ، ولذا يسقط في مورد تلك الأخبار ; وهو البيع إذا لم يكن العيب مؤثِّراً في نقصان المالية ، كما في العبد الخصيّ . ولا ينافي ذلك ما ذكرناه مراراً من تعلّق الإجارة بنفس العين وكونها إضافة إليها ، وذلك لعدم التنافي بينه وبين كون الاُجرة واقعة بإزاء نفس المنفعة التي يكون المفروض عدم نقص فيها ، وهذا هو الوجه في عدم ثبوت الأرش في المقام ، لا ما ربما يقال من اختصاص الأرش بالبيع لكونه مخالفاً للأصل ، فلا يتعدّى عنه إلى غيره ، وذلك لعدم الاختصاص ، بل الظاهر ثبوته في غير البيع أيضاً كالمهر عوضاً للخلع ، وقد تقدّم أنّه ادّعى في مفتاح الكرامة عدم الخلاف في ثبوت الأرش في عيب الاُجرة إذا كانت شخصية ، وإن ناقشنا سابقاً في ذلك(2) .
وكيف كان ، فلا وجه لدعوى الاختصاص بالبيع أصلاً ، هذا كلّه إذا لم
(1) وسائل الشيعة : 18 / 29 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب16 ، وص97 ، أبواب أحكام العيوب ب1 ح1 .
(2) في ص223 ـ 224 .
(الصفحة232)
يكن العيب موجباً لنقصان المنفعة .
وأمّا إذا كان موجباً له ومؤثِّراً في فوات بعضها ; فإن كان النقص من حيث الكمّ بحيث يفوت من المستأجر جزء من المنفعة ، مثل ما إذا كان بعض بيوتات الدار خراباً مثلاً ، فالظاهر سقوط الاُجرة بمقداره وثبوت خيار التبعّض للمستأجر ، وأمّا إذا كان النقص من حيث الكيف ، فعلى تقدير كون الخيار في المقام خيار العيب هل يثبت أرش أم لا ؟ ربّما يقال كما قاله المحقّق الرشتي (قدس سره) بأنّه لا يعقل جريان أخبار خيار العيب هنا حتّى يثبت الأرش أيضاً ، لا لأجل اختصاص موردها بالبيع ، بل لأنّ العيب في المنفعة غير معقول ; لأنّه على ما صرّحوا به في باب البيع هو الزيادة أو النقيصة عن الخلقة الأصلية ، وهذا من خصائص الأعيان التي لها بحسب خلقتها الأصلية اقتضاءات قد يختلف عنها في الوجودات الخارجيّة ، وأمّا المنافع فليس لها مرتبة حتّى يتصوّر فيها الزيادة والنقيصة ، بل هي مختلفة باختلاف ذواتها ، من غير أن يكون لكلّ مرتبة خلقة أصلية تلاحظ الزيادة والنقصان بالقياس عليها ، تقول : هذه الدابّة العمياء مثلاً معيوبة للنقصان عن الخلقة الأصلية ، ولا تقول : إنّ منفعتها معيوبة لنقصان المنفعة عن الخلقة الأصلية .
ودعوى أنّ نقصان العين يكفي في تحقّق العيب في المنفعة عرفاً إنّما تتّجه لو كان بين نقصان العين ونقصان المنفعة ملازمة وليس كذلك ، إذ قد تكون منفعة العين المعيوبة أحسن وأجود من منفعة العين الصحيحة التامّة الأجزاء(1) ، انتهى .
وأورد عليه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بأنّ العيب أوسع ممّا ذكر ; ضرورة
(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 311 .
(الصفحة233)
مسألة : لو ظهر الغبن للمؤجر أو المستأجر فله خيار الغبن إلاّ إذا شرط سقوطه1 .
أنّ الخارج عمّا هو المعتاد المعبّر عنه بمجراه العادي أيضاً معيب ، كالأرض الثقيلة الخراج ، أو كانت محلّ نزول العساكر ، فإنّه لا زيادة ولا نقص في خلقتها الأصلية ، ومع ذلك فهي معيبة بالخروج عن مجراها العادي ، وعليه فالمنفعة وإن لم يتصوّر العيب بالمعنى الأوّل فيها ، لكنّه يتصوّر فيها العيب بالمعنى الثاني ، فخيار العيب فيها معقول من حيث نفسها لا من حيث نقص العين ، وثمرته ثبوت الأرش أيضاً ، فإنّ أحد طرفي المعاوضة معيب يتفاوت مع الصحيح في المالية والقيمة(1) ، انتهى .
هذا ، ولكن ما ذكر لا يكفي إلاّ لإثبات المعقوليّة ولا يجدي في أصل الحكم ، ضرورة أنّ ثبوت الأرش يحتاج إلى ضمّ دعوى إلغاء الخصوصية من الأخبار الواردة في خيار العيب ، وقد مرّ أنّ هذه الدعوى ممنوعة ، ومجرّد ثبوت الأرش في بعض الموارد الاُخر غير البيع لا يلازم الثبوت في المقام ، فالإنصاف أنّه لا وجه للحكم بثبوت الأرش إلاّ على تقدير ثبوت خيار العيب في المقام ، ولم ينهض دليل عليه بعد . نعم ، على ذلك التقدير لا مجال للمناقشة في ثبوته ، فتدبّر . [انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].
***
1 ـ قد تقدّم البحث في جريان الخيارات في الإجارة وعدمه في المسألة التاسعة المتقدّمة مفصلاً ، وذكرنا هناك(2) أنّ ما كان دليله غير منحصر بباب
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 271 .
(2) في ص150 .
(الصفحة234)
البيع ـ كخياري الغبن والعيب ـ يجري في الإجارة ، من دون فرق بين ما لا يكون له دليل خاصّ أصلاً كخيار الغبن ، وبين ما كان له دليل خاص أيضاً كخيار العيب . غاية الأمر أنّه لا يثبت في هذا القسم الأحكام الخاصّة ، كالتخيير بين الردّ والأرش فيه ، واشتراط عدم إقباض المبيع وكون الخيار محدوداً بثلاثة أيّام في خيار التأخير ، وذلك لثبوت تلك الأحكام بالدليل الخاصّ الذي لا يجري في غير البيع .
نعم ، يقع الكلام في جواز اشتراط الخيارين بحدودهما والأحكام الخاصّة بهما ، والظاهر أنّه لا مانع من ذلك لعدم ثبوت ما يمنع عن اشتراط التخيير بين الردّ والأرش على تقدير العيب، وكذا اشتراط كون الخيار محدوداً بالثلاثة ومقيّداً بما لم يقبض المبيع ، كما هو واضح .
وكيف كان ، فجريان خيار الغبن في الإجارة ـ بالإضافة إلى المؤجر أو المستأجر ـ ممّا لا إشكال فيه ، وكذا في سقوطه عند شرط السقوط كما في البيع .
(الصفحة235)
[تملك المنفعة والعمل والاُجرة بمجرّد العقد]
مسألة : يملك المستأجر المنفعة في إجارة الأعيان ، والعمل في إجارة النفس على الأعمال ، وكذا المؤجر والأجير الاُجرة بمجرّد العقد ، لكن ليس لكلّ منهما مطالبة ما ملكه إلاّ بتسليم ما ملّكه ، فعلى كلّ منهما وإن وجب التسليم لكن لكلّ منهما الامتناع عنه إذا رأى من الآخر الامتناع عنه1 .
1 ـ يقع الكلام في هذه المسألة في أُمور :
الأمر الأوّل : تملك المنفعة بنفس العقد ، وقد وقع التعبير في المتون الفقهية بأنّه تملك المنفعة بنفس العقد ، كما تملك الأُجرة به(1) ، ونفى وجدان الخلاف فيه صاحب الجواهر (قدس سره) ، بل قال : الإجماع بقسميه عليه(2) ، وحكي عن أبي حنيفة خلاف ذلك ، وأنّ المؤجر يملك الأُجرة بنفس العقد ، والمستأجر لا يملك المنفعة وإنّما تحدث في ملك المكري ، ثمّ يملك المكتري من المكري حين حدوثه في ملكه(3) ، وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم اُمور :
أحدها : الظاهر أنّه ليس المراد بنفس العقد خصوص ما إذا كان السبب لتحقّق الإجارة هو اللفظ ; أي الإيجاب والقبول المعبّر عنه بالعقد ، بل الأعمّ منه ومن السبب الفعلي أي المعاطاة ، بناءً على صحّة جريانها في الإجارة كالبيع وتأثيرها في الملكيّة كالعقد ، فالقائل بعدم تحقّق الملكيّة بمجرّد العقد بالإضافة إلى المنفعة يقول بعدم تحقّقها بمجرّد المعاطاة أيضاً .
(1) الخلاف : 3 / 489 مسألة 3 ، المهذّب : 1 / 472 ، إصباح الشيعة : 276 ، شرائع الإسلام : 2 / 183 ، إرشاد الأذهان : 1 / 422 ، الحدائق الناضرة : 21 / 579 .
(2) جواهر الكلام : 27 / 271 .
(3) الخلاف : 3 / 489 مسألة 3 ، المبسوط للسرخسي : 15 / 108 ـ 109 ، المغني لابن قدامة : 6/13 .
(الصفحة236)
ثانيها : أنّ المراد بالمنفعة التي وقع الاختلاف بين أبي حنيفة وغيره من فقهاء المسلمين في تملّكها بمجرّد العقد هو منفعة مثل الدار والدّابة والعبد ، ضرورة أنّ منفعة الأشجار المثمرة التي هي عبارة عن الثمرة الموجودة الحاصلة لها لا يتوقّف تملّكها على شيء آخر ; لأنّها موجودة فعلاً ، ولا يكون وجودها تدريجياً ، فلا مانع من تملّكها بناءً على كون المعاملة الواقعة صحيحة من طريق الإجارة ، وكذا إذا استأجر أجيراً لعمل كلّي في ذمّته ، فإنّه لا يتوقّف تملّك المستأجر على شيء ; لأنّ موطن ملكه هي الذمّة ، والمملوك موجود فيها فعلاً ، وما يتحقّق من الأجير بعد ذلك من العمل يكون مصداقاً لما كان مملوكاً للمستأجر ، لا أنّه بنفسه مملوك حتّى يقال بعدم اتّصافه بالوجود حال العقد .
والدليل على ما ذكرنا أن الشيخ (قدس سره) في الخلاف(1) ذكر في عنوان المسألة استئجار الدار والدابّة والعبد فقط ، فراجع .
ثالثها : إنّ هذا البحث إنّما يجري بناءً على ماهو المشهور من كون الإجارة مؤثّرة في تمليك المنفعة ، وأمّا بناءً على ما احتملناه بل قوّيناه(2) من أنّ ما ينتقل إلى المستأجر من المؤجر في إجارة الأعيان إنّما هو حقّ الانتفاع الثابت للمؤجر باعتبار كونه مالكاً للعين ، وليس هنا ملكيّة بلحاظ المنفعة حتّى بالإضافة إلى المؤجر ، كما يساعده الاعتبار العقلائي أيضاً ; لأنّ المنفعة ليست شيئاً مملوكاً يحتاج إلى مالك ، فلاموقع لهذا النزاع أصلاً ، إذ ليس في البين تمليك منفعة أصلاً حتّى ينازع في زمان حصول الملكيّة بالإضافة إليها ، وقد صرّح المحقّق الرشتي (قدس سره)(3) بهذا المطلب في مقام
(1) الخلاف : 3 / 489 مسألة 3 .
(2) في ص8 ـ 10 و 55 .
(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 225 .
(الصفحة237)
الجواب عن أبي حنيفة في هذا المقام .
رابعها : أنّه لا ملازمة بين دعوى عدم تملّك المنفعة بنفس العقد ، وبين القول بعدم تملّك الأُجرة بنفس العقد أيضاً ، فإنّه يمكن أن يقال بالأوّل دون الثاني ، كما صرّح بذلك القائل بعدم تملّك المنفعة بالعقد على ما عرفت من مرامه ، وما قاله المحقّق الرشتي (قدس سره)(1) من أنّ المحكي عن أبي حنيفة هو التلازم بين الأمرين فهو مخالف لما حكاه عنه في الخلاف .
وكيف كان ، فدعوى الملازمة مبتنية على اقتضاء المبادلة والمعاوضة لكون دخول الأُجرة في ملك المؤجر على نهج دخول المنفعة في ملك المستأجر ، فكما أنّ الثاني تدريجي بناءً على هذا القول ، كذلك الأوّل يلزم أن يكون بنحو التدريج .
والظاهر بطلان هذه الدعوى ، فإنّ المبادلة والمعاوضة لا تكون مقتضية لذلك بوجه ، فإنّه إن كان المعوّض للاُجرة هي المنفعة الموجودة فعلاً كوجود الأُجرة كذلك لكان اللاّزم أن لا يتحقّق بينهما التفكيك من هذه الجهة ، وأمّا لو كان المعوّض للاُجرة الفعلية هي المنفعة الموجودة تدريجاً فمقتضى المبادلة والمعاوضة التفكيك ، وإلاّ يلزم التفكيك كما هو غير خفي .
خامسها : إنّ ظاهر التعبير بأنّ المنفعة تملك بنفس العقد مع جعل المخالف في الحكم أبا حنيفة ومن يماثله يشعر بل يدلّ على أنّ المخالف لا يقول بسببية العقد لحصول الملكيّة بالإضافة إلى المنفعة ، مع أنّه ليس كذلك ، فإنّه أيضاً لايرى السبب لذلك إلاّ نفس العقد . غاية الأمر أنّه يقول بأنّ الملكيّة حيث تحتاج إلى محلّ ثابت فلابدّ من أن توجد المنفعة حتّى تتّصف بالملكية ، فالسبب لحصولها عند وجود
(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 225 .
(الصفحة238)
المنفعة ليس إلاّ العقد ، وعليه فمرجع النزاع إلى أنّ المنفعة المملوكة بنفس العقد هل تكون مملوكة دفعة ، كما عليه الجمهور من فقهاء المسلمين ، أو تكون مملوكة تدريجاً ، كما يراه أبو حنيفة ومن يماثله ؟ فالخلاف في الدفعيّة والتدريجيّة لا في السبب المملّك كما هو ظاهر التعبير ، فتدبّر .
إذا عرفت هذه الاُمور فاعلم أنّ منشأ الاختلاف أنّ المنفعة هل تقبل الملكيّة قبل وجودها أم لا ؟ وملخّص تقريب النافي أنّ الملكيّة صفة ثبوتية مفتاقة إلى موضوع موجود ومحلّ ثابت ، ومن المعلوم أنّ المنافع لا تكون موجودة حال العقد ، بل توجد شيئاً فشيئاً وبتبعه تعرّض الملكيّة لها أيضاً كذلك .
وأجاب عنه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بوجهين :
أحدهما : إنّ مقتضى هذا التقريب أنّ المنفعة مع عدم الاستيفاء غير مملوكة ، ولا يلتزم به أحد .
ثانيهما : إنّ مقتضاه أنّ المؤجر يصحّ منه التمليك من دون أن يكون مالكاً ; لأنّ المفروض مقارنة ملك المنفعة ووجودها ، ولا معنى لأن يملك المؤجر باستيفاء المستأجر ، كما لايعقل أن يكون المؤجر والمستأجر مالكين معاً في زمان واحد ، إذ آن الوجود لا تعدّد فيه حتّى يملك المؤجر في آن والمستأجر في آن آخر ، فإنّ الآن الآخر آن وجود منفعة اُخرى لا المنفعة الاُولى .
وبالجملة : المنفعة ليست كالعين حتّى يمرّ عليها زمانان يكون أحدهما زمان ملك المؤجر والآخر زمان ملك المستأجر ليصحّ تمليك المنفعة من مالكها ، ثمّ قال: وقد ذكرنا في أوائل الإجارة : أنّ هذا الإشكال مبنيّ على كون الملكيّة الشرعيّة والعرفيّة التي هي موضوع للأحكام والآثار من الأعراض والمقولات الواقعيّة ، مع أنّا قد بيّنا في محلّه استحالة ذلك بالبراهين القاطعة وأنّها اعتبار أمر مقولي ،
(الصفحة239)
والاعتبار لا يستدعي إلاّ الطرف في اُفق الاعتبار ، والمنافع يقدّر وجودها ، فيتعلّق بها الملك الاعتباري(1) .
ويمكن الجواب عن الوجه الأوّل بمنع اقتضاء التقريب لما أفاده ، فإنّه ليس فيه ما يقتضي توقّف اتّصاف المنفعة بالملكيّة على الاستيفاء ، فتدبّر .
واُجيب عن الوجه الثاني تارةً بأنّه يمكن فرض التعدّد في آن الوجود ; لأنّ ما لايقبل التعدّد من الآنات إنّما هو الآن العقلي ، وأمّا الآن العرفي الذي دائرته أوسع من العقلي فهو قابل لفرض ملك المؤجر والمستأجر معاً فتأمّل . واُخرى بأنّه على تقدير كون المراد هو الآن العقلي ، لكن ترتّب ملك المستأجر على ملك المؤجر لايلزم أن يكون ترتّباً زمانياً حتّى يحتاج إلى فرض زمانين : أحدهما سابق والآخر لاحق ، بل هو تفرّع عقلي منشؤه التأخّر من حيث الرتبة وإن كان في زمان ليس إلاّ التقارن ، وفي كلا الجوابين ما لا يخفى من النظر .
ثمّ أنّه على فرض صحّة المناقشة في الوجهين لا مجال للخدشة فيما أفاده من أنّ الملكيّة ليست من المقولات الواقعية ، بل هي أمر اعتباري لا يستدعي إلاّ الموضوع في عالم الاعتبار ، والمنافع قابلة لتقدير وجودها مقدّمة لاعتبار الملكيّة ، ولا مانع من كون الموضوع للأمر الاعتباري أمراً اعتبارياً آخر ، وليس من قبيل قيام العرض بعرض آخر لو سلّم كونه مستحيلاً . وكيف كان ، فهذا هو العمدة في الجواب عن شبهة أبي حنيفة .
ثمّ إنّ صاحب الجواهر (قدس سره) استدلّ في قبال أبي حنيفة بعد الإجماع بما هذه عبارته : مضافاً إلى أنّ ذلك مقتضى العقد والمراد من إنشائه ، بل هو مقتضى ما دلّ على إفادة
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 158 .
(الصفحة240)
العقد الملك وتسبيبه له من {أوفُوا}(1) وغيره ، لأصالة عدم اعتبار أمر آخر عليه ، كما أنّه مقتضى ما دلّ على حصوله بالاستئجار المتحقّق بالعقد نحو الشراء والبيع ، بل لم يقل أحد بالفصل بينهما ، ولا ينافي ذلك توقّفه في بعض أفراد العقد على أمر آخر ، كالقبض في الصرف ونحوه للدليل(2) .
وتبعه في التكلّم في مقام الإثبات زائداً على مقام الثبوت المحقّق الإصفهاني (قدس سره) ، وإن ناقش في التمسّك بالأصل العملي ; بأنّ غاية مقتضاه أنّ الاعتبار الملكي غير مترتّب على المتقيّد بهذا القيد ، وبالتلازم العقلي يقتضي أنّ العقد المجرّد عنه يؤثّر في الملك ، مع أنّه لا عبرة بالأُصول المثبتة ، وفي التمسّك بالأصل اللفظي بأنّه يتوقّف على كون إطلاقات أدلّة الوفاء بالعقد وحلّية البيع والإجارة واردة مورد إنفاذ الأسباب ، وأمّا اذا كانت في مقام المسبّبات وأنّها محقّقة عند الشارع كالعرف ، فلاتجدي في دفع الشكّ في اعتبار دخل شيء في تأثير العقد(3) .
أقول : لم أعرف وجهاً للتكلّم في مقام الإثبات أصلاً ، فإنّك عرفت أنّه لاشبهة في المسألة إلاّ ما حكي عن المخالف المعاند ; وهي شبهة ثبوتية ، ومع دفعها بما تقدّمـ وإثبات أنّ المنفعة مع تدرّجها في الوجود قابلة لتعلّق الملك الدفعي بها ـ لايبقى إشكال في المسألة بوجه حتّى يحتاج إلى التمسّك بالأُصول اللفظية والعملية .
وبعبارة اُخرى بعدما عرفت في الأمر الخامس من الاُمور التي قدّمناها ; أنّ النزاع ليس في أنّ المتّصف بالسببيّة في باب الإجارة هل هو العقد فقط ، أو مع شيء
(1) سورة المائدة 5 : 1 .
(2) جواهر الكلام : 27 / 271 ـ 272 .
(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 159 .
|