(الصفحة401)
من ولدها جلد الحدّ لها ولم يفرّق بينهما ، قال : وإن كان قال لابنه : ياابن الزانية واُمّه ميّتة ولم يكن لها من يأخذ بحقّها منه إلاّ ولدها منه فإنّه لا يقام عليه الحدّ ; لأنّ حقّ الحدّ قد صار لولده منها ، فإن كان لها ولد من غيره فهو وليّها يجلد له ، وإن لم يكن لها ولد من غيره وكان لها قرابة يقومون بأخذ الحدّ جلد لهم(1) .
ودلالتها على انتقال الحدّ إلى الوارث مع كون المورّث ميّتاً في حال القذف فضلا عمّا إذا كان حيّاً ثمّ عرض له الموت واضحة ، كما أنّ دلالتها على ثبوت الولاية لأحد الابنين لأجل كون الآخر إبناً للقاذف أيضاً كذلك ، فتدلّ على أنّ عفو البعض لا يوجب سقوط حقّ الآخر ، بل له المطالبة به تامّاً .
ويدلّ على كلا الأمرين أيضاً موثّقة عمّار الساباطي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سمعته يقول : إنّ الحدّ لا يورث كما تورث الدية والمال والعقار ، ولكن من قام به من الورثة فطلبه فهو وليّه ، ومن لم يطلبه فلا حقّ له ، وذلك مثل رجل قذف رجلا وللمقذوف أخ ، فإن عفا عنه أحدهما كان للآخر أن يطلبه بحقّه ; لأنّها أُمّهما جميعاً والعفو إليهما جميعاً(2) .
والمستفاد من فرض أخ واحد للمقذوف ، ومن التعليل بأنّها أُمّهما ، أنّ القذف إنّما كان بنحو يا ابن الزانية ، وإطلاق المقذوف على المخاطب مع أنّه غير المنسوب إليه مبنيّ على التسامح .
وفي مقابلهما رواية السكوني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : الحدّ لا يورّث(3) . ولكنّها محمولة على إرادة عدم كونه موروثاً على حسب إرث المال ، ويؤيّده وقوع التعبير
(1) وسائل الشيعة: 18 / 447، أبواب حدّ القذف ب14 ح1.
(2) وسائل الشيعة: 18 / 334، أبواب مقدّمات الحدود ب23 ح1.
(3) وسائل الشيعة: 18 / 334، أبواب مقدّمات الحدود ب23 ح2.
(الصفحة402)
بهذا النحو في الموثّقة ، مع أنّ الشيخ(قدس سره) قال في محكيّ العدّة : عملت الطائفة بما رواه ـ أي السكوني ـ فيما لم يكن عندهم خلافه(1) .
ثمّ إنّ البحث في استثناء الزوج والزوجة من ورّاث حقّ حدّ القذف موكول إلى كتاب الإرث .
(1) عُدّة الاُصول: 1 / 149.
(الصفحة403)
فروع
الأولّ : من سبّ النبي (صلى الله عليه وآله) ـ والعياذ بالله ـ وجب على سامعه قتله ما لم يخف على نفسه أو عرضه ، أو نفس مؤمن أو عرضه ، ومعه لا يجوز ، ولو خاف على ماله المعتدّ به أو مال أخيه كذلك جاز ترك قتله ، ولا يتوقّف ذلك على إذن من الإمام(عليه السلام) أو نائبه ، وكذا الحال لو سبّ بعض الأئمّة(عليهم السلام) ، وفي إلحاق الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) بهم وجه ، بل لو رجع إلى سبّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقتل بلا إشكال 1.
1 ـ الكلام في هذا الفرع يقع في مقامين :
المقام الأوّل : في سبّ النبي(صلى الله عليه وآله) ولا إشكال ولا خلاف في وجوب قتله في الجملة ، بل في الجواهر الإجماع بقسميه عليه(1) ، ويدلّ على ذلك مضافاً إلى ما ذكر روايات متعدّدة :
منها : صحيحة هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه سئل عمّن شتم
(1) جواهر الكلام: 41 / 432.
(الصفحة404)
رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فقال : يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع إلى الإمام(1) .
وقد حقّق في الأصول ظهور الجملة الخبرية في مثل هذه المقامات في الوجوب ، بل أظهريّتها من صيغة إفعل وما يشابهها .
ومنها : رواية عليّ بن جعفر قال : أخبرني أخي موسى (عليه السلام) قال : كنت واقفاً على رأس أبي حين أتاه رسول زياد بن عبيدالله الحارثي ـ عامل المدينة ـ فقال : يقول لك الأمير : إنهض إليّ ، فاعتلّ بعلّة ، فعاد إليه الرسول فقال : قد اُمرت أن يفتح لك باب المقصورة فهو أقرب لخطوك ، قال : فنهض أبي واعتمد عليّ ودخل على الوالي ، وقد جمع فقهاء أهل المدينة كلّهم ، وبين يديه كتاب فيه شهادة على رجل من أهل وادي القرى قد ذكر النبي(صلى الله عليه وآله) فنال منه ، فقال له الوالي : يا أبا عبدالله انظر في الكتاب ، قال : حتّى أنظر ما قالوا ، فالتفت إليهم فقال : ما قلتم؟ قالوا : قلنا يؤدَّب ويضرب ويعزَّر (يعذَّب) ويحبس ، قال : فقال لهم : أرأيتم لو ذكر رجلا من أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله) ما كان الحكم فيه؟ قالوا : مثل هذا ، قال : فليس بين النبيّ(صلى الله عليه وآله)وبين رجل من أصحابه فرق؟! فقال الوالي : دع هؤلاء يا أبا عبدالله لو أردنا هؤلاء لم نرسل إليك ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : أخبرني أبي أنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)قال : الناس فيَّ اُسوة سواء ، من سمع أحداً يذكرني فالواجب عليه أن يقتل من شتمني ولا يرفع إلى السلطان ، والواجب على السلطان إذا رفع إليه أن يقتل من نال منّي ، فقال زياد بن عبيدالله : أخرجوا الرجل فاقتلوه بحكم أبي عبدالله (عليه السلام)(2) .
ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : إنّ رجلا من هذيل كان
(1) وسائل الشيعة: 18 / 554، أبواب حدّ المرتدّ ب7 ح1.
(2) وسائل الشيعة: 18 / 459، أبواب حدّ القذف ب25 ح2.
(الصفحة405)
يسبّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فبلغ ذلك النبي(صلى الله عليه وآله) فقال : من لهذا؟ فقام رجلان من الأنصار فقالا : نحن يا رسول الله ، فانطلقا حتّى أتيا عربة ، فسألا عنه ، فإذا هو يتلقّى غنمه ، فقال : من أنتما وما اسمكما؟ فقالا له : أنت فلان بن فلان؟ قال : نعم ، فنزلا فضربا عنقه .
قال محمّد بن مسلم : فقلت لأبي جعفر (عليه السلام) : أرأيت لو أنّ رجلا الآن سبّ النبي(صلى الله عليه وآله) أيقتل؟ قال : إن لم تخف على نفسك فاقتله(1) .
ومنها : غير ذلك من الروايات الدالّة على وجوب قتل سابّ النبي(صلى الله عليه وآله) عموماً أو خصوصاً .
فلا إشكال في أصل الحكم ، كما أنّه لا ينبغي الإشكال في تقييد الحكم بما إذا لم يكن هناك خوف على نفسه ، نظراً إلى صحيحة محمّد بن مسلم ، غاية الأمر أنّ مفادها نفي الوجوب مع الخوف . وأمّا عدم الجواز فلا دلالة لها عليه ، بل يستفاد من أدلّة وجوب التحفّظ على النفس واحترامها .
وبلحاظ هذه الأدلّة يستفاد أنّه لا فرق بين الخوف على نفسه وبين الخوف على نفس مؤمن آخر وإن كان ظاهر الصحيحة الاقتصار على الخوف على النفس ، إلاّ أنّ مفادها جريان التقيّة في هذا الأمر ، ولا فرق فيه بينهما ، كما أنّه يستفاد من المجموع عدم الاختصاص بما إذا كان هناك خوف على النفس أيّ نفس كانت ، بل يعمّ الخوف على العرض مطلقاً أيضاً ، لاحترامه في الشريعة وجريان التقيّة بالإضافة إليه كذلك .
وأمّا المال فإن كان يسيراً غير معتدّ به فلا إشكال في عدم كون الخوف عليه
(1) الكافي: 7 / 267 ح33، وسائل الشيعة: 18 / 460، أبواب حدّ القذف ب25 ح3.
(الصفحة406)
رافعاً للوجوب ، وأمّا إذا كان خطراً معتدّاً به فظاهر المتن جواز الترك في هذه الصورة ، ولعلّ وجهه مثل دليل نفي الحرج الرافع للإلزام فقط لا الجواز ، فتدبّر .
ثمّ إنّ مقتضى صحيحة هشام المتقدّمة عدم التوقّف على الرجوع إلى الإمام (عليه السلام)أو نائبه والاستئذان منه ، بل ظاهر ذيل رواية عليّ بن جعفر النهي عن الرفع إلى السلطان ، ولعلّه بلحاظ وقوعه في مقام توهّم الوجوب يفيد نفي الوجوب فقط ، ويؤيّده فرض الرفع إلى السلطان بعد هذا النهي والحكم عليه بوجوب القتل ، كما لا يخفى .
المقام الثاني : في سبّ بعض الأئمّة (عليهم السلام) ، والظاهر ـ مضافاً إلى نفي وجدان الخلاف فيه في الجواهر ، بل دعوى ثبوت الإجماع بقسميه عليه(1) ـ أنّه بعد ثبوت الحكم في المقام الأولّ بالإضافة إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله) لا حاجة إلى ورود دليل خاصّ بالنسبة إلى الأئمّة (عليهم السلام) ; لوضوح كونهم بحكمه وأنّهم يجرون مجراه ، وقد عبّر الكتاب العزيز في آية المباهلة(2) عن عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنّه نفس النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، ومن المعلوم أنّه لا فرق بينه وبين أولاده المعصومين (عليهم السلام) من هذه الجهة ، وعليه فلا حاجة إلى الاستشهاد على سريان هذا الحكم في سبّ الأئمّة (عليهم السلام) إلى رواية أو غيرها ، إلاّ أنّ هنا روايات تؤكّد هذا الحكم .
منها : صحيحة هشام بن سالم قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ما تقول في رجل سبّابة لعلي (عليه السلام)؟ قال : فقال لي : حلال الدم والله لو لا أن تعمّ به بريئاً . قال : قلت : لأيّ شيء يعمّ به بريئاً؟ قال : يقتل مؤمن بكافر ، ولم يزد على ذلك(3) . هذا على نقل
(1) جواهر الكلام: 41 / 435.
(2) سورة آل عمران 3: 61.
(3) علل الشرائع: 601 ح59 من نوادر العلل.
(الصفحة407)
الصدوق . وأمّا على نقل الكليني ، فبعد قوله (عليه السلام) : «لو لا أن تعمَّ به بريئاً» قال : قلت : فما تقول في رجل مؤذ لنا؟ قال : في ماذا؟ قلت : فيك يذكرك ، قال : فقال لي : له في عليّ (عليه السلام)نصيب؟ قلت : إنّه ليقول ذلك ويظهره ، قال : لا تعرّض له(1) .
والنهي عن التعرّض له بناءً على النقل الأخير محمول على صورة الخوف عليه بقرينة الصدر الظاهر في حليّة دمه . وقال العلاّمة المجلسي(قدس سره) في محكيّ مرآة العقول : «لو لا أن تعمّ» أي أنت أو البليّة بسبب القتل من هو برىء منه ، وقوله (عليه السلام) : «له في عليّ (عليه السلام) نصيب» يحتمل أن يكون المراد به أنّه هل يتولّى عليّاً (عليه السلام)ويقول بإمامته؟ فقال الراوي : نعم ، هو يظهر ولايته (عليه السلام) ، فقال : «لا تعرّض له» أي لأجل أنّه يتولّى عليّاً (عليه السلام)فيكون هذا إبداء عذر ظاهراً ; لئلا يتعرّض السائل لقتله فيورث فتنة ، وإلاّ فهو حلال الدم ، إلاّ أن يحمل على ما لم ينته إلى الشتم بل نفي إمامته (عليه السلام) ، ويحتمل أن يكون استفهاماً إنكاريّاً ، أي من يذكرنا بسوء كيف يزعم أنّ له في عليّ (عليه السلام) نصيباً؟ فتولّى السائل تكراراً لما قال أوّلا ، ويمكن أن يكون الضمير في قوله (عليه السلام) : «له» راجعاً إلى الذكر ، أي قوله يسري إليه (عليه السلام) أيضاً ، ومنهم من قال : هو تصحيف «نصب» بدون الياء(2) .
ومنها : رواية عبدالله بن سليمان العامري قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : أيّ شيء تقول في رجل سمعته يشتم عليّاً (عليه السلام) ويبرأ منه؟ قال : فقال لي : والله هو حلال الدم ، وما ألف منهم برجل منكم ، دعه(3) .
ومنها : رواية عليّ بن حديد قال : سمعت من سأل أبا الحسن الأوّل (عليه السلام) فقال : إنّي
(1) الكافي: 7 / 269 ـ 270 ح44، وسائل الشيعة: 18 / 461، أبواب حدّ القذف ب27 ح1.
(2) مرآة العقول: 23 / 419 ذ ح44.
(3) وسائل الشيعة: 18 / 462، أبواب حدّ القذف ب27 ح2.
(الصفحة408)
سمعت محمّد بن بشير يقول : إنّك لست موسى بن جعفر الذي أنت إمامنا وحجّتنا فيما بيننا وبين الله ، قال : فقال : لعنه الله ـ ثلاثاً ـ أذاقه الله حرَّ الحديد ، قتله الله أخبث ما يكون من قتلة ، فقلت له : إذا سمعت ذلك منه أَوَليس حلال لي دمه؟ مباح كما اُبيح دم السبّاب لرسول الله(صلى الله عليه وآله) والإمام؟ قال : نعم حلّ والله ، حلّ والله دمه ، وأباحه لك ولمن سمع ذلك منه ، قلت : أوليس ذلك بسابّ لك؟ قال : هذا سبّاب لله وسبّاب لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وسبّاب لآبائي وسبّابي ، وأيّ سبّ ليس يقصر عن هذا ولا يفوقه هذا القول ، فقلت : أرأيت إذا أنا لم أخف أن أغمر بذلك بريئاً ثمَّ لم أفعل ولم أقتله ما عليَّ من الوزر؟ فقال : يكون عليك وزره أضعافاً مضاعفة من غير أن ينقص من وزره شيء ، أما علمت أنّ أفضل الشهداء درجة يوم القيامة من نصر الله ورسوله بظهر الغيب ، وردّ عن الله وعن رسوله(صلى الله عليه وآله)(1) .
ومنها : صحيحة داود بن فرقد قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ما تقول في قتل الناصب؟ فقال : حلال الدم ولكنّي أتّقي عليك ، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل ، قلت : فما ترى في ماله؟ قال : توّه ما قدرت عليه(2) .
ولا ينافي ذلك مرسلة أبي الصبّاح قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ لنا جاراً فنذكر عليّاً (عليه السلام) وفضله فيقع فيه ، أفتأذن لي فيه؟ فقال : أو كنت فاعلا؟ فقلت : إي والله لو أذنت لي فيه لأرصدنّه ، فإذا صار فيها اقتحمت عليه بسيفي فخبطته حتّى أقتله ، فقال : يا أبا الصبّاح هذا القتل (الفتك خ ل) ، وقد نهى رسول الله(صلى الله عليه وآله)عن
(1) وسائل الشيعة: 18 / 463، أبواب حدّ القذف ب27 ح6.
(2) وسائل الشيعة: 18 / 463، أبواب حدّ القذف ب27 ح5.
(الصفحة409)
القتل (الفتك خ ل) ، يا أبا الصبّاح إنّ الإسلام قيد القتل (الفتك خ ل) ، ولكن دعه فستكفى بغيرك ، الحديث(1) .
لأنّها مضافاً إلى إرسالها يمكن أن تحمل على صورة الخوف التي يحرم فيها القتل . واستشهاده (عليه السلام) بقول الرسول لأجل أنّه رأى (عليه السلام) عدم الإنصراف بدونه ، خصوصاً مع علمه (عليه السلام) بموته من غير هذا الطريق ، كما يدلّ عليه ذيل الحديث ، وعليه فلم يكن هناك وجه لقتله كما لا يخفى .
وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا مجال للمناقشة في وجوب قتل سابّ الإمام (عليه السلام) ، لكنّ الكلام في أنّه هل يتوقّف على إذن الإمام والمراجعة إليه أم لا ، كما في قتل سابّ النبي(صلى الله عليه وآله) على ما عرفت؟ فيه قولان ، نسب الثاني إلى المشهور(2) . بل عن الغنية الإجماع عليه(3) ، وحكي الأوّل عن المفيد(4) والعلاّمة في المختلف(5) .
ولعلّ مستندهما رواية عمّار السجستاني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّ عبدالله بن النجاشي قال له ـ وعمّار حاضر ـ : إنّي قتلت ثلاثة عشر رجلا من الخوارج كلّهم سمعته يبرأ من عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، فسألت عبدالله بن الحسن فلم يكن عنده جواب ، وعظم عليه وقال : أنت مأخوذ في الدنيا والآخرة ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : وكيف قتلتهم يا أبا بحير؟ فقال : منهم من كنت أصعد سطحه بسلّم حتّى أقتله ، ومنهم من دعوته بالليل على بابه فإذا خرج قتلته ، ومنهم من كنت أصحبه في
(1) وسائل الشيعة: 19 / 169، أبواب ديات النفس ب22 ح1.
(2) رياض المسائل: 10 / 128، جواهر الكلام: 41 / 438.
(3) غنية النزوع: 428.
(4) المقنعة: 743.
(5) مختلف الشيعة: 9 / 460 ذ مسألة 141.
(الصفحة410)
الطريق فإذا خلا لي قتلته ، وقد استتر ذلك عليَّ ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : لو كنت قتلتهم بأمر الإمام لم يكن عليك شيء في قتلهم ، ولكنّك سبقت الإمام فعليك ثلاث عشرة شاة تذبحها بمنى وتتصدّق بلحمها لسبقك الإمام ، وليس عليك غير ذلك(1) .
ولكنّها مضافاً إلى قصورها سنداً ، يمكن أن يكون الوجه في لزوم التصدّق بما ذكر كونه مردّداً حين القتل في مشروعيّة عمله ، ولأجله سأل عبدالله بن الحسن ، وكان هذا الأمر مضافاً إلى جواب عبدالله بن الحسن منشأً لسؤاله عن الإمام (عليه السلام) ، وعليه فيمكن أن تكون الكفّارة المذكورة كفّارة للتجرّي على القتل مع عدم إحراز مشروعيّته ، فالمراد حينئذ من الرجوع إلى الإمام هو الرجوع إليه لإحراز أصل المشروعيّة ، فلا دلالة للرواية على التوقّف على الاستئذان فيما هو محلّ البحث .
بقي في هذا الفرع أمور :
الأوّل : أنّه لا إشكال في وجوب قتل سابّ الصدّيقة الطاهرة سلام الله عليها لو رجع سبّها إلى سبّ النبي(صلى الله عليه وآله) ، وأمّا مع عدم رجوعه إليه فالظاهر لحوقه بسبّ النبي(صلى الله عليه وآله)والإمام (عليه السلام) ; لما مرّ من أنّه يعلم من الخارج أنّها بحكمهم ، ويترتّب عليها ما يترتّب عليهم ، وأنّ ارتباطها بمقام النبوّة والإمامة ارتباط خاصّ لا يوجد في غيرها ، وما ورد في شأنها وعلوّ مقامها وعظم مكانها لا يعدّ ولا يحصى ، وقد وردت آية التطهير في شأنها وشأن أبيها وبعلها وبنيها ، وهي الكوثر الذي أعطاه الله النبي(صلى الله عليه وآله) ، وعليه فلا ينقص احترامها عن احترامهم صلوات الله عليها وعليهم أجمعين .
وأمّا سائر المنسوبين إلى النبيِّ أو الإمام ، فلا دليل على ثبوت قتل سابّهم إذا لم
(1) وسائل الشيعة: 19 / 170، أبواب ديات النفس ب22 ح2.
(الصفحة411)
يرجع سبّهم إلى سبّهما، وإن حكي عن التحرير إلحاق أمّ النبي(صلى الله عليه وآله) وبنته به مطلقاً(1)، وحكى في الرياض عن غير التحرير أيضاً(2) ، لكنّه لم يقم بالإضافة إليهم دليل .
الثاني : أنّه لا فرق في السابّ في المقامين بين المسلم والكافر ; لعموم الروايات الواردة فيهما ، وملاحظة حكمة الحكم أيضاً تقتضي ذلك ; لأنّ الغرض التحفّظ على شأنه وعدم الوقوع فيه بحيث يوجب نقصان مرتبته في الناس ، وهذا لا فرق فيه بين المسلم والكافر ، وقد روي عن عليّ (عليه السلام) : أنّ يهوديّة كانت تشتم النبيّ(صلى الله عليه وآله)وتقع فيه ، فخنقها رجل حتّى ماتت ، فأبطل رسول الله(صلى الله عليه وآله) دمها(3) .
الثالث : قال في المسالك : في إلحاق باقي الأنبياء بذلك قوّة ; لأنّ كمالهم وتعظيمهم علم من دين الإسلام ضرورةً ، فسبّهم ارتداد(4) .
وفي محكيّ الرياض عن الغنية(5) الإجماع عليه(6) ، ولكن مقتضى دليل المسالك إجراء أحكام الارتداد والتفصيل بين الفطري والملّي ، مع أنّ الظاهر أنّ مرادهم كون سبّ الأنبياء إنّما هو كسبّ نبيّنا(صلى الله عليه وآله) من ترتّب وجوب القتل عليه مطلقاً ، نعم يدلّ عليه ما رواه الفضل بن الحسن الطبرسي بإسناده في صحيفة الرضا ، عن آبائه (عليهم السلام) ، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : من سبّ نبيّاً قتل ، ومن سبّ صاحب نبيّ جلد(7) .
(1) تحرير الأحكام: 2 / 239.
(2) رياض المسائل: 10 / 129.
(3) سنن النسائي: 7 / 108.
(4) مسالك الأفهام: 14 / 453.
(5) غنية النزوع: 428.
(6) رياض المسائل: 10 / 128.
(7) وسائل الشيعة: 18 / 460، أبواب حدّ القذف ب25 ح4.
(الصفحة412)
الثاني : من ادّعى النبوّة يجب قتله ، ودمه مباح لمن سمعها منه إلاّ مع الخوف كما تقدّم . ومن كان على ظاهر الإسلام وقال : «لا أدري أنّ محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله)صادق أو لا» يقتل 1.
ولا يصلح لمعارضتها مرسلة المبسوط ، قال : روي عن علي (عليه السلام) أنّه قال : لا أُوتي برجل يذكر أنّ داود صادف المرأة إلاّ جلدته مائة وستّين ، فإنَّ جلد الناس ثمانون وجلد الأنبياء مائة وستّون(1) .
1 ـ في هذا الفرع أيضاً مقامان :
الأوّل : فيمن ادّعى النبوّة ، ولا خلاف ظاهراً في وجوب قتله ، إنّما الكلام في الدليل عليه ، ففي محكيّ المسالك الاستدلال عليه بالعلم بإنتفاء دعوى النبوّة من دين الإسلام ضرورةً ، فيكون ذلك ارتداداً من المسلم وخروجاً من الملل التي تقرّ أهلها ، فيقتل لذلك(2) .
ولكن يرد عليه عدم انطباق الدليل على المدّعى ، فإنّ المدّعى وجوب قتل المدّعي مطلقاً من دون فرق بين المسلم والكافر ، ومن دون فرق في الأوّل بين الملّي والفطري ، ولا بين الرجل والمرأة ، والدليل لا ينطبق على هذا المدّعى كما هو ظاهر .
فالأولى ، بل المتعيّن الاستدلال عليه بالروايات في المسألة ، مثل :
موثّقة ابن أبي يعفور قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ بزيعاً يزعم أنّه نبيّ! فقال : إن سمعته يقول ذلك فاقتله ، قال : فجلست إلى جنبه غير مرّة فلم يمكنّي ذلك(3) .
(1) المبسوط: 8 / 15.
(2) مسالك الأفهام: 14 / 453.
(3) وسائل الشيعة: 18 / 555، أبواب حدّ المرتدّ ب7 ح2.
(الصفحة413)
والظاهر أنّ المراد من سماعه منه هو العلم بصدور هذا الادّعاء ، أو ما يقوم مقامه لا خصوص السماع مباشرة .
وموثّقة أبي بصير يحيى بن أبي القاسم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في حديث : قال النبيّ(صلى الله عليه وآله) : أيّها الناس إنّه لا نبيّ بعدي ولا سنّة بعد سنّتي ، فمن ادّعى ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه ، ومن تبعه فإنّه في النار ، الحديث(1) .
ورواية الحسن بن عليّ بن فضّال ، عن الرضا (عليه السلام) في حديث قال : وشريعة محمّد(صلى الله عليه وآله) لا تنسخ إلى يوم القيامة ، ولا نبيّ بعده إلى يوم القيامة ، فمن ادّعى نبيّاً أو أتى بعده بكتاب فدمه مباح لكلّ من سمع منه(2) .
الثاني : فيمن كان على ظاهر الإسلام ، وأظهر الشك في نبوّة نبيّنا(صلى الله عليه وآله) ، ولا خلاف فيه ظاهراً أيضاً في وجوب قتله ، واستدلّ عليه في محكيّ المسالك أيضاً بالارتداد(3) ، وقد عرفت عدم انطباقه على المدّعى .
فالأولى الاستدلال عليه بصحيحة عبدالله بن سنان ، المرويّة في محاسن البرقي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : من شكّ في الله وفي رسوله فهو كافر(4) .
وتقريب الاستدلال أنّه ليس المراد هو الشكّ في الله وفي رسوله معاً ، بل الشكّ في أحدهما ; لأنّه لا معنى للشكّ في النبوّة بعد الشك في الالوهيّة ، كما أنّ الظاهر أنّ المراد من الموضوع هو الذي عرض له الشك بعد أن لم يكن شاكّاً ، فالمراد بالشكّ هو الشك الحادث ، فينطبق على المسلم الذي شكّ في أحدهما بعد أن كان معتقداً
(1) وسائل الشيعة: 18 / 555، أبواب حدّ المرتدّ ب7 ح3.
(2) وسائل الشيعة: 18 / 555، أبواب حدّ المرتدّ ب7 ح4.
(3) مسالك الأفهام: 14 / 453.
(4) المحاسن: 1 / 170 ح260، وسائل الشيعة: 18 / 561، أبواب حدّ المرتدّ ب10 ح22.
(الصفحة414)
الثالث : من عمل بالسحر يقتل إن كان مسلماً ، ويؤدَّب إن كان كافراً ، ويثبت ذلك بالإقرار ، والأحوط الإقرار مرّتين ، وبالبيّنة . ولو تعلّم السحر لإبطال مدّعي النبوّة فلا بأس به ، بل ربما يجب 1.
بكليهما ، كما أنّ الظاهر أنّه ليس المراد هو الشكّ الباطني الذي لم يبلغ إلى مرتبة الإظهار والإعلام ، بل الشك الذي أظهره المسلم . نعم ، يبقى على الاستدلال بها أنّه لا دلالة لها على وجوب القتل ; لأنّ الحكم بالكفر لا يلازم الحكم بوجوب القتل إلاّ أن يتحقّق المشي من طريق الارتداد ، كما صنعه صاحب المسالك على ما عرفت .
وبرواية الحارث بن المغيرة قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : لو أنّ رجلا أتى النبيَّ(صلى الله عليه وآله) فقال : والله ما أدري أنبيّ أنت أم لا ، كان يقبل منه؟ قال : لا ، ولكن كان يقتله ، أنّه لو قبل ذلك ما أسلم منافق أبداً(1) . بناءً على أن يكون المراد بالرجل هو الرجل الذي كان على ظاهر الإسلام ، ولكن ينافيه التعليل الواقع في الذيل ; لأنّ الظاهر أنّ المنافق كان كافراً قبل إسلامه ، إلاّ أن يحمل على المنافق الذي أظهر الإسلام ثمّ شكّ في النبوّة ، فتدبّر .
وكيف كان ، فالقصور في الروايات سنداً أو دلالة ينجبر بالفتوى على وجوب القتل في المقام استناداً إليها واتّكالا عليها .
1 ـ ويدلّ على وجوب قتل من عمل بالسحر إن كان مسلماً وتأديبه إن كان كافراً ـ مضافاً إلى أنّه لا خلاف فيه ـ رواية السكوني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : ساحر المسلمين يقتل وساحر الكفّار لا يقتل ، فقيل : يا رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولم لا يقتل ساحر الكفّار؟ قال : لأنّ الكفر (الشرك خ ل) أعظم من
(1) وسائل الشيعة: 18 / 551، أبواب حدّ المرتدّ ب5 ح4.
(الصفحة415)
السحر ، ولأنّ السحر والشرك مقرونان(1) .
وبهذه الرواية يقيّد إطلاق رواية زيد الشحّام ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : الساحر يضرب بالسيف ضربة واحدة على رأسه(2) . بناءً على أن تكون الرواية بصدد بيان حكم وجوب القتل ، وأمّا لو كانت بصدد بيان الكيفيّة بحيث كان المراد بالساحر فيها هو الساحر الذي يجب قتله ، فلا إطلاق لها أصلا .
وكذا يقيّد إطلاق رواية زيد بن عليّ ، عن أبيه ، عن آبائه (عليهم السلام) قال : سئل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن الساحر،فقال:إذاجاءرجلان عدلان فشهدا بذلك فقدحلّ دمه(3).
ثمّ الظاهر أنّ المراد من عنوان الساحر في الروايات هو من تلبّس بالسحر ولو مرّةً ، فتنطبق الروايات على العنوان المأخوذ في الفتاوى ; وهو من عمل بالسحر ، وليس المراد منه ما ربّما يقال : وهو «من اتّخذ السحر صنعةً وعملا وحرفةً له» والدليل على ما ذكرنا ـ مضافاً إلى أنّه المتبادر من عنوان الساحر كعنوان الضارب ونحوه ـ قوله(صلى الله عليه وآله) في ذيل رواية السكوني : «ولأنّ السحر والشرك مقرونان» الظاهر في أنّ الحكم إنّما يكون مترتّباً على تحقّق السحر كالشرك .
ومقتضى إطلاق النصّ والفتوى أنّه لا فرق بين من كان مستحلاًّ ، ومن لم يكن كذلك ، ولا وجه لدعوى الاختصاص بالأوّل ، كما ربّما يحكى عن بعض(4) .
ثمّ إنّه لا إشكال في ثبوته بالإقرار ، وفي اعتبار التعدّد أو كفاية الوحدة ما عرفت في نظائر المقام مراراً ، كما أنّه لا إشكال بمقتضى رواية زيد بن علي وعموم دليل
(1) وسائل الشيعة: 18 / 576، أبواب بقيّة الحدود ب1 ح1.
(2) وسائل الشيعة: 18 / 576، أبواب بقيّة الحدود ب1 ح3.
(3) وسائل الشيعة: 18 / 577، أبواب بقيّة الحدود ب3 ح1.
(4) راجع رياض المسائل: 10 / 131.
(الصفحة416)
الرابع : كلّ ما فيه التعزير من حقوق الله سبحانه وتعالى يثبت بالإقرار والأحوط الأولى أن يكون مرّتين ، وبشاهدين عدلين1.
حجيّة البيّنة في ثبوت المقام بها أيضاً ، ودعوى عدم جريانها هنا نظراً إلى أنّ الشاهد لا يعرف قصده ولا يشاهد التأثير واضحة المنع .
ثمّ إنّه يظهر منهم أنّ تعلّم السحر في مورد حرمته ـ وهو غير ما إذا كان لإبطال دعوى النبوّة به ـ لا يترتّب عليه حكم القتل ; لتعليقهم الحكم بذلك على العامل ، إلاّ أنّه هنا رواية تدلّ على وجوب قتله أيضاً في الجملة ، وهي رواية إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه (عليهما السلام) ، أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول : من تعلّم شيئاً من السحر كان آخر عهده بربّه ، وحدّه القتل إلاّ أن يتوب ، الحديث(1) .
ويظهر من الجواهر الحكم بضعف سند الرواية ; لحكمه بأنّه لا جابر لها(2)ومنشؤه وجود غياث بن كلوب بن قيس في السند ، مع أنّ المحكيّ عن عدّة الشيخ(قدس سره)في شأنه أنّ العصابة عملت برواياته فيما لم ينكر ولم يكن عندهم خلافه(3) . فإن ثبت إعراض المشهور عن الرواية والفتوى على طبقها مع كونها بمرأى منهم فهو قادح فيها ، وإلاّ لا مجال للإعراض عنها كما لا يخفى .
1 ـ أمّا أصل الثبوت بالإقرار ، فيدلّ عليه ـ مضافاً إلى إطلاق دليل نفوذ الإقرار وجوازه ـ فحوى ثبوت ما فيه الحدّ بالإقرار ، نظراً إلى أنّه لو كان موجب الحدّ ثابتاً بالإقرار مثل الزنا واللواط على ما عرفت ، فثبوت موجب التعزير به إنّما
(1) وسائل الشيعة: 18 / 577، أبواب بقيّة الحدود ب3 ح2.
(2) جواهر الكلام: 41 / 443.
(3) عدّة الاُصول: 1 / 149.
(الصفحة417)
الخامس : كلّ من ترك واجباً أو ارتكب حراماً فللإمام(عليه السلام) ونائبه تعزيره بشرط أن يكون من الكبائر ، والتعزير دون الحدّ ، وحدّه بنظر الحاكم ، والأحوط له فيما لم يدلّ دليل على التقدير عدم التجاوز عن أقلّ الحدود1.
يكون بطريق أولى ، مضافاً إلى أنّه لا خلاف فيه ظاهراً ، وأمّا لزوم التعدّد أو كفاية المرّة فقد مرّ البحث فيه(1) . وأنّه يمكن أن يستفاد من النصوص التي عبّر فيها عن الإقرار بالشّهادة أنّ اعتباره إنّما هو من باب أنّه شهادة على النفس ، فيلزم فيه التعدّد ; لعدم كفاية الشهادة الواحدة .
وأمّا الثبوت بالبيّنة ، فيدلّ عليه عموم أو إطلاق ما دلّ على اعتبارها في الموضوعات ، وظاهر المتن عدم اعتبار شهادة النساء ، لكن عرفت أنّ مقتضى الجمع بين الروايات المختلفة الواردة في هذه المسألة اعتبار شهادة النساء منضمّات في باب الحدود ، ولازمه كفاية شهادة رجل وامرأتين في المقام ; لأنّ مقتضى الاعتبار في باب الحدود الاعتبار في التعزيرات بطريق أولى .
1 ـ في هذا الفرع جهات من الكلام :
الاُولى : أنّه هل التعزير فيمن ترك واجباً أو ارتكب محرّماً في الجملة ثابت عليه مطلقاً ، أو مشروط بما إذا لم ينته بالنهي والتوبيخ ونحوهما؟ وجهان : ظاهر مثل المتن هو الأوّل ، والمحكيّ عن كشف اللثام الثاني ; نظراً إلى أنّه إذا انتهى بدون الضرب لا دليل على التعزير إلاّ في مواضع مخصوصة ورد النصّ فيها بالتأديب والتعزير(2) ، ولكنّ المستفاد من النصوص الكثيرة الواردة في موارد متشتّتة أنّ
(1) في ص347 ـ 348.
(2) كشف اللثام: 2 / 415.
(الصفحة418)
وزان التعزير وزان الحدّ وأنّه قائم مقامه ، غاية الأمر أنّ اختلاف الموجب أوجب الاختلاف من جهة الحدّ والتعزير ، فكما أنّ الحدّ يترتّب على موجبه ، ولا يتوقّف على عدم الانتهاء بمثل الموعظة والتوبيخ ، فكذلك التعزير يترتّب على موجبه مطلقاً .
مضافاً إلى دلالة روايات متعدّدة على أنّ الله عزّ وجل جعل لكلّ شيء حدّاً ، وجعل على من تعدّى حدّاً من حدود الله عزّ وجل حدّاً(1) . فإنّ مقتضاها ثبوت الحدّ بالمعنى الأعم من التعزير على كلّ من تعدّى حدّاً من حدود الله تبارك وتعالى ، ولازمه ثبوت الحدّ بالمعنى المذكور بمجرّد التعدّي من دون توقّف على شيء ، وحمل الحدّ على المعنى الأعمّ من التعزير إنّما هو لأجل عدم ثبوت الحدّ المقابل له في جميع موارد التعدّي ، ولهذه العلّة لا يمكن الحمل على خصوص التعزير أيضاً ، كما ربّما يشعر به عبارة الجواهر(2) ، خصوصاً مع التمثيل ببعض الحدود في بعض هذه الروايات ، فراجع .
الثانية : اشتراط كونه من الكبائر ، وقد وقع التصريح به في المتن تبعاً لصاحب الجواهر(3) ، ومقتضى الروايات المتقدّمة ـ الواردة في ثبوت الحدّ بالمعنى الأعمّ من التعزير على من تعدّى شيئاً من حدود الله تبارك وتعالى ـ عدم اشتراط هذا الشرط ; لأنّه لا فرق في التعدّي عن الحدود الإلهيّة بين ما إذا كان كبيراً ، وبين ما إذا كان صغيراً ، إلاّ أنّه يمكن الاستشهاد على الاشتراط بقوله تعالى : {إِن تَجْتَنِبُوا
(1) وسائل الشيعة: 18 / 309 ـ 311 ب2 و 3 من أبواب مقدّمات الحدود.
(2 ، 3) جواهر الكلام: 41 / 448.
(الصفحة419)
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّآتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُدْخَلا كَرِيماً}(1) نظراً إلى ظهوره في أنّ اجتناب الكبائر يكفِّر الصغائر المعبّر عنها بالسيّئات ، فإذا صارت مكفّرة فلا يترتّب عليها التعزير ، إلاّ أنّ لازم ذلك عدم ثبوت التعزير في ارتكاب الصغيرة بالإضافة إلى خصوص مجتنب الكبيرة . وأمّا من ارتكب كلتيهما فلا دلالة للآية على العدم كما لا يخفى ، إلاّ أن يتشبّث بعدم القول بالفصل من هذه الجهة .
الثالثة : مقدار التعزير ، ويستفاد من الجواهر أنّ فيه أقوالا أربعة(2) :
أحدها : ما اختاره المحقّق في الشرائع من أنّه لا يبلغ به حدّ الحرّ في الحرّ ولا حدّ العبد في العبد(3) . وفسّر في الجواهر حدّ الحرّ بالمائة وحدّ العبد بالأربعين ، ولم يعلم وجه تفسير حدّ الحرّ بالأكثر وحدّ العبد بالأقلّ ، وحكي عن المجلسي(قدس سره) في المرآة نسبة هذا القول إلى الأصحاب ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ (4) .
ثانيها : أن لا يبلغ به أدنى الحدّ في العبد مطلقاً ، أي من دون فرق بين الحرّ والعبد ، فأكثر مقدار التعزير حينئذ تسعة وثلاثون .
ثالثها : يجب أن لا يبلغ به أقلّ الحدّ ، ففي الحرّ خمسة وسبعون حدّ القيادة ، وفي العبد أربعون .
رابعها : أنّه فيما ناسب الزنا يجب أن لا يبلغ حدّه ، وفيما ناسب القذف أو الشرب يجب أن لا يبلغ حدّه ، وفيما لا مناسب له يجب أن لا يبلغ أقلّ الحدود وهو خمسة وسبعون حدّ القوّاد ، وظاهر هذا القول أيضاً التفصيل بين الحرّ والعبد في موارد
(1) سورة النساء 4: 31.
(2) جواهر الكلام: 41 / 448.
(3) شرائع الإسلام: 4 / 948.
(4) مرآة العقول: 23 / 374.
(الصفحة420)
ثبوت الفرق ، وحكي هذا القول في محكيّ المسالك عن الشيخ(1) والفاضل في المختلف(2) ،(3) .
وظاهر عبارة الشيخ في كتاب الخلاف في باب الأشربة خلاف ذلك ، بل خلاف جميع الأقوال الأربعة ، قال : لا يبلغ بالتعزير حدّ كامل بل يكون دونه ، وأدنى الحدود في الأحرار ثمانون ، فالتعزير فيهم تسعة وسبعون جلدة ، وأدنى الحدود في المماليك أربعون ، والتعزير فيهم تسع وثلاثون(4) .
ولو حمل قوله : «وأدنى الحدود في الأحرار ثمانون» على الخطأ والإشتباه وتخيّل أنّ أدنى الحدود فيهم ذلك المقدار ، لانطبق كلامه على القول الثالث من الأقوال المتقدّمة ، وهذه الدعوى غير مستبعدة .
وعن ابن إدريس حمل كلام الشيخ(قدس سره) على القول الرابع ، وقال بعده : «والذي يقتضيه اُصول مذهبنا وأخبارنا أنّ التعزير لا يبلغ الحدّ الكامل الذي هو المائة ، أيّ تعزير كان ، سواء كان ممّا يناسب الزنا أو القذف ، وإنّما هذا الذي لوّح به شيخنا من أقوال المخالفين ، وفرع من فروع بعضهم ، ومن اجتهاداتهم وقياساتهم الباطلة وظنونهم العاطلة»(5) .
ومن الظاهر أنّه لا مجال لحمل كلام الشيخ(قدس سره) على هذا القول ; لصراحته في خلافه ، وأنّ التعزير لابدّ وأن يكون ملحوظاً بأدنى الحدود في الأحرار والمماليك ،
(1) المبسوط: 8 / 69 ـ 70.
(2) مختلف الشيعة: 9 / 282 مسألة 141.
(3) مسالك الأفهام: 14 / 457.
(4) الخلاف: 5 / 497 مسألة 14.
(5) السرائر: 3 / 466.
|