(الصفحة201)
(الصفحة202)
عدم تحريف الكتاب
(الصفحة203)
عرض لمعاني التحريف والردّ عليه . مذهب الإمامية في عدم التحريف المتسالم عليه . أدلّة عدم التحريف ، ومناقشة القائلين به . النتيجة .
(الصفحة204)
حيث انّ مسألة التحريف من المسائل المهمّة المتعلّقة بالكتاب لابدّ من التعرّض لها ، والورود فيها مفصّلاً ليزول الشكّ والارتياب فيها ـ إن شاء الله تعالى ـ وتنقدح صيانة الكتاب في أنّه المعجزة الخالدة الوحيدة للنبوّة والرسالة ، والبرنامج الفذّ لهداية الناس إلى صلاح اُمورهم الدنيويّة والدينيّة ، وخروجهم من الظلمات إلى النور إلى يوم القيامة ، وإرشادهم إلى الطريق المستقيم ، والشريعة السمحة السهلة ، وإراءتهم لما يتضمّن سعادة الدارين التي هي السعادة المطلوبة ، والغاية المنشودة لكلّ عاقل .
ويظهر بطلان ما زعمه القائل بالتحريف ، جهلاً منه بما يترتّب على هذا القول السخيف من التوالي الفاسدة ، والآثار السيّئة ، ونقض الغرض ، وتطاول المخالفين المعاندين للإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى ، وغيرهما من الذين لا يطيقون عظمة هذا الدين القويم ، وشوكة المسلمين ، ويتشبّثون بكلّ ما يمكن أن ينتهي إلى خذلانهم وضعف عقيدتهم .
ومن العجب إصرار بعض من ينتحل العلم ، ويظهر التعصّب في الدين ، ويرى لنفسه الفضيلة والمزية على غيره على القول بالتحريف ، الذي يتبرّأ منه من له أدنى
(الصفحة205)
حظّ ونصيب من الشعور والعقل ، الذي هو الرسول الباطني والحجّة الداخلية .
والظاهر أنّ الأيادي الخفية المشبوهة والسياسات المعادية للإسلام هي التي تؤيّد هذه العقيدة الباطلة لاُمور غير خفيّة على أهلها ، فاللاّزم على الواعي ـ ولابدّ أن تكون له هذه المسؤولية ـ الواقف على هذه الخصوصيات : أن لا يقع من حيث لا يشعر ـ فيما يعود نفعه على المغرضين ، ويرجع إلى ضعف الدين ، ويستلزم خذلان المسلمين ويستوجب أن تكون الفرقة المحقّة الإمامية الاثنا عشريّة مورداً للتهمة والإفتراء عليهم بأنّ من خصائص عقائدهم ومبتدعاتهم القول بتحريف الكتاب ، ووقوع النقص فيه ، حتّى انّ من كان منهم أشدّ أصراراً على هذا القول يكون تعظيمه أكثر من غيره ، وإكرامه أوجب ، وقد نشرت في هذه الأزمنة ـ قبل سنين ـ رسالة ـ عذّب الله كاتبها ـ في موسم الحجّ في الردّ على الشيعة والنقض عليهم وكان عمدة ما اعتمد عليه كاتبها في إثبات غرضه الفاسد هو القول بالتحريف الذي ذهب إليه بعض العلماء منهم ، قائلاً إنّه قول جميعهم ، وانّه من إمتيازاتهم ، وانّ غرضهم من ذلك الفرار من التمسّك بالكتاب الذي هو الثقل الأكبر ، ويجب التمسّك به إلى يوم القيامة فهل ـ مع مثل ذلك ـ يسوغ للعاقل التفوّه بهذا الأمر الباطل ، فضلاً عن أن يؤلّف فيه الكتاب ويستند فيه إلى الآيات غير الدالّة ، والروايات الموضوعة عصمنا الله من الزلل والعثرة .
وكيف كان فنقول ـ وبالله الاستعانة ـ انّه لابدّ قبل الورود في أدلّة محلّ البحث وموضع النزاع من تقديم أمرين :
الأمر الأوّل : فيما يستعمل فيه لفظ «التحريف» وبيان أنّ محلّ البحث ومورد
(الصفحة206)
النزاع ماذا؟ فنقول : قال بعض الأعلام في كتابه «البيان في تفسير القرآن»(1) ما لفظه :
«يطلق لفظ التحريف ويراد منه عدّة معان على سبيل الاشتراك ، فبعض منها واقع في القرآن باتّفاق من المسلمين ، وبعض منها لم يقع فيه باتّفاق منهم أيضاً ، وبعض منها وقع فيه الخلاف بينهم وإليك تفصيل ذلك :
الأوّل : نقل الشيء عن موضعه ، وتحويله إلى غيره ، ومنه قوله تعالى : {من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه} ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب الله ، فإنّ كلّ من فسّر القرآن بغير حقيقته ، وحمله على غير معناه فقد حرّفه ، وترى كثيراً من أهل البدع والمذاهب الفاسدة قد حرّفوا القرآن بتأويلهم آياته على طبق آرائهم وأهوائهم ، وقد ورد المنع عن التحريف بهذا المعنى ، وذمّ فاعله في عدّة من الروايات :
منها : رواية الكافي باسناده عن الباقر (عليه السلام) انّه كتب في رسالته إلى سعد الخير : «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال تعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية» .
الثاني : النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات ، مع حفظ القرآن ، وعدم ضياعه ، وإن لم يكن في الخارج مميّزاً عن غيره ، والتحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعاً فقد أثبتنا لك فيما تقدّم عدم تواتر القراءات ، ومعنى هذا انّ القرآن المنزل إنّما هو مطابق لإحدى القراءات وامّا غيرها فهو امّا زيادة في القرآن وامّا نقيصة فيه .
(1) للإمام الخوئي بتقديم العلاّمة السيِّد مرتضى الحكمي ص215 ـ 218 الناشر .
(الصفحة207)
الثالث : النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين مع التحفّظ على نفس القرآن المنزل ، والتحريف بهذا المعنى وقع في صدر الإسلام وفي زمان الصحابة قطعاً ، ويدلّنا على ذلك إجماع المسلمين على أنّ عثمان أحرق جملة من المصاحف وأمر ولاته بحرق كلّ مصحف غير ما جمعه ، وهذا يدلّ على أنّ هذه المصاحف كانت مخالفة لما جمعه ، وإلاّ لم يكن هناك سبب موجب لإحراقها ، وقد ضبط جماعة من العلماء موارد الاختلاف بين المصاحف ، منهم : عبدالله بن أبي داود السجستاني ، وقد سمّى كتابه هذا بكتاب المصاحب ، وعلى ذلك فالتحريف واقع لا محالة امّا من عثمان ، أو من كتاب تلك المصاحف ، ولكنّا سنبيّن بعد هذا ـ إن شاء الله تعالى ـ انّ ما جمعه عثمان كان هو القرآن المعروف بين المسلمين ، الذي تداولوه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يداً بيد ، فالتحريف بالزيادة والنقيصة إنّما وقع في تلك المصاحف التي انقطعت بعد عهد عثمان ، وامّا القرآن الموجود فليس فيه زيادة ولا نقيصة . . .
الرابع : التحريف بالزيادة أو النقيصة في الآية والسورة مع التحفّظ على القرآن المنزل ، والتسالم على قراءة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إيّاها والتحريف بهذا المعنى أيضاً واقع في القرآن قطعاً ، فالبسملة ـ مثلاً ـ ممّا تسالم المسلمون على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأها قبل كلّ سورة ـ غير سورة التوبة ـ وقد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنّة ، فاختار جمع منهم انّها ليست من القرآن ، بل ذهبت المالكيّة إلى كراهة الإتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة ، إلاّ إذا نوى به المصلّي الخروج من الخلاف ، وذهب جماعة اُخرى إلى أنّ البسملة من القرآن . وامّا الشيعة فهم متسالمون على جزئية البسملة من كلّ سورة غير سورة التوبة ، واختار هذا القول جماعة من علماء السنّة أيضاً ، وإذن فالقرآن المنزل من السماء قد وقع فيه التحريف
(الصفحة208)
يقيناً بالزيادة أو بالنقيصة .
الخامس : التحريف بالزيادة ، بمعنى أنّ بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل ، والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين بل هو ممّا علم بطلانه بالضرورة .
السادس : التحريف بالنقيصة بمعنى أنّ بعض المصحف الذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء ، فقد ضاع بعضه على الناس ، والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف فأثبته قوم ونفاه آخرون» .
انتهى كلامه دامت إفادته .
ولكنّه سيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ في موضوع جمع القرآن وانّه في أيّ زمان جمع ، انّ الجمع كان في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وانّ اختلاف مصحف عثمان مع سائر المصاحف كان في كيفيّة القراءة من دون اختلاف في الكلمات .
والعجب انّه بنفسه يصرّح فيما بعد بذلك حيث يقول : «لا شكّ أنّ عثمان قد جمع القرآن في زمانه ، لا بمعنى أنّه جمع الآيات والسور في مصحف ، بل بمعنى أنّه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد وأحرق المصاحف الاُخرى التي تخالف ذلك المصحف ، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة» وحينئذ فالاختلاف إنّما كان في القراءة لا في الكلمات كما سيظهر إن شاء الله تعالى .
الأمر الثاني : في عقيدة المسلمين في هذا الباب ، فنقول : المعروف بينهم عدم وقوع التحريف في الكتاب وانّه كما لم يقع التحريف بالزيادة إجماعاً ـ كما عرفت ـ لم يقع التحريف بالنقيصة ، وانّ ما بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على الرسول
(الصفحة209)
الاُمّي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد صرّح بعدم وقوع التحريف في الكتاب أعاظم علماء الشيعة الإمامية وأعلامهم من المتقدّمين والمتأخِّرين ، وإليك نقل بعض كلماتهم .
قال شيخ المحدّثين صدوق الطائفة في محكي كتاب الاعتقاد : «اعتقادنا انّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه هو ما بين الدفّتين وليس بأكثر من ذلك ، ومن نسب إلينا انّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب» .
وقال المفيد ـ رحمه الله تعالى ـ في المقالات : «وقد قال جماعة من أهل الإمامة إنّه لم ينقص من كلمة ، ولا من آية ، ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً ، قال الله تعالى : {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقل ربِّ زدني علماً} . فسمّى تأويل القرآن قرآناً وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف ، وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى النقصان من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل ، وإليه أميل ، والله أسأل توفيقه للصواب» .
وقال السيِّد المرتضى (قدس سره) في المحكي عنه في جواب المسائل الطرابلسيّات : «العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار ، والوقائع والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ، فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته وبلغت حدّاً لم يبلغه ما ذكرناه ، لأنّ القرآن معجز للنبوّة ، ومأخذ للعلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة ، وعلماء الإسلام قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون متغيّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة ، والضبط الشديد ، وانّ
(الصفحة210)
العلم بتفصيله وابعاضه ـ في صحّة نقله ـ كالعلم بجمله ، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة ، ككتاب سيبويه والمزني ، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما حتّى لو أنّ مدخلاً أدخل في كتاب سيبويه باباً في النحو ليس من الكتاب ، لعرف وميّز ، وعلم انّه ملحق وليس من أصل الكتاب ، وكذلك القول في كتاب المزني ، ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه وداود من الشعراء» .
وذكر أيضاً : «انّ القرآن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن» ، واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرّس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وإن كان يعرض على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتلى عليه ، وانّ جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود واُبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث ، وذكر أنّ من خالف في ذلك من الإماميّة والحشويّة لا يعتدّ بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّتها» .
وقال الشيخ الطوسي ـ قدّس سرّه القدوسي ـ في أوّل تفسيره المسمّى بالتبيان : «امّا الكلام في زيادته ونقصه فممّا لا يليق به ـ يعني بالتفسير ـ أيضاً ، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، والنقصان منه ، فالظاهر من مذهب المسلمين خلافه ، وهو لا يليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى وهو الظاهر في الروايات ، غير انّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير
(الصفحة211)
من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً والأولى الإعراض عنها» .
وتبعه على ذلك المحقّق الطبرسي في مقدّمة تفسيره «مجمع البيان» الذي هو كالتلخيص لتفسير «التبيان» .
وقال كاشف الغطاء في محكي كشفه : «لا ريب أنّه ـ يعني القرآن ـ محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديّان ، كما دلّ عليه صريح القرآن ، وإجماع العلماء في كلّ زمان ، ولا عبرة بالنادر ، وما ورد من أخبار النقص تمنع البديهة من العمل بظاهرها» إلى أن قال : «فلابدّ من تأويلها بأحد وجوه» .
وعن السيِّد القاضي نور الله في مصائب النواصب : «ما نسب إلى الشيعة الإماميّة من وقوع التغيير في القرآن ليس ممّا قال به جمهور الإماميّة ، إنّما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم» .
وعن الشيخ البهائي (قدس سره) : «وأيضاً اختلفوا في وقوع الزيادة والنقصان فيه ، والصحيح انّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك زيادة كان أو نقصاناً ويدلّ عليه قوله تعالى : {وانّا له لحافظون} وما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم أمير المؤمنين (عليه السلام)منه في بعض المواضع مثل قوله تعالى : {يا أيّها الرسول بلِّغ ما اُنزل إليك} ـ في عليّـ وغير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء» .
وعن المقدس البغدادي في شرح الوافية : «وإنّما الكلام في النقيصة ، والمعروف بين أصحابنا حتّى حكي عليه الإجماع عدم النقيصة أيضاً» وعنه أيضاً عن الشيخ علي بن عبد العالي انّه صنَّف في نفي النقيصة رسالة مستقلّة ، وذكر كلام الصدوق المتقدّم ، ثمّ اعترض بما يدلّ على النقيصة من الأحاديث ، وأجاب بأنّ الحديث إذا
(الصفحة212)
جاء على خلاف الدليل من الكتاب والسنّة المتواترة ، أو الإجماع ، ولم يمكن تأويله ، ولا حمله على بعض الوجوه وجب طرحه .
وحكى هذا القول ـ أيضاً ـ عن العلاّمة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه «العروة الوثقى» ناسباً له إلى جمهور المجتهدين . وعن المحدّث الشهير المولى الفيض الكاشاني في كتابي «الوافي وعلم اليقين» ، وصرّح به أيضاً فقيد العلم الكامل الجامع الشيخ محمد جواد البلاغي في مقدّمة تفسيره المسمّى بـ «آلاء الرحمن» .
وبالجملة : لا مجال للإرتياب في أنّ المشهور بين علماء الشيعة الإماميّة ، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف ، وإنّما ذهب إليه منهم طائفة قليلة من الاخباريّين ، اغتراراً بظاهر الروايات الدالّة على ذلك ، التي سيجيء الجواب عن الاستدلال بها ، ومع ذلك فلا مساغ لنسبة هذا القول إلى الطائفة المحقّة ، وجعل ذلك من مطاعن الفرقة الناجية ، كما يظهر من بعض مفسِّري أهل السنّة وغيرهم .
ولا بأس بنقل عبارة بعضهم ليظهر ركوبهم مركب التعصّب وهو عثور ، وينقدح ابتلاء الطائفة المحقّة بمثل هذه الافتراءات الكاذبة ، والنسب الباطلة غير الصادقة ، فنقول :
قال الآلوسي في مقدّمة تفسيره روح المعاني : «وزعمت الشيعة أنّ عثمان ، بل أبا بكر وعمر أيضاً حرّفوه ، وأسقطوا كثيراً من آياته وسوره ، فقد روى الكليني منهم عن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) انّ القرآن الذي جاء به جبرئيل إلى محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) سبعة عشر ألف آية .
وروى محمد بن نصر عنه أنّه قال : كان في «لم يكن» اسم سبعين رجلاً من
(الصفحة213)
قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم .
وروي عن سالم بن سليمة قال : قرأ رجل على أبي عبدالله وأنا أسمعه حروفاً من القرآن ليس ما يقرأ الناس فقال أبو عبدالله : مه عن هذه القراءات واقرأ كما يقرأ الناس حتّى يقوم القائم فإذا قام القائم فاقرأ كتاب الله على حدّه .
وروي عن محمّد بن جهم الهلالي وغيره عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «انّ اُمّة هي أربى من اُمّة» ليس كلام الله بل محرّف عن موضعه والمنزل : «أئمّة هي أزكى من أئمّتكم» .
وذكر ابن شهرآشوب المازندراني في كتاب المثالب له : انّ سورة الولاية أسقطت بتمامها ، وكذا أكثر سورة الأحزاب ، فإنّها كانت مثل سورة الأنعام ، فأسقطوا منها فضائل أهل البيت ، وكذا أسقطوا لفظ «ويلك» من قبل «لا تحزن انّ الله معنا» ، و«عن ولاية عليّ» من بعد : «وقفوهم انّهم مسؤولون» ، و«بعليّ بن أبي طالب» من بعد «وكفى الله المؤمنين القتال» ، و«آل محمّد» من بعد «وسيعلم الذين ظلموا» إلى غير ذلك .
فالقرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم شرقاً وغرباً وهو لكرة الإسلام ودائرة الأحكام مركزاً وقطباً أشدّ تحريفاً عند هؤلاء من التوراة والإنجيل ، وأضعف تأليفاً منها وأجمع للأباطيل ، وأنت تعلم أنّ هذا القول أوهن من بيت العنكبوت وانّه لأوهن البيوت ولا أراك في مرية من حماقة مدعيّهو وسفاهة مفتريه ، ولما تفطّن بعض علمائهم لما به جعله قولاً لبعض أصحابه» .
ثمّ نقل كلام الطبرسي في مقدّمة مجمع البيان ، المشتمل على نقل كلام السيِّد المرتضى المتقدّم ، ونسبة ذلك إلى قوم من حشويتة العامّة ، ثمّ قال : وهو كلام دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتّى للأطفال ، ثمّ أنكر نسبة ذلك إلى قوم من
(الصفحة214)
الحشويّة نظراً إلى إجماع العامّة على عدم وقوع النقص فيما تواتر قراناً كما هو موجود بين الدفّتين اليوم .
ثمّ قال : «نعم ، أسقط زمن الصديق ما لم تتواتر وما نسخت تلاوته وكان يقرأه من لم يبلغه النسخ وما لم يكن في العرضة الأخيرة ، ولم يألُ جُهداً في تحقيق ذلك إلاّ انّه لم ينتشر نوره في الآفاق إلاّ زمن ذي النورين فلهذا نسب إليه .
كما روي عن حميدة بنت يونس أنّ في مصحف عائشة رضي الله عنها : انّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً وعلى الذين يصلّون الصفوف الأوُل . وإنّ ذلك قبل أن يغيّر عثمان المصاحف .
وما أخرج أحمد عن اُبيّ قال : قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك فقرأ عى «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتّى تأتيهم البيّنة رسول من الله يتلو صحفاً مطهّرة ، وما تفرّق الذين اُوتوا الكتاب إلاّ من بعدما جائتهم البيّنة انّ الدين عند الله الحنيفيّة غير المشركة ، ولا اليهودية ، ولا النصرانية ، ومن يفعل ذلك فلن يكفره» .
وفي رواية : «ومن يعمل صالحاً فلن يكفره ، وما اختلف الذين اُوتوا الكتاب إلاّ من بعدما جاءتهم البيّنة انّ الذين كفروا ، وصدّوا عن سبيل الله ، وفارقوا الكتاب لمّا جائهم أولئك عند الله شرّ البرية ما كان الناس إلاّ اُمّة واحدة ثمّ أرسل الله النبيّين مبشِّرين ومنذرين يأمرون الناس يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويعبدون الله وحده أولئك عند الله خير البرية جزاؤهم عند ربّهم جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربّه» .
(الصفحة215)
وفي رواية الحاكم فقرأ فيها : «ولو أنّ إبن آدم سأل وادياً من مال فأعطاه يسأل ثانياً ، ولو سأل ثانياً فأعطاه يسأل ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب ، ويتوب الله على من تاب» .
وما روي عنه أيضاً أنّه كتب في مصحفه سورتي الخلع والحفد : «اللهمّ انّا نستعينك ونستغفرك ، ونثني عليك ، ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك ، اللهمّ إيّاك نعبد ، ولك نصلّي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ، ونخشى عذابك إنّ عذابك بالكفّار ملحق» فهو من ذلك القبيل ، ومثله كثير .
وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد عن ابن عمر ، قال : لا يقولنّ أحدكم قد أخذت القرآن كلّه ، وما يدريه ما كلّه قد ذهب منه قرآن كثير ، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر .
والروايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى إلاّ أنّها محمولة على ما ذكرنا وأين ذلك ممّا يقوله الشيعي الجسور ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور» .
انتهى ما أردنا نقله من كلامه حشره الله لا مع أجداده بل مع من يحبّه ويتولاّه .
وأنت خبير بما فيه :
امّا أوّلاً : فلأنّك عرفت أنّ المشهور عند أصحابنا الإماميّة ، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف ، بل قد عرفت أنّ الصدوق (قدس سره) جعله من عقائد الإماميّة ، وادّعى كاشف الغطاء فيه الضرورة والبداهة ، ومعه لا وجه للافتراء عليهم ، ونسبة هذا القول السخيف إلى الطائفة المحقّة ـ الظاهرة في الشهرة بينهم ، وذهاب الكليني وبعض آخر من المحدّثين كشيخه علي بن إبراهيم القمّي ـ صاحب
(الصفحة216)
التفسير ـ إلى القول بالتحريف ـ لا يسوغ النسبة إلى الجميع أو المشهور ، مع أنّ منشأ النسبة إليه وإلى شيخه هو ذكر الأخبار الظاهرة فيه . ومن الواضح انّ نقل الخبر لا يدلّ على اختيار الناقل لما يفهم منه ظاهراً ، لأنّه فرع اعتباره أوّلاً ، وظهوره عنده في ذلك ثانياً ، وخلوّه عن المعارض ثالثاً ، وحجّيته في مثل هذه المسألة رابعاً ، وتحقّق ذلك عند الناقل غير واضح .
وامّا ثانياً : فلأنّ إنكار ذهاب الحشويّة من العامّة ، وهم الفرقة القائلة بحجّية ظواهر القرآن واعتبارها ، ولو كان على خلاف العقل الصريح ، ولذا التزموا بالتجسيم نظراً إلى ذلك ، ولعلّه لأجله سمّيت بالحشويّة في غير محلّه لشيوع هذا القول منهم من الأزمنة المتقدّمة .
وامّا ثالثاً : فلأنّه أنكر التحريف ـ غاية الإنكار ـ والتزم بما يرجع إليه من نسخ التلاوة الذي هو في الحقيقة تحريف ، حيث قال في عبارته المتقدّمة : «نعم أسقط زمن الصديق ما لم تتواتر ، وما نسخت تلاوته وكان يقرأه من لم يبلغه النسخ» .
والعجب! انّه لا يختصّ هذا الإيراد بالرجل بل هو شائع بين الجمهور حيث انّهم قد صرّحوا بنفي التحريف ، وإثبات نسخ التلاوة ، وعليه حملوا الروايات الكثيرة المرويّة بطرقهم ، الدالّة على اشتمال القرآن الأوّلي على أزيد من ذلك ، وقد نسخت تلاوة الزائد ، وقد نقل بعضها الآلوسي في عبارته المتقدّمة ، ولا بأس بذكر البعض الآخر أيضاً مثل :
ما روى المسوّر بن مخرمة قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : ألم تجد فيما اُنزل علينا : «ان جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة ، فانّا لا نجدها؟ قال : اُسقطت فيما اُسقط من القرآن» .
(الصفحة217)
وروى ابن أبي داود ابن الأنباري ، عن ابن شهاب قال : «بلغنا أنّه كان أنزل قرآن كثير فقتل علماؤه يوم اليمامة الذين كانوا قد وعوه ، ولم يعلم بعدهم ، ولم يكتب» .
وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت : «كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مائتي آية ، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلاّ ما هو الآن» .
وروى ابن عبّاس ، عن عمر انّه قال : «إنّ الله عزّوجلّ بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم)بالحقّ ، وأنزل معه الكتاب ، فكان ممّا أنزل إليه آية الرّجم ، فرجم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ورجمنا بعده ، ثمّ قال : كنّا نقرأ : ولا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أو ان كفراً بكم ان ترغبوا عن آبائكم» .
وآية الرّجم التي ادّعى عمر ـ على طبق الرواية ـ انّها من القرآن رويت بوجوه :
منها : «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة نكالاً من الله والله عزيز حكيم» .
ومنها : «الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة بما قضيا من اللّذة» .
ومنها : «إنّ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة» وغير ذلك من الموارد التي التزموا فيها بنسخ التلاوة ، مع أنّه لا يعلم مرادهم من نسخ التلاوة هل أنّه كان نسخها بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بأيدي من تصدّى للزعامة والخلافة بعده؟
فإن كان الأوّل فما الدليل على النسخ بعد ثبوت كون المنسوخ من القرآن بنحو التواتر على اعتقادهم ، ولذا يقولون بأنّه «كان يقرأه من لم يبلغه النسخ» وصرّح بذلك الآلوسي في عبارته المتقدّمة ، فإن كان المثبت له هو خبر الواحد فقد قرّر في
(الصفحة218)
محلّه من علم الاُصول وغيره انّه لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، والظاهر الاتّفاق عليه ، وإن وقع الاختلاف في جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، وإن كان هو السنّة المتواترة فمع عدم ثبوت التواتر ـ كما هو واضح ـ نقول : إنّه حكي عن الشافعي ، وأكثر أصحابه ، وأكثر أهل الظاهر : القطع بعدم جواز نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة ، وحكي عن أحمد أيضاً ـ في إحدى الروايتين ـ بل أنكر جماعة من القائلين بالجواز وقوعه وتحقّقه .
وإن كان الثاني : فهو عين القول بالتحريف ، وكأنّ الآلوسي ومن يحذو حذوه توهّموا انّ النزاع في باب التحريف نزاع لفظي ، وإلاّ فأيّ فرق بينه وبين نسخ التلاوة بهذا المعنى ، وعلى ذلك يصحّ أن يقال : إنّ جمهور علماء السنّة قائلون بالتحريف لتصريحهم بنسخ التلاوة الذي يرجع إليه ، بل هو عينه ، كما أنّه ينكشف انّ من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .
وامّا رابعاً : فلأنّه كيف يصحّ الالتزام بأنّ سورتي الخلع والحفد ـ اللّتين سمّاهما الراغب في المحاضرات سورتي القنوت ، ونسبوهما إلى مصحف ابن عبّاس ، ومصحف زيد وقراءة اُبيّ ، وأبي موسى ـ أن يكون من القرآن ، فإنّه كيف يصحّ قوله : «يفجرك» في السورة الاُولى وكيف تتعدّى كلمة «يفجر» وأيضاً انّ الخلع يناسب الأوثان ، فماذا يكون المعنى ، وبماذا يرتفع الغلط؟ أو ما هي النكتة في التعبير بقوله : «ملحق» وما هو وجه المناسبة وصحّة التعليل لخوف المؤمن من عذاب الله بأنّ عذاب الله بالكافرين ملحق فإنّ هذه العبارة إنّما تناسب التعليل ، لأن لا يخاف المؤمن من عذاب الله ، لأنّ عذابه بالكافرين ملحق .
وكذا آية الرجم ـ التي ادّعى عمر انّها من القرآن ـ يسأل من القائل بنسخ
(الصفحة219)
تلاوته ـ على تقدير صحّة روايته ـ انّه ما وجه دخول الفاء في قوله : «الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة بما قضيا من اللّذة» وليس هناك ما يصحّح دخولها من شرط أو نحوه ، لا ظاهراً ، ولا على وجه يصحّ تقديره ، وإنّما دخلت الفاء على الخبر في قوله تعالى في سورة النور : «الزانية والزاني فاجلدوا . .» لأنّ كلمة اجلدوا بمنزلة الجزاء لصفة الزنا في المبتدأ والزنا بمنزلة الشرط ، وليس الرجم جزاء للشيخوخة ، ولا هي سبباً ، فالظاهر أنّ الوجه في دخول الفاء هي الدلالة على كذب الرواية ، كما هو غير خفيّ على اُولي الدّراية .
ثمّ إنّ قضاء اللّذة أعمّ من الجماع ، والجماع أعمّ من الزنا ، والزنا أعمّ من سبب الرجم الذي هو الزنا مع الإحصان ، فكيف يصحّ إطلاق القول بوجوب رجمهما مع قضاء اللّذة والشهوة ، كما هو واضح .
وإن قيل بكونه كناية عن الزنا نقول على تقدير تسليمه بأنّ السبب كما عرفت ليس هو الزنا المطلق ، وليست الشيخوخة ملازمة للإحصان ، كما لا يخفى .
إذا عرفت هذين الأمرين يقع الكلام بعدهما في أدلّة الطرفين وتحقيق ما هو الحقّ في البين فنقول :
(الصفحة220)
أدلّة عدم التحريف
الدليل الأوّل :
قول الله تبارك وتعالى في سورة الحجر 9 : {انّا نحن نزّلنا الذكر وانّا له لحافظون} فإنّ دلالته ـ على أنّ القرآن مصون من التحريف والتغيير وانّه لا يتمكّن أحد من أن يتلاعب فيه ـ ظاهرة ، ولكن الاستدلال به يتوقّف على إثبات كون المراد من «الذكر» فيه هو القرآن لاحتمال أن يكون المراد به هو الرسول ، لاستعمال الذكر فيه أيضاً في مثل قوله تعالى في سورة الطلاق : {قد أنزل الله عليكم ذكراً رسولاً يتلو عليكم آيات الله} .
ولكن يدفع هذا الاحتمال :
أوّلاً : منع كون المراد بالذكر في الآية الثانية أيضاً هو الرسول ، وذلك بقرينة التعبير بالإنزال ، ضرورة انّه لا يناسب الرسول لكونه ساكناً في الأرض مخلوقاً كسائر الخلق محشوراً معهم ، والتنزيل والإنزال وما يشابهما انّما يناسب الاُمور السماوية ، كالكتاب والملائكة وأمثالهما ، وذكر كلمة «الرسول» بعد ذلك لا يؤيّد كونه المراد بالذكر ، لأنّه ابتداء آية مستقلّة ، وليس جزء لما قبله ، واحتمل في مجمع البيان أن يكون انتصابه لأجل كونه مفعول فعل محذوف ، تقديره : «أرسل رسولاً» لا بدلاً من «ذكراً» كما أنّه احتمل أن يكون مفعول قوله «ذكراً» ويكون تقديره
|