(الصفحة421)
فالتنزيل المذكور بلا وجه .
ثمّ لم يعلم أنّ ما جعله ابن إدريس مقتضى أصول المذهب والأخبار من أنّه لا يبلغ بالتعزير المائة ، هل مراده في خصوص الأحرار أو الأعمّ من المماليك؟ لا وجه لدعوى الثاني ، كما أنّ التخصيص بالأوّل يقتضي بيان حكم المماليك أيضاً ، خصوصاً بعد تعرّض كلام الشيخ لحكم كليهما .
ثمّ إنّه يدلّ على القول الثاني صحيحة حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قلت له : كم التعزير؟ فقال : دون الحدّ ، قال : قلت : دون الثمانين؟ قال : لا ، ولكن دون أربعين ، فإنّها حدّ المملوك ، قلت : وكم ذاك؟ قال : على قدر ما يراه الوالي من ذنب الرجل وقوّة بدنه(1) .
ودلالتها على أنّ الملحوظ هو أدنى حدود العبد مطلقاً في الحرّ والعبد واضحة ، ويمكن أن يناقش فيها من جهة دلالتها على تقرير الإمام (عليه السلام) للراوي من جهة تخيّله كون أدنى الحدّ في الأحرار هو الثمانين ، ولأجله سأل عنه ، ولم ينكر عليه الإمام (عليه السلام)بل قرّره على ذلك ، فتدبّر .
ويدلّ على القول الأخير رواية عبيد بن زرارة قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام)يقول : لو أتيت برجل قذف عبداً مسلماً بالزنا لا نعلم منه إلاّ خيراً لضربته الحدّ ، حدّ الحرّ إلاّ سوطاً(2) .
ودلالتها على كونه أقلّ من حدّ القذف الجاري في خصوص ما إذا كان المقذوف حرّاً واضحة ، وظهورها في تعيّن هذا المقدار محمول على كونه بصدد بيان الحدّ
(1) وسائل الشيعة: 18 / 584، أبواب بقيّة الحدود ب10 ح3.
(2) وسائل الشيعة: 18 / 434، أبواب حدّ القذف ب4 ح2.
(الصفحة422)
الأكثر ، ولو نوقش في كون ذلك بعنوان التعزير فهي مندفعة برواية أبي بصير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : من افترى على مملوك عزّر لحرمة الإسلام(1) .
فإنّ مجموع الروايتين يفيد كون تسعة وسبعين تعزيراً في باب القذف ، ويستفاد منه أنّ التعزير في كلّ أمر لابدّ وأن يلحظ بالإضافة إلى الحدّ المقرّر فيه ، وأنّه يلزم أن يكون أقلّ منه .
وهنا رواية عمل بمضمونها ابن حمزة(2) ; وهي رواية إسحاق بن عمّار قال : سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن التعزير كم هو؟ قال : بضعة عشر سوطاً ما بين العشرة إلى العشرين(3) .
ورواية مرسلة رواها الصدوق قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : لا يحلّ لوال يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجلد أكثر من عشرة أسواط إلاّ في حدّ ، وأذن في أدب المملوك من ثلاثة إلى خمسة(4) . وقد مرّ غير مرّة أنّ مثل هذا النحو من الإرسال غير قادح في حجيّة الرواية ، ولكنّ الإشكال في أنّه غير معمول بها ; لخروجه عن الأقوال الأربعة المتقدّمة ، ولم يوجد من عمل بها .
وربّما يقال في مقام الجمع بين صحيحة حمّاد المتقدّمة وموثّقة إسحاق بن عمّار : إنّه لابدّ من رفع اليد عن ظهور الموثّقة وحملها على المثال ; لقوّة ظهور الصحيحة في جواز التعزير بأكثر من عشرين ، وأنّه على تقدير المعارضة يكون الترجيح مع الصحيحة ; لاعتضادها بإطلاقات أدلّة التعزير ، فإنّ المقدار الثابت إنّما هو عدم
(1) وسائل الشيعة: 18 / 436، أبواب حدّ القذف ب4 ح12.
(2) الوسيلة: 423.
(3) وسائل الشيعة: 18 / 583، أبواب بقيّة الحدود ب10 ح1.
(4) وسائل الشيعة: 18 / 584، أبواب بقيّة الحدود ب10 ح2.
(الصفحة423)
بلوغ التعزير مقدار الحدّ ، وأمّا تقييده بأكثر من ذلك فلم يثبت .
ويندفع ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم اختصاص الرواية في المقام بخصوص الصحيحة والموثّقة ; لدلالة رواية عبيد بن زرارة المتقدّمة على القول الرابع كما مرّ ـ بأنّه على تقدير المعارضة لا يكون الترجيح مع الصحيحة ; لأنّه يكون هنا في مقابل إطلاقات أدلّة التعزير عنوانان :
أحدهما : عنوان ما دون الأربعين . وثانيهما : عنوان بضعة عشر أسواطاً . وهما عنوانان متغايران ، خصوصاً مع ملاحظة الاختلاف فى الحدّ الأقلّ للتعزير أيضاً ; لأنّ مقتضى الأوّل جواز الاكتفاء بالواحد أو الاثنين أيضاً ، ومقتضى الثاني لزوم أن لا يكون أقلّ من بضعة عشر ، ولا مجال لترجيح أحدهما على الآخر مع هذا الاختلاف .
هذا ، والذي يقتضيه التحقيق أنّ الموثّقة أيضاً خارجة عن الاعتبار ; لإعراض المشهور عنها وخروجها عن الأقوال الأربعة المتقدّمة ، واللازم ملاحظة الصحيحة مع رواية عبيد بن زرارة ، ولا يبعد بملاحظة المناقشة المتقدّمة الواردة في الصحيحة ترجيح رواية عبيد ، خصوصاً مع كونها مساعدة للاعتبار أيضاً ، فإنّ مقتضاها رعاية المناسبة بين التعزير والحدّ ، ويؤيّده الحكم بالتسعة والتسعين إمّا متعيّناً وإمّا بعنوان الحدّ الأكثر في الموارد التي يكون الحدّ فيها على فرض ثبوت موجبه هي المائة ، كما في المجتمعين تحت إزار واحد على ما عرفت(1) .
وبعد ذلك كلّه فالمسألة غير صافية عن الإشكال ، ومقتضى الاحتياط كما أفاد في المتن رعاية أقلّ الحدود ; وهو الأربعون وإن كان في العبارة مسامحة ; لأنّه قد
(1) في ص312 ـ 317.
(الصفحة424)
السادس : قيل : إنّه يكره أن يزاد في تأديب الصبيّ على عشرة أسواط ، والظاهر أنّ تأديبه بحسب نظر المؤدِّب والوليّ ، فربّما تقتضي المصلحة أقلّ وربّما تقتضي الأكثر ، ولا يجوز التجاوز ، بل ولا التجاوز عن تعزير البالغ ، بل الأحوط دون تعزيره ، والأحوط منه الإكتفاء بستّة أو خمسة 1.
جعل فيها مقتضى الاحتياط عدم التجاوز عن أقلّ الحدود ، مع أنّ مقتضاه عدم البلوغ إليه كما لا يخفى .
ثمّ لا يخفى أنّ البحث في مقدار التعزير إنّما هو في التعزيرات التي ليس لها مقدّر شرعيّ ، وأمّا ما كان له مقدّر شرعيّ ، فمع كونه من مصاديق التعزير ، كما في الموارد الخمسة المذكورة في المسالك(1) في شرح قول المحقّق في أوّل بحث كتاب الحدود في ضابطة الحدّ والتعزير(2) فخارج عن محلّ البحث ، وأمّا مع عدم كونه من مصاديق التعزير كما احتملناه واعترضنا على المسالك على ما عرفت هناك فلا يرتبط بالمقام أصلا .
1 ـ الظاهر أنّ المراد من تأديب الصبي في هذا الفرع هو التأديب في الامور المتعارفة التي يتعارف فيها تأديب الصبيّ ، ولا يشمل مثل ارتكاب المحرّمات الشرعية مثل الزنا واللواط ، فإنّ مقدار التعزير فيها ما مرّ في الفرع السابق ; لإطلاق أدلّة تقدير التعزير وعدم اختصاصها بغير الصبي ، فإذا زنى صبيّ يكون مقدار تعزيره ما عرفت ، مضافاً إلى أنّ الحكم فيها هو اللزوم والوجوب ; لعدم الفرق بين الحدّ والتعزير من هذه الجهة ، وأمّا التأديب المتعارف في الصبيان فالظاهر
(1) مسالك الأفهام: 14 / 326.
(2) شرائع الإسلام: 4 / 932.
(الصفحة425)
أنّ حكمه هو الرجحان غير البالغ حدّ الوجوب .
والظاهر أنّه لا دليل على القول المحكيّ في المتن لا بالإضافة إلى عدم كراهة عشرة أسواط ، ولا بالنسبة إلى كراهة ما زاد . وما في مرسلة الفقيه المتقدّمة في الفرع السابق من قول رسول الله(صلى الله عليه وآله) : «لا يحلّ لوال يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجلد أكثر من عشرة أسواط إلاّ في حدّ» فالظاهر أنّ مورده التعزير في الموارد المناسبة للحدّ ، خصوصاً بملاحظة ذكر الوالي ، لا ما يشمل التأديب في المقام ، مع أنّ مقتضاه عدم جواز ما زاد ، لا مجرّد الكراهة .
والروايات الواردة في المقام أربعة : إثنتان منها واردتان في تأديب الأب للصبي ، وواحدة في تأديب اليتيم ، والرابعة في تأديب المعلّم .
أمّا ما ورد في تأديب الصبيّ فموثّقة حمّاد بن عثمان قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : في أدب الصبيّ والمملوك ، فقال : خمسة أو ستّة ، وأرفق(1) . والظاهر أنّ المراد هو الرفق في الكيفيّة .
وموثّقة إسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ربّما ضربت الغلام في بعض ما يجرم ، قال : وكم تضربه؟ قلت : ربّما ضربته مائة ، فقال : مائة؟! مائة؟! فأعاد ذلك مرّتين ، ثمّ قال : حدّ الزنا؟! اتّق الله ، فقلت : جعلت فداك فكم ينبغي لي أن أضربه؟ فقال : واحداً ، فقلت : والله لو علم أنّي لا أضربه إلاّ واحداً ما ترك لي شيئاً إلاّ أفسده ، قال : فإثنين ، فقلت : هذا هو هلاكي ، قال : فلم أزل أماكسه حتّى بلغ خمسة ، ثمّ غضب فقال : يا إسحاق إن كنت تدري حدّ ما أجرم فأقم الحدّ فيه ،
(1) وسائل الشيعة: 18 / 581، أبواب بقيّة الحدود ب8 ح1.
(الصفحة426)
ولا تعدّ حدود الله(1) .
والظاهر أنّ المراد من الجملة الأخيرة الإرجاع إلى تشخيص الأب ما تقتضيه المصلحة من مقدار التعزير ، فمرجعه إلى تجويز إقامة ذلك المقدار ، وعدم جواز التعدّي عنه . وعليه فالرواية تكون مستندة لما استظهر في المتن من الإرجاع إلى نظر الوليّ ورعاية المصلحة ، ولكن ذلك لا ينافي كون مقتضى الاحتياط الاكتفاء بستّة أو خمسة المذكورة في الرواية الأُولى ، خصوصاً مع احتمال كون المراد بالرفق المأمور به فيها هو الرفق من جهة الكميّة بعدم التجاوز عن العدد المذكور فيها .
ثمّ إنّ الاحتياط بعدم التجاوز عن تعزير البالغ ، بل عدم البلوغ إليه لعلّ الوجه فيه أنّ مورد تعزير البالغ إنّما هو الأُمور المحرّمة غير المشروعة ، فإذا كان التعزير فيه بمقدار مخصوص فتأديب الصبي في الأُمور المتعارفة ينبغي أن يكون أقلّ من ذلك ، كما لا يخفى .
وأمّا ما ورد في اليتيم فموثّقة غياث بن إبراهيم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : أدِّب اليتيم ممّا تؤدِّب منه ولدك ، واضربه ممّا تضرب منه ولدك (2). وظاهرها اشتراكه مع الصبي في الحكم ، فيجري فيه ما يجري فيه .
وأمّا ما ورد في المعلّم فرواية السكوني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم ، فقال : أما أنّها حكومة ، والجور فيها كالجور في الحكم ، أبلغو معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه(3) .
(1) وسائل الشيعة: 18 / 339، أبواب بقيّة الحدود ب30 ح2.
(2) وسائل الشيعة: 15 / 197، كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد ب85 ح1.
(3) وسائل الشيعة: 18 / 582، أبواب بقيّة الحدود ب8 ح2.
(الصفحة427)
ولا دليل على اتّحاد المعلّم مع غيره من مثل الأب ومؤدِّب اليتيم في الحكم ، وإن كان ظاهر إطلاق المتن يقتضي الإتّحاد .
تتمّة
ينبغي بعد التعرّض لمسألة التعزير من جهة المقدار والكميّة التعرّض لها من جهة الكيفيّة ، وأنّه هل يكون له أنواع مختلفة ، أو ينحصر بالضرب؟ لا بكلّ آلة بل بخصوص السوط ، فلا مجال للضرب بغيره ، فضلا عن غير الضرب من الحبس والتغريم المالي والمنع من بعض المزايا والحقوق التي كانت له ، ولم أدر من تعرّض في باب التعزير لهذه الجهة .
والظاهر أنّ استفادة تعميم التعزير من طريق حكومة الفقيه العادل و سعة حكومته لكلّ ما كان للرسول(صلى الله عليه وآله) التصدّي له والحكم فيه ممّا لا مجال له أصلا ، فإنّ ثبوت هذه الحكومة والولاية للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة وإن كان أمراً ظاهراً يقتضيه العقل والنقل من الكتاب والسنّة ، إلاّ أنّها لا تقتضي كون اختيار مصاديق التعزير والتأديب بيد الحكّام بعد عدم اقتضاء الدليل الشرعي للتعميم ، كما أنّ ثبوت تلك الولاية لا يقتضي أن يكون أمر الحدود بأيديهم ، فلا يجوز للحاكم أن يجري على الزاني بدل مائة جلدة الثابت بالكتاب والسنّة تعزيراً آخر بدنيّاً أو ماليّاً أو غيرهما ، فكذلك التعزير ، فإنّه إذا اقتضى دليله نوعاً خاصّاً لا يجوز التعدّي عن ذلك النوع ، ولو كانت دائرة ولاية الفقيه متّسعة بتمام المعنى .
فاللاّزم ملاحظة الدليل ، فنقول : يمكن استفادة العموم من الإطلاقات الواردة في التعزير ، الدالّة على ثبوت نفس هذا العنوان من دون التعرّض لكيفيّة خاصّة ، فإنّ مقتضاها لزوم هذا العنوان المساوق للتأديب ، والروايات المتقدّمة الواردة في
(الصفحة428)
مقدارالتعزير ـ وأنّه مادون الأربعين أوبضعة عشرأسواطاًوغيرهمامن التعبيرات ـ لا يظهر منها تقييد المطلقات بالإضافة إلى الكيفيّة أيضاً ، فإنّ ظاهرها أنّه لو أُريد التعزير بالضرب بالسوط فمقداره كذا ، وأمّا أنّه يجب أن يكون الضرب بخصوص السوط ـ بحيث كان مرجعها إلى التقييد من جهتين : إحداهما : لزوم كونه بنحو الضرب بالسوط . وثانيتهما : لزوم رعاية المقدار المذكور فيها بنحو الحدّ الأكثر أو مطلقاً ـ فالظاهر عدم دلالتها على ذلك ، وعليه فيمكن الرجوع إلى المطلقات والحكم بعدم لزوم التعزير بالضرب بالسوط على سبيل التعيّن ، كما لا يخفى .
ويدلّ على العموم أيضاً رواية حفص بن البختري ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : أُتي أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل وجد تحت فراش رجل ، فأمر به أمير المؤمنين (عليه السلام)فلوّث في مخرأة(1) .
والمخرأة اسم مكان من الخرء وهو الغائط ، وتناسب هذا النحو من التعزير مع اللواط أو مقدّماته واضح .
ورواية السكوني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قضى النبيّ(صلى الله عليه وآله) فيمن سرق الثمار في كمّه ، فما أكلوا منه فلا شيء عليه ، وما حمل فيعزَّر ويغرم قيمته مرّتين(2) .
والظاهر أنّ الكِمّ ـ بالكسر ـ ومعناه الغلاف الذي يحيط بالثمر فيستره ثمّ ينشقّ منه ، وليس هو الكُمّ ـ بالضم ـ مدخل اليد ومخرجها من الثوب . وروى في الوافي بدل : فما أكلوا منه «فما أكل منه»(3) وهو الظاهر ، ومنشأ نفي الشيء عليه باعتبار كونه حقّ المارّة ظاهراً ، والاستدلال بالرواية على المقام مبنيّ على كون قوله (عليه السلام) :
(1) وسائل الشيعة: 18 / 424، أبواب حدّ اللواط ب6 ح1.
(2) وسائل الشيعة: 18 / 516، أبواب حدّ السرقة ب23 ح2.
(3) الوافي: 15/432، وكذا في التهذيب: 10/110 ح431، والكافي: 7/230 ح3، والوسائل طبعة آل البيت (عليهم السلام).
(الصفحة429)
«ويغرَّم قيمته . . .» عطف تفسير وبياناً لقوله (عليه السلام) : «فيعزَّر» ; لأنّه حينئذ يدلّ على أنّ التغريم تعزير ، فلا يختصّ التعزير بالسوط مع أنّه ممنوع ; لظهورها ولا أقلّ احتمالها احتمالا مساوياً للاحتمال الأوّل في كون التغريم أمراً آخر زائداً على التعزير ، وفي الحقيقة يكون التعزير بدل الحدّ في مورد ثبوت القطع في السرقة ، والتغريم بدل ضمان المال المسروق الذي يكون على عهدة السارق ، ويؤيّد ما ذكرنا أنّ الغرامة إنّما تدفع إلى صاحب الثمار ، والمراد منها باعتبار كلمة «مرّتين» هو ضعف القيمة الفعليّة ، باعتبار أنّ الثمار لو لم يسرق في كمّه لكان يزيد قيمته بعداً ، ومن الظاهر أنّ التغريم بدل التعزير لا يرتبط بصاحب المال ، بل ببيت المال .
كلّ ذلك مضافاً إلى أنّ المحكيّ عن المجلسي في المرآة : أنّه لم يعمل على طبق هذه الرواية أحد من الأصحاب(1) .
هذا ، ولكنّ الرواية السابقة بضميمة الإطلاقات بالتقريب المزبور يكفي لاستفادة التعميم في باب التعزير منها ، كما لا يخفى .
(1) مرآة العقول: 23 / 359.
(الصفحة430)
(الصفحة431)
الفصل الرابع
في
حدّ المسكر
والنظر في موجبه وكيفيّته وأحكامه
القول في موجبه وكيفيّته
مسألة 1 : وجب الحدّ على من تناول المسكر أو الفقّاع وإن لم يكن مسكراً ، بشرط أن يكون المتناول بالغاً عاقلا مختاراً عالماً بالحكم والموضوع ، فلا حدّ على الصبيّ والمجنون والمكره والجاهل بالحكم والموضوع أو أحدهما ، إذا أمكن الجهل بالحكم في حقّه1.
1 ـ ينبغي أن يتكلّم في هذه المسألة من جهات :
الأولى : في حرمة تناول المسكر أو مثله في الشريعة الإسلاميّة ، ولا خفاء فيها ; لدلالة الكتاب والسنّة والإجماع عليها ، بل ربّما تعدّ من ضروريّات الإسلام ، وسيأتي البحث في هذه الجهة ، ويستفاد من الروايات أنّ حرمة الخمر كانت ثابتة في جميع الشرائع والأديان ، ولا اختصاص لذلك بالإسلام ، ومن جملة الأدلّة
(الصفحة432)
على ثبوت الحرمة الأدلّة الدالّة على ثبوت الحدّ على المتناول ، فإنّه لا معنى له مع عدم الحرمة كما هو واضح .
الثانية : يستفاد من المتن أنّ موجب الحدّ في المقام أمران :
أحدهما : تناول المسكر ، ولابدّ من البحث في العنوان المضاف إليه وهو المسكر ، والعنوان المضاف وهو التناول ، فنقول :
أمّا الأوّل : فربّما يقال ـ كما قيل ـ : بأنّ المسكر عبارة عمّا يحصل معه اختلال الكلام المنظوم وظهور السرّ المكتوم ، كما أنّه قيل : إنّه عبارة عمّا يغيّر العقل ، ويحصل معه سرور وقوّة النفس في غالب المتناولين ، أمّا ما يغيّر العقل لا غير فهو المرقد إن حصل معه تغيّب الحواسّ الخمس ، وإلاّ فهو المفسد للعقل كما في البنج(1) .
والحقّ أن عنوان المسكر كعنوان الخمر من العناوين العرفيّة التي لابدّ في تشخيصها من الرجوع إلى العرف ; لعدم الفرق بينه وبين سائر العناوين العرفيّة ، والعرف يفرق بين هذا العنوان وبين عنوان المرقد وعنوان المخدّر وسائر العناوين المشابهة ، فاللاّزم الرجوع إليهم .
وأمّا الثاني : فلا خفاء في صدق عنوان التناول وتحقّقه بالشرب الطبيعي ، كما أنّه لا خفاء في تحقّقه بالاصطباغ الذي هو عبارة عن جعل المسكر إداماً ، بأن يغمس الخبز فيه ويصبغ به ، كما يغمس بماء اللحم ويصبغ به ، كما أنّ الظاهر تحقّقه فيما إذا جعل الخمر في كبسول وبلعه ، وأمّا صورة الامتزاج فسيأتي البحث فيها عند تعرّض المتن إن شاء الله تعالى .
ولا شبهة في عدم صدق التناول في مثل التضميد والإطلاء ، بل والاحتقان ،
(1) راجع التنقيح الرائع: 4 / 365.
(الصفحة433)
وأمّا في التسعّط وهو الإدخال في الأنف ، ففي المسالك العدم حيث لا يدخل الحلق(1) ، وفي القواعد الحدّ(2) ، وعلّله في كشف اللثام بأنّه يصل إلى باطنه من حلقه ، وبالنهي عن الاكتحال به ، والإسعاط أقرب منه وصولا إلى الجوف(3) .
والظاهر أنّه مع العلم بدخول الحلق والوصول إلى الجوف يتحقّق عنوان التناول ، ومع العلم بالعدم أو الشكّ في الدخول والوصول لا مجال للحدّ أصلا .
ولو عجن بالخمر مثلا عجيناً ، ففي محكيّ القواعد وجوب الحدّ(4) ، وفي محكيّ التحرير سقوطه ; لأنّ النار أكلت أجزاء الخمر ، ثمّ قال : نعم يعزّر(5) ، والظاهر أنّه لا يتحقّق عنوان التناول هنا عرفاً ، كما لا يقال لمن أكل الخبز الذي عجن عجينه بالماء : إنّه تناول الماء ، ولا فرق بينهما أصلا .
ثمّ الظاهر ثبوت الحدّ فيما إذا تحقّق الإسكار بسبب التزريق ; لصدق تناول المسكر ، نظير التزريق المرقد أو المخدّر الموجب لتحقّق الرقود والتخدير .
ثانيهما : الفقّاع وإن لم يكن مسكراً ، فإنّه أيضاً يوجب الحدّ ، وسيأتي التعرّض للروايات الدالّة على كلا الموجبين في شرح المسألة الثانية إن شاء الله .
ثمّ إنّ الدليل على اعتبار شرطيّة البلوغ والعقل والاختيار في ترتّب الحدّ قد تقدّم البحث عنه فيما سبق(6) ولا طائل تحت الإعادة .
وأمّا اعتبار العلم بالحكم والموضوع ، فيدلّ عليه ـ مضافاً إلى أنّه مع الجهل
(1) مسالك الأفهام: 14 / 458.
(2) قواعد الأحكام: 2 / 264.
(3) كشف اللثام: 2 / 419.
(4، 5) قواعد الأحكام: 2 / 264، تحرير الأحكام: 2 / 227.
(6) في ص81 ـ 82.
(الصفحة434)
بأحدهما ترتفع فعليّة الحرمة ، ولا مجال للحدّ مع عدم الفعلية . نعم ، في الجاهل المقصّر الملتفت القادر على السؤال والفحص يشكل الحكم ; لعدم ارتفاع الفعليّة بالإضافة إليه ، ووضوح كون ترّتّب الحدّ دائراً مدارها ـ الروايات الكثيرة الواردة في الجهل بالحكم ، مثل :
صحيحة الحلبي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : لو أنّ رجلا دخل في الإسلام وأقرّ به ، ثمّ شرب الخمر وزنى وأكل الربا ، ولم يتبيّن له شيء من الحلال والحرام ، لم أقم عليه الحدّ إذا كان جاهلا ، إلاّ أن تقوم عليه البيّنة أنّه قرأ السورة التي فيها الزنا والخمر وأكل الربا ، وإذا جهل ذلك أعلمته وأخبرته ، فإن ركبه بعد ذلك جلدته وأقمت عليه الحدّ(1) .
وصحيحة محمّد بن مسلم قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : رجل دعوناه إلى جملة الإسلام فأقرّ به ، ثمّ شرب الخمر وزنى وأكل الربا ، ولم يتبيّن له شيء من الحلال والحرام ، اُقيم عليه الحدّ إذا جهله؟ قال : لا ، إلاّ أن تقوم عليه بيّنة أنّه قد كان أقرّ بتحريمها(2) . ومثلها رواية أبي عبيدة(3) .
ورواية ابن بكير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : شرب رجل الخمر على عهد أبي بكر ، فرفع إلى أبي بكر ، فقال له : أشربت خمراً؟ قال : نعم ، قال : ولم وهي محرّمة؟ قال : فقال له الرجل : إنّي أسلمت وحسن إسلامي ، ومنزلي بين ظهرانيّ قوم يشربون الخمر ويستحلّون ، ولو علمت أنّها حرام اجتنبتها ، فالتفت أبو بكر إلى عمر ، فقال : ما تقول في أمر هذا الرجل؟ فقال عمر : معضلة وليس لها إلاّ أبو الحسن ، فقال أبو بكر : ادع لنا عليّاً ، فقال عمر : يؤتى الحكم في بيته ، فقام والرجل
(1 ـ 3) وسائل الشيعة: 18 / 323 ـ 324، أبواب مقدّمات الحدود ب14 ح1 ـ 3.
(الصفحة435)
مسألة 2 : لا فرق في المسكر بين أنواعه كالمتَّخذ من العنب : وهو الخمر ، أو التمر : وهو النبيذ ، أو الزبيب : وهو النقيع ، أو العسل : وهو البتع ، أو الشعير : وهو المزر ، أو الحنطة أو الذرّة أو غيرها ، ويلحق بالمسكر الفقّاع وإن فرض أنّه غير مسكر ، ولو عمل المسكر من شيئين فما زاد ففي شربه حدّ 1.
معهما ومن حضرهما من الناس حتّى أتوا أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فأخبراه بقصّة الرجل وقصّ الرجل قصّته، فقال: أبعثوا معه من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار، من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ، ففعلوا ذلك به ، فلم يشهد عليه أحد بأنّه قرأ عليه آية التحريم ، فخلّى سبيله ، فقال له : إن شربت بعدها أقمنا عليك الحد(1) . وروى نحوها أبو بصير(2) .
ويظهر منها(3) أنّها كانت أوّل قضيّة قضى بها بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، كما أنّه يظهر منها حضور سلمان الفارسي في هذه القصّة ، وأنّه قال لعلي (عليه السلام) : لقد أرشدتهم ، فقال على (عليه السلام) : إنّما أردت أن اُجدّد تأكيد هذه الآية فيّ وفيهم {أَفَمَنْ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(4) .
1 ـ الدليل على عدم الفرق في المسكر بين أنواعه وعدم اختصاص الحدّ بالخمر روايات متعدّدة ، مثل :
صحيحة أبي الصباح الكناني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : كلّ مسكر من الأشربة يجب فيه كما يجب في الخمر من الحدّ(5) .
(1، 2) وسائل الشيعة: 18 / 475، أبواب حدّ المسكر ب10 ح1.
(3) أي من رواية أبي بصير، المرويّة في الكافي: 7 / 249 ح4.
(4) سورة يونس 10: 35.
(5) وسائل الشيعة: 18 / 473، أبواب حدّ المسكر ب7 ح1.
(الصفحة436)
وصحيحة سليمان بن خالد قال : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجلد في النبيذ المسكر ثمانين كما يضرب في الخمر ، ويقتل في الثالثة كما يقتل صاحب الخمر(1) .
هكذا في التهذيب والإستبصار والوسائل ، والظاهر أنّ سليمان بن خالد من أصحاب الصادقين (عليهما السلام) ، ولا يمكن له نقل فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) من دون واسطة ، فالظاهر أنّ الناقل له هو الإمام (عليه السلام) .
وموثّقة أبي بصير ، عن أحدهما (عليهما السلام) قال : كان علي (عليه السلام) يضرب في الخمر والنبيذ ثمانين ، الحديث(2) .
وصحيحة بريد بن معاوية قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : إنّ في كتاب عليّ (عليه السلام) : يضرب شارب الخمر ثمانين وشارب النبيذ ثمانين(3) . وغير ذلك من الروايات الدالّة على عدم الاختصاص .
لكن في مقابلها رواية أبي الصباح الكناني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث ، قلت : أرأيت إن اُخذ شارب النبيذ ولم يسكر أيجلد؟ قال : لا(4) .
وصحيحة محمّد بن مسلم قال : سألته عن الشارب ، فقال : أمّا رجل كانت منه زلّة فإنّي معزّره ، وأمّا آخر يدمن فإنّي كنت منهكه عقوبة ; لأنّه يستحلّ المحرّمات كلّها ، ولو ترك الناس وذلك لفسدوا(5) .
(1) التهذيب: 10 / 97 ح374، الإستبصار: 4 / 235 ح885، وسائل الشيعة: 18 / 478، أبواب حدّ المسكر ب11 ح13.
(2) وسائل الشيعة: 18 / 469، أبواب حدّ المسكر ب4 ح2.
(3) وسائل الشيعة: 18 / 468، أبواب حدّ المسكر ب4 ح1.
(4) وسائل الشيعة: 18 / 469، أبواب حدّ المسكر ب4 ح4.
(5) وسائل الشيعة: 18 / 470، أبواب حدّ المسكر ب4 ح6.
(الصفحة437)
وربّما يناقش في سند الأولى ـ وإن وصفه في الجواهر بالصحّة(1) ـ باشتراك محمّد ابن فضيل الراوي عن أبي الصباح بين الثقة وغيرها ، كما أنّ الشيخ(قدس سره) حملها على التقيّة ; لأنّها موافقة للعامّة(2) .
ولكنّ الظاهر ولو بقرينة الروايات المتقّدمة إرجاع الضمير في «لم يسكر» إلى النبيذ ، ومرجعه إلى عدم كون النبيذ مسكراً ، لا إلى شارب النبيذ ، ويدلّ عليه صحيحة الحلبي قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) قلت : أرأيت إن اُخذ شارب النبيذ ولم يسكر أيجلد ثمانين؟ قال : لا ، وكلّ مسكر حرام(3) .
فإنّ ذيلها يدلّ على أنّ المفروض عدم مسكريّة النبيذ ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّه ربّما يستشعر من المتن اختصاص التحريم الموجب للحدّ بالأشربة المسكرة ، كما أنّه يشعر بذلك صحيحة أبي الصبّاح المتقدّمة الدالّة على أنّ «كلّ مسكر من الأشربة يجب فيه كما يجب في الخمر من الحدّ» ولكنّ الظاهر عدم الاختصاص ; لعدم ثبوت المفهوم للصحيحة ، ودلالة صحيحة الحلبي الأخيرة على أنّ «كلّ مسكر حرام» ، وليس مفادها مجرّد الحرمة التي هي أعمّ من ثبوت الحدّ ; لعدم الملازمة بينها وبينه ، فإنّ وقوعه في مقام التعليل لعدم ثبوت الحدّ في النبيذ غير المسكر يظهر منه أنّ المراد هي الحرمة الموجبة للحدّ كما هو ظاهر ، هذا ما ورد في مثل الخمر .
وأمّا ما ورد في الفقّاع فروايات متعدّدة أيضاً ، مثل :
صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : سألته عن
(1) جواهر الكلام: 41 / 451.
(2) التهذيب: 10 / 96، الإستبصار: 4 / 236.
(3) وسائل الشيعة: 18 / 469، أبواب حدّ المسكر ب4 ح5.
(الصفحة438)
مسألة 3 : لا إشكال في حرمة العصير العنبي سواء غلى بنفسه أو بالنار أو بالشمس ، إلاّ إذا ذهب ثلثاه أو ينقلب خلاًّ لكن لم يثبت إسكاره ، وفي إلحاقه بالمسكر في ثبوت الحدّ ولو لم يكن مسكراً إشكال ، بل منع ، سيّما إذا غلى بالنار أو بالشمس ، والعصير الزبيبي والتمري لا يلحق بالمسكر حرمةً ولا حدّاً 1.
الفقّاع ؟ فقال : (هو خ ل) خمر ، وفيه حدّ شارب الخمر(1) .
وموثّقة ابن فضّال قال : كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن الفقّاع ؟ فقال : هو الخمر ، وفيه حدّ شارب الخمر(2) . وغير ذلك من الروايات الدالّة عليه .
ثمّ إنّ ما ورد في المتن من ثبوت حدّ الشرب فيما لو عمل المسكر من شيئين فما زاد يظهر وجهه ممّا ذكرنا من تعليق الحكم على كلّ مسكر ، من دون فرق بين أفراده .
1 ـ قد تحقّقت الشهرة العظيمة ، بل دعوى الإجماع والاتّفاق على حرمة العصير المغلي مطلقاً ، سواء غلى بنفسه أو بالنار أو بالشمس ، والروايات الدالّة على ذلك كثيرة ، ومنها الرواية الآتية التي ربّما يستدلّ بها على ثبوت الحدّ ، الدالّة على أنّ الحرمة كانت أمراً مفروغاً عنه عند السائل ، وقد قرّره الإمام (عليه السلام) على ذلك .
كما أنّه لا خلاف ولا إشكال في أنّه بعد ذهاب الثلثين أو الإنقلاب إلى عنوان حلال كالخلّ مثلا لا مجال للحدّ ; لعدم الحرمة بوجه ، ولا ينبغي الإشكال أيضاً في الحرمة وثبوت الحدّ فيما إذا اتّصف العصير العنبي بالإسكار ; لما عرفت من عموم دليل حرمة المسكر وإيجابه للحدّ .
إنّما الإشكال في ثبوت الحدّ مع فرض عدم الإسكار ، ففي الجواهر دعوى نفي
(1) وسائل الشيعة: 18 / 479، أبواب حدّ المسكر ب13 ح1.
(2) وسائل الشيعة: 17 / 287، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب27 ح2.
(الصفحة439)
وجدان الخلاف فيه(1) . وعن المسالك : مذهب الأصحاب أنّ العصير العنبي إذا غلا بأن صار أسفله أعلاه يحرم ، ويصير بمنزلة الخمر في الأحكام(2) ، وعن الرياض : وكأنّه إجماع بينهم كما صرّح به في التنقيح(3) وغيره ، ولم أقف على حجّة معتدٌّ بها سواه(4) . لكن عن كشف اللثام : لم أظفر بدليل على حدّ شاربه ثمانين ولا بقائل قبل الفاضل(5) سوى المحقّق(6) ،(7) .
أقول : الدليل الذي ربّما يتوهّم الاستدلال به هي موثّقة معاوية بن عمّار ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحقِّ يأتيني بالبختج ويقول : قد طبخ على الثلث ، وأنا أعرف أنّه يشربه على النصف ، أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال : خمر لا تشربه ، قلت : فرجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه يشربه على الثلث ، ولا يستحلّه على النصف ، يخبرنا أنّ عنده بختجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال : نعم(8) .
نظراً إلى أنّ البختج معناه : مطلق العصير المطبوخ ـ وهي معرّب «پخته» ، كما قد فسّره به جماعة ، منهم : المحدّث الكاشاني(9) ـ وليس عصيراً مطبوخاً خاصّاً كما
(1) جواهر الكلام: 41 / 452.
(2) مسالك الأفهام: 14 / 459.
(3) التنقيح الرائع: 4 / 368.
(4) رياض المسائل: 10 / 137.
(5) قواعد الأحكام: 2 / 263.
(6) شرائع الإسلام: 4 / 949.
(7) كشف اللثام: 2 / 417.
(8) وسائل الشيعة: 17 / 234، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب7 ح4.
(9) الوافي: 20 / 654.
(الصفحة440)
يظهر من بعض الأعاظم(1) .
وتقريب الاستدلال ، أنّ حمل عنوان الخمر عليه إمّا أن يكون حقيقيّاً ، كما قد حكي عن جماعة كالكليني(2) والصدوق(3) وبعض آخر منّا(4) ، وعن البخاري من العامّة من أنّه يطلق عليه الخمر كذلك(5) ،(6) . وإمّا أن يكون تنزيليّاً ، ومقتضى إطلاق التنزيل ثبوت جميع أحكام الخمر له ، ومنها : ترتّب الحدّ عليه .
ويرد على الاستدلال بها أوّلا : أنّ الرواية على ما رواه الكليني لا تكون مشتملة على لفظة «خمر» في الجواب الأوّل ، بل كان الجواب مجرّد قوله «لا تشربه»(7) . ومن المعلوم أنّ هذا القول لا دلالة له إلاّ على مجرّد الحرمة ، وهي لا تكون مستلزمة لترتّب الحدّ بوجه . نعم ، في نسخة التهذيب الموجودة عندنا تكون الرواية مشتملة على تلك اللفظة(8) وإن لم تنقل في شيء من الوافي والوسائل مع نقلهما الرواية عن الشيخ ، وشدّة المراقبة في النقل ، وكمال التحفّظ عليه من دون زيادة ولا نقصان ، ولا مجال للرجوع إلى أصالة عدم الزيادة وترجيحها على أصالة عدم النقيصة بعد ثبوت الأضبطيّة للكافي في نقل الأحاديث الناشئة من تمحّض الكليني(قدس سره) فيه
(1) مستند تحرير الوسيلة، كتاب الحدود: 202.
(2) الكافي: 6 / 412 باب «أنّ الخمر إنّما حرّمت لفعلها، فما فَعَل فِعْل الخمر فهو خمرٌ».
(3) المقنع: 453، الفقيه: 4 / 56 ـ 57.
(4) كالشيخ في الخلاف: 5 / 475 مسألة 3 والمبسوط: 8 / 59، والفاضل المقداد في كنز العرفان: 2 / 304، وابن فهد في المهذّب البارع: 5/ 79.
(5) صحيح البخاري: 6 / 301 باب الخمر من العنب وغيره.
(6) جواهر الكلام: 6 / 15.
(7) الكافي: 6 / 421 ح7.
(8) التهذيب: 9 / 122 ح526.
|