(الصفحة41)
والوجه في الثاني مضافاً إلى استشكال بعض الأعلام في السند وان رفعناه سابقاً ، وإلى احتمال الانصراف إلى البالغين ، كما لايبعد أن جعل منصب القضاء للبالغ في قالب التعبير بالرجل ، مع كون المتكلّم فاعلا مختاراً عالماً بتمام المعنى يغاير الجعل ، بالإضافة إلى العموم الشامل لغير البالغ ، وإن لم يكن له مفهوم سلبيّ في باب المفاهيم المذكورة في علم الاُصول ، حتى يكون المفهوم السلبي مقيّداً للاطلاق الايجابي ، إلاّ أنّ التغاير العرفي الموجب لحمل المطلق على المقيّد موجود هنا ، كما لايخفى .
الثاني : العقل ، فلا يصحّ قضاء المجنون ، ولو كان الجنون أدوارياً وكان القضاء في حال إفاقته; لأنّه ـ مضافاً إلى أنّ علوّ مقام القضاء وشموخ هذا المنصب لا يناسب المجنون بوجه ، وإلى أنّ منصب القضاء من المناصب الثلاثة الثابتة للرسول (صلى الله عليه وآله)ـ انصرف أدلّة النصب عن المجنون ، ولا ريب في تحقّق هذا الانصراف خصوصاً بعد ادّعاء الشيخ في رسالة القضاء ثبوت الإجماع المحقّق والمنقول على اعتباره(1) .
الثالث : الايمان المساوق للاعتقاد بالولاية وإمامة الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين ، لا الإيمان المقابل للكفر ، فإنّ اعتباره واضح ، والدليل على اعتبار الإيمان المذكور ـ مضافاً إلى دعوى الإجماع التي عرفتها من الشيخ الأنصاري (قدس سره) ـ التقييد بقوله (عليه السلام) : «منكم» في مقبولة عمر بن حنظلة ، الظاهر في اعتبار كون الرجل من أهل الإيمان ، والنهي عن التّرافع إلى قضاة الجور ، وتطبيق قوله تعالى : {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَد اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ}(2) على قضاة الجور ، وإن
(1) القضاء والشهادات (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 29 .
(2) سورة النساء 4 : 60 .
(الصفحة42)
كان قضاؤهم أحياناً حقّاً غير باطل ، وأنّه لا يجوز أخذه لكونه سحتاً على ما عرفت .
الرابع : العدالة ، والدليل على اعتبارها مضافاً إلى التعبير عن قضاة الجور المنصوبين من قبل سلاطين الجور بالفسّاق ، كما في رواية أبي خديجة المتقدّمة المشتملة على قوله (عليه السلام) : «إيّاكم ـ إلى قوله : ـ أن تحاكموا(1) إلى أحد من هؤلاء الفسّاق» وإلى أنّ اعتبار العدالة في الشاهد وفي إمام الجماعة يقتضي اعتبارها في القاضي بنحو الأولويّة القطعيّة ، مع أنّه من مصاديق الركون إلى الظالم المنهيّ عنه في الآية الشريفة ، والإجماع الذي حكاه الشيخ الأنصاري (قدس سره) شامل له .
الخامس : الاجتهاد المطلق الشامل لأمرين : أصل الاجتهاد وكونه مجتهداً مطلقاً .
فنقول : أصل اعتبار الاجتهاد ممّا لا إشكال فيه ، وإن عبّر عنه العلاّمة في محكيّ القواعد بالعلم(2) ، لكنّ المراد به هو الاجتهاد الناشئ عن الأدلّة المتعارفة ، لا العلم من أيّ سبب كان ، وإن كان حجّة في نفسه في القطع الطريقي كما بيّن في الاُصول ، ولا يختصّ بالعلم المقابل للظنّ ، بل يشمل الظنّ المعتبر والاُصول العمليّة .
وأمّا اعتبار كونه مجتهداً مطلقاً ، فالمنسوب إلى صاحب المسالك دعوى الإجماع عليه ، ولكن ملاحظة عبارة المسالك(3) تقضي بخلافه ، بل ذكر الشيخ الأنصاري (قدس سره) : إنّ المشهور صحّة التجزي(4) ، بل القول بعدمها لم نعرفه من الإماميّة
(1) في التهذيب : تتحاكموا .
(2) قواعد الأحكام : 2 / 201 ، الفصل الثاني .
(3) مسالك الأفهام : 13 / 328 .
(4) القضاء والشهادات (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 32 .
(الصفحة43)
قبل صاحب المعالم(1) .
أقول : إن كان المراد صحّة التجزّي في باب القضاء لا في نفسه في مقابل من يقول بالاستحالة ، فقد ذكر المحقّق في الشرائع قوله : ومع عدم الإمام (عليه السلام) ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) الجامع للصفات المشروطة في الفتوى(2) . ومن الواضح أنّ من جملة تلك الصفات الاجتهاد المطلق .
وكيف كان فقد قوّى عدمَ الفرق في المجتهد بين المطلق والمتجزّي في باب القضاء الشيخُ في الرسالة(3) ، وفاقاً للمصنّف ـ أي العلاّمة ـ في القواعد(4) والشهيدين(5)والمحقّق السبزواري في الكفاية(6) ، والمحقّق القمّي في الغنائم(7) وبعض آخر ، ولابدّ من ملاحظة الروايات الواردة في هذا المجال .
فنقول : إنّ لأبي خديجة سالم بن مكرم الجمال روايتين بحسب الظاهر ، إحداهما : ما عرفت ، والثانية : قال : قال أبو عبدالله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) : إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا) فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضياً ، فتحاكموا إليه(8) .
(1) معالم الدين : 27 و239 .
(2) شرائع الإسلام : 4 / 861 .
(3) القضاء والشهادات (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 30 .
(4) قواعد الأحكام : 2 / 202 .
(5) الدروس الشرعيّة: 2 / 66، الروضة البهيّة: 2 / 418.
(6) كفاية الاحكام : 261 .
(7) غنائم الأيّام : 672 ـ 673 .
(8) الفقيه : 3 / 2 ح1 ، الكافي : 7 / 412 ح7 ، التهذيب : 6 / 219 ح516 ، الوسائل : 27 / 13 ، أبواب صفات القاضي ب1 ح5 .
(الصفحة44)
وقد تبع صاحب الجواهر (قدس سره) صاحب الوسائل في تعدّد الرّواية وتكثّرها(1) ، ولكنّ الظاهر عدم التعدّد كما أشرنا إليه مراراً ، ويؤيّد عدم التعدّد في المقام أنّه لابدّ بناءً على التعدّد من الحكم بأنّ قوله (عليه السلام) : «فإنّي قد جعلته قاضياً» يكون الجعل في المتقدّم جعلا إنشائيّاً صادراً في مقام بيان النصب ، وفي المتأخّر جعلا خبريّاً حاكياً عن الجعل الإنشائيّ القبلي ، كما في قول القائل : بعت داري . فإنّه إذا كان في مقام عقد البيع يكون هذا الكلام إنشائيّاً صادراً لبيان إنشاء البيع وعقده ، وإذا كان في مقام الإخبار عن البيع الواقع سابقاً يكون إخباريّاً حاكياً عنه ، مع أنّ العبارة في الرّواية تأبى عن الأمرين جميعاً ، فلا يلتئم إلاّ مع الوحدة وعدم التعدّد .
وحينئذ فإن كان الصادر هو الأوّل ينطبق على بعض الاُمور المذكورة في المقبولة ، وسيجيء إن شاء الله تعالى . وإن كان الصادر هو الثاني المشتمل على قوله : «يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا)» فالظاهر أنّ المراد من الشيء هو المقدار المعتدّ به ، كما ربّما يظهر بملاحظة التعبيرات العرفيّة لا الشيء الصادق بالواحد ، وحينئذ فإن كان الصادر «قضايانا» يصير المراد مقداراً معتدّاً به من أحكامهم ، فإنّ القضايا جمع القضيّة المشتملة على الموضوع والمحمول ، والإضافة تفيد الاختصاص أي الأحكام المختصّة بهم ، ولا دلالة للرواية حينئذ على اعتبار الاجتهاد المطلق بوجه ، وإن كان الصّادر (قضائنا) فكذلك أيضاً ، إلاّ أنّه يرد أنّه لابدّ من حذف المضاف ، أي يكون المراد حكمنا في القضاء; لأنّهم لم يكونوا متصدّين للقضاء ، ولعدم مساعدة الجوّ والفضاء لقضائهم ، بل لتدريسهم أيضاً . وعلى أيّ فلم يعلم الصّادر; لأنّ الرواية واحدة والجملة الصادرة مردّدة ، على ما عرفت .
(1) جواهر الكلام : 40 / 31 .
(الصفحة45)
وأمّا المقبولة ، فربّما يقال : إنّ الدالّ على اعتبار الاجتهاد المطلق هو قوله (عليه السلام) : «وعرف أحكامنا» نظراً إلى أنّ الجمع المضاف يفيد العموم ، أي جميع أحكامهم .
لكنّه أورد عليه الشيخ في الرسالة : بأنّ حمل الجمع على العموم غير ممكن مع إبقاء قوله (عليه السلام) «عَرَفَ» على ظاهره من المعرفة الفعليّة; للإجماع بل الضرورة على عدم اعتبار العلم الفعليّ بجميع الأحكام ، فحمل الفعل الماضي على إرادة الملكة ليس بأولى من حمل المضاف على الجنس ، بل هو أولى بمراتب ، ومع التّساوي فيسقط الاستدلال(1) .
أقول : بل لا يمكن اعتبار العلم الفعلي بجميع أحكام الأئمّة (عليهم السلام) خصوصاً مع أنّ علومنا ليس في مقابل علومهم إلاّ كالقطرة من البحر ، ولكنّ الاستدلال لا يتوقّف على إفادة الأحكام للعموم ، حتّى يمنع بأنّ الجمع المضاف لا يفيد العموم ، بل لو كان الجنس مكان الجمع كما في الأمرين الأوّلين لأفاد اعتبار الاجتهاد المطلق أيضاً; لأنّه لا يراد من رواية الحديث المضاف إليهم حينئذ ، ولا من النظر في حلالهم وحرامهم ، ولا من معرفة حكمهم ما يكون منطبقاً عليه الجنس وهو الواحد; لأنّه ـ مضافاً إلى عدم تناسب ذلك مع جعل منصب القضاء والحكومة ، ولابدّ من تناسب الحكم والموضوع ـ لا يكون المتفاهم العرفي من هذه التعبيرات إلاّ ما ينطبق على الاجتهاد المطلق ، مع أنّ محدودة اجتهاد المتجزّي إن كانت غير باب القضاء فاعتباره في مسألة القضاء لا يعرف له وجه ، وإن كانت في محدودة القضاء فلا يكون في الرواية إشعار إليه .
وعلى تقدير كون الصادر «شيئاً من قضائنا» في رواية أبي خديجة يدلّ على
(1) القضاء والشهادات (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 31 .
(الصفحة46)
اعتبار التجزّي في باب القضاء كما لا يخفى ، وكيف كان فاعتبار التجزّي بنحو الاطلاق الشامل لباب الصلاة مثلا في صحّة القضاء لا يعرف له وجه . ومن هنا يشكل الحكم بكفاية التجزّي في الاجتهاد بعد الحكم باعتبار أصله .
كما أنّه يشكل الحكم باعتبار الاجتهاد المطلق; لأنّ المنصوبين في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله)وعليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في زمان حكومته وبسط يده لم يكونوا واجدين لذلك ، وعلى الأقلّ جميعهم لا يكون كذلك بالضرورة . ولو قلنا : بأنّ الاجتهاد المطلق في تلك الأزمنة لم يكن بهذه السعة المتحقّقة في هذه الأزمنة ، ولم يكن متوقّفاً على علوم كثيرة صعبة كالأدبيّة العرفيّة لغير من تكون لغته عربيّة ، وعلم الرجال وغيرهما ، بل كان متوقّفاً على مسائل سهلة واُمور يسيرة مثلا .
والّذي يختلج بالبال في كلّ أساس الإشكال أن يقال ولو على سبيل الاحتمال : إنّ دلالة المقبولة على اعتبار الاجتهاد المطلق فيمن جعل له القضاء والحكومة ، وإن كان ممّا لا تنبغي المناقشة فيه ، إلاّ أنّه لا يلزم الاعتبار مطلقاً بالإضافة إلى زمن الغيبة ، وفي جميع الحالات والشرائط والأمكنة والأزمنة .
توضيح ذلك : أنّ التشكيلات القضائيّة في كلّ نظام وحكومة حتى الحكومات الدنيويّة المنكرة لأساس الأديان فضلا عن الإسلام ، لها دخالة كاملة في حفظ تلك الحكومة وذلك النظام ، وإجراء مقرّراته وقوانينه ، وحفظ الأمنيّة التامّة وحقوق الناس ، ويصحّ التعبير عنها بأنّها يد الحكومة وقوام بقائها وضامن حفظها ، وهكذا في النظام الإسلامي والحكومة المبتنية عليه .
وحينئذ نقول : إنّ إصرار الأئمّة (عليهم السلام) وتأكيدهم والتشديد على عدم جواز الترافع إلى قضاة الجور ، وحرمة ما اُخذ بحكمهم ولو كان حقّاً; لأنّه قد أُخذ بحكم الطاغوت ، وهو من مصاديق قوله تعالى : {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ
(الصفحة47)
وَقَد أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ}(1) ليس لمجرّد كونهم فاسقين غير عادلين ، وكون حكمهم بالباطل غالباً وبغير حقّ ، بل لكونهم أيادي الظلمة وسلاطين الجور الغاصبين لحقّهم (عليهم السلام) ، ويكون الترافع إليهم تأييداً لهم ولمن هم من أياديهم ، وعدم الترافع يكون موجباً لضعفهم وضعف الحكومة الناصبة لهم .
ومن ناحية اُخرى لم يكن للأئمّة (عليهم السلام) القدرة الموجبة للنصب الخاصّ بالإضافة إلى الأفراد الذين هم مورد لنظرهم; لأنّ القدرة والسلطة كانت في اختيار الجائرين الغاصبين ، وكذلك لم يكن الحضور إلى محضرهم أمراً ممكناً غالباً ، لأنّهم كانوا في حصر شديد ومراقبة كاملة ، ولم يكن للشيعة الوصول إليهم في أيّ زمان أرادوا .
وعليه فيمكن أن يقال: بأنّ مفاد المقبولة النصب العامّ بالإضافة إلى زمن الحضور، لمن كان مجتهداً مطلقاً لا يحتاج إلى مراجعة شخص الإمام (عليه السلام) نوعاً . وأمّا إذا كانت الحكومة شيعيّة ، وكان الحاكم لائقاً شرعاً للحكومة ، فلا حاجة إلى الاجتهاد المطلق ، كما كان في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعليّ (عليه السلام) في زمان حكومته وخلافته ظاهراً .
كما أنّ الأمر كذلك في زماننا هذا بالنسبة إلى النظام الحاكم على مملكة إيران ، فإن إدارة التشكيلات القضائيّة نوعاً بيد القضاة غير الواجدين للاجتهاد المطلق ، ولا مجال لأن يقال : إنّ المجوّز لذلك الضرورة أو إذن المجتهد المطلق ، بل لا دليل على الاعتبار بعد كون اللاّزم عليهم إجراء المصوّبات ، أو الرجوع إلى فتوى مرجع خاصّ ، وليس لهم إعمال الاجتهاد الشخصي ، وإن كان ثابتاً بالإضافة إلى بعضهم .
فالتحقيق أنّ مفاد المقبولة إذن نصب عامّ بالإضافة إلى الشرائط المشابهة لا مطلقاً ، ولا دليل على إعتبار غير المقبولة حتى رواية أبي خديجة على ما عرفت .
(1) سورة النساء 4 : 60 .
(الصفحة48)
نعم مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يكون القاضي عالماً بشؤون القضاء والحكومة ، ولم يكن عواماً محضاً غير قادر على فصل الخصومة ورفع التنازع بالموازين الشرعيّة المقرّرة كذلك ، والعجب أنّ مثل المحقّق في الشرائع أضاف على اعتبار الشرائط والصفات المعتبرة في الفتوى ورجوع المقلّد ، أنّه ولابدّ أن يكون عارفاً بجميع ما وَلِيَه(1) ، فراجع .
السادس : الذكورة ، ويدلّ على اعتبارها ـ مضافاً إلى أنّه لا خلاف فيه ولا إشكال من حيث الفتوى ـ التعبير بالرجل في معتبرة أبي خديجة المتقدّمة على كلا نقلها ، وقد عرفت أنّ هذا التعبير في مقابل الصبيّ والمرأة ، ولا مجال لدعوى إلغاء الخصوصيّة كما مرّ ، ويؤيّده ما رواه الصدوق بإسناده عن حمّاد بن عمرو وأنس بن محمد ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمّد ، عن آبائه (عليهم السلام) في وصيّة النبيّ (صلى الله عليه وآله)لعليّ (عليه السلام)قال : يا عليّ ليس على المرأة جمعة ـ إلى أن قال : ـ ولا تولّى القضاء(2) .
والسّند وإن كان ضعفه منجبراً بالشهرة المحقّقة وما فوقها ، إلاّ أنّ الدّلالة أيضاً غير واضحة; لأنّ عدم وجوب الجمعة وكذا الجماعة على النساء لا يرجع إلى البطلان لهنّ ، وهكذا تولّى القضاء وإن كان لا يكون واجباً لهنّ لا كفائيّاً ولا عينيّاً ، إلاّ أنّ عدم نفوذ حكمهنّ وعدم صحته الذي هو المدّعى لا يستفاد منها . ولكن قد عرفت دلالة رواية أبي خديجة عليه مع أنّه لا خلاف فيه ولا إشكال .
ودعوى أنّ التعبير بـ «من» الموصولة الشاملة للنساء في المقبولة المتقدّمة مطلق لا يختصّ بالرجال مدفوعة ـ مضافاً إلى الانصراف كما ادّعي ـ بأنّ الاطلاق يقيّد
(1) شرائع الإسلام : 4 / 860 .
(2) الفقيه : 4 / 263 ح821 ، الوسائل : 27 / 16 ، أبواب صفات القاضي ب2 ح1 .
(الصفحة49)
برواية أبي خديجة ومثلها ، ومضافاً إلى أنّ منع إمامة المرأة للرجال وإمامتها للنساء أيضاً ـ كما اخترناه على سبيل الاحتياط الوجوبيّ ـ يقتضي المنع هنا بطريق أولى; لأنّ منصب القضاء أهمّ من الإمامة للجماعة ، خصوصاً مع توقّف القضاء على أمور لا يجتمع مع تستّر النساء الذي هو مطلوب أيضاً .
السابع : طهارة المولد ، ويدلّ على اعتبارها ـ مضافاً إلى أهميّة منصب القضاء ، وغير طاهر المولد محقّر في المجتمع ، ولا يعبأ به كثيراً . وإلى أنّ مقتضى الأصل عدم نفوذ حكمه وقضائه ـ الأُولويّة القطعيّة بالإضافة إلى إمام الجماعة والشاهد ، فإنّه إذا كانت الطهارة معتبرة فيهما ففي القاضي بطريق أولى ، ويمكن دعوى انصراف أدلّة النصب عن مثله ، كما لا يخفى .
الثامن : الأعلميّة ممّن هو في البلد أو ما يقربه ، وقد ذكر في المتن أنّ اعتبارها إنّما هو على سبيل الاحتياط . وغير خفيّ أنّ اعتبارها في المرجع على تقدير الاعتبار إنّما يكون هي الأعلميّة المطلقة لا الأعلميّة بنحو ما ذكر .
ويدلّ على اعتبارها مثل قول علي (عليه السلام) فيما عهده إلى مالك الأشتر : ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك(1) . وما ورد في المقبولة المتقدّمة من الترجيح بالأفقهيّة والأصدقيّة والأعدليّة ، وموردها وإن كان صورة اختيار كلّ من المترافعين حاكماً ، أو صورة رضاهما بحكمين فاختلفا ، إلاّ أنّه يستفاد أنّ المدار على الأرجح عند التعارض مطلقاً ، ولكن ظهور الاستفادة ووضوحها ممنوع .
التاسع : أن يكون ضابطاً غير عارض عليه النسيان على خلاف العادة ، أمّا إذا كان الغالب عليه النسيان بحيث كان مسلوب الاطمئنان ، فالأقوى اعتبار عدمه;
(1) نهج البلاغة : كتاب 53 ، الوسائل : 27 / 159 ، أبواب صفات القاضي ب12 ح18 .
(الصفحة50)
لانصراف الأدلّة عن مثل ذلك انصرافاً ظاهراً لا ينبغي الارتياب فيه ، وهو أي الانصراف الظاهر هو الدليل الوحيد من غير أن يكون له دليل آخر . وأمّا إذا كان عدم الضبط في مرحلة متوسّطة ، فإن كان القضاء متوقّفاً عليه ، كما لو لم يكن له معين وكاتب ومنشئ; فالظاهر الاعتبار; للتوقّف المزبور . وإن لم يكن القضاء متوقّفاً عليه ، فالدليل على اعتبار هذه المرحلة من الضبط هو الانصراف أيضاً لا الانصراف بالنحو الموجود في الفرض السابق; ولذا يكون الاعتبار في هذا الفرض على الأحوط كما في المتن .
العاشر : الكتابة ، وقد تنظّر في المتن في اعتبارها ، وإن ذهب إليه عامّة المتأخّرين من الأصحاب(1) ، بل استظهر من السرائر دعوى الإجماع عليه ، حيث نسبه إلى مقتضى مذهبنا(2) . ولكن لا دليل على الاعتبار ، والإجماع على ذلك غير ثابت .
الحادي عشر : اعتبار البصر على رأي ، محكيّ عن الأكثر(3) بل عامّة من تأخّر(4) ، وعن الرياض أنّ شهرة هذا القول بالغة حدّ الإجماع; لعدم معروفيّة القائل بالخلاف من الأصحاب ، وإن أشعر بوجوده بعض العبارات(5) ، وقد جعل في المتن اعتباره بنحو الاحتياط الاستحبابي; لعدم الدليل على الاعتبار سوى الانصراف الذي يمكن منعه; لعدم وضوحه ، كدعوى توقّف تميّز الخصوم على البصر ، الذي لو فرض التوقّف في مورد التزمنا به ، لكن هذا لا يثبت القاعدة الكلّيّة والاعتبار بنحو الاطلاق ، كما لايخفى .
(1) رياض المسائل : 9 / 240 ، التنقيح الرائع : 4 / 236 .
(2) السرائر : 2 / 166 .
(3) كفاية الأحكام : 262 ، القضاء والشهادات (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 42 .
(4 ، 5) رياض المسائل : 9 / 242 .
(الصفحة51)
مسألة 2 : تثبت الصفات المعتبرة في القاضي بالوجدان والشياع المفيد للعلم ، أو الاطمئنان والبيّنة العادلة ، والشاهد على الاجتهاد أو الأعلميّة لابدّ وأن يكون من أهل الخبرة1.
1 ـ لا شبهة في ثبوت الصفات المعتبرة في القاضي عند كلّ من المترافعين ـ كما سيصرّح به في المسألة الآتية ـ بالوجدان أي العلم ، وتثبت بالشياع والاستفاضة أيضاً ، بشرط أن يكون مفيداً للعلم أو الاطمئنان ، ومرجع ذلك إلى عدم حجّية الشياع في نفسه ، بل الحجّة هي العلم أو الاطمئنان ، وحجّية الأوّل واضحة لا ريب فيه ، وأمّا حجّية الاطمئنان; فلأنّه عند العرف والعقلاء علم ، ويعامل معه معاملة العلم ، والشارع لم يردع عنه ، بل أكثر العلوم يرجع إليه .
وفي الحقيقة لا يكون علماً . نعم ورد في باب الشياع صحيحة حريز ، وربّما يستفاد منها اعتبار الشياع; ولو لم يكن مفيداً للاطمئنان ، أي الظنّ المتأخم للعلم . قال :
كانت لإسماعيل بن أبي عبدالله (عليه السلام) دنانير ، وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن ، فقال إسماعيل : يا أبه إنّ فلاناً يريد الخروج إلى اليمن ، وعندي كذا وكذا ديناراً ، أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : يابنيّ أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل : هكذا يقول النّاس . فقال : يا بنيّ لا تفعل . فعصى إسماعيل أباه ودفع إليه دنانيره ، فاستهلكها ولم يأته بشيء منها .
فخرج إسماعيل وقضى أنّ أبا عبدالله (عليه السلام)حجّ وحجّ إسماعيل تلك السنة ، فجعل يطوف بالبيت وهو يقول : «اللّهم أجرني واخلف عليّ ، فلحقه أبو عبدالله (عليه السلام) فهمزه بيده من خلفه وقال له : مه يا بنيّ ، فلا والله مالك على الله هذا ، ولا لك أن يأجرك
(الصفحة52)
ولا يخلف عليك ، وقد بلغك أنّه يشرب الخمر فائتمنته . فقال إسماعيل : يا أبه إنّي لم أره يشرب الخمر ، إنّما سمعت الناس يقولون .
فقال : يا بنيّ إنّ الله عزّوجلّ يقول في كتابه : {يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلمُؤْمِنِين}(1)يقول : يصدّق لله ويصدق للمؤمنين ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم ، ولا تأتمن شارب الخمر ، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول : {وَلاَ تُؤْتُوا السُفَهَاءَ أَموَالَكُم}(2) فأيّ سفيه أسفه من شارب الخمر؟! إنّ شارب الخمر لا يزوّج إذا خطب ، ولا يشفّع إذا شفع ، ولا يؤتمن على أمانة ، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله أن يأجره ولا يخلف عليه(3) .
والرواية وإن كانت صحيحة ، لكن في دلالتها مناقشة أو مناقشات من جهة أنّ تصديق النّبي (صلى الله عليه وآله) للمؤمنين مرجعه إلى تصديقه (صلى الله عليه وآله) لكلّ مؤمن ، لا للمجموع الذي يفيد قولهم العلم أو الاطمئنان ، ومن الواضح أنّ تصديق الواحد لا يرجع إلى ترتيب الأثر العملي على قول الواحد ولو كان فاسقاً ، بل إلى قوله تعالى : {أُذُنُ خَيْر لَكُمْ}(4) مع أنّ الرواية ظاهرة في كون الرجل شارب الخمر ، والظاهر أنّ الإمام (عليه السلام)كان عالماً بذلك ، وإلاّ فمجرّد البلوغ الذي يتحقّق بإخبار واحد فاسق ، لا يجوز النسبة إليه من مثل الإمام الناهي عن ائتمان شارب الخمر ، ولا يكاد يحتمل الجمع بين ائتمان شارب الخمر الموجب لاداء الدنانير إليه ، وحصول الاطمئنان له بشرب الخمر من قول الناس ، كما يؤيّده قوله : «إنّي لم أره يشرب الخمر» . كما لايخفى .
(1) سورة التوبة 9: 61.
(2) سورة النساء 4 : 5 .
(3) الكافي : 5 / 299 ح1 ، الوسائل : 19 / 82 ، كتاب الوديعة ب6 ح1 .
(4) سورة التوبة 9 : 61 .
(الصفحة53)
مسألة 3 : لابدّ من ثبوت شرائط القضاء في القاضي عند كلّ من المترافعين ، ولا يكفي الثبوت عند أحدهما1.
مسألة 4 : يشكل للقاضي القضاء بفتوى المجتهد الآخر ، فلابدّ له من الحكم على طبق رأيه ، لا رأي غيره ولو كان أعلم2.
مسألة 5 : لو اختار كلّ من المدّعي والمنكر حاكماً لرفع الخصومة ، فلايبعد تقديم اختيار المدّعي لو كان القاضيان متساويين في العلم ، وإلاّ فالأحوط اختيار
فالإنصاف أنّه لا يتمّ الاستدلال بالرواية على حجّية الشياع مطلقاً ، ولو لم يفد العلم أو الاطمئنان .
1 ـ لأنّ القضاء عبارة عن فصل الخصومة ورفع التنازع ، أو ولاية على ذلك ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بالاجتماع عند كلّ منهما .
2 ـ بناءً على اعتبار الاجتهاد في القاضي مطلقاً أو في زمان خاصّ كما عرفت ، يكون الوجه في ذلك رفع التنازع والتخاصم بما يراه الحاكم رفعاً شرعيّاً ، خصوصاً فيما إذا كان منشأ التخاصم اختلاف مرجعي التقليد للمتداعين كما عرفت مثاله سابقاً ، فإنّه حينئذ لا يرتفع النزاع والتخاصم إلاّ بما يراه الحاكم الشرعي حكماً إلهيّاً ، وإلاّ فالحكم على طبق رأي الغير لا يكون كذلك .
وهذا لا فرق فيه بين أن يرى الغير مساوياً له أو أعلم منه ، فإنّ المجتهد ولو كان متجزّياً إذا خالف رأيه رأي الغير يرى الغير مخطئاً ولو كان أعلم ، وهذا بخلاف اعتبار العدالة في القاضي ، الذي يكون الوجه فيه عند العرف تساويهما عنده بحيث يطمئنان بذلك .
(الصفحة54)
الأعلم . ولو كان كلّ منهما مدّعياً من جهة ومنكراً من جهة اُخرى ، فالظاهر في صورة التساوي الرجوع إلى القرعة1.
1 ـ لو كان القاضيان متساويين في العلم لا مختلفين ، الذي عرفت أنّ مقتضى الاحتياط الوجوبي تعيّنه للمراجعة إليه ، وكان كلّ من المدعي والمنكر متمحّضاً في هذه الجهة بأن كان المدّعي مدّعياً فقط والمنكر منكراً كذلك ، واختار كلّ منهما حاكماً خاصّاً لرفع الخصومة مع تساويهما في العلم ، فقد نفى البعد في المتن عن تقديم اختيار المدّعي .
وعمدة المستند في ذلك الإجماع ، كما استدلّ به صاحب المستند فيما حكي عنه(1) ، وهو إنّما يتمّ على تقدير ثبوت الأصالة له ، بأن لا يكون مستند المجمعين بعض الوجوه الاعتباريّة التي أضافها المستدلّ إلى الإجماع ، مثل أنّه لم يطالب بالحقّ ولا حقّ لغيره أوّلا ، فمن طلب منه المدّعي استنقاذ حقّه يجب عليه الفحص ، فيجب اتّباعه ولا وجوب لغيره(2) .
واستشكل عليه السيّد في ملحقات العروة : بأنّ كون الحقّ له غيرمعلوم ، وإن أريد أنّ حقّ الدعوى له، حيث إنّ له أن يدّعي وله أن يترك، ففيه: أنّ مجرّد هذا لا يوجب تقديم مختاره، إذ بعد الدعوى يكون للآخر أيضاً حقّ الجواب، مع أنّه يمكن أن يسبق المدّعى عليه بعد الدعوى إلى حاكم، ويطلب منه تخليصه من دعوى المدّعي(3).
أقول : الظاهر تحقّق الإجماع وثبوت الأصالة له بعد أن لا يكون في المسألة نصّ ، ولا وجه آخر يصلح الاعتماد عليه . هذا ، وأمّا لو كان كلّ منهما مدّعياً من
(1 ، 2) مستند الشيعة : 2 / 522 المسألة التاسعة (ط ق) .
(3) ملحقات العروة الوثقى : 3 / 14 ـ 15 .
(الصفحة55)
مسألة 6 : إذا كان لأحد من الرّعية دعوى على القاضي ، فرفع إلى قاض آخر ، تسمع دعواه وأحضره ، ويجب على القاضي إجابته ، ويعمل معه الحاكم في القضيّة معاملته مع مدّعيه من التساوي في الآداب الآتية1.
جهة ومنكراً من جهة اُخرى ، كما إذا زوّجت الباكرة الرشيدة نفسها من رجل ، وزوّجها أبوها من آخر ، فتنازع الرجلان في زوجيّتها . أو تنازع اثنان فيما في يد ثالث يقول : بأنّه لا يكون ملكاً ، ولا يؤيّد أحدهما بالخصوص ، أو موارد اُخر تكون من هذا القبيل ، فلا محيص إلاّ القرعة التي هي لكلّ أمر مشتبه ، سيّما في الاُمور المالية التي هي حقّ الناس .
1 ـ ذكروا أنـّه إذا كان للحاكم منازعة مع غيره لا ينفذ حكمه لنفسه على ذلك الغير ، ولو بأن يوكّل غيره في المرافعة معه ترافعا إليه ، بل يلزم الرجوع إلى حاكم آخر بالإجماع وأخبار رجوع المتنازعين إلى من عرف أحكامهم ، ونظر في حلالهم وحرامهم(1) . فاللاّزم أن يكون الحاكم غيرهما . نعم له أن ينقل حقّه إلى غيره ، ثم يرجع ذلك الغير مع الخصم إليه ، فإنّه حينئذ ينفذ حكمه لذلك الغير وإن انتقل إليه بعد ذلك بإقالة ونحوها ، بل استظهر جواز ذلك وإن كان النقل إلى الغير بشرط الخيار لنفسه في الفسخ ، أي بشرط أن يكون الفسخ فسخاً من الحين لا من حين أصل الانتقال ، كما هو الظاهر .
وكذا لا ينفذ حكمه لمن له عليه ولاية خاصّة كالاُبوّة والوصاية; لأنّه هو المنازع في الحقيقة ، وإن وكّل غيره في المرافعة فترافعا إليه . وأمّا فيما لو كان له ولاية عامّة كالولاية على الأيتام والمجانين والغيّب وغيرهم ، ففي نفوذ حكمه لهم قولان : اختار
(1) يراجع الوسائل : 27 / 136 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح1 .
(الصفحة56)
مسألة 7 : يجوز للحاكم الآخر تنفيذ الحكم الصادر عن القاضي ، بل قد يجب ، نعم لو شكّ في اجتهاده أو عدالته أو سائر شرائطه لا يجوز إلاّ بعد الإحراز ، كما لايجوز نقض حكمه مع الشكّ واحتمال صدور حكمه صحيحاً ، ومع علمه بعدم أهليّته ينتقض حكمه1.
العلاّمة في محكيّ التحرير وتبعه صاحب الجواهر (قدس سره)النفوذ(1); لأنّ كلّ قاض وليّ اليتيم ، ولا فرق بينه وبين قاض آخر .
وأمّا الفرض المذكور في المتن فهو عبارة عن أنّه إذا رفع أحد الرعيّة التي تدّعي على القاضي المرافعة إلى قاض آخر، ثمّ أحضر القاضي الأوّل، فالواجب عليه الإجابة والحضور كآحاد من الناس ، ويعامل الحاكم الآخر معه معاملته مع مدّعيه في التساوي في الآداب من دون فرق ، كما ربّما يحكى أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)حضر مجلس شريح القاضي كحضور أحد من الناس من دون تفاوت(2) . ولعلّ هذا من خصائص الإسلام ، الذي له أحكام خاصّة ومقرّرات مخصوصة سيّما في باب القضاء ، كما لايخفى .
1 ـ أقول : بعدما عرفت في المسألة المفصّلة الثامنة المتقدّمة قبل القول في صفات القاضي وخصوصيّاته ، أنّه لا يجوز للمترافعين ـ بعد رفع التنازع والخصومة بسبب فقيه جامع للشرائط قاض على طبق موازين الشرع ـ الترافع إلى قاض آخر ، ولو كان كلاهما متوافقين على ذلك ، وأنّه لا يجوز للحاكم الثاني النظر فيه ونقضه إلاّ في بعض الموارد . وبعدما عرفت في المسألة الثالثة المتقدّمة في هذا الفصل ـ أنّه لابدّ
(1) تحرير الأحكام : 2 / 181 ، جواهر الكلام : 22 / 333 وج40 / 377 .
(2) حلية الأولياء : 4 / 139 ، تلخيص الحبير : 4 / 193 ح2105 ، المغني لابن قدامة : 11 / 444 .
(الصفحة57)
مسألة 8 : يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه من دون بيّنة أو إقرار أو حلف في حقوق الناس ، وكذا في حقوق الله تعالى ، بل لا يجوز له الحكم بالبيّنة إذا كانت مخالفة لعلمه ، أو إحلاف من يكون كاذباً في نظره . نعم يجوز له عدم التصدّي
وأن تكون الشرائط المعتبرة في القاضي مجتمعة عند المترافعين ، ولا يكفي الثبوت عند أحدهما ، وظاهره كفاية الاجتماع لديهما ، وإن كان غيرَ واجد للشرائط عند آخرين ، بل والقضاة الاُخرى ـ يقع الكلام في أنّ الماتن (قدس سره)في طرح هذه المسألة ماذا يريد وماذا يهدف ويكون متعلّقاً لغرضه؟
والظّاهر أنّ مراده أن هنا عناوين ثلاثة : الحكم ، وإجراء الحكم ، وتنفيذ الحكم ، الذي هو أمر متوسّط بين الحكم والإجراء ، ويكون موجباً لأصل الإجراء أو قوّته أحياناً ، كما سيصرّح به في بعض المسائل الآتية . والمقصود هنا أنّ مرحلة التنفيذ ، التي ليست بحكم مستقلّ يجوز أن تصدر من الحاكم الآخر ، بل قد يجب ذلك . والظاهر أنّ مراده الوجوب فيما إذا كان إجراء الحكم الأوّل متوقّفاً عليه ، أو إذا كانت شرائط القاضي وصفاته الموجودة في القاضي الأوّل عند المترافعين وعنده مشكوكة لدى الناس بخلافه ، وإن كان يرد على الأوّل عدم وجوب المقدّمة عنده كما بيّنه في الاُصول ، وعلى الثاني أنّه لايوجب ذلك الاتّصاف بالوجوب بوجه .
ولايجوز للحاكم الثاني نقض حكم الحاكم الأوّل وإن كان شاكّاً في الاتّصاف بالشرائط حين الحكم; لجريان أصالة الصحّة الجارية في سائر الموارد مع الشكّ في وقوعها صحيحة أو فاسدة; لعدم الفرق . نعم مع العلم بعدم أهليّته يجوز له نقض حكمه ، بناءً على عدم كفاية الاعتبار عند المترافعين فقط ، كما هو المفروض .
(الصفحة58)
للقضاء في هذه الصورة مع عدم التعيّن عليه1.
مسألة 9 : لو ترافعا إليه في واقعة قد حكم فيها سابقاً يجوز أن يحكم فيها على طبقه فعلا ، إذا تذكّر حكمه ، وإن لم يتذكّر مستنده . وإن لم يتذكّر الحكم فقامت البيّنة عليه جاز له الحكم . وكذا لو رأى خطّه وخاتمه وحصل منهما القطع أو الاطمئنان به ، ولو تبدّل رأيه فعلا من رأي سابقه الذي حكم به جاز تنفيذ حكمه إلاّ مع العلم بخلافه ، بأن يكون حكمه مخالفاً لحكم ضروريّ أو إجماع قطعيّ ، فيجب عليه نقضه2.
1 ـ قد وقع التعرّض لهذه المسألة هنا ، وفي الّلواحقّ من مسائل حدّ الزنا المسألة الرابعة في كتاب الحدود ، حيث إنّا قد تعرّضنا لشرحها هناك بما لا مزيد عليه . وقد طبع كتاب الحدود في الأزمنة السّابقة فلا نرى وجهاً للإعادة ، واللاّزم الرجوع إليها ، نعم ينبغي التعرّض لاُمور ثلاثة :
الأوّل : أنّه لو كان الإمام المعصوم (عليه السلام) ـ إمّا بعنوان القاضي ، وإمّا بعنوان أحد المتداعيين ـ فهو خارج عن محلّ البحث .
الثاني : أنّه لا يجوز الحكم بالبيّنة إذا كانت مخالفة لعلمه ، بناءً على جواز أن يحكم القاضي بعلمه ، ولا إحلاف من يكون كاذباً في نظره .
الثالث : يجوز للقاضي العالم ـ إذا لم يشأ أن يحكم بعلمه ـ عدم التصدّي للقضاء في هذه الصورة إذا لم يكن القضاء متعيّناً عليه ، وإلاّ فيجب كما لايخفى .
2 ـ مقتضى ما أفاده في المسألة الثامنة قبل القول في صفات القاضي ، أنّه بعد حكم القاضي الواجد للشرائط عند المتخاصمين من أنّه لا يجوز الترافع إلى حاكم آخر ، عدم جواز الترافع إلى القاضي الأوّل ثانياً حتى مع تراضي الطرفين; لاتّحاد
(الصفحة59)
ملاك المسألتين ، مع أنّ الوجه في الترافع إلى القاضي الثاني في صورة اظهار المحكوم عليه عدم كون القاضي واجداً للشرائط ، لا يجري هنا بعد اتّفاقهما على الترافع إلى القاضي الأوّل; لأنّه لابدّ وأن يكون محرزاً للشرائط عند كليهما كما لايخفى . فيصير الإشكال في أصل فرض المسألة وموضوعها .
ويمكن أن يكون الفرض أنّ المترافعين وإن كان لا يجوز لهما الترافع بعد حكم القاضي الأوّل لا إليه ولا إلى غيره من القاضي الثاني ، إلاّ أنّه لا يعتبر فيهما مثل العدالة المانعة عن ارتكاب المعصية نوعاً ، فيمكن أن يكون الترافع حراماً ، ومع ذلك قد تحقّق هذا الحرام منهما .
ويمكن أن يكون الفرض صورة تراضي الطرفين مع الالتزام بعدم الحرمة في صورة التراضي لا هنا ولا هناك ، كما التزم به بعض; نظراً إلى عدم كونه موجباً للردّ على القضاة المنصوبين من قبلهم (عليهم السلام) حتّى يكون الردّ عليهم كالردّ عليهم ، والردّ عليهم كالردّ على الله ، وهو في حدّ الشرك بالله كما لايخفى .
وكيف كان إذا تحقّق الترافع إلى القاضي الأوّل في نفس تلك الواقعة ، مع عدم تغيّر خصوصيّاتها وجهاتها ، وقد حكم فيها سابقاً بحكم شرعيّ على طبق الموازين الشرعيّة ، فهنا صور وفروض :
الأوّل : أن يكون متذكّراً لحكمه السابق ، سواء تذكّر مستنده أم لم يتذكّر ، وفي هذه الصورة يجوز له الحكم على طبق الحكم السابق; لكونه محرزاً عنده ، والواقعة لم تتغيّر بوجه .
الثاني : أن لا يكون متذكّراً لحكمه السابق ، فإن قامت البيّنة الشرعيّة المعتبرة في الموضوعات ـ إلاّ ما خرج بالدليل ـ على صدور الحكم الفلاني منه ، يجوز له ترتيب الأثر على طبق البيّنة والحكم على طبق الحكم السابق ، كما أنّه لو
(الصفحة60)
مسألة 10 : يجوز للحاكم تنفيذ حكم من له أهليّة القضاء من غير الفحص عن مستنده ، ولا يجوز له الحكم في الواقعة مع عدم العلم بموافقته لرأيه ، وهل له الحكم مع العلم به؟ الظاهر أنّه لا أثر لحكمه بعد حكم القاضي الأوّل بحسب الواقعة ، وإن كان قد يؤثّر في إجراء الحكم كالتنفيذ ، فإنّه أيضاً غير مؤثّر في الواقعة ، وإن يؤثّر في الإجراء أحياناً . ولا فرق في جواز التنفيذ بين كونه حيّاً أو ميّتاً ، ولا بين كونه باقياً على الأهليّة أم لا ، بشرط أن لا يكون إمضاؤه موجباً لاغراء الغير بأنّه أهل فعلا1.
مسألة 11 : لا يجوز إمضاء الحكم الصادر من غير الأهل ، سواء كان غير مجتهد أو غير عادل ونحو ذلك ، وإن علم بكونه موافقاً للقواعد ، بل يجب نقضه مع الرفع إليه أو مطلقاً2.
رأى خطّه وخاتمه ، فإن حصل منهما القطع العقليّ أو الاطمئنان الذي هو علم عرفيّ يجوز ترتيب الأثر عليهما ، وإلاّ فلا يكون في شيء منهما في نفسه حجّية أصلا .
الثالث : أن يكون متذكّراً لحكمه السّابق ، لكنّه تبدّل رأيه مع رأيه السابق الذي حكم به ، فاللازم تنفيذ الحكم السابق وإن كان على خلاف رأيه فعلا; لأنّ كلا الرأيين اجتهاد ، والمجتهد لا يكون عالماً بالحكم ، ولا يجوز له نقض الحكم الناشئ عن الاجتهاد ، إلاّ أن يكون الحكم السابق مخالفاً لضروريّ الفقه أو إجماع قطعيّ ، فيجوز بل يجب النقض في هذه الصورة كما مرّ سابقاً .
1 و 2 ـ الغرض من هاتين المسألتين بيان صور جواز التنفيذ، بمعنى إيجاب العمل على طبق حكم الحاكم القبلي وعدم جوازه، وجوازالحكم الاستقلالي وعدمه.
|