(الصفحة261)
مسألة 4: للحاكم أن يحكم بعلمه في حقوق الله وحقوق النّاس ، فيجب عليه إقامة حدود الله تعالى لو علم بالسبب ، فيحدَّ الزاني كما يجب عليه مع قيام البيّنة والإقرار ، ولا يتوقّف على مطالبة أحد ، وأمّا حقوق الناس فتقف إقامتها على المطالبة حدّاً كان أو تعزيراً ، فمع المطالبة له العمل بعلمه1.
لم تكن في الحكم(1) . وقد مرّ الجواب عن الاستشهاد بالآية .
الثالث: ما عن ابن الجنيد من حمل رواية اللعان على ما إذا كانت الزوجة مدخولا بها ليتحقّق شرط اللعان(2) .
الرابع: ما عن الصدوق من الجمع بين الخبرين(3) ـ بناءً على ما اختاره من أنّه لا لعان إلاّ في نفي الولد ـ بأنّه إذا لم ينف الولد كان أحد الأربعة ، وإلاّ حدّ الثلاثة ولاعنها .
هذا ، والظّاهر أنّ الجمع بأحد الوجوه المذكورة لا يخرج عن الجمع التبرّعي ، وهو لا يوجب خروج الروايتين عن عنوان التعارض ، فاللازم معاملة المتعارضين معهما ، والترجيح مع رواية القبول ; لموافقتها للشُّهرة أوّلا ، وللكتاب ثانياً على ما عرفت .
وإن شئت فقل بعدم حجيّة شيء من الروايات ; لضعفها من حيث السند ، واللازم الرجوع إلى غيرها ، وقد مرّ أنّ مقتضاه القبول .
1 ـ وقع الخلاف ـ بعد أنّه لا خلاف بيننا معتدّ به في أنّ الإمام المعصوم يقضي
(1) السرائر: 3/431 .
(2) حكى عنه في مختلف الشيعة: 9/138 مسألة 2 .
(3) من لا يحضره الفقيه: 4/52 ، المقنع: 440 .
(الصفحة262)
بعلمه مطلقاً في حقّ الله وحقّ الناس ـ في أنّ الحاكم غيره هل يجوز له القضاء بعلمه مطلقاً ، أو لا يجوز له كذلك ، أو يكون هناك تفصيل ؟ فالأكثر على الأوّل ، وحكى السيد في الانتصار عن أبي عليّ بن الجنيد الثاني(1) ، ولكن في محكيّ المسالك عن ابن الجنيد في كتابه الأحمدي جواز الحكم في حدود الله دون حقّ الناس(2) ، والمحكيّ عن ابن إدريس(3) وابن حمزة(4) عكس ذلك ، وهو الجواز في حقوق الناس دون حقوق الله تعالى ، وعن حدود النهاية: إذا شاهد الإمام من يزني أو يشرب الخمر كان عليه أن يقيم الحدّ عليه ، ولا ينتظر مع مشاهدته قيام البيّنة ولا الإقرار . وليس ذلك لغيره ، بل هو مخصوص به . وغيره ، وإن شاهد يحتاج أن يقوم له بيّنة أو إقرار من الفاعل(5) .
وكيف كان فقد استدلّ على القول الأوّل ، وهو الجواز مطلقاً بوجوه:
الأوّل: الإجماع المدّعى في كلمات جماعة من الفقهاء وكتبهم ، كالإنتصار(6)والغنية(7) والخلاف(8) ونهج الحق(9) وبعض الكتب الاُخر ، وقد اعتمد عليه غاية
(1) الإنتصار: 488 .
(2) مسالك الأفهام: 13/384 .
(3) السرائر: 2/179 ، ولكن ظاهر صدر كلامه التعميم . وكذا قال في ج3/432: للقاضي أن يحكم بعلمه مطلقاً .
(4) الوسيلة: 218 .
(5) النهاية: 691 .
(6) الإنتصار: 486 ، 487 ـ 488.
(7) غنية النزوع: 436 .
(8) الخلاف: 6/242 ـ 244 مسألة 41 .
(9) نهج الحقّ: 563 .
(الصفحة263)
الاعتماد السيّد في الإنتصار ، وصاحب الجواهر . قال في الأوّل بعد بيان أنّ الجواز ممّا انفردت به الإمامية ووافقهم فيه بعض آخر : فإن قيل: كيف تستجيزون ادّعاء الإجماع من الإماميّة في هذه المسألة ، وأبو عليّ بن الجنيد يصرّح بالخلاف ويذهب إلى أنّه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شيء من الحقوق والحدود ؟ قلنا: لا خلاف بين الإماميّة في هذه المسألة ، وقد تقدّم إجماعهم ابن الجنيد وتأخّره ، وإنّما عوّل ابن الجنيد على ضرب من الرأي والاجتهاد ، وخطؤه ظاهر(1) .
وقال في الجواهر بعد نقل الإجماع من الكتب المذكورة: وهو الحجّة ، ثمّ أورد الأدلّة الاخرى ثمّ قال: وليس في شيء من الأدلّة المذكورة عدا الإجماع منها دلالة على ذلك(2) .
ولكنّ الظّاهر أنّه لا مجال للاتّكال على الإجماع في المسألة التي تكثر فيها الوجوه والأدلّة ، فإنّه من المحتمل قويّاً أن تكون تلك الوجوه كلاًّ أو بعضاً مستندة للمجمعين ، وعليه فلا يكون مثله كاشفاً عن موافقة المعصوم ومطابقة آرائهم لرأيه (عليه السلام) . وبالجملة لا أصالة للإجماع في مثل المقام فلا وجه للاستناد إليه أصلا .
الثاني: استلزام عدم قضاء الحاكم على طبق علمه فسقه أو إيقاف الحكم ، وهما معاً باطلان ، وذلك لأنّه إذا طلّق الرجل زوجته ثلاثاً مثلا بحضرته ، ثمّ جحد كان القول قوله مع يمينه ، فإن حكم بغير علمه وهو استحلافه وتسليمها إليه لزم فسقه ، وإلاّ لزم إيقاف الحكم لا لموجب .
الثالث: مثل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِد مِنْهُمَا مِائَةَ
(1) الإنتصار: 487 ـ 488 .
(2) جواهر الكلام: 40/89 .
(الصفحة264)
جَلْدَة}(1) وقوله تعالى: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}(2)نظراً إلى أنّ المخاطب فيه هو الحكّام الّذين بيدهم الحكم وفصل الخصومة وإجراء الحدود ، وقد علّق فيه الحكم على مثل عنوان الزاني والسارق ، فإذا كان هذا العنوان محرزاً للحاكم من طريق العلم الذي لا يشوبه ريب ، فالواجب عليه إقامة الحدّ وإجرائه ، لعدم توقّف إجرائه على شيء آخر غير تحقّق نفس هذا العنوان ، ولا إشارة في مثله إلى مدخليّة شيء آخر في الموضوع ، مثل كونه ثابتاً من طريق خصوص البيّنة ، أو الإقرار ، فملاحظة مثل الآيتين تقتضي لزوم إجراء الحدّ مع إحراز عنوان الموضوع من طريق العلم .
ولكن هذا الدليل لا يجري في جميع صور المدّعى ، لعدم جريانه في الأموال ، فلابدّ إمّا الأخذ بما في الانتصار حيث قال: وإذا ثبت ذلك في الحدود فهو ثابت في الأموال ; لأنّ من أجاز ذلك في الحدود أجازه في الأموال ، ولم يجزه أحد من الامّة في الحدود دون الأموال(3) ، وإمّا الالتزام بما في الجواهر من دعوى الأولويّة(4) .
ولكنّ الظّاهر جريان المناقشة في كليهما ، لما عرفت من نقل المسالك عن كتاب ابن الجنيد الجواز في الحدود ، أي حدود الله دون حقوق النّاس ، ولمنع الأولويّة بعد ثبوت الاتّهام في حقوق الناس كثيراً ، كما لا يخفى .
الرابع: ما ذكره في الإنتصار في جملة الأدلّة من قوله: وكيف يخفى إطباق الإماميّة على وجوب الحكم بالعلم ، وهم ينكرون توقّف أبي بكر عن الحكم لفاطمة بنت
(1) سورة النور 24: 2 .
(2) سورة المائدة5: 38 .
(3) الإنتصار: 492 .
(4) جواهر الكلام: 40/88 .
(الصفحة265)
رسول الله (عليها السلام) بفدك ، لما أدّعت أنّه أنحلها أبوها؟ ويقولون: إذا كان عالماً بعصمتها وطهارتها وأنّها لا تدّعي إلاّ حقّاً ، فلا وجه لمطالبتها بإقامة البيّنة ; لأنّ البيّنة لا وجه لها مع العلم بالصدق(1) .
الخامس: الآيات الدالّة على وجوب الحكم بين النّاس بالحقّ ، أو بالقسط ، أو بالعدل ، كقوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الاَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ }(2) . وقوله تعالى مخاطباً للنبيّ(صلى الله عليه وآله): {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}(3)وقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ }(4) فإنّ هذه العناوين أمور واقعية ، والعلم الكاشف عنها أكمل طرق الكشف وأوضحها ، ومن الواضح عدم اختصاص الحكم في الأوّلين بخصوص المخاطب فيهما .
السادس: ظهور كون الوجه في حجيّة البيّنة والإقرار ، ومثلهما هو الكشف عن الواقع من دون أن يكون لها موضوعية تعبديّة ، ومن الواضح كون العلم أقوى منها في الملاك; لكونه الكاشف التامّ دونها .
السابع: ماذكره في الجواهر من استلزام عدم القضاء على طبق العلم عدم وجوب إنكار المنكَر ، وعدم وجوب إظهار الحقّ مع إمكانه ، وذلك لأنّه إذا علم بطلان قول أحد الخصمين، فإن لم يجب عليه منعه عن الباطل لزم ما ذكر ، وإلاّ ثبت المطلوب(5).
الثامن: رواية الحسين بن خالد ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال سمعته يقول: الواجب
(1) الإنتصار: 488 .
(2) سورة ص 38: 26 .
(3) سورة المائدة5: 42.
(4) سورة النساء 4: 58 .
(5) جواهر الكلام: 40/88 .
(الصفحة266)
على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ، ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره ، لأنّه أمين الله في خلقه ، وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه ويمضي ويدعه ، قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأنّ الحقّ إذا كان لله فالواجب على الإمام إقامته ، وإذا كان للناس فهو للناس(1) .
والظّاهر عدم كون المراد بالإمام فيها هو الإمام المعصوم ، بل الإمام أو نائبه في جميع الأعصار ، والتعليل بقوله (عليه السلام): «لأنّه أمين الله في خلقه» لا ينافيه ، وعلى تقديره فالتعبير في الذيل بقوله (عليه السلام): «لأنّ الحقّ . . .» ظاهر في عدم الاختصاص ، وسيجيء المراد من التفصيل المذكور فيها .
ثمّ إنّه ربّما يستدلّ على الجواز أيضاً ببعض الروايات ، مثل:
ما رواه الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: جاء أعرابيّ إلى النبي(صلى الله عليه وآله) ، فادّعى عليه سبعين درهماً ثمن ناقة باعها منه ، فقال: قد أوفيتك ، فقال: إجعل بيني وبينك رجلا يحكم بيننا ، فأقبل رجل من قريش ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): احكم بيننا ، فقال للأعرابي: ما تدّعي على رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ فقال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه ، فقال: ما تقول يا رسول الله؟ فقال: قد أوفيته ، فقال للأعرابي: ما تقول؟ فقال: لم يوفني ، فقال لرسول الله(صلى الله عليه وآله): ألك بيّنة أنّك قد أوفيته؟ قال: لا ، فقال للأعرابي أتحلف أنّك لم تستوف حقّك وتأخذه؟ قال: نعم . فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لأتحاكمنّ مع هذا إلى رجل يحكم بيننا بحكم الله ، فأتى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)ومعه الأعرابي ، فقال عليّ (عليه السلام): ما لك يارسول الله؟ قال: يا أبا الحسن احكم بيني وبين هذا الأعرابيّ ، فقال عليّ (عليه السلام): يا أعرابي ما تدّعي على
(1) وسائل الشيعة: 18 / 344 ، أبواب مقدّمات الحدود ب32 ح3 .
(الصفحة267)
رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ قال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه ، فقال: ما تقول يا رسول الله؟ قال: قد أوفيته ثمنها ، فقال: يا أعرابي أصَدَق رسول الله(صلى الله عليه وآله)فيما قال ، قال الأعرابيُّ: لا ما أوفاني شيئاً ، فأخرج عليّ (عليه السلام) سيفه فضرب عنقه . فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لِمَ فعلت يا عليّ ذلك؟ فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله): نحن نصدّقك على أمر الله ونهيه ، وعلى أمر الجنّة والنار ، والثواب والعقاب ، ووحي الله عزّ وجل ، ولا نصدّقك على ثمن ناقة الأعرابي؟ وإنّي قتلته لأنّه كذّبك لما قلت له: أصدق رسول الله(صلى الله عليه وآله)فقال: لا ما أوفاني شيئاً ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أصبت يا عليّ فلا تعد إلى مثلها ، ثمّ التفت إلى القرشيّ وكان قد تبعه فقال: هذا حكم الله لا ما حكمت به(1) .
ومثل الرواية المشتملة على قصّة درع طلحة ، حيث رآها عليّ (عليه السلام) حينما كان قاعداً في مسجد الكوفة مع عبدالله بن قفل التميمي ، فقال: هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فتراضيا بشريح القاضي ، فقال لعليّ (عليه السلام): هات على ما تقول بيّنة، فقال عليّ (عليه السلام) بعد ما أتى بالحسن شاهداً أوّلا وبقنبر ثانياً وعدم قبوله لهما ، نظراً إلى أنّ الأوّل شاهد واحد والثاني مملوك: إنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات ـ إلى أن قال: ـ ويلك أو ويحك إنّ إمام المسلمين يؤمن من أمورهم على ما هوأعظم من هذا(2).
ولكنّ الظّاهر عدم تماميّة الاستدلال بمثل هذه الروايات التي إمّا أن يكون موردها صورة كون الحاكم إماماً معصوماً ، وإمّا أن يكون أحد المتخاصمين كذلك ; لأنّ جواز حكم الإمام المعصوم بعلمه لا يستلزم الجواز للحكّام ، وكذا جواز الحكم للمعصوم كذلك لا يستلزمه بعد كون عدم الحكم على طبقه مستلزماً
(1) وسائل الشيعة: 18 / 200 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب18 ح1 .
(2) وسائل الشيعة: 18 / 194 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب14 ح6 .
(الصفحة268)
لتنقيص شأنه ، وتنزيل مقامه ، وإنحطاط رتبته كما لا يخفى ، ويؤيّده نهي النبي(صلى الله عليه وآله)عن العود إلى مثل القضاء الواقع في الرواية الاُولى .
ثمّ إنّ صاحب الجواهر بعد ذكر الأدلّة المتقدّمة ، ونقل كلام الانتصار في الردّ على ابن الجنيد قال: ولكنّ الإنصاف أنّه ليس بتلك المكانة من الضعف ، ضرورة أنّ البحث في أنّ العلم من طرق الحكم والفصل بين المتخاصمين ولو من غير المعصوم في جميع الحقوق أو لا ، وليس في شيء من الأدلّة المذكورة ـ عدا الإجماع منها ـ دلالة على ذلك ، والأمر بالمعروف ووجوب إيصال الحقّ إلى مستحقّه ، بل كون العلم حجّة على من حصل له يترتّب عليه سائر التكاليف الشرعية لا يقتضي كونه من طرق الحكم ، بل أقصى ذلك ما عرفت ، وأنّه لا يجوز له الحكم بخلاف علمه ، بل لعلّ أصالة عدم ترتّب آثار الحكم عليه يقتضي عدمه(1) .
وهذا الكلام منه عجيب جدّاً ; لأنّ ملاحظة الأدلّة المتقدّمة تقتضي لزوم الحكم على طبق العلم وإحقاق الحقوق بسببه ، سواء كان لله أو للناس ، أفليس مقتضى الآيات الدالّة على لزوم الحكم بالحقّ أو بالقسط أو بالعدل ذلك ؟ وهل يمكن أن يتوهّم أنّ مقتضاها مجرّد عدم جواز الحكم بخلاف علمه ؟ إلاّ أن يقال: بأنّ صاحب الجواهر لم يتعرّض لهذا الوجه ، وهل ليس مقتضى الدليل الوارد في الزنا والسرقة والآيات الدالّة على حكمهما لزوم إجراء الحدّ بعد ثبوتهما بالعلم؟ ، كما أنّ مقتضى استفادة الملاك من اعتبار البيّنة التي يجب القضاء على طبقها لزوم ترتيب الآثار على العلم الذي هو أقوى منها ، وهكذا سائر الأدلّة المتقدّمة .
نعم ، قد عرفت المناقشة في الاستدلال بالإجماع الذي استثناه صاحب الجواهر
(1) جواهر الكلام: 40/89 .
(الصفحة269)
هنا ، وزعم أنّ دلالته وحجّيّته غير قابلة للمناقشة ، وأنّه لا أصالة له بعد وجود الأدلّة المتكثّرة والوجوه المتعدّدة .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا تماميّة جلّ الأدلّة التي استدلّ بها على جواز حكم الحاكم بعلمه .
وأما ما استدلّ به على عدم الجواز فوجوه أيضاً:
منها: اقتضاء الحكم على طبق العلم التهمة وسوء الظنّ ، وأنّه يوجب تزكية النفس ، وأنّ بناء حدود الله على الستر والممنوعيّة .
والجواب تحقّق التهمة في مورد البيّنة أيضاً، خصوصاًمع كون تشخيص صلاحيّتها وعدمها بيد الحاكم ، مضافاً إلى أنّ شرط العدالة والاجتهاد في القاضي يرفع هذه الاُمور ، وتزكية النفس إنّما تحصل بنفس الجلوس في منصب القضاء ، وكون بناء الحدود على المسامحة إنّما هو في صورة الشُّبهة ، ولا وجه له مع الثبوت بالعلم .
ومنها: الروايات الدالّة على أنّ البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر ، كصحيحة جميل وهشام ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه(1) . ومرسلة الصدوق قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ، والصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالا(2) .
والجواب ظهور كون هذه الروايات إنّما هي في مقام بيان أنّ صرف الدعوى والإنكار لا يكون منشأً للأثر ، بل اللازم اقترانه بالبيّنة أو اليمين ، والاقتصار عليهما
(1) وسائل الشيعة: 18 / 170 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب3 ح1 .
(2) وسائل الشيعة: 18 / 171 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب3 ح5 .
(الصفحة270)
لا دلالة له على الحصر ; لعدم ثبوت المفهوم له بوجه ، ويمكن أن يكون الوجه فيه الغلبة ; لكون وجود العلم إنّما هو في بعض الموارد أحياناً ، كما لا يخفى .
ومنها: ما ظاهره حصر الحكم في البيّنات والأيمان ، كصحيحة هشام بن الحكم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان ، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض ، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار(1) .
والاستدلال بها مبنيّ على إثبات كون الحصر حقيقيّاً ناظراً إلى إنحصار طريق الحكم في البيّنات والأيمان ، بمعنى عدم تحقّق القضاء بدونهما ولو كان هناك علم ، مع أنّه يحتمل قويّاً أن يكون الحصر إضافياً ناظراً إلى نفي كون مجرّد الدعوى والإنكار منشأً للأثر ، كالروايات المتقدّمة ، من دون أن يكون لها نظارة إلى نفي العلم أيضاً ، ويؤيّده قوله(صلى الله عليه وآله): «وبعضكم ألحن . . . » فإنّ ظاهره أنّ مجرّد الألحنيّة وإفادة المقصود مقرونة بحسن البيان وجودة التفهيم والألفاظ ، والكلمات الجالبة لا يوجب الحكم على طبقه ، بل اللازم الاقتران بالبيّنة واليمين ، وكذا قوله(صلى الله عليه وآله) في ذيل الحديث: «فأيّما رجل . . .» فإنّ ظاهره أنّ الملاك هو الواقع ، وأنّه لا يترتّب على البيّنة واليمين أيضاً الحلّية إذا كانتا مخالفتين للواقع ، فتدبّر .
ومنها: قول أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما في بعض الروايات: من أنّ أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة ، أو يمين قاطعة ، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى (عليهم السلام)(2) .
والظّاهر أنّ دلالته على الجواز أكثر من دلالته على العدم ; لأنّ مقتضى السنّة
(1) وسائل الشيعة: 18 / 169 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب2 ح1 .
(2) وسائل الشيعة: 18 / 168 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب1 ح6 .
(الصفحة271)
الماضية الحكم بالعلم ; لأنّ عليّاً (عليه السلام) كان يعمل بعلمه في مقام المحاكمة كثيراً .
ومنها: ما روي عن النبي(صلى الله عليه وآله) في قصّة الملاعنة: لو كنت راجماً من غير بيّنة لرجمتها(1) وهو لم يثبت صحّته من طرقنا .
بقي الكلام في الفرق بين حقوق الله وبين حقوق النّاس ، من حيث عدم توقّف إقامة الاُولى على مطالبة أحد وتوقّف إقامة الثانية على مطالبة ذيها ، فنقول: الدليل على ذلك روايات:
منها: صحيحة الفضيل قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: من أقرّ على نفسه عند الإمام بحقّ من حدود الله مرّة واحدة ، حرّاً كان أو عبداً ، أو حرّة كانت أو أمةً ، فعلى الإمام أن يقيم الحدّ عليه للّذي أقرّ به على نفسه كائناً من كان إلاّ الزاني المحصن ، فإنّه لا يرجمه حتّى يشهد عليه أربعة شهداء ، فإذا شهدوا ضربه الحدّ مائة جلدة ثمّ يرجمه . قال: وقال أبو عبدالله (عليه السلام): ومن أقرّ على نفسه عند الإمام بحقّ حدّ من حدود الله في حقوق المسلمين فليس على الإمام أن يقيم عليه الحدّ الذي أقرّ به عنده حتّى يحضر صاحب الحقّ أو وليّه فيطالبه بحقّه ، قال: فقال له بعض أصحابنا: يا أبا عبدالله فما هذه الحدود التي إذا أقرّ بها عند الإمام مرّة واحدة على نفسه أقيم عليه الحدّ فيها؟ فقال: إذا أقرّ على نفسه عند الإمام بسرقة قطعه ، فهذا من حقوق الله ، وإذا أقرّ على نفسه أنّه شرب خمراً حدّه ، فهذا من حقوق الله ، وإذا أقرّ على نفسه بالزنا وهو غير محصن فهذا من حقوق الله ، قال: وأمّا حقوق المسلمين فإذا أقرّ على نفسه عند الإمام بفرية لم يحدّه حتّى يحضر صاحب الفرية أو وليّه ،
(1) سنن البيهقي: 7/407 .
(الصفحة272)
وإذا أقرّ بقتل رجل لم يقتله حتّى يحضر أولياء المقتول فيطالبوا بدم صاحبهم(1) .
والرواية وإن كانت مشتملة على كفاية إقرار واحد في مثل الزنا ، مع أنّ اللازم فيه التعدّد كما مرّ ، وعلى الفرق بين زنا المحصن وغيره من جهة عدم كفاية الإقرار في الأوّل ، وعلى اختصاص حقّ الله بما إذا كان من غير المحصن ، مع أنّ الظّاهر عدم الفرق من هذه الجهة إلاّ إذا كانت المزنيّ بها محصنة أيضاً ، ففيه شائبة حقّ الناس من جهة ثبوت الزوج لها ، فتدبّر ، إلاّ أنّ دلالتها على ثبوت الفرق بين حقّ الله وبين حقّ النّاس من جهة توقّف الثاني على المطالبة ، دون [الأوّل] ممّا لا خفاء فيها ، وهذا من دون فرق بين ما إذا كان طريق الثبوت هو الإقرار ، أو العلم كما هو المفروض ، فلا مجال للمناقشة في أنّ مورد الرواية هي صورة الإقرار ، والكلام إنّما هو في صورة العلم كما لا يخفى .
ومنها: صحيحة اُخرى للفضيل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: من أقرّ على نفسه عند الإمام بحقّ أحد من حقوق المسلمين فليس على الإمام أن يقيم عليه الحدّ الذي أقرّ به عنده حتّى يحضر صاحب حقّ الحدّ أو وليّه ويطلبه بحقّه(2) .
والظّاهر عدم كونها رواية اُخرى بل قطعة من الرواية الاُولى ، وإن جعلها في الوسائل رواية مستقلّة ، كما هو دأبه في كثير من الموارد .
ومنها: رواية الحسين بن خالد ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال: سمعته يقول: الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ، ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره; لأنّه أمين الله في خلقه ، وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه
(1) وسائل الشيعة: 18 / 343 ، أبواب مقدّمات الحدود ب32 ح1 .
(2) وسائل الشيعة: 18 / 344 ، أبواب مقدّمات الحدود ب32 ح2 .
(الصفحة273)
مسألة 5: من افتضَّ بكراً حرّة بإصبعه لزمه مهر نسائها ، ويعزّره الحاكم بما رأى1.
ويمضي ويدعه ، قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأنّ الحقّ إذا كان لله فالواجب على الإمام إقامته ، وإذا كان للناس فهو للناس(1) .
وربّما يقال: بأنّ المراد من قوله (عليه السلام): «يسرق» هي إرادة السرقة لا السرقة الفعلية ، وإلاّ ثبت القطع ، كما دلّت عليه صحيحة الفضيل ، وهذا القول وإن كان يؤيّده النهي والمنع الظّاهر في نهيه عن تحقّق السرقة ; لأنّه لا معنى للنهي بعد ثبوتها ، إلاّ أنّ إرادة السرقة بمجرّدها لا توجب ثبوت حقّ للناس كما هو ظاهر ، فحمل قوله (عليه السلام): «يسرق» عليها بعيد جدّاً .
ويمكن أن يقال: بأنّ السرقة مشتملة على كلا الحقّين : حقّ الله من جهة قطع الأيدي المأمور به في الآية الشريفة ، وحقّ الناس من جهة لزوم ردّ المال المسروق ـ عيناً أو مثلا أو قيمةً ـ إلى المسروق منه ، فهي من هذه الجهة من حقوق الناس ، وعلى ذلك فالمراد منها في الصحيحة هي الجهة الاُولى ، ولذا صرّح فيها بالقطع ، ومن هذه الرواية هي الجهة الثانية .
ثمّ إنّه من الواضح أنّه ليس المراد من قوله (عليه السلام): «وإذا كان للناس فهو للناس» هو جواز تصدّي الناس لإحقاق حقوقهم من دون مراجعة الحاكم ، بل المراد هو توقّف إقامة الحاكم لها على مطالبتهم ، كما قد أوضحته الصحيحة .
1 ـ أمّالزوم مهرنسائها فلا خلاف فيه ظاهراً ، من دون فرق بين ما إذا كان رجلا أو امرأة ، ويدلّ عليه أكثر النصوص الآتية ، من دون اختلاف بينها من هذه الجهة .
(1) وسائل الشيعة: 18 / 344 ، أبواب مقدّمات الحدود ب32 ح3 .
(الصفحة274)
وأمّا التعزير بما رآه الحاكم فهو المحكيّ عن الأكثر(1) ، وعن المقنع ثبوت الحدّ من دون تعيين(2) ، وعن المفيد(3) والدّيلمي(4) تعيين الثمانين بعنوان الأكثر ، والثلاثين بعنوان الأقلّ ، وعن الشيخ من ثلاثين إلى سبعة وتسعين(5) ، وعن إبن إدريس إلى تسعة وتسعين(6) . ولابدّ من ملاحظة النصوص ، فنقول:
منها: صحيحة عبدالله بن سنان وغيره ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في امرأة افتضّت جارية بيدها ، قال: عليها المهر وتضرب الحدّ(7) . وإطلاق الجارية يشمل الحرّة ، بل لابدّ من القول باختصاصها بها في الرواية ; لورود روايات في الأمة دالّة على أنّ افتضاض الأمة يوجب عشر قيمتها ، وقيل فيه بلزوم الأرش .
ومنها: صحيحة اُخرى لابن سنان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام): أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)قضى بذلك وقال: تجلد ثمانين(8) .
ومنها: رواية ثالثة لعبد الله بن سنان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في امرأة افتضّت جارية بيدها ، قال: قال: عليها مهرها وتجلد ثمانين(9) .
(1) رياض المسائل: 10/83 .
(2) المقنع: 432 .
(3) المقنعة: 785 .
(4) المراسم: 257 .
(5) كذا في الرياض: 10/83 ، والجواهر: 41/371 ، والصحيح تسعة وسبعون كما في الخلاف: 5/497 مسألة 14 ، والمبسوط: 8/69 ، وإن كان في النهاية ص699 : إلى تسعة وتسعين ، ولكن في النهاية ونكتها ج3/297: إلى تسعة وسبعين .
(6) السرائر 3/449 .
(7) وسائل الشيعة: 18 / 409 ، أبواب حدّ الزنا ب39 ح1 .
(8) وسائل الشيعة: 18 / 409 ، أبواب حدّ الزنا ب39 ح3 .
(9) وسائل الشيعة: 18 / 410 ، أبواب حدّ الزنا ب39 ح4 .
(الصفحة275)
وهذه الروايات لو كانت متعدّدة ، بأن كان رواتها متعدّداً ; لكان اللاّزم حمل ما دلّ على ضرب الحدّ مطلقاً على ما دلّ بظاهره على تعيّن الثمانين ; لكونه مبيّناً له ورافعاً لإجماله ، ولكنّ الظّاهر عدم التعدّد وإن جعلها في الوسائل وغيرها كذلك ، وذلك لأنّ كون الراوي فيها واحداً ينفي التعدّد ، وعليه فلا يعلم أنّ الصادر عن الإمام (عليه السلام)عنوان الحدّ مطلقاً ، أو عنوان الثمانين ، فلا يعلم كون الصادر هو التحديد بهذا المقدار ، مضافاً إلى أنّه لم يفت أحد على الظّاهر ، كما عرفت في نقل الفتاوى بتعيّن الثمانين ، وعلى تقدير كون الصادر هو ضرب الحدّ لا ظهور لها في الحدّ المقابل للتعزير ، خصوصاً بعد إطلاق الحدّ وإرادة الأعمّ كثيراً ، وبعد عدم تعيين المقدار .
وبالجملة: الصادر إن كان هو ضرب الحدّ ، فانطباقه على رأي الأكثر ظاهر ، وإن كان هو الجلد ثمانين فاللاّزم كما في الجواهر إمّا الطرح ، وإمّا الحمل على أنّه أحد أفراده(1) ، ومقتضى الاحتياط هو التعزير مقدار الثمانين .
ثمّ إنّ الظّاهر أنّه لا خصوصيّة لكون الافتضاض بالإصبع ، بل يتحقّق بما إذا كان بآلة اُخرى ، فضلاً عمّا إذا كان بالزنا كرهاً .
ثمّ إنّ الظاهر خروج الزوج والزوجة عن مفروض المسألة ; لأنّ البحث في لواحق الزنا مضافاً إلى أنّ قوله: لزمه مهر نسائها ظاهر في غير الزوجة ، وذكر في الجواهر: أنّه لو كان المفتضّ بالإصبع الزوج فعل حراماً ، وحكى عن بعضهم التعزير واستقرار المسمّى(2) ،(3) ولكن في أصل ثبوت الحرمة تأمّل ، خصوصاً مع
(1) جواهر الكلام: 41/371 ـ 372 ، وكذا في رياض المسائل: 10/84 .
(2) جواهر الكلام: 41/372 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان: 13/97 .
(الصفحة276)
مسألة 6: من زنى في زمان شريف كشهر رمضان والجمع والأعياد ، أو مكان شريف كالمسجد والحرم والمشاهد المشرّفة عوقب زيادة على الحدّ ، وهو بنظر الحاكم ، وتلاحظ الخصوصيّات في الأزمنة والأمكنة ، أو اجتماع زمان شريف مع مكان شريف ، كمن ارتكب ـ والعياذ بالله ـ في ليلة القدر المصادفة للجمعة في المسجد أو عند الضرائح المعظّمة من المشاهد المشرّفة1.
تراضي الطرفين ، ومع عدم قدرة الزوج على إزالة البكارة من طريق الجماع ، وعلى تقدير الحرمة فثبوت التعزير أيضاً محل إشكال ، إلاّ على تقدير القول بثبوته في مطلق المعاصي ، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى .
1 ـ الدليل على زيادة العقوبة الناشئة عن زيادة القبح ـ التي يدلّ عليها ، مضافاً إلى وضوحها لانتهاك الحرمة ـ الروايات المتعدّدة الواردة في الربا ، الدالّة على أنّ درهماً منه أعظم من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت الله الحرام(1) ـ مرسلة أبي مريم قال: اُتي أمير المؤمنين (عليه السلام) بالنجاشي الشاعر (الحارثي خ ل) قد شرب الخمر في شهر رمضان ، فضربه ثمانين ثمّ حبسه ليلة ، ثمّ دعا به من الغد فضربه عشرين ، فقال له: يا أمير المؤمنين هذا ضربتني ثمانين في شرب الخمر ، وهذه العشرون ما هي؟ قال: هذالتجرّئك على شرب الخمر في شهررمضان(2) . وضعفهامنجبر بالعمل على طبقها ; لأنّ الظّاهر أنّه لا خلاف فيه كما في الجواهر(3) ، ومن التعليل يستفاد الحكم لغير مورده كما فهمه الأصحاب ، ويشهد له الاعتبار ، بل يستفاد أنّه كلّما
(1) وسائل الشيعة: 12 / 427 و 428 ، كتاب البيع ، أبواب الربا ب1 ح12 و19 .
(2) وسائل الشيعة: 18 / 474 ، أبواب حدّ المسكر ب9 ح1 .
(3) جواهر الكلام: 41/374 .
(الصفحة277)
مسألة 7: لا كفالة في حدّ ولا تأخير فيه مع عدم عذر كحبل أو مرض ، ولا شفاعة في إسقاطه1.
كان الهتك فيه أزيد من جهة خصوصيّة الزمان أو المكان أو غيرهما كانت العقوبة أكثر ، غاية الأمر أنّه بحسب نظر الحاكم .
1 ـ أمّا أنّه لا كفالة في حدّ مطلقاً زناً كان أو غيره ، ففي الجواهر أنّه لا خلاف أجده فيه(1) ، كما اعترف به في الرياض(2) ، والدليل عليه ليس هو أدائه إلى التأخير ، إذ ربّما يكون العذر حاصلا في تأخيره ، بل الدليل هي الروايات الدالّة على ذلك ، مثل:
حسنة السكوني أو صحيحته ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لا كفالة في حدّ(3) .
ومرسلة الصدوق المعتبرة قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إدرأوا الحدود بالشُّبهات ، ولا شفاعة ، ولا كفالة ، ولا يمين في حدّ(4) .
والمراد بعدم ثبوت اليمين في الحدّ أنّه على تقدير عدم ثبوت البيّنة لا يطلب ممّن يدّعى عليه موجب الحدّ اليمين ، بل نفس عدم قيام البيّنة كاف في عدم الثبوت ، بخلاف باب التخاصم والتنازع ، الذي لا يكتفى فيه مع عدم قيام البيّنة بمجرّد الإنكار ، بل لابدّ من الحلف أو ردّ اليمين كما لا يخفى .
(1) جواهر الكلام: 41/394 .
(2) رياض المسائل: 10/104 .
(3) وسائل الشيعة: 18 / 333 ، أبواب مقدّمات الحدود ب21 ح1 .
(4) وسائل الشيعة: 18 / 336 ، أبواب مقدّمات الحدود ب24 ح4 .
(الصفحة278)
ونحوهما ما رواه في المستدرك عن أمير المؤمنين (عليه السلام)(1) والظّاهر أنّه ليس المراد بالحدّ في هذا الحكم ، وكذا في الحكمين الآخرين الحدّ المقابل للتعزير ، بل أعمّ منه ومن التعزير ، فلا كفالة ولا تأخير ولا شفاعة فيه أيضاً .
وأمّا أنّه لا تأخير فيه مع عدم العذر فيدلّ عليه أيضاً مثل:
رواية السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ (عليهم السلام) في حديث قال: ليس في الحدود نظر ساعة(2) . وما رواه الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إذا كان في الحدّ لعلّ أو عسى فالحدّ معطّل(3) .
ورواية ميثم الطويلة المتقدّمة ، الواردة في امرأة أتت أمير المؤمنين (عليه السلام) فأقرّت عنده بالزنا أربع مرّات ، قال: فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهمّ إنّه قد ثبت عليها أربع شهادات ، وإنّك قد قلت لنبيّك(صلى الله عليه وآله) فيما أخبرته من دينك: يا محمّد من عطّل حدّاً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادّتي(4) .
ويستفاد منها ومن قبلها أنّ التأخير بعنوانه لا يكون منهيّاً عنه ، بل ما تعلّق به النهي إنّما هو عنوان التعطيل ، وعليه فلابدّ في الحكم بعدم جواز التأخير من ملاحظة صدق عنوان التعطيل عليه ، وعليه فالتأخير بمقدار يسير لا يتحقّق به التعطيل ، كما إذا كان التأخير مستنداً إلى عذر كالمرض ، والحبل ، وشبههما .
وأمّا أنّه لا شفاعة في إسقاط الحدّ ، فيدلّ عليه ـ مضافاً إلى أنّه يستفاد ذلك من قوله تعالى عقيب الحكم بثبوت الجلد في الزنا: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى
(1) مستدرك الوسائل: 18 / 25 ، أبواب مقدّمات الحدود ب25 ح1 .
(2 ، 3) وسائل الشيعة: 18 / 336 ، أبواب مقدّمات الحدود ب25 ح1 و 2 .
(4) وسائل الشيعة: 18 / 309 ، أبواب مقدّمات الحدود ب1 ح6 .
(الصفحة279)
دِينِ اللهِ}(1) ـ الروايات الكثيرة ، مثل:
صحيحة محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان لاُمّ سلمة زوج النبي(صلى الله عليه وآله)أمة فسرقت من قوم ، فأُتي بها النبي(صلى الله عليه وآله) فكلّمته اُمّ سلمة فيها ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله): يا اُمّ سلمة هذا حدّ من حدود الله لا يضيع ، فقطعها رسول الله(صلى الله عليه وآله)(2) .
ورواية مثنى الحنّاط ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : لاُسامة بن زيد: لا تشفع في حدّ(3) .
ورواية سلمة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان اُسامة بن زيد يشفع في الشيء الذي لا حدّ فيه ، فاُتي رسول الله(صلى الله عليه وآله) بإنسان قد وجب عليه حدّ ، فشفع له أسامة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لا تشفع في حدّ(4) .
وهل المراد بالشيء الذي لا حدّ فيه هو الشيء الذي كان فيه التعزير حتّى يكون مفاد الرواية جريان الشّفاعة في موارد التعزير ، أو أنّ المراد عدم ثبوت الحدّ ولا التعزير فيه ، فلا دلالة لها حينئذ على ثبوت الشفاعة في التعزير؟ وجهان ، ويبعّد الثاني أنّه مع عدم ثبوت التعزير أيضاً لا حاجة إلى الشفاعة بوجه ، فتدبّر .
وحسنة السكوني أو صحيحته ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يشفعنّ أحد في حدٍّ إذا بلغ الإمام ، فإنّه لا يملكه ، واشفع فيما لم يبلغ الإمام إذا رأيت الندم ، واشفع عند الإمام في غير الحدّ مع الرجوع من المشفوع له ، ولا يشفع
(1) سورة النور24: 2 .
(2) وسائل الشيعة: 18 / 332 ، أبواب مقدّمات الحدود ب20 ح1 .
(3) وسائل الشيعة: 18 / 333 ، أبواب مقدّمات الحدود ب20 ح2 .
(4) وسائل الشيعة: 18 / 333 ، أبواب مقدّمات الحدود ب20 ح3 .
(الصفحة280)
في حقّ امرء مسلم ولا غيره إلاّ بإذنه(1) . وقد وصفها في الجواهر بما عرفت من كونها حسنة أو صحيحة(2) ، مع أنّ في طريقها حسين بن يزيد النوفلي ، وفيه كلام .
والتعليل بقوله (عليه السلام): «فإنّه لا يملكه» ظاهر في أنّ الوجه لعدم جريان الشفاعة في إسقاط الحدّ عدم كون زمام الحدّ بيد الإمام وباختياره ; لأنّه حكم الهيّ صادر من الله تبارك وتعالى ، وإجراؤه إنّما هو بيد الإمام ، وعليه فيختصّ الحكم بما إذا لم يكن للإمام اختيار ، كالحدّ الثابت بالبيّنة ، وأمّا إذا كان له اختيار كما في الحدّ الثابت بالإقرار ، حيث يكون مخيّراً بين العفو والإجراء ، وكما في التعزير الذي بيد الحاكم ، فالحكم لا يشمله ; لعدم جريان التعليل فيه ، مع أنّ إطلاق الأصحاب ينافي ذلك ، إلاّ أن يقال بأقوائيّة ظهور ما دلّ على عدم جريان الشفاعة في الحدّ من ظهور التعليل ، فتدبّر . مع أنّ في التعزير يكون اختيار الكميّة بيد الإمام ، وأمّا أصله فهو مجبور في ذلك ، كما لا يخفى .
تمّ البحث في باب حدّ الزنا ، وقد وقع الفراغ من تسويد هذه الأوراق في ليلة الأربعاء المصادفة ليوم الواحد والعشرين من شهر شعبان المعظّم ، من شهور سنة 1404 في بلدة قم المحميّة ، ونسأل منه التوفيق لإتمام بقيّة مباحث الكتاب .
(1) وسائل الشيعة: 18 / 333 ، أبواب مقدّمات الحدود ب20 ح4 .
(2) جواهر الكلام: 41/395 .
|