(الصفحة81)
القول في ما يَثبت به
مسألة 1 : يثبت الزنا بالإقرار ، ويشترط فيه بلوغ المقرّ وعقله واختياره وقصده ، فلا عبرة بإقرار الصبيّ وإن كان مراهقاً ، ولا بإقرار المجنون حال جنونه ، ولا بإقرار المكره ، ولا بإقرار السكران والساهي والغافل والنائم والهازل ونحوهم1.
1 ـ أمّا ثبوت الزنا بالإقرار فيدلّ عليه ـ مضافاً إلى عموم ما دلّ على الثبوت به كقوله(صلى الله عليه وآله): إقرار العقلاء على أنفسهم جائز(1) ـ الروايات الكثيرة الواردة في المسألة الثانية التي يدلّ أكثرها على اعتبار كون الإقرار أربع مرّات ، وواحدة منها على كفاية الإقرار مرّة واحدة ، فإنّ مقتضى الجميع صلاحيّة الإقرار في الجملة لإثبات الزنا ، كما لا يخفى .
وأمّا اعتبار بلوغ المقرّ ، فيدلّ عليه ما دلّ على اعتبار البلوغ في الزنا ، ومرجع
(1) وسائل الشيعة: 16 / 111 ، كتاب الإقرار ب3 ح2 ، مستدرك الوسائل: 16 / 31 كتاب الإقرار ب2 ح1 .
(الصفحة82)
ذلك إلى أنّ إقراره ولو كان موجباً لثبوته لا يترتّب عليه أثر لاعتبار البلوغ في الزنا ، فلا حاجة إلى إقامة دليل خاصّ عليه هنا ، نعم ذكر في الجواهر: أنّ الصبيّ المراهق إذا أقرّ يؤدّب لكذبه ، أو حدوث الفعل منه(1) .
وأمّا اعتبار عقله ، فلكون دليل جواز الإقرار مقصوراً على الإقرار المضاف إلى العقلاء ، ولابدّ من جعل الفرض ما إذا أقرّ بالزنا حال العقل ، وأريد إجراء الحدّ عليه بعد زوال الجنون ، وإلاّ فالدليل على الاعتبار ما دلّ على اعتبار العقل في الزنا ممّا عرفت .
وأمّا اعتبار اختياره ، فيدلّ عليه ـ مضافاً إلى حديث رفع ما استكرهوا عليه(2)ـ رواية أبي البختري ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: من أقرّ عند تجريد أو تخويف أو حبس أو تهديد فلا حدّ عليه(3) .
وأمّا اعتبار القصد ، فالدليل عليه وضوح كون حجيّة الظواهر مقصورة بما كان الكلام مقروناً مع الالتفات والتوجّه وقصد المعنى ، وبدونه لا مجال للاتّكال عليه ، فلا عبرة بإقرار المذكورين في المتن ، نعم ربما يقع الكلام في مورد دعوى هذه الأمور ، ولكنّه أمر آخر غير المقام .
ثمّ إنّه اشترط في الشرائع أمراً خامساً وهي الحريّة(4) . لكنّ المراد ليس إطلاق الشرطيّة على معنى كون إقرار العبد غير جائز مطلقاً ، بل بمعنى لزوم تصديق المولى والتبعيّة به بعد العتق مع عدم التصديق ، كما في سائر أقاريره ، ولعلّ ذلك هو الوجه
(1) جواهر الكلام: 41/279 .
(2) وسائل الشيعة: 11 / 295 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ب56 .
(3) وسائل الشيعة: 18 / 497 ، أبواب حدّ السرقة ب7 ح2 .
(4) شرائع الإسلام: 4/934 .
(الصفحة83)
مسألة 2 : لابدّ وأن يكون الإقرار صريحاً أو ظاهراً لا يقبل معه الإحتمال العقلائي ، ولابدّ من تكراره أربعاً ، وهل يعتبر أن يكون الأربع في أربعة مجالس ، أو يكفي الأربع ولو كان في مجلس واحد؟ فيه خلاف أقربه الثبوت ، والأحوط اعتبار أربعة مجالس ، ولو أقرّ دون الأربعة لا يثبت الحدّ . والظاهر أنّ للحاكم تعزيره ، ويستوي في كلّ ما ذكر الرجل والمرأة ، وإشارة الأخرس المفهمة للمقصود تقوم مقام النطق ، ولو احتاجت إلى الترجمان يكفي فيه شاهدان عادلان1.
في ترك المتن ، وعدم التعرّض لاشتراط هذا الشرط .
1 ـ أمّا لزوم التكرار أربعاً ، فهو المشهور عندنا ، بل في الجواهر: «بلا خلاف معتدّ به أجده عندنا»(1) . ونسب إلى ظاهر ابن أبي عقيل كفاية الواحد(2) . كما عليه أكثر العامّة كالشافعي(3) ومالك(4) وحمّاد بن أبي سليمان(5) . خلافاً لأبي حنيفة(6)وابن أبي ليلى(7) ، وإن كان بينهما اختلاف من جهة لزوم كونه في أربعة مجالس ، كما عليه الأوّل ، أو عدم اللزوم كما عليه الثاني .
ويدلّ على اعتبار كونه أربعاً النصوص المتطابقة من الطرفين ، فمن طريق العامّة
(1) جواهر الكلام: 41/280 .
(2) حكى عنه في مختلف الشيعة: 9/179 مسألة 37 .
(3) الام: 6/133 .
(4) المدوّنة الكبرى: 6/209 ، أسهل المدارك: 2/263 .
(5) المغني لابن قدامة: 10/165 ، الشرح الكبير: 10/190 .
(6) حاشية ردّ المحتار على الدرّ المختار: 4/9 ، بدائع الصنائع: 5/513 .
(7) بداية المجتهد: 2/434 ، المبسوط للسرخسي: 9/91 .
(الصفحة84)
ما في الجواهر من قوله: روي أنّ ماعز بن مالك جاء إلى النبي(صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إنّي زنيت ، فأعرض عنه ، ثمّ جاء من شقّه الأيمن فقال: يا رسول الله إنّي قد زنيت ، فأعرض عنه ، ثمّ جاءه فقال: إنّي قد زنيت ، ثمّ جاءه فقال: إنّي قد زنيت . قال ذلك أربع مرّات ، فقال: أبك جنون؟ قال: لا يا رسول الله ، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم . فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذهبوا به فارجموه(1) . وروي أنّه قال: لعلّك قبّلت أو غمزت أو نظرت ، قال: لا يا رسول الله ، قال: أنِكتَها لا تكنّي؟ قال: نعم كما يغيب المرود في المكحلة ، والرشا في البئر ، قال: فهل تدري ما الزنا؟ قال: نعم أتيت منها حراماً كما يأتي الرجل من إمرأته حلالا ، قال: ما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهّرني . فأمر به فرجم(2) ـ إلى أن قال: ـ وفي بعض ألفاظ الحديث: «شهدت على نفسك أربع شهادات ، إذهبوا به فارجموه»(3) . وفي رواية اُخرى إنّه لمّا اعترف ثلاثاً قال له: إن اعترفت الرابعة رجمتك ، فاعترف الرابعة(4)(5) .
وبهذه التعبيرات يدفع احتمال كون الأربع إنّما هو للاختبار ، وأنّ به جنوناً أم لا؟ مضافاً إلى عدم مدخلية هذا العدد في الاستكشاف المزبور بوجه .
ومن طريق الخاصّة روايات متعدّدة:
منها: رواية ميثم قال: أتت امرأة مجحّ ـ كما في الوسائل ، والصحيح بالمهملتين ،
(1) سنن البيهقي: 8/226 .
(2) سنن البيهقي: 8/226 ، سنن أبي داود: 4 / 377 ح4428 .
(3) سنن أبي داود: 4/376 ح4426 .
(4) كنز العمال: 5/410 ح13450 .
(5) جواهر الكلام: 41/280 ـ 281 .
(الصفحة85)
وهو كما في الوافي المرأة التي دنا وضعها(1) . ولكن حكي عن أقرب الموارد أنّه قال: اجحت المرأة: حملت فأقربت وعظم بطنها فهي مجحّ(2) ـ أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالت: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني طهّرك الله ، فإنّ عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة الذي لا ينقطع ، فقال لها: ممّا اُطهّرك؟ فقالت: إنّي زنيت ، فقال لها: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت أم غير ذلك؟ قالت: بل ذات بعل ، فقال لها: أفحاضراً كان بعلك إذ فعلت ما فعلت أم غائباً كان عنك؟ قالت: بل حاضراً . فقال لها: انطلقي فضعي ما في بطنك ثمّ ائتني اُطهّرك . فلمّا ولّت عنه المرأة فصارت حيث لا تسمع كلامه قال: اللهمّ إنّها شهادة ، فلم تلبث أن أتته ، فقالت: قد وضعت فطهّرني . قال: فتجاهل عليها فقال: اُطهّرك يا أمة الله ممّاذا؟ قالت: إنّي زنيت فطهّرني ، قال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ قالت: نعم ، قال: فكان زوجك حاضراً أم غائباً؟ قالت: بل حاضراً . قال: فانطلقي فارضعيه حولين كاملين كما أمرك الله ، قال: فانصرفت المرأة ، فلمّا صارت منه حيث لا تسمع كلامه قال: اللّهم إنّهما شهادتان .
قال: فلمّا مضى الحولان أتت المرأة فقالت: قد أرضعته حولين فطهّرني يا أمير المؤمنين ، فتجاهل عليها وقال: اُطهّرك ممّاذا؟ فقالت: إنّي زنيت فطهّرني ، فقال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ فقالت: نعم . قال: وبعلك غائب عنك إذ فعلت ما فعلت؟ فقالت: بل حاضر ، قال: فانطلقي فاكفليه حتّى يعقل أن يأكل ويشرب ، ولا يتردّى من سطح ، ولا يتهوّر في بئر ، قال: فانصرفت وهي تبكي ، فلمّا ولّت
(1) الوافي: 15/270 .
(2) ذيل أقرب الموارد: 85 .
(الصفحة86)
وصارت حيث لا تسمع كلامه ، قال: اللّهم هذه ثلاث شهادات . قال: فاستقبلها عمرو بن حريث المخزومي فقال لها: مايبكيك يا أمة الله؟ وقد رأيتك تختلفين إلى عليّ تسألينه أن يطهّرك ، فقالت: إنّي أتيت أمير المؤمنين (عليه السلام) فسألته أن يطهّرني ، فقال: إكفلي ولدك حتّى يعقل أن يأكل ويشرب ، ولا يتردّى من سطح ، ولا يتهوّر في بئر ، وقد خفت أن يأتي عليّ الموت ولم يطهّرني ، فقال لها عمرو بن حريث: إرجعي إليه فأنا اُكفّله ، فرجعت فأخبرت أمير المؤمنين (عليه السلام) بقول عمرو بن حريث ، فقال لها أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو متجاهل عليها: ولِمَ يكفل عمرو ولدك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني ، فقال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ قالت: نعم ، قال: أفغائباً كان بعلك إذ فعلت ما فعلت؟ قالت: بل حاضراً ، قال: فرفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إنّه قد ثبت عليها أربع شهادات ـ إلى أن قال: ـ فنظر إليه عمرو بن حريث وكأنّما الرمّان يُفقأ في وجهه ، فلمّا رأى ذلك عمرو قال: يا أمير المؤمنين إنّي إنّما أردت أن اُكفّله إذ ظننت أنّك تحبّ ذلك ، فأمّا إذ كرهته فإنّي لست أفعل ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أبعد أربع شهادات بالله لتكفلنّه وأنت صاغر؟(1)
ومنها: مرفوعة أحمد بن محمّد بن خالد ، الواردة في رجل أتى أمير المؤمنين (عليه السلام)بالكوفة ، المشتملة على أنّه بعد رجوعه إليه في المرتبة الرابعة وإقراره فيها أيضاً قال: أمير المؤمنين لقنبر: احتفظ به. ثمّ رجمه(2) .
ومنها: رواية أبي مريم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، المشتملة على قصّة امرأة حامل أتت
(1) وسائل الشيعة: 18 / 377 ، أبواب حدّ الزنا ب16 ح1 .
(2) وسائل الشيعة: 18 / 379 ، أبواب حدّ الزنا ب16 ح2 .
(الصفحة87)
أمير المؤمنين وأقرّت بالفجور أربعاً ، الدالّة على أنّه أمر بحبسها حتّى وضعت ثمّ رجمها(1) .
ومنها: رواية جميل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا يقطع السارق حتّى يقرّ بالسرقة مرّتين ، ولا يرجم الزاني حتّى يقرّ أربع مرّات(2) .
ومنها: رواية جميل ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما (عليهما السلام) في رجل أقرّ على نفسه بالزنا أربع مرّات وهو محصن ، رجم إلى أن يموت أو يكذّب نفسه قبل أن يرجم ، فيقول: لم أفعل ، فإن قال ذلك ترك ولم يرجم ، وقال: لا يقطع السارق حتّى يقرّ بالسرقة مرّتين ، فإن رجع ضمن السرقة ولم يقطع إذا لم يكن شهود ، وقال: لا يرجم الزاني حتّى يقرّ أربع مرّات بالزنا إذا لم يكن شهود ، فإن رجع ترك ولم يرجم(3) . وظنّي أنّ الروايتين الأخيرتين رواية واحدة غير متعدّدة .
وفي مقابل هذا الروايات صحيحة الفضيل قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: من أقرّ على نفسه عند الإمام بحقّ من حدود الله مرّة واحدة ، حرّاً كان أو عبداً ، أو حرّة كانت أو أمة ، فعلى الإمام أن يقيم الحدّ عليه للذي أقرّ به على نفسه كائناً من كان إلاّ الزاني المحصن ، فإنّه لا يرجمه حتّى يشهد عليه أربعة شهداء ، فإذا شهدوا ضربه الحدّ مائة جلدة ثم يرجمه ، الحديث(4) .
ولكن حيث إنّها مشتملة على امور لايلتزم به أحد ، كعدم الفرق بين الحرّ والعبد ، مع اعتبار تصديق المولى في الثاني ، وعلى الفرق بين المحصن وغيره ، مع أنّه لا يلتزم
(1) وسائل الشيعة: 18 / 380 ، أبواب حدّ الزنا ب16 ح5 .
(2) وسائل الشيعة: 18 / 380 ، أبواب حدّ الزنا ب16 ح3 .
(3) وسائل الشيعة: 18 / 320 ، أبواب مقدّمات الحدود ب12 ح5 .
(4) وسائل الشيعة: 18 / 343 ، أبواب مقدّمات الحدود ب32 ح1 .
(الصفحة88)
به ابن أبي عقيل(1) أيضاً ، وعدم ثبوت الرجم بالإقرار أصلا ، وانحصار طريق ثبوته بالشهود ، لابدّ من حملها على غير الزنا من الحدود التي لا يشترط فيها التعدّد أو طرحها ; لمخالفتها لسائر الروايات الموافقة للشهرة الفتوائية المحقّقة ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّ هنا إشكالا ، وهو أنّ جميع الروايات المتقدّمة الدالّة على لزوم تعدّد الإقرار واردة في مورد الرجم ، وليس هنا رواية واردة في مورد الجلد ولو بالإطلاق ، وحينئذ ربّما يحتمل أن يكون للرجم خصوصيّة من هذه الجهة ، من أجل كونه عقوبة خاصّة لا يبلغها سائر العقوبات من جهة الشدّة ، فمن أين يستفاد لزوم التعدّد في مورد الجلد؟
ولكنّه يدفع هذا الاحتمال ـ مضافاً إلى إشعار التعبير عن الإقرار بالشهادة ، كما في الرواية الاُولى الواردة في المرأة التي جائت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، المشتملة على تعبيره عن الإقرار بالشهادة ـ بأنّ نفوذ الإقرار إنّما هو من باب كونه مصداقاً للشهادة ، غاية الأمر أنّه شهادة على النفس ، وشهادة الغير شهادة على الغير ، فكما أنّه لا مجال للإشكال في لزوم كون الشهود أربعة في مطلق الزنا ، يكون الإقرار أيضاً كذلك ; لأنّه مصداق للشهادة .
فالظاهر أنّه لا فرق بين الرجم والجلد من هذه الجهة ، ولا قائل به من فقهاء الشيعة ، بل فقهاء أهل التسنّن ، فانظر إلى عبارة الشيخ(قدس سره) في كتاب الخلاف ، قال: «لا يجب الحدّ بالزنا إلاّ بإقرار أربع مرّات في أربعة مجالس ، فأمّا دفعة واحدة فلا
(1) حكى عنه في مختلف الشيعة: 9/179 .
(الصفحة89)
يثبت به على حال ، وبه قال أبو حنيفة(1) . وقال الشافعي: إذا أقرّ دفعة واحدة لزمه الحدّ بكراً كان أو ثيّباً(2) . وبه قال في الصحابة أبو بكر وعمر(3) . وفي الفقهاء حمّاد ابن أبي سليمان ، ومالك(4) . وقال ابن أبي ليلى: لا يثبت إلاّ بأن يعترف أربع مرّات ، سواء كان في أربعة مجالس أو مجلس واحد(5) . دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم»(6)فإنّ الظاهر أنّ مفروض المسألة مطلق الزنا ، بل صرّح الشافعي بعدم الفرق بين البكر والثيّب ، ومن المعلوم أنّ زنا البكر لا يترتّب عليه الرجم ، وهذا ـ أي عدم الفرق ـ ملحوظ في سائر الأقوال أيضاً .
هذا ، مضافاً إلى أنّ مقتضى صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام)الإطلاق ، حيث وردت في رجل قال لامرأة: يا زانية أنا زنيت بك قال: عليه حدّ واحد لقذفه إيّاها ، وأمّا قوله: أنا زنيت بك فلا حدّ فيه ، إلاّ أن يشهد على نفسه أربع شهادات بالزنا عند الإمام(7) . فإنّ إطلاقها يشمل الجلد أيضاً ، فلا مجال بملاحظة ما ذكرنا للإشكال المزبور ، هذا كلّه بالنسبة إلى لزوم تعدّد الإقرار .
وأمّا تعدّد المجالس فقد اعتبره الشيخ في الخلاف في عبارته المتقدّمة آنفاً ، وفي المبسوط ، قال فيه: «لا يثبت حدّ الزنا إلاّ بالإقرار أربع مرّات من الزاني في أربعة مجالس متفرّقة ، وبه قال جماعة ، وقال قوم يثبت بإقراره دفعة واحدة كسائر
(1) المبسوط للسرخسي: 9/91 ، بدائع الصنائع: 5/513 .
(2) الام: 6/133 ـ 135 ، مختصر المزني: 261 .
(3) نيل الأوطار: 7/97 .
(4) أسهل المدارك: 2/263 ، المدوّنة الكبرى: 6/209 ، المغني لابن قدامة: 10/165 .
(5) بداية المجتهد: 2/434 ، المبسوط للسرخسي: 9/91 ، المغني لابن قدامة: 10/165 .
(6) الخلاف: 5/377 ـ 378 مسألة 16 .
(7) وسائل الشيعة: 18 / 446 ، أبواب حدّ القذف ب13 ح1 .
(الصفحة90)
الإقرارات ، واعتبر قوم أربع مرّات ، سواء كان في مجلس واحد أو مجالس متفرّقة»(1) . وكذا اعتبره ابن حمزة في الوسيلة ، قال فيها: «وأمّا ثبوته بإقرار الفاعل فيصحّ بأربعة شروط بإقرار الفاعل أربع مرّات في مجالس متفرّقات»(2) .
ولكنّ المشهور بين المتقدّمين ، وما ذهب إليه كافّة المتأخّرين ، على ما هو المنسوب إليهم في محكي الرياض(3) إطلاق اشتراط الأربع ، وعدم اعتبار تعدّد المجالس ، وربّما يستدلّ لاعتبار التعدّد بالإجماع المدّعى في كلام الشيخ(قدس سره) في الخلاف في العبارة المتقدّمة ، ودعوى كون معقده أصل لزوم الإقرار أربعاً مدفوعة بوضوح كون المفروض في كلامه أمرين ، والإجماع راجع إليهما ، والشاهد على ذلك التعرّض لبيان المخالف في كليهما ، والمخالف في الأمر الثاني هو ابن أبي ليلى ، فلا مجال للدعوى المذكورة ، وبتعدّد المجالس في قصّة ماعز المتقدّمة ، وقصّة الإمرأة المجح التي أتت أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وبعض القصص الاخر .
ولكن الدليل الأوّل ممنوع بأنّه لا مجال لدعوى الإجماع بعد مخالفة المشهور ، وانحصار الموافق بالناقل وبعض آخر ، بل مقتضى إطلاق كلامه في كتاب النهاية عدم الاعتبار ، قال فيها: «ويثبت حكم الزنا بشيئين: أحدهما بإقرار الفاعل بذلك على نفسه ، مع كمال عقله من غير إكراه ولا إجبار أربع مرّات دفعة بعد اُخرى»(4) .
وأمّا الدليل الثاني ، فيمنع التعدّد في قصّة ماعز ، لظهورها في العدم ، وتعدّد المجالس في قصّة المرأة لا دلالة له على اعتباره ، خصوصاً مع قول عليّ (عليه السلام): «اللهم
(1) المبسوط: 8/4 .
(2) الوسيلة: 410 .
(3) رياض المسائل: 10/23 .
(4) النهاية: 689 .
(الصفحة91)
إنّه قد ثبت عليها أربع شهادات» ، من دون إشعار بالتعدّد ، مع ظهور بعض الروايات المتقدّمة في عدم التعدّد ، وهي رواية أبي مريم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أتت امرأة أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالت: إنّي قد فجرت ، فأعرض بوجهه عنها ، فتحوّلت حتّى استقبلت وجهه ، فقالت: إنّي قد فجرت ، فأعرض عنها ، ثمّ استقبلته فقالت: إنّي قد فجرت ، فأعرض عنها ، ثمّ استقبلته فقالت: إنّي فجرت ، فأمر بها فحبست وكانت حاملا ، فتربّص بها حتّى وضعت ، ثمّ أمر بها بعد ذلك فحفر لها حفيرة ، الحديث . فهذا الدليل أيضاً ممنوع .
وعلى ما ذكر فلابدّ من الرجوع إلى إطلاق النصوص ، والحكم بعدم اعتبار التعدّد ، وإن كان مقتضى الاحتياط ذلك كما في المتن .
بقي الكلام في أمرين:
الأوّل: فيما لو أقرّ بما دون الأربع ، فالمحكيّ عن مقنعة المفيد(1) ونهاية الشيخ(2) (قدس سرهما)وصاحب القواعد(3) وابن إدريس(4) وجوب التعزير ، واختاره المحقّق في الشرائع(5) وهو ظاهر المتن .
واستدلّ لذلك تارةً بعموم ما دلّ على الأخذ بالإقرار ، نظراً إلى أنّه يقتصر في الخروج عنه بمقتضى الروايات على الحدّ الذي يتوقّف على تعدّده أربعاً ، وأمّا
(1) المقنعة: 775 .
(2) النهاية: 689 .
(3) قواعد الأحكام: 2/250 .
(4) السرائر: 3/429 .
(5) شرائع الإسلام: 3/934 .
(الصفحة92)
التعزير فلايكون في مقابل هذا العموم شيء يقتضي الخروج عنه فيه أيضاً ، فلابدّ من الأخذ به والحكم بثبوته بمجرّد الإقرار وإن كان واحداً . واُخرى بأنّ هذا الإقرار تشييع للفاحشة ، فيكون محرّماً من جهة نفسه لا من جهة المقرُّ به ،والتعزير إنّما هو لأجل ذلك .
ويدفع الأوّل أنّه كما يتوقّف الحدّ على ثبوت مورده ولا يجوز إجراؤه بدون الثبوت ، كذلك يتوقّف التعزير على ثبوت العصيان وتحقّق الفسق ، ولا يكون في البين إلاّ الإقرار ، فهو إن كان مثبتاً للزنا فاللاّزم ترتّب الحدّ عليه ، وإن لم يكن فلا وجه لثبوت التعزير فيه ، وليس في الواقع على تقدير الثبوت فيه إلاّ معصية واحدة وعمل فارد ، فالتفكيك بين الحدّ والتعزير من حيث عدم الثبوت بالإضافة إلى الأوّل والثبوت بالنسبة إلى الثاني ممّا لا مجال له أصلا .
ويدفع الثاني ـ مضافاً إلى أنّ الإقرار لا يكون تشييعاً للفاحشة ، بل ربّما يقع لغرض التطهير ، كما قد صرّح به في بعض الروايات المتقدّمة ـ أنّ ظاهر القائلين بثبوت التعزير هو التعزير بالإضافة إلى المقّر به ، لا بالإضافة إلى نفس الإقرار .
ويؤيّد عدم ثبوت التعزير بعض الروايات المتقدّمة ، باعتبار عدم تعزير النبيّ(صلى الله عليه وآله) ماعزاً ، وعليٌّ (عليه السلام) المرأة المجحّ مع تحقّق الفصل الطويل والتراخي الكثير بين الأقارير .
ودعوى علمهما بتحقّق الإقرار أربعاً بالنسبة إليهما مدفوعة ـ مضافاً إلى منع ذلك نظراً إلى ظهور الروايات في المعاملة معهما معاملة الظواهر والموازين الطبيعية العامة ـ بمنع كون العلم مانعاً عن التعزير على فرض تحقّق موضوعه .
ومن هنا يظهر أنّ لازم ذلك ترتّب تعزيرات ثلاثة فيما لو كان الإقرار أربعاً ، لأنّه بمجرّد الإقرار الأوّل يتحقّق موضوع التعزير ، ولا يجوز للحاكم تأخيره ، خصوصاً
(الصفحة93)
بعد عدم علمه ببلوغ الإقرار أربعاً ، كما هو الغالب في الموارد ، وكذا بالإقرار الثاني والثالث . وعليه فاللازم كون حدّ الزنا في جميع الموارد مسبوقاً بتعزيرات ثلاثة ، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به بوجه .
كما أنّ هنا إشكالا آخر ، وهو أنّ الموضوع للتعزير هو الإقرار دون الأربع ، وهذا العنوان لا يمكن إحرازه بوجه ، لأنّه يمكن للمقرّ أن يعقِّب إقراره بإقرار ، وهكذا إلى أن يتحقّق الأربع ، والمفروض أنّ التراخي الطويل لا يقدح في الإقرار أربعاً كما عرفت ، ففي أيّ مورد يحرز للحاكم أنّ الإقرار لا يبلغ الأربع حتّى يعزّره؟ وهذا يكشف عن عدم ثبوت التعزير ، فالترديد في المسألة كما عن الأردبيلي(1)والإصفهاني(2) . بل ظهور العدم هو مقتضى التحقيق .
وممّا ذكرنا ظهر الجواب عمّا ربّما يقال: من أنّ المقرّ إمّا صادق فيستحقّ العقوبة على عمله الشنيع ، وإمّا كاذب فيستحقّها على كذبه ، فتدبّر .
الأمر الثاني: في إقرار الأخرس ، وقد ذكر في المتن أنّ إشارة الأخرس المفهمة للمقصود تقوم مقام النطق ، وعمدة الدليل عليه كما ذكره الشيخ في الخلاف(3) أنّ إشارة الأخرس تسمّى إقراراً ; لعدم اختصاص عنوان الإقرار بما إذا تحقّق بالقول ، ولذا لو أقرّ بمال لغيره لزمه ذلك بلا خلاف ، كما لا خلاف في أنّه يصحّ طلاقه ، وبعد ثبوت الإقرار يشمله دليل نفوذ الإقرار ، والأخبار الواردة في ترتّب الحدّ مع الإقرار بالزنا ونحوه ; لأنّ موضوعها نفس تحقّق الإقرار بعنوانه .
وبالجملة: لا مجال للإشكال في أنّ إقرار كلّ مقرّ بحسبه ، وأنّ الإشارة المفهمة
(1) مجمع الفائدة والبرهان: 13/23 ـ 24 .
(2) كشف اللثام: 2/394 .
(3) الخلاف: 5/381 مسألة 21 .
(الصفحة94)
مسألة 3: لو قال: «زنيت بفلانة العفيفة» لم يثبت الزنا الموجب للحدّ في طرفه إلاّ إذا كرّرها أربعاً ، وهل يثبت القذف بذلك للمرأة؟ فيه تردّد ، والأشبه العدم . نعم ، لو قال: «زنيت بها وهي أيضاً زانية بزنائي» فعليه حدّ القذف1.
للمقصود في المقام من الأخرس إقرار له بالزنا ، فيترتّب عليها آثار الإقرار بأجمعها ، وقد وردت روايات في شأنه في الموارد المختلفة ، كالصلاة والطلاق وغيرها كلّها ظاهرة في هذا المعنى .
ثمّ إنّه لو احتاجت إشارة الأخرس إلى الترجمان يكفي فيه شاهدان عادلان ، ولا يحتاج إلى أربعة شهود ; لأنّه شهادة على مقصود المقرّ ومرامه لا على صدور الفعل منه ، فيكفي إثنان ، كما لو شهدا بتحقّق الإقرار أربعاً من غير الأخرس ، فإنّه يثبت بذلك الإقرار بلا إشكال ، ولا يكفي في المقام أقلّ من عدلين ; لعدم كون الترجمة رواية حتّى يكتفى فيها بالواحد ، بل هي شهادة على المراد ، وهي تفتقر إلى التعدّد كما هو ظاهر .
1 ـ أمّا عدم ثبوت الزنا في الصورتين المفروضتين في المسألة بالإضافة إلى القائل بمجرّد قوله فالوجه فيه واضح ; لافتقاره إلى التكرار أربعاً كما عرفت . وأمّا ثبوت حدّ القذف في الصورة الأولى كما هو أحد طرفي الترديد ، فالوجه فيه أنّ ظاهر هذا القول القذف عرفاً والهتك لحرمتها ، ويؤيّده روايتان:
إحداهما: رواية السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ (عليهم السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لا تسألوا الفاجرة من فجر بك ، فكما هان عليها الفجور يهوّن عليها أن ترمي البريء المسلم(1) .
(1) وسائل الشيعة: 18 / 411 ، أبواب حدّ الزنا ب41 ح1 .
(الصفحة95)
ثانيتهما: بهذا الإسناد ، عن عليّ (عليه السلام) قال: إذا سألت الفاجرة: من فجر بك؟ فقالت: فلان ، جلدتها حدّين: حدّاً للفجور ، وحدّاً لفريتها على الرجل المسلم(1) .
والوجه في عدم ثبوت حدّ القذف في الصورة المفروضة ، أنّ اسناد الزنا إلى نفسه بقوله: زنيت لا يلازم الإسناد إليها بوجه ; لعدم تحقّق الملازمة ، وإمكان الاشتباه ، أو الإستكراه في طرف المرأة ، وربّما كان كما في الجواهر(2) في صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل قال لأمرأته: يا زانية أنا زنيت بك؟ قال: عليه حدّ واحد لقذفه إيّاها ، وأمّا قوله: أنا زنيت بك فلا حدّ فيه ، إلاّ أن يشهد على نفسه أربع شهادات بالزنا عند الإمام(3) . نوع إيماء إلى عدم القذف بالقول المزبور ، نظراً إلى قوله (عليه السلام): «وأمّا قوله: أنا زنيت بك فلا حدّ فيه» ففيه إيماء إلى أنّه لا حدّ في هذا القول بمجرّده ، إلاّ أن يقال: إنّ عدم ترتّب الحدّ عليه لكونه مسبوقاً بالقذف بقوله: يا زانية ، فلا دلالة له على عدم ترتّبه مع عدم المسبوقية بمثل القول المزبور ، كما لا يخفى .
وأمّا الروايتان المتقدّمتان في وجه الثبوت فهما غير مرتبطتان بهذه الصورة ; لأنّ السؤال عن الفاجرة بقوله: «من فجر بك» وكذا جوابها ظاهر في إسناد الفجور إلى الرجل ، وترتّب حدّ القذف على المرأة إنّما هو لتعيين الرجل وإسناده إلى شخص معيّن.
وأمّا ما في المسالك ـ على ما حكي ـ من أنّ الوجه ثبوت القذف بالمرأة مع
(1) وسائل الشيعة: 18 / 411 ، أبواب حدّ الزنا ب41 ح2 .
(2) جواهر الكلام: 41/406 .
(3) وسائل الشيعة: 18 / 446 ، أبواب حدّ القذف ب13 ح1 .
(الصفحة96)
مسألة 4: من أقرّ على نفسه بما يوجب الحدّ ولم يعيّن لا يكلّف بالبيان ، بل يجلد حتّى يكون هو الذي ينهى عن نفسه ، به وردت رواية صحيحة ، ولا بأس بالعمل بها ، وقيّده قوم بأن لا يزيد على المائة ، وبعض بأن لا ينقص عن ثمانين1.
الإطلاق ; لأنّه ظاهر فيه ، والأصل عدم الشبهة والإكراه(1) ، فيرد عليه منع الظهور لأنّ الظهور المزبور إنّما هو ظهور في بادئ النظر ، والمعيار في تشخيص المراد ، وإن كان هو المتفاهم عند العرف ، إلاّ أنّ المراد هو ما يفهمه العرف بالنظر الدقيق عنده ، لا ما يخطر ببالهم بدواً ، ومن الواضح أنّ العرف لا يرى الملازمة ، ولا يحكم باستلزام زناه لزناها ، وأمّا أصالة عدم الشبهة والإكراه ، فلا يثبت موضوع القذف حتّى يترتّب عليه آثاره .
وقد انقدح أنّ الأشبه ـ كما في المتن ـ عدم ثبوت حدّ القذف ، نعم لا بأس بالحكم بثبوت التعزير عليه بسبب إيذائه المرأة وهتكه لعرضها عرفاً بمجرّد جعلها في معرض الاحتمال وذكرها عند الناس ، هذا في الصورة الاُولى .
وأمّا الصورة الثانية: فلا خفاء في ثبوت حدّ القذف فيها ، للتصريح بكونها زانية ، والتقييد بقوله(قدس سره): «بزنائي» ليس لأجل مدخلية ذلك في ترتّب حدّ القذف ، بل لأجل المناسبة مع ما هو المفروض في المسألة ، وإلاّ فمن الواضح أنّ مجرّد نسبة الزنا إليها ولو لم يكن مرتبطاً به موجب لترتّب حدّ القذف .
1 ـ وقد عنون المسألة في الشرائع بقوله: «ولو أقرّ بحدٍّ ولم يبيّنه . . .»(2) وهو
(1) مسالك الأفهام: 14/345 .
(2) شرائع الإسلام: 4/934 .
(الصفحة97)
الأظهر ; لأنّ الكلام ليس فيمن أقرّ على نفسه بشيء يوجب الحدّ كالزنا ونحوه ، غاية الأمر عدم تعيينه بعد وضوح عدم إيجاب بعض الأمور للحدّ إلاّ مع الإقرار أربعاً أو مرّتين ، بل البحث إنّما هو فيمن أقرّ بثبوت حدّ عليه بحيث لو عيّنه لترتّب عليه ذلك الحدّ المعيّن ، كمن أقرّ بثبوت حدّ الزنا بدون الإحصان عليه ، فإنّ الظاهر أنّه يثبت بهذا الإقرار بمجرّده ، ولا يتوقّف على التعدّد ، فالكلام إنّما هو فيمن أقرّ بحدّ على سبيل الإجمال ولم يعيّن ذلك الحدّ بوجه ، فنقول:
يقع الكلام أوّلا في أنّ هذا الإقرار الإجمالي يترتّب عليه أثر ، ويؤخذ المقرّ بسببه ، أو لا يترتّب عليه أثر ، ووجوده كالعدم؟ ربّما يقال بالثاني ، نظراً إلى أنّه مقتضى الأصل ، وإلى أنّ الحدود تدرأ بالشبهات ، وإلى مثل قصّة ماعز المتقدّمة(1)المشتملة على ترديد جزم المقرّ وإيجاد الاحتمال له من جهة عدم تحقّق الدخول ، بل تحقّق التقبيل ، أو التغميز ، أو النظر ، فكيف بالساكت ، وإلى رواية أنس بن مالك قال: كنت عند النبي(صلى الله عليه وآله) فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إنّي أصبت حدّاً فأقمه عليّ ، قال: ولم يسأله عنه ، قال: وحَضَرتِ الصلاة فصلّى مع النبي(صلى الله عليه وآله) فلمّا قضى النبيّ(صلى الله عليه وآله)الصلاة قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله إنّي أصبت حدّاً فأقم فيَّ كتاب الله ، قال: أليس قد صلّيت معنا؟ قال: نعم ، قال: فإنّ الله قد غفر لك ذنبك ـ أو قال: ـ حدّك(2) .
وإلى قوله(صلى الله عليه وآله): «من أتى من هذه القاذورات شيئاً فستر ستره الله ، وإنّ من بدا صفحته أقمنا عليه الحد»(3) .
(1) في ص84 .
(2) صحيح البخاري: 8/30 ح6823 .
(3) سنن البيهقي: 8/330 .
(الصفحة98)
وإلى قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذيل الرواية المتقدّمة المشتملة على قصّة رجل أتاه بالكوفة وأقرّ بالزنا أربعاً: «ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه الفواحش فيفضح نفسه على رؤوس الملأ ، أفلا تاب في بيته ، فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحدّ»(1) .
ولكنّ الظاهر أنّه لا مجال للأصل مع عموم دليل الإقرار ونفوذه ، وليس هنا شبهة في أصل ثبوت الحد مع تعلّق الإقرار به حتّى يدرأ الحدّ بها ، وقصّة ماعز تدلّ على أنّه(صلى الله عليه وآله) ردّده حتّى لا يتحقّق الإقرار أربعاً الذي هو يوجب الحدّ ، فلا يرتبط بالمقام الذي أقرّ بحدّ ثابت عليه شرعاً ، ورواية أنس فاقدة للاعتبار ; لأنّها ليست من طرقنا ، وقول الرسول فيمن أتى بشيء من القاذورات ، لا دلالة فيه على كون المقام من مصاديق الستر ، فلم لا يكون من مصاديق من بدا صفحته ، خصوصاً مع ملاحظة كون الإقرار على سبيل الإجمال يجعل المقرّ في معرض الاحتمال الذي هو منتف في الإقرار بنحو التفصيل ، فإنّ من أقرّ بثبوت حدّ الزنا بدون الإحصان عليه أبدى أم من أقرّ بنحو الإجمال الذي يجري فيه احتمال الزنا مع الإحصان واللواط وأشباههما .
والرواية الأخيرة أيضاً لا شهادة فيها على حكم المقام الذي تحقّق فيه الإقرار ، وعليه فمقتضى القاعدة ترتّب الأثر على هذا الإقرار ، ويؤيّده ما دلّ من الروايات الكثيرة على عدم جواز تعطيل شيء من الحدود الإلهية ، فلا فرق بين المقام وبين ما لو أقرّ على سبيل الإجمال بحقّ لآدمي ، والحكم على وفق القاعدة في المقامين أنّه يكلّف المقرّ بالبيان لإجراء الحدّ ولإحقاق الحقّ .
(1) وسائل الشيعة: 18 / 327 ، أبواب مقدّمات الحدود ب16 ح2 .
(الصفحة99)
نعم ، وردت في المقام رواية رواها الكليني عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، وعن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه جميعاً ، عن ابن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر ، عن أمير المؤمنين (عليهما السلام) في رجل أقرّ على نفسه بحدّ ولم يسمّ أيّ حدّ هو ، قال: أمر أن يجلد حتّى يكون هو الذي ينهى عن نفسه في الحدّ . ورواه الشيخ بإسناده عن سهل بن زياد ، عن ابن أبي نجران(1) .
وربّما نوقش في السند تارة ـ كما عن المسالك ـ باشتراك محمّد بن قيس بين الثقة وغيره(2) . واُخرى ـ كما عن مجمع البرهان ـ بأنّ في سنده سهلا(3) . ولكنّ المناقشة مدفوعة ـ مضافاً إلى عدم وقوعهما في كلا الطريقين ، بل وقوع الثاني في الطريق الأوّل فقط كما عرفت ـ أنّ محمّد بن قيس الذي يروي عنه عاصم بن حميد هو محمّد ابن قيس الثقة ، وقد اشتهر أنّ الأمر في سهل سهلٌ ، مضافاً إلى الفتوى على طبق الرواية من مثل الشيخ في النهاية(4) والقاضي(5) وجمع من المتأخّرين(6) إستناداً إلى كون الرواية صحيحة ، فلا مجال للمناقشة فيها من حيث السند .
وأورد في المسالك على الرواية ـ مضافاً إلى ما عرفت من المناقشة في سندها ـ باستلزامها أنّه لو أنهى عن نفسه فيما دون الحدود المعلومة قبل منه ، وليس هذا حكم الحدّ ولا التعزير ، وأيضاً فإنّ من الحدود ما يتوقّف على الإقرار أربع مرات ،
(1) وسائل الشيعة: 18 / 318 ، أبواب مقدّمات الحدود ب11 ح1 .
(2) مسالك الأفهام: 14/346 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان: 13/32 .
(4) النهاية: 702 ـ 703 .
(5) المهذّب: 2/529 .
(6) قواعد الأحكام: 2/250 ، التنقيح الرائع: 4/334 ، رياض المسائل: 10/23 ـ 24 .
(الصفحة100)
ومنها ما يتوقّف على الإقرار مرّتين ، ومنها ما يثبت بمرّة ، فلا يتم إطلاق القول بجواز بلوغ المائة مع الإقرار دون الأربع ، وبلوغ الثمانين بدون الإقرار مرّتين ، وأيضاً فهي معارضة برواية أنس التي تشاركها في الضعف . وأيضاً فإنّ الحدّ كما قد علم يطلق على الرجم وعلى القتل بالسيف ، والإحراق بالنار ، ورمي الجدار عليه ، ونحو ذلك ، ثمّ الجلد يختلف كمّية وكيفيّة ، فحمل مطلقه على الجلد غير مناسب للواقع ، ولا يتمّ معه إطلاق أنّ الإقرار أربع مرّات يجوز جلد المائة(1) .
والجواب عنه أنّه بعد ما مرّ من كون محلّ البحث في المقام هو ما لو أقرّ بحدّ ثابت ، غاية الأمر كون الإقرار على سبيل الإجمال ، في مقابل ما لو أقرّ بحدّ على سبيل التفصيل ، الذي يكفي فيه الإقرار مرّة واحدة ، وإن كان أصل ثبوته متوقّفاً على تعدّد الإقرار مرّتين أو أربعاً ، وبعد كون الرواية صحيحة من حيث السند لا محيص عن الأخذ بالرواية والحكم على طبقها ; لأنّ مفادها حكم تعبّدي وارد في مورد خاصّ ، وإن كانت القاعدة تقتضي خلافه ; لعدم اشتراط اعتبار الرواية الصحيحة والأخذ بها بعدم كونها مخالفة للقاعدة ، فإن قطع النظر عن المناقشة في سندها وسُلِّم صحّتها كما هو الحقّ لا يبقى مجال للمناقشة في دلالتها فيما هو مورد البحث ، والحكم بثبوت الجلد حتّى ينهى عن نفسه .
وإن شئت قلت: إنّ مفاد الرواية ثبوت حدٍّ خاصّ في خصوص موردها ، وإن كان مغائراً لسائر الحدود ، ولا دليل على مساواة الإقرار بنحو الإجمال لغيره من الموارد في الحكم .
(1) مسالك الأفهام: 14/346 ـ 347 .
|