(الصفحة321)
الإجماع عليه(1) ، لكنّ صاحب الجواهر (قدس سره) بعد نقل أقوال متعدّدة متكثّرة قال: وعلى كلّ حال فلا ريب في عدم الوثوق بالإجماع المزبور بعدما عرفت(2) .
وكيف كان فالكلام يقع في مقامين:
المقام الأوّل: فيما تقتضيه القاعدة مع قطع النظر عن الروايات الواردة ، فنقول:
مقتضى القاعدة في هذه الصورة تساقط البيّنتين من دون فرق بين فرض تساويهما عدداً وعدالةً ، أو اختلافهما في هذه الجهة ; لما عرفت من أنّ البيّنة تكون حجّة من باب الأمارية والطريقية ، وأنّ تعارض البيّنتين موجب لسقوطهما مطلقا من دون فرق بين فرض وجود المرجّح وعدمه بعد عمومية دليل حجّية البيّنة ، وعدم قيام دليل خاصّ على اختصاص إحدى البيّنتين بالحجّية ، كما في صورة وجود اليد لخصوص أحدهما على ما عرفت من أنّ مقتضى قوله (صلى الله عليه وآله): «البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه»(3) تقدّم بيّنة المدّعي على غيرها .
ومع حصول التساقط بسبب التعارض مطلقا تصل النوبة إلى أدلّة القرعة الدالّة على أنّها لكلّ أمر مشكل أو مشتبه(4) ، بعد ثبوت الإشكال والاشتباه هنا بلحاظ عدم الدليل على تقدّم إحداهما على الاُخرى ، بخلاف الصورتين الأوليين ، حيث إنّه قام الدليل فيهما على تقدم بيّنة المدّعي كما عرفت ، واللاّزم بعد إصابة القرعة إلى واحد منهما جعله صاحب المال من دون افتقار إلى يمين ، كما هو الحال في سائر موارد القرعة ، كما لا يخفى .
(1) غنية النزوع: 443 ـ 444 .
(2) جواهر الكلام: 40 / 425 .
(3) وسائل الشيعة: 27 / 233 ، أبواب كيفيّة الحكم ب3 ح1 .
(4) وسائل الشيعة: 27 / 257 ، أبواب كيفيّة الحكم ب13 .
(الصفحة322)
المقام الثاني : في الرّوايات(1) التي يمكن أن يستفاد منها حكم هذه الصورة ، وهي مختلفة ، فمن بعضها يستفاد الترجيح بالأكثريّة عدداً مثل صحيحة أبي بصير المتقدّمة الدالّة على قول الصادق (عليه السلام): «أكثرهم بيّنة يستحلف وتدفع إليه» . والحاكية لعمل أمير المؤمنين (عليه السلام) من أنّه «قضى بها لأكثرهم بيّنة واستحلفهم» .
ورواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله ، عن أبي عبدالله (عليه السلام)المشتملة على قوله: «كان عليّ (عليه السلام)إذا أتاه رجلان بشهود عدلهم سواء وعددهم أقرع بينهم» الخ .
فإنّ تعليق الإقراع على التساوي في العدالة والعدد في كلام الإمام (عليه السلام) يشعر بأرجحيّة العدد والعدالة ، بخلاف ما إذا كان التساوي مفروضاً في غير كلام الإمام (عليه السلام) ، لكنّه لا يتجاوز عن حدّ الإشعار ولا يبلغ مرتبة الدلالة ، كما لا يخفى ، خصوصاً مع التعبير به كان الدالّ على الاستمرار .
ومرسلة داود بن يزيد العطار المتقدّمة أيضاً ، المشتملة على قوله (عليه السلام): «فاعتدل الشهود وعدلوا» بناءً على أن يكون المراد بالاعتدال هو التساوي في العدد ، وعلى أن يكون المراد بقوله: «عدلوا» هو التساوي في مرتبة العدالة .
ورواية سماعة المتقدّمة أيضاً المشتملة على توصيف البيّنة بأنّها سواء في العدد والكميّة . ومن بعضها الترجيح بالأعدلية كبعض الروايات المتقدّمة ، لكنه لا يكون فيها ما فيه الدلالة على ذلك ، بل غايته الإشعار كما عرفت .
(1) تقدّمت في ص306 ـ 310 .
(الصفحة323)
وهنا مشكلات اُخرى ، وهي أنّه ما الدليل على تقدّم الترجيح بالأعدلية على الأكثريّة، مع أنّ مقتضى إطلاق ما دلّ على الترجيح بالأكثرية الشمول لما إذا كانت هناك أعدلية؟ وما الوجه في أنّه بعد التساوي يجب الرجوع إلى القرعة ، مع أنّ رواية إسحاق بن عمار المتقدّمة دالّة على لزوم الإحلاف فيما إذا لم يكن المال في يد أحدهما ، وأنّه مع حلفهما يجعل المال نصفين(1) ، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة الرجوع إلى القرعة مطلقا؟ وما الوجه في أنّه بعد إصابة القرعة وعدم الحلف في اعتبار حلف الآخر ، مع أنّه لم يصب إليه القرعة إلاّ أن يستند إلى الأولوية؟ وهكذا إشكالات اُخرى مثل أنّ القرعة هل هي لاستخراج صاحب الحقّ كما يدلّ عليه بعض النصوص المشتمل على دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) ، أو لاستخراج من يصير عليه اليمين كما في خبر عبدالرحمن بن أبي عبدالله المتقدّم؟
والإنصاف أنّ المسألة خصوصاً بهذا الشق في غاية الإشكال والصعوبة; لاضطراب الأقوال واختلاف الروايات ، مضافاً إلى ما في الجواهر من أنّه لا ريب في أنّ الترجيح للأعدلية; لإجماع ابن زهرة ـ يعني في الغنية(2) ـ المعتضد بالشهرة المحقّقة بين الأصحاب ، ووجود ذلك في رسالة عليّ بن بابويه(3) ، التي قيل فيها: كانوا إذا أعوزتهم النصوص رجعوا إليها ، وفي النهاية(4) التي هي متون الأخبار وغير ذلك(5) .
(1) تقدّمت في ص307.
(2) غنية النزوع: 443 ـ 444 .
(3) مختلف الشيعة: 8 / 386 عنه .
(4) النهاية: 343 .
(5) جواهر الكلام: 40 / 428 .
(الصفحة324)
أقول: وكان سيدنا العلاّمة الاستاذ البروجردي (قدس سره) يقول في شأن النهاية والكتب الفقهية المؤلَّفة قبل مبسوط الشيخ (قدس سره): إنّه كان البناء على ذكر متون الروايات بعين الألفاظ الصادرة عنهم(عليهم السلام) ، وصار ذلك سبباً للطعن على فقهاء الشيعة وفقههم بعدم اطّلاعهم على التفريع وإخراج الفروع من الاُصول الصادرة; ولذا أقدم الشيخ على تأليف المبسوط وبيان الفروع وأحكامها ، كما أفاده في مقدّمة المبسوط .
وكيف كان ، فالمسألة بهذا النحو المذكور في الشرائع ممّا لا يمكن إقامة الدليل عليها ممّا بأيدينا من النصوص والروايات ، ولا يمكن الاحتياط فيها ، فاللاّزم ردّ علمها إلى أهلها كما لا يخفى . وهناك بحوث اُخر فيما يرتبط بالتأمّل والدقّة في الروايات لعلّها تظهر للمتأمّل ، فتأمّل .
(الصفحة325)
خاتمة فيها فصلان:
[الفصل] الأوّل: في كتاب قاض إلى قاض
مسألة 1: لا ينفذ الحكم ولا تفصل الخصومة إلاّ بالإنشاء لفظاً ، ولا عبرة بالإنشاء كتباً ، فلو كتب قاض إلى قاض آخر بالحكم وأراد الإنشاء بالكتابة لا يجوز للثاني إنفاذه ، وإن علم بأنّ الكتابة له وعلم بقصده1.
1 ـ قد مرّ في بعض المسائل السابقة أنّ الحكم وفصل الخصومة إنّما هو من مقولة الإنشاء دون الإخبار ، فقول الحاكم: قضيت أو حكمت أو نحوهما ، إذا كان في مقام الإنشاء دون الإخبار عن الحكم الماضي وفصل الخصومة في السابق يترتّب عليه فصل الخصومة ورفع التنازع ، كما في العقود والايقاعات ، فقول: بعت إنّما يكون إيجاباً للبيع إذا كان في مقام الإنشاء لا الإخبار عن البيع في الزمان السّابق . والمقصود في هذه المسألة أنّ الإنشاء الفاصل للخصومة لابدّ وأن يكون بسبب اللفظ ، وأنّه لا عبرة بالإنشاء كتباً ، والمراد ليس عدم الاكتفاء بالكتابة لأجل إجمالها واحتمالها غير الفصل ، بل لو كان المقصود هو الفصل وعلم الحاكم الثاني بذلك ـ وأنّ مقصوده الحكم على طبقه وفصل الخصومة به ـ لا يجوز له إنفاذه .
والرواية الوحيدة الواردة في هذا الباب ما رواه السكوني وكذا طلحة بن زيد ،
(الصفحة326)
عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي(عليهم السلام): أنّه كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض في حدّ ولا غيره حتى وليت بنو اُمية ، فأجازوا بالبيّنات(1) . والظاهر انّها رواية واحدة كما في الوسائل ، وإن عبّر عنها في الجواهر بالخبرين; لاتّحاد المرويّ عنه وعدم الاختلاف في التعبيرات ولو في شيء يسير .
ثمّ الظاهر أنّ هنا أمرين لا يصحّ الاختلاط بينهما:
أحدهما: جواز إنشاء الحكم وفصل الخصومة بالكتابة ، وبعبارة أخرى بغير اللفظ وعدمه .
ثانيهما: جواز إنهاء الحكم إلى حاكم آخر لأجل الإجراء والتنفيذ ، من دون أن يكون نفس الحكم منشأً بالكتابة ، وقد تعرّض لهذا الأمر في المسألة الثانية ، كما أنّه قد تعرّض للأمر الأوّل في هذه المسألة ، وكتابة قاض إلى قاض آخر إنّما تناسب الأمر الثاني لا الأمر الأوّل . وعليه فتفريعه في المتن على هذا الأمر كأنّه في غير محلّه ، خصوصاً مع كون المكتوب إليه قاضياً آخر، إلاّ أن يقال بإمكان استفادة الحكم ، وهو عدم الجواز بالإضافة إلى هذا الأمر أيضاً ، ولكنّه محلّ تأمّل .
وكيف كان ، فإن كان المراد اختصاص إنشاء الحكم وفصل الخصومة باللفظ ، فلا يجوز بغيره مثل الفعل والكتابة ، بحيث كان المراد الفرق بين هذا المقام وهو إنشاء الحكم ، وبين مثل البيع الذي هو من الأمور الانشائية ، ويجري فيه المعاطاة والفعل . فيرد عليه أنّه لا دليل على الاختصاص ، فقد صرّح السيّد (قدس سره) في الملحقات بأنّه يكفي فيه الفعل الدالّ إذا قصد به إنشاء ، كما إذا أخذ مال المحكوم عليه ودفعه
(1) التهذيب: 6 / 300 ح840 و 841 ، الوسائل: 27 / 297 ، أبواب كيفيّة الحكم ب28 ح1 .
(الصفحة327)
إلى المحكوم له(1) . وإن كان المراد عدم كفاية الكتابة في مقام القضاء ومثله ، كما عن ابن إدريس في نوادر القضاء التصريح بأنّه لا يجوز للمستفتي أن يرجع إلاّ إلى قول المفتي دون ما يجده بخطّه ـ إلى أن قال: ـ بغير خلاف من محصّل ضابط لأصول الفقه(2) . فالظاهر أنّه لا دليل عليه بنحو الإطلاق كما عن الأردبيلي أنّه مع العلم بقصده لا مانع من العمل بها قال: ولهذا جاز العمل بالمكاتبة في الرواية ، وأخذ المسألة والعلم والحديث من الكتاب الصحيح عند الشيخ المعتمد ، ولأنّه قد يحصل منها ظنّ أقوى من الظنّ الحاصل من الشاهدين ، بل يحصل منها الظنّ المتاخم للعلم ، بل العلم مع الأمن من التزوير ، وأنّه كتب قاصداً للمدلول ، وحينئذ يكون مثل الخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم ، بأنّ القاضي الفلاني الذي حكمه مقبول حكم بكذا ، فإنّه يجب إنفاذه وإجراؤه من غير توقّف ، ويكون ذلك مقصود ابن الجنيد(3) ، ويمكن أن لا ينازعه فيه أحد بل يكون مقصودهم الصورة التي لم يأمن فيها التزوير ، أو لم يعلم قصد الكاتب إرادة مدلول الرسم(4) .
والدليل على ما ذكرنا من كفاية الكتابة في صورة الأمن من التزوير السيرة المستمرّة في جميع الأعصار والأمصار على ذلك ، بل قال في الجواهر: يمكن دعوى الضرورة على ذلك ، خصوصاً مع ملاحظة عمل العلماء في نسبتهم الخلاف والوفاق ، ونقلهم الإجماع وغيره في كتبهم المعمول عليها بين العلماء(5) .
(1) ملحقات العروة الوثقى: 3 / 50 مسألة 3 .
(2) السرائر: 2 / 187 .
(3) مختلف الشيعة: 8 / 445 مسألة 45 عنه .
(4) مجمع الفائدة والبرهان: 12 / 210 و 209 مع تقديم وتأخير ونقل بالمعنى تبعاً للجواهر .
(5) جواهر الكلام: 40 / 304 .
(الصفحة328)
مسألة 2: إنهاء حكم الحاكم بعد فرض الإنشاء لفظاً إلى حاكم آخر إمّا بالكتابة أو القول أو الشهادة ، فإن كان بالكتابة بأن يكتب إلى حاكم آخر بحكمه فلا عبرة بها حتى مع العلم بأنّها له وأراد مفادها ، وأمّا القول مشافهة فإن كان شهادة على إنشائه السابق فلا يقبل إلاّ مع شهادة عادل آخر ، وأولى بذلك ما إذا قال: ثبت عندي كذا ، وإن كان الإنشاء بحضور الثاني بأن كان الثاني حاضراً في مجلس الحكم فقضى الأوّل ، فهو خارج عن محطّ البحث لكن يجب إنفاذه ، وأمّا شهادة البيّنة على حكمه فمقبولة يجب الإنفاذ على حاكم آخر ، وكذا لو علم
أقول: ومع ملاحظة شدّة الاحتياج إلى الكتابة خصوصاً في الأزمنة السالفة التي لم تحدث فيها صنعة الطبع ، وفي هذا الزمان مع رواج هذه الصنعة كثيراً يكون الاحتياج إلى الكتابة باقياً بحاله كما نراه بالوجدان ، وحينئذ فكيف يمكن دعوى عدم اعتبار الكتابة مطلقاً حتى في صورة الأمن من التزوير الحاصل بالاطلاع على خصوصيات الخطّ وبالمختومية ونحوهما. وفي كلام المحقّق في الشرائع تعليل عدم اعتبار الكتابة بإمكان التشبيه(1) .
نعم في الجواهر: الفرق بين مثل الكتابة واللفظ بما يرجع إلى أنّ اللفظ يحكم بمجرّد صدوره من اللافظ بما يقتضيه لفظه إلاّ أن يعلم خلافه ، بخلاف مثلها ، فانّها من قسم الأفعال لا دلالة فيه كذلك(2) ، وأمّا عدم العبرة به حتّى مع العلم فلا ، فلعلّه حينئذ يصير النزاع لفظيّاً ، كما أشار إليه المحقّق الأردبيلي في كلامه المتقدّم .
(1) شرائع الإسلام: 4 / 884 .
(2) جواهر الكلام: 40 / 305 .
(الصفحة329)
حكم الحاكم بالتواتر أو قرائن قطعية أو إقرار المتخاصمين1.
1 ـ إنهاء حكم الحاكم بعد فرض الإنشاء الصحيح ـ سواء كان باللفظ بناءً على الاختصاص به أو بغيره بناءً على جوازه ، كما عرفت في ذيل المسألة الاُولى ـ بأحد أمور الثلاثة .
وليعلم ـ قبل التعرّض لهذه الاُمور ـ أنّ الغرض من الإنهاء كما أشار إليه المحقّق في الشرائع أنّ الحاجة قد تمسّ إليه; لأن احتياج أرباب الحقوق إلى إثباتها في البلاد المتباعدة غالب ، وتكليف شهود الأصل بالانتقال إلى تلك البلاد متعذّر أو متعسّر ، فلابدّ من وسيلة إلى استيفائها مع تباعد الغرماء ، ولا وسيلة إلاّ رفع الأحكام إلى الحكّام ، ولأنه لو لم يشرع إنهاء الاحكام بطلت الحجج مع تطاول المُدد ، ولأنّ المنع من ذلك يؤدّي إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة ، بأن يرافعه المحكوم عليه إلى آخر ، فإن لم ينفذ الثاني ما حكم به الأوّل اتصلت المنازعة ، وغير ذلك من الفوائد(1) .
كما أنّه ينبغي ـ قبل التعرّض لتلك الأمور الثلاثة ـ بيان أصل أصّله صاحب الرياض ، وحكى في الجواهر أنّه قد بنى عليه كثيراً من مسائل هذا الفصل ، ولخّصه في أنّ قضاء التنفيذ قسم آخر من القضاء ، غير أصل القضاء بالواقعة بموازينها المقرّرة شرعاً ، وهي: البيّنة والأيمان ، بخلاف الحكم بحكم الأوّل الذي هو من القول بغير علم ، بل لعلّه مناف لرأي الحاكم الآخر ، واقصى ذلك عدم جواز نقضه ، لا تنفيذه بمعنى إنشاء حكم منه على المحكوم عليه أوّلا بحكم الأوّل، حتى لو كان حاضر الإنشاء فضلا عن ثبوته بالكتاب أو الإخبار أو البيّنة ، إلاّ أنّه خرج ما
(1) شرائع الإسلام: 4 / 884 .
(الصفحة330)
خرج بالإجماع وبقي غيره على الأصل(1) .
وأورد عليه في الجواهر بما يرجع إلى أنّه يمكن استفادة قضاء التنفيذ من أدلّة أصل القضاء ، التي منها: «جعلته حاكماً وحجّة كما أنا حجّة»(2)، ونحو ذلك ممّا يشمل القضاء التنفيذي أيضاً ، واحتمال كون المراد من ذلك عدم نقضه لا إنشاء إلزام بإلزام الأوّل من حيث إلزامه ، يدفعه ما سمعته من الأدلّة الدالّة على مشروعيته ، مضافاً إلى إطلاق كونه حاكماً وحجّة المقتضي لتناول ذلك لو صدر منه ، وقال في ذيله: فتأمّل جيّداً ، فإنّ المسألة غامضة ، ولم أجد من نقّحها كما ذكرنا ، بل ستسمع كلام بعض أنّ الإنفاذ ليس حكماً بل هو إقرار حكم ، والتحقيق ما عرفت(3) .
أقول: إنّ البحث في القضاء التنفيذي قد يقع في حقيقته وماهيته ، وقد يقع في وجه الاحتياج والافتقار إليه .
أمّا البحث من الجهة الاُولى ـ وإن لم يكن منقّحاً في كلمات الأصحاب كما عرفت من الجواهر ـ فالظاهر أنّه حكم مستقلّ لا إنفاذ الحكم الأوّل ، غاية الأمر أنّه لا يعتبر فيه البيّنات والأيمان . وقد عرفت في مبحث علم القاضي(4) أنّ الحصر فيهما إضافي ، ولا ينافي الحكم بالعلم ، بل المعتبر فيه حكم الأوّل وثبوته ، وإن لم يكن مطابقاً لرأي الثاني ونظره . وأمّا سائر الخصوصيات المعتبرة سيما ما يكون من صفات القاضي فهو معتبر في القاضي التنفيذي; ولذا سمّي بالقضاء التنفيذي لا به تنفيذ القضاء ، فتدبّر .
(1) رياض المسائل: 9 / 351 ـ 352 .
(2) يراجع الوسائل: 27 / 136 و 138 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح1 و 9 .
(3) جواهر الكلام: 40 / 309 ـ 310 .
(4) أي في المسألة الثامنة من صفات القاضي .
(الصفحة331)
وأمّا البحث من الجهة الثانية; فلأنّه ربّما تمسّ الحاجة إلى حكمه لأجل شدّة اقتداره وقوّته على إجراء حكمه دون القاضي الأوّل ، أو لأجل أنّ المتخاصمين لهما أو لأحدهما مناقشة في الحكم الأوّل من جهة عدالة القاضي أو علمه مثلا، مع ثبوت كلاهما عند القاضي التنفيذي ، أو لأجل ضعف القاضي الأوّل وعدم بناء الثاني إلاّ على إجراء حكم نفسه ، أو لغير ذلك من الجهات .
وبالجملة: الافتقار إلى القاضي التنفيذي يتحقّق كثيراً .
الأوّل، الكتابة: بأن يكتب إلى حاكم آخر بحكمه ، وقد عرفت أنّ التعبير بكتاب قاض إلى قاض ، كما في الكلمات تبعاً للرواية إنّما يناسب هذا الأمر ، وفي المتن أنّه لا عبرة بها حتى مع العلم بأنّها له وأراد مفادها ، والظاهر أنّ مستندها هو إطلاق الرواية المتقدّمة الحاكية لعمل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وأنّه كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض، بعد وضوح أنّ المراد عدم الإجازة الوضعية لا التكليفية ، فإنّ مقتضى إطلاقها عدم الإجازة ولو مع العلم بأنّها له وأراد مفادها ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الحاكي لعمل المولى كان هو الإمام (عليه السلام)، وكان في مقام بيان الحكم لا نقل القصّة ، غاية الأمر بهذه الكيفية ، ولو كان القيد دخيلا فيه كان عليه بيانه، كما لا يخفى.
هذا ، ولكنّ الظاهر انصراف الرواية عن هذه الصورة التي كانت الكتابة مقرونة بقرائن قطعية موجبة للعلم بذلك ، أو الاطمئنان الذي يعامل معه عند العرف والعقلاء معاملة العلم .
ثمّ إنّ المحقّق في الشرائع أورد على الرواية سنداً بأنّ طلحة بتري ـ وهم فرقة من الزيدية ـ والسكوني عامي(1) ، وأضاف إليه صاحب الجواهر أنّه لا جابر لهما في
(1) شرائع الإسلام: 4 / 885 .
(الصفحة332)
خصوص المفروض ـ أي صورة ثبوت الحكم وإحرازه ـ بل الوهن محقّق ، وشهرة مضمونها في غير المفروض لا يقتضي جبرها فيه .
أقول: مضافاً إلى أنّه لا يعتبر في حجية خبر الواحد واعتباره إلاّ مجرّد الوثاقة وهي متحقّقة بالإضافة إلى سند السكوني وقد حكي عن الشيخ في العُدّة أنّه قال: ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث . . . والسكوني... عن أئمّتنا(عليهم السلام)، فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه(1) ، أنّ ثبوت استناد المشهور إليه كاف في الحجية ، وإن لم يكن إطلاق الرواية مورداً لقبولهم ، نعم قد عرفت انصراف الإطلاق إلى صورة الاشتباه وعدم الأمن من التزوير ، ولا يشمل صورة الأمن بوجه ، مضافاً إلى ما أفاده المحقّق في الشرائع ، حيث قال: ومع تسليمها نقول بموجبها ، فإنّا لا نعمل بالكتاب أصلا ولو شهد به فكأنّ الكتاب ملغى .
والظاهر أنّ قوله: «ولو شهد به» أنّ قيام البيّنة على كونه كتاب القاضي لا يكفي ، خلافاً لبني أميّة حيث انّهم لمّا ولّوا أجازوا بالبيّنات . والظاهر أنّ المراد البيّنات على ثبوت الكتابة ، لا البيّنات على الحكم الموافقة لما في الكتاب ، فإنّه لم يحك عن علي (عليه السلام)منعه ، فلا تتحقّق الموافقة بين الصدر والذيل كما لا يخفى .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا الخلل فيما أفاده في المتن من أنّه لا عبرة بها; أي بالكتابة حتى مع العلم بأنّها له وأراد مفادها .
الثاني ، القول مشافهة: وقد فصّل فيه في المتن بين ما إذا كان شهادة على إنشائه السابق ، فلا يجدي إلاّ ما إذا كان مع شهادة عادل آخر لتتحقّق البيّنة على ذلك . وأولى من ذلك ما إذا قال: ثبت عندي كذا ، وبين ما إذا كان الإنشاء بحضور الثاني ،
(1) العُدّة في أصول الفقه: 1 / 149 ـ 150 .
(الصفحة333)
إن كان الثاني حاضراً في مجلس الإنشاء الصّادر من الأوّل ، وأفاد أنّه خارج عن محطّ البحث لكن يجب إنفاذه . ويظهر من المحقّق في الشرائع التردّد في القبول حيث قال فيها: وأمّا القول مشافهة فهو أن يقول للآخر: حكمت بكذا أو أنفذت أو أمضيت ، ففي القضاء به تردّد . نصّ الشيخ في الخلاف(1) أنّه لا يقبل(2) .
ومن الواضح أنّ قول: حكمت أو أنفذت أو مثلهما إنّما هو إخبار عمّا وقع له من الإنشاء السابق لا الإنشاء ، كما أنّ التعبير بقوله: ففي القضاء به . . . إشارة إلى ما ذكرنا في القضاء التنفيذي من كونه حكماً ثانياً ، غاية الأمر كونه كذلك لا مجرّد تنفيذ حكم الحاكم الأوّل .
والظاهر أنّ منشأ الترديد أنّ خبر العادل الواحد في الموضوعات التي منها حكم نفسه لا يكون حجّة كما حقّقناه في محلّه ، وعليه فيحتاج إلى شهادة عادل آخر حتى تقوم البيّنة على ذلك ، وأنّ الإنشاء أمر لا يكاد يعلم إلاّ من قبله ، خصوصاً مع أنّ الظاهر أنّه لا يعتبر فيه أن يكون بحضور المتخاصمين وفي معرض استماعهما ، وإن كان مشروطاً بالتماس المحكوم له .
وحينئذ يكفي فيه الإخبار عن إنشاء الحكم إذا لم يكن بحضورهما ، فإذا كان إخباره كافياً لهما مع كونه عادلا وإن كان واحداً ، فالظاهر كفايته بالإضافة إلى الحاكم الآخر ، وخبر العادل الواحد وإن لم يكن حجّة في الموضوعات بنحو الكلية إلاّ أنّه حجة في بعض الموارد ، بل وإن لم يكن عادلا ، كإخبار البائع بوزن المبيع الموزون أو كيل المبيع المكيل ، وإخبار ذي اليد بنجاسة ما في يده ونظائرهما . وقد
(1) الخلاف: 6 / 245 مسألة 42 .
(2) شرائع الإسلام: 4 / 884 .
(الصفحة334)
مسألة 3: الظاهر أنّ إنفاذ حكم الحاكم أجنبي عن حكم الحاكم الثاني في الواقعة; لأنّ قطع الخصومة حصل بحكم الأوّل ، وإنّما أنفذه وأمضاه الحاكم الآخر ليجريه الولاة والاُمراء ، ولا أثر له بحسب الواقعة ، فإنّ إنفاذه وعدم
حكم صاحب الجواهر (قدس سره) ـ بعد حكاية تردّد المحقّق ـ بأنّ أقربه القبول(1) كما ستعرف ، ولكني لم أتحقّق وجهه في كلامه ، والظاهر أنّ وجهه ما ذكرنا .
الثالث ، شهادة البيّنة على حكم الحاكم الأوّل : وقد عرفت أنّ المراد بقوله: «فأجازوا بالبيّنات» في رواية السكوني هي البيّنة على الكتابة لا البيّنة في أصل الواقعة في مقابل اليمين ، التي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّهما: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(2) . ومن الواضح عدم كون الولي مخالفاً للنبيّ صلّى الله عليهما وآلهما . وستعرف في بعض المسائل الآتية أنّ حجّية البيّنة على إنشاء القاضي لا يعتبر فيها حضور مجلس الإنشاء ولا إشهاد القاضي إيّاها ، بل هي حجّة مطلقا سواء كانا حاضرين مجلس الإنشاء أم لا ، وسواء أشهدهما القاضي أم لا . وسيأتي أيضاً في بعض المسائل الآتية إن شاء الله تعالى الفرق بين حقوق الناس وحقوق الله فانتظر .
وهكذا في وجوب الإنفاذ بالمعنى الذي ذكرناه; ما لو علم القاضي الثاني بحكم القاضي الأوّل بالتواتر أو قرائن قطعية أو إقرار المتخاصمين . والمراد صورة إفادة إقرارهما العلم بذلك ، وإلاّ فربّما لا يكون الإقرار الكذائي مفيداً للعلم ، كما إذا لم يكن المتخاصمان مدّعياً ومنكراً ، بل متداعيين واحتمل التباني بينهما، كما لا يخفى .
(1) جواهر الكلام: 40 / 306 .
(2) وسائل الشيعة: 27 / 232 ، أبواب كيفيّة الحكم ب2 ح1 .
(الصفحة335)
إنفاذه بعد تمامية موازين القضاء في الأوّل سواء ، وليس له الحكم في الواقعة; لعدم علمه وعدم تحقّق موازين القضاء عنده1.
1 ـ قد عرفت في ذيل المسألة الثانية المتقدّمة أنّ القضاء التنفيذي نوع من القضاء وقسم منه ، وقد عرفت أنّ المحقّق في الشرائع عبّر بالقضاء به أي بالقول مشافهة ، كما أنّك عرفت وجه الاحتياج والافتقار إليه ، وموضوعه القضاء الأوّل بعد تماميّة موازين القضاء عند القاضي الأوّل الحاكم في نفس الواقعة بخصوصياتها، وعليه فالتعبير بمغايرة الإنفاذ عن حكم الحاكم الثاني لا يكون في محلّه ، وعدم كونه حكماً لأجل عدم العلم بالواقعة ، وعدم تحقق موازين القضاء عند الحاكم الثاني لا يلائم إلاّ مع عدم كونه حكماً في الواقعة مستقيماً ، وأمّا عدم كونه حكماً وانشاءً مطابقاً لإنشاء الأوّل فلا ، وعليه فالمغايرة إنّما هي باعتبار كونه حكماً في الواقعة لا باعتبار أصل الحكم وإنشائه .
وبالجملة: فالدقّة في العبارة تعطي أنّ الماتن (قدس سره) إنّما هو في مقام بيان أنّ الحكم الثاني لا يكون حكماً في الواقعة بحيث يترتّب عليه فصل الخصومة ، وأمّا أصل كونه حكماً إنشائياً فلا يكون المتن بصدد نفيه ، وإن كان ربّما يوهمه في بادئ النظر، كما لايخفى .
والانصاف أنّ القولَ بعدم كونه حكماً ناشئٌ عن عدم الدقّة والتدبّر في كلمات القوم وعباراتهم ، وعن تخيّل كون فصل الخصومة ورفع التنازع قد حصل بحكم الأوّل ، فلا مجال لحكم الثاني ، فلابدّ أن يكون حكمه إنفاذاً لحكم الأوّل غفلة عن أنّه نوع من القضاء لا يعتبر فيه العلم بالواقعة ، وتحقّق موازين القضاء عنده بل موضوعه حكم الأوّل مع الخصوصيّات المتحقّقة .
وقد عرفت أنّ الحصر في قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» حصر
(الصفحة336)
مسألة 4: لا فرق فيما ذكرناه بين حقوق الله تعالى وحقوق الناس إلاّ في الثبوت بالبيّنة ، فإنّ الإنفاذ بها فيها محلّ إشكال والأشبه عدمه1.
إضافي; ولذا يجوز للقاضي القضاء بعلمه ، لو لم نقل بالانصراف إلى القضاء الأصلي في نفس الواقعة .
وعليه فالدليل عليه هو الدليل على أصل مسألة القضاء ممّا يدلّ على كون القاضي حَكَماً وحجّة ، كما مرّ في كلام صاحب الجواهر ، مضافاً إلى أنّ الأمر الثالث المتحقّق في المقام بعد عدم كون عمل القاضي الثاني قضاءً في نفس الواقعة ـ لعدم تحقّق موازين القضاء عنده ، وعدم كونه إجراءً محضاً ـ هو الانشاء على طبق حكم الأوّل والحكم عليه ، لا مجرّد القبول والرّضا .
فالحقّ ما عرفت ، وإن كان ربّما يستبعده الذهن خصوصاً بعد ارتباطه نوعاً بالقضاء الأصلي ، فتدبّر جيّداً .
1 ـ الظاهر وقوع السّهو والاشتباه في تقديم حقوق الله تعالى في الذكر على حقوق الناس ، فإنّ ما هو محلّ الإشكال في الثبوت بالبيّنة إنّما هي حقوق الله .
قال المحقّق في الشرائع: العمل بذلك ـ أي بالقضاء التنفيذي ـ مقصور على حقوق الناس دون الحدود وغيرها من حقوق الله(1) ، وأضاف إليه في الجواهر قوله: بلا خلاف أجده فيه ، بل حكى الإجماع عليه غير واحد(2) ، بل قد يشهد له التتبّع ، وهو حجّة لا ما ذكروه من درء الحدود بالشبهات التي لا محلّ لها بعد قيام البيّنات .
(1) شرائع الإسلام: 4 / 885 .
(2) رياض المسائل: 9 / 350 ، قواعد الاحكام: 2 / 216 ـ 217 .
(الصفحة337)
مسألة 5: لا يعتبر في جواز شهادة البيّنة ولا في قبولها هنا غير ما يعتبر فيهما في سائر المقامات ، فلا يعتبر إشهادهما على حكمه وقضائه في التحمّل ، وكذا لا يعتبر في قبول شهادتهما إشهادهما على الحكم ، ولا حضورهما في مجلس الخصومة وسماعهما شهادة الشهود ، بل المعتبر شهودهما أنّ الحاكم حكم بذلك ، بل يكفي علمهما بذلك1.
ثمّ قال: اللهمّ إلاّ إنّ يقال: إنّ الشبهة حاصلة للحاكم الآخر حتى لو سمع إنشاء حكمه فضلا عن الشهادة به ، فلا يشرع قضاء التنفيذ في الحدّ(1) . . . .
أقول: ويمكن أن يكون الوجه فيه ـ بناء على كون الإجماع فقط مدركاً للقضاء التنفيذي ـ إنّ الإجماع حيث يكون دليلا لبّياً ، والأدلّة اللبّية يقتصر فيها على القدر المتيقّن ، فالقدر المتيقّن هي حقوق الناس دون حقوق الله مثل الحدّ وغيره ، فإنّها محلّ إشكال لو لم نقل بقيام الإجماع فيها على العدم ، فتدبّر جيّداً .
1 ـ قد عرفت أنّ طرق الإنهاء ثلاثة:
منها: قيام البيّنة عند الحاكم الثاني على ثبوت حكم الحاكم الأوّل وإنشائه لرفع الخصومة والنزاع ، فاعلم أنّه لا يعتبر في اعتبار هذه البيّنة شيء زائد على البيّنة المعتبرة في سائر المقامات ، فلا يعتبر حضورهما في مجلس المرافعة ولا سماعهما شهادة الشهود ، بل ولا سماع إنشاء الحاكم الأوّل ، بل الظاهر كفاية علمهما بذلك ، كما يأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الشهادات(2) .
نعم ، القدر المتيقّن صورة حضور الشاهدين سماع الحكم وإشهادهما الحاكم
(1) جواهر الكلام: 40 / 312 .
(2) يأتي في «القول في الشهادة على الشهادة» .
(الصفحة338)
مسألة 6: قيل: إن لم يحضر الشاهدان الخصومة فحكى الحاكم لهما الواقعة وصورة الحكم ، وسمّى المتحاكمين بأسمائهما وآبائهما وصفاتهما ، وأشهدهما على الحكم فالأولى القبول; لأنّ إخباره كحكمه ماض ، والأشبه عدم القبول إلاّ بضمّ عادل آخر ، بل لو أنشأ الحكم بعد الإنشاء في مجلس الخصومة فجواز الشهادة بالحكم بنحو الإطلاق مشكل بل ممنوع ، والشهادة بنحو التقييد بأنّه لم يكن إنشاء مجلس الخصومة ولا إنشاء الرافع لها جائزة ، لكن إنفاذه للحاكم الآخر مشكل بل ممنوع1.
الأوّل ، وهو الذي عبّر عنه المحقّق في الشرائع بأنّه أتمّ احتياطاً(1) ، لكن لا دليل على اعتبار شيء من الأمرين بعد عدم الدليل عليه في مقابل عموم أدلّة حجّية البيّنة ، واعتبارها في الموضوعات التي منها إنشاء الحكم من الحاكم الأوّل .
1 ـ القائل هو المحقّق في الشرائع، حيث إنّه بعد الترديد في المسألة قال: والقبول أولى ، مستدلاًّ بأنّ حكمه كما كان ماضياً كان إخباره ماضياً(2) . وحكي الخلاف عن الشيخ في الخلاف(3) ، بل قيل: إنّ ظاهره دعوى الإجماع عليه ، إلاّ أنّه ذكر صاحب الجواهر (قدس سره): أنّه لم يجد من وافقه عليه سوى بعض متأخّري المتأخّرين(4) .(5)
وكيف كان ، فمنشأ الترديد ما استدلّ به المحقّق من أنّه كما يكون إنشاؤه ماضياً
(1) شرائع الإسلام: 4 / 884 .
(2) شرائع الإسلام: 4 / 885 .
(3) الخلاف: 6 / 245 مسألة 42 .
(4) مجمع الفائدة والبرهان: 12 / 409 ـ 410 .
(5) جواهر الكلام: 40 / 314 .
(الصفحة339)
يكون إخباره أيضاً ماضياً; لأنّ مستند حجّية الإنشاء كونه حجّة وكون الرادّ عليه كالراد عليهم(عليهم السلام) ، وانطباق هذا العنوان عليه يوجب كونه مصدّقاً لحقّ الغير ، وإن لم يقبل الإقرار عليه خصوصاً مع أنّ إنشاء القضاء فيما هو المفروض شيء لا يعلم إلاّ من قبله ، ومن أنّ إخبار عادل واحد لا يكفي في الموضوعات الخارجية ، ولا يقبل إلاّ بضمّ عادل آخر . فإخبار القاضي بإنشائه السابق من هذا القبيل ، ولا ملازمة بين حجّية إنشائه وحجّية إخباره وإن كان المخبرُ به إنشاءَه .
ومنه يظهر أنّ دعوى أولوية الفرض ممّا قام على إنشائه شاهدان عادلان ممنوعة; لأنّ إخباره بإنشائه في السابق إخبار عادل واحد بخلاف صورة قيام البيّنة عليه ، فالأولوية ممنوعة جدّاً . واستفادة حجّية إخباره بذلك من دليل حجّية إنشائه موجبة للالتزام بحجّية إخباره في سائر الموضوعات الخارجيّة ، مع انّا لا نقول به .
ويظهر من المحكي عن المسالك: أنّ وجه التردّد غير ذلك ، حيث قال: قد ظهر من الأدلّة المجوِّزة لقبول إنفاذ الحكم أنّ موردها الضرورة إلى ذلك في البلاد البعيدة عن الحاكم الأوّل ، فذهب بعض الأصحاب إلى اختصاص الحكم بما إذا كان بين الحاكمين وساطة ، وهم الشهود على حكم الأوّل. فلو كان الحاكمان مجتمعين وأشهد أحدهما الآخر على حكمه لم يصحّ إنفاذه; لأنّ هذا ليس من محلّ الضرورة المسوّغة للإنفاذ المخالف للأصل(1) .
وأورد عليه في الجواهر: بأنّ ذلك ليس قولا لأحد من أصحابنا ، ولم نعرف أحداً حكاه غيره ، والضرورة المذكورة في الدليل إنّما هي حكمة أصل المشروعية
(1) مسالك الأفهام: 14 / 17 .
(الصفحة340)
مسألة 7: لا فرق في جميع ما مرّ بين أن يكون حكم الحاكم بين المتخاصمين مع حضورهما ، وبين حكمه على الغائب بعد إقامة المدّعي البيّنة ، فالتحمل فيهما والشهادة وشرائط القبول واحد ، ولابدّ للشاهدين من حفظ جميع خصوصيات المدّعي والمدّعى عليه ممّا يخرجهما عن الإبهام ، وحفظ المدّعى به بخصوصياته المخرجة عن الإبهام ، وحفظ الشاهدين وخصوصياتهما كذلك
للإنفاذ لا أنّها علّته، على أنّها قد تتحقّق فيه لقطع الخصومة مع عدم التباعد(1) . . .
فالحقّ حينئذ ما اختاره في المتن من عدم القبول ، وأنّه أشبه بالأصول والقواعد كما لا يخفى .
بل ذكر في المتن أنّه لو أنشأ الحكم بعد الإنشاء في مجلس الخصومة ، وأشهد الشاهدين على هذا الحكم الثاني ، فجواز الشهادة بالحكم بنحو الاطلاق مشكل بل ممنوع ، والشهادة بنحو التقييد غير مفيد ، وعليه فالإنشاء الثاني لغو لا يترتّب عليه أثر . فتدبّر جيّداً .
أمّا الممنوعيّة في صورة الإطلاق; فللانصراف إلى الحكم المنشأ أوّلا الفاصل للخصومة والرافع للتنازع ، ومع هذا الانصراف لا تجوز الشهادة على نحو الإطلاق .
وأمّا عدم كونه مفيداً في صورة التقييد بأن يشهد بأنّ الحكم المشهود به ليس هو الحكم الأوّل الفاصل للخصومة ، فلأنّ أدلّة الإنفاذ سيّما الإجماع مقصورة على إنفاذ الحكم المنشأ أوّلا ، الصادر على طبق موازين القضاء ، ولا يشمل الحكم الثاني من الحاكم الأوّل مع عدم إحراز الحكم الأوّل .
(1) جواهر الكلام: 40 / 316 .
|