إمّا أن تكون بنفسها دالّة على الحكم الشرعي ، وإمّا أن تقع في طريق إثبات الحكم الشرعي ، وأيضاً إمّا أن لا تدلّ على الحكم الشرعي أصلا ، بل تدلّ على نفي الحكم الشرعي ; كقاعدة «لا ضرر» و«لا حرج» وقاعدة «الحدود تدرأ بالشبهات» .
وبعض القواعد الفقهيّة في مقام تبيين متعلّق الأحكام ، وليس في دائرة الأحكام نفياً وإثباتاً ، نظير «كلّ ما توعّد الشرع عليه بخصوصه فإنّه كبيرة» فهذه القاعدة في مقام بيان تشخيص الذنب الكبير، ونظير قاعدة «كلّ ما لم يرد فيه دية في الشرع ففيه الحكومة» .
فتحصّل أنّ القواعد الفقهيّة إمّا أن تكون بصدد بيان متعلّق أو موضوعات الأحكام ، وإمّا أن تكون بصدد بيان الأحكام الكليّة نفياً أو اثباتاً ، واقعيّة أو ظاهريّة .
الجهة السادسة : في جريان القواعد الفقهية في الشبهات الحكميّة وعدم جريانها .
فذهب السيّد المحقّق الخوئي (قدس سره) (1) إلى عدم جريانها ; لكون النتائج فيها أحكاماً شخصيّة ، وقاعدة «لا ضرر» و«لا حرج» جزئيّة أيضاً ، من جهة جريانهما في الضرر والحرج الشخصيين لا النوعيين على ما هو التحقيق في محلّه .
ولكن أورد عليه الشهيد الصدر (قدس سره) ملاحظتين(2) :الملاحظة الاُولى : ما هو المراد من الشبهة الحكمية؟ إن كان المراد منها هو الشكّ في المورد الّذي كان بيانه على عهدة الشارع ; سواء كان شاملا لجميع المكلّفين أم لا ، فمن الواضح أنّ البيان في الضرر الشخصي أيضاً على عهدة الشارع . وإن كان المراد منها هو الشكّ في المورد الّذي كان بيانه على الشارع على نحو يشمل
(1) محاضرات في اُصول الفقه : 1 / 13 .
جميع المكلّفين ، فالضرر الشخصيّ وإن كان خارجاً منها ، إلاّ أنّ تفسير الشبهة الحكميّة بهذا البيان يكون بلا وجه .
الملاحظة الثانية : أنّ المستفاد من بعض القواعد الفقهيّة هو الحكم الكلّي الشرعيّ على نحو يشمل جميع المكلّفين .
والظاهر تماميّة الإيرادين ، فالقواعد الفقهيّة كما تجري في الشبهات الموضوعيّة كقاعدة «الفراغ» و«اليد» و«الحليّة» ، كذلك تجري في الشبهات الحكمية .
الجهة السابعة : في مصادر القواعد الفقهية .
فاعلم أنّ المصدر فيها لا يتخلّف عن المصدر في نفس المسائل الفقهيّة ، فبعضها مستفاد من القرآن الكريم ; كقاعدة «لا حرج» و«نفي السبيل» وقاعدة «الإحسان» وغيرها ، وبعضها مستفاد من السنّة من عموم نصّ أو ظاهر رواية أو غيرهما ، وبعضها من الإجماع والعقل .
وقد يستفاد بعضها من القواعد الاُصوليّة ، كقاعدة «مشروعيّة عبادات الصبي» الّتي تستفاد من البحث الاُصولي ، أعني أنّ الأمر بالأمر هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ و هذا أيضاً من نقاط الافتراق بينهما ، بمعنى أنّ القاعدة الاُصوليّة تصلح لأن تكون علّة للقاعدة الفقهيّة ولا عكس ، فتتبّع ، ومع ذلك كلّه هناك قواعد مطروحة في الفقه يستفاد منها ما يستفاد من سائر القواعد الفقهيّة ، ولكنّ الدليل فيها غير الدليل في الأحكام الشرعيّة ; كقاعدة «أنّ العلل الشرعية معرّفات» الّتي عبّر عنها المحقّق الشريف القاساني(1) بعنوان القاعدة الفقهيّة ، ولا تدلّ بالمطابقة على حكم شرعي فقهي ، وأيضاً قاعدة أنّه «لا اطّراد في العلل التشريعيّة» وغيرهما ، والظاهر أنّ دليل هذه القواعد ونظائرها ـ بناءً على كونها
(1) تسهيل المسالك إلى المدارك في رؤوس القواعد الفقهيّة : 2 ـ 40 .
الصفحة 23
قاعدة فقهية ـ هو الاستقصاء في المذاق الشرعي في الموارد المختلفة ، فهي قواعد مصطادة ، فلا دليل نقليّاً معيّناً عليها .
هذا ، وقد تبحث عن بعض القواعد في الفقه ، ولكن لا بعنوان قاعدة فقهيّة ، بل كقاعدة كليّة قابلة للانتفاع بها في جميع العلوم ، كقاعدة «قبح ترجيح المرجوح» الّتي هي قاعدة عقليّة ، وقاعدة أنّه «لا تجتمع علّتان مستقلّتان على معلول واحد» فلا ينبغي جعلها من القواعد الفقهيّة كما فعله البعض .
وقد تنشأ بعض القواعد الفقهيّة من بعض آخر ; كقاعدة «ما يضمن» الّتي هي ناشئة من قاعدة «الإقدام» وقاعدة «ضمان اليد» وهذا أيضاً من نقاط التمايز بينها وبين المسائل الاُصولية ، فتدبّر .
وقد يستفاد بعض القواعد الفقهيّة من بعض القواعد الكلاميّة ; كقاعدة أنّ «الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد» بناءً على كونها قاعدة فقهيّة ، فهي مستفادة من قاعدة أنّ «أفعال الله تبارك وتعالى معلّلة بالأغراض»(1) .
الجهة الثامنة : قد أدّعى الشهيد الأوّل(2) رجوع جميع الأحكام الفقهيّة إلى القواعد الفقهيّة الخمسة :
الاُولى : «تبعيّة العمل للنيّة» .
الثانية : «المشقّة موجبة لليسر» الّتي هي شاملة لقاعدة «لا حرج» وقاعدة {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وقاعدة «البعثة بالحنيفيّة السمحة السهلة» وقاعدة «لا ضرر ولا ضرار» .
الثالثة : «اليقين» . والمراد منها في نظره الاستصحاب .
الرابعة : «الضرر المنفي» .
(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 422 .
(2) القواعد والفوائد : 1 / 74 ، 123 ، 132 ،141 و 147 .
الصفحة 24
الخامسة : «العادة» .
والتحقيق عدم رجوع كثير من الأحكام إلى واحد من هذه القواعد الخمسة ، وهذا واضح لمن تتبّع الفقه .
ثمّ إنّ هذا الكتاب الشريف يجمع بين دفّتيه جملة من البحوث التي ألقاها على فضلاء الحوزة العلميّة في قم المقدّسة سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني دامت بركاته العالية ، استقصى فيها البحث عن مجموعة من القواعد الفقهيّة المهمّة ، وقد تميّز بحثه لها بالاستيعاب والعمق والوضوح .
ومن ثمّ فقد كانت محاضراته الفقهيّة هذه مهوى أفئدة روّاد العلم وعشّاق الفضل ، ولأجل تعميم الفائدة ونزولا على رغبة الأفاضل فقد أمر ـ دام ظلّه ـ بطبعها ، فكان هذا الكتاب عيبة علم ومجمع تحقيق ، ومنبعاً فيّاضاً بالعطاء ، وشجرة تؤتى اُكلها كلّ حين ، نسأل الله تعالى أن ينفع بها وأن يديم أيّام إفادات مؤلّفها العامرة ، إنّه سميعٌ مجيب .
قم المقدّسة ـ ابن المؤلّف
محمّد جـواد الفـاضل اللنكـراني
15 رمضان المبارك 1415
الصفحة 27
قاعدة عدم ضمان الأمين إلاّ مع التعدّي والتفريط
وهي من القواعد الفقهيّة المشهورة ، بل المجمع عليها(1) ; إذ لم ينقل من أحد الخلاف ، ولا حاجة في إثباتها إلى إقامة الدليل على عدم الضمان ، بل يكفي عدم ثبوت الدليل على الضّمان ; لأنّ مجرّد عدم ثبوت الضمان كاف في عدمه ، كما هو الشأن في سائر الموارد التي يشك فيها في ثبوت حكم تكليفي ، أو وضعي مترتّب عليه حكم تكليفي ، والعمدة في المقام ملاحظة شمول دليل ضمان اليد لما نحن فيه وعدمه ; لأنّ دليل ضمان من أتلف(2) لا يرتبط بالمقام بعد كون مورده تحقّق التلف مستنداً إلى الغير ولو لم يكن المال في يده ، والمفروض في المقام تحقّق التلف من دون استناد إلى الأمين ، بل كونه سماويّاً مثلا ، وكذا دليل ضمان الغارّ الثابت في قاعدة الغرور(3) قاصر عن إفادة حكم المقام بعد عدم ثبوت تغرير في محلّ البحث هنا ،
(1) راجع العناوين : 2 / 485 ، عنوان 65 .
(2) سيأتي في ص 47 .
(3) سيأتي في ص 219 ـ 228.
الصفحة 28
فالعمدة ملاحظة قوله (صلى الله عليه وآله) : على اليد ما أخذت حتّى تؤدي ، وفي بعض النسخ حتّى تؤدّيه(1) ، وأنّه هل يشمل اليد الأمانيّة أم لا؟
ربما يقال باختصاصه باليد المعنونة بعنوان العادية ، أو باليد غير المأذونة من قبل المالك ، أو من قبل الله ، ومعلوم أنّ يد الأمين ـ سواء كانت الأمانة مالكيّة كالعين المستأجرة عند المستأجر ، والمرهونة عند المرتهن ، والعارية عند المستعير ، أو كانت شرعية كاللقطة عند الملتقط أيّام التعريف ، أو المال المجهول المالك ، أو أموال الغيّب والقصّر عند الحاكم ، أو المأذون من قبله ، ومثل ذلك ـ ليست بيد عادية ولا غير مأذونة ; لأنّ الفرض ثبوت الأمانة والإذن إمّا من طرف المالك ، وإمّا من الله تبارك وتعالى .
والوجه في الاختصاص ، إمّا دعوى انصراف القاعدة في نفسها عن اليد الأمانيّة ; بمعنى أنّه لا يفهم منها عند الملاحظة إلاّ غيرها ، وإمّا دعوى كون كلمة الأخذ المأخوذة في دليل القاعدة ومدركها ظاهرة في الأخذ غير المجاز ، ولا تشمل مطلق القبض ، فإنّ النسبة بين الأخذ وبين القبض العموم المطلق ، وإمّا دعوى ورود التخصيص عليها بعد شمولها في نفسها لليد الأمانيّة ، والدليل على التخصيص الروايات المتكثرة الواردة في عدم ضمان الأمين ، ولكن يبعّد هذا الاحتمال إباء سياق القاعدة عن التخصيص المتداول في باب العمومات .
وكيف كان ، فإن قلنا بعدم شمول القاعدة للمقام ، فهو يكفي دليلا على عدم الضمان ، وإن قلنا بالشمول ، فاللازم ملاحظة الروايات الواردة بعنوان التخصيص ،
(1) المسند لأحمد بن حنبل : 7/248 ح20107 ، سنن الدارمي : 2/181 ب56 ح2592 ، سنن ابن ماجة : 3/147 ح2400، سنن أبي داود السجستاني : 548 ح3561 ، سنن الترمذي : 3/566 ح1269 ، السنن الكبرى للبيهقي : 8/495 ح11713 ، شرح السنة : 8/5226، آخر باب ضمان العارية ، الخلاف : 3/409 مسألة 22 ، عوالي اللئالي : 2/345 ح10 ، مستدرك الوسائل : 17/88 ، كتاب الغصب ب1 ح4 .
الصفحة 29
فنقول :
منها : ما في الوسائل عن كتاب المقنع للصدوق قال : سئل الصادق (عليه السلام) عن المودع إذا كان غير ثقة هل يقبل قوله؟ قال : نعم ولا يمين عليه(1) ، وقد نبّهنا مراراً على أنّ الإرسال بهذا النحو ـ أي بنحو الإسناد إلى المعصوم (عليه السلام) ـ من دون الرواية ـ لا يوجب قدحاً في سند الرواية ; لأنّه بمنزلة التوثيق للوسائط ، فالرواية لا مجال للإشكال فيها من جهة الإرسال .
وأمّا من جهة الدّلالة ، فظاهر السؤال يدلّ على مفروغية عدم الضمان في محلّ البحث ; لأنّ محطّ نظر السائل أنّه إذا كان المستودع غير ثقة وقد تحقّق التلف في يده ، وهو يدّعى وقوعه من دون استناد إليه ، بل لأجل آفة مهلكة سماوية مثلا ، هل يقبل قوله في ذلك؟ وهو يدلّ على وضوح عدم الضمان مع العلم بعدم استناد التلف إليه ، كما لا يخفى .
ومنها : مرسلة أبان بن عثمان المروية في الوسائل عمّن حدّثه ، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال : وسألته عن الذي يستبضع المال فيهلك أو يُسرق ، أعَلى صاحبه ضمان؟ فقال : ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أميناً(2) . ومقتضى تعليق الحكم بعدم الغرامة في الجواب على كون الرجل أميناً ثبوت الحكم في جميع موارد ثبوت الأمانة ، ولو في غير مورد السؤال ، من دون فرق بين أن تكون الأمانة مالكيّة أو شرعيّة .
ومنها : ما في المستدرك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : ليس على المؤتمن ضمان(3) ، وهو نص في عدم ثبوت الضمان على المؤتمن ، ولكن شموله للأمين من
(1) المقنع : 386 ، وعنه وسائل الشيعة : 19 / 80 ، كتاب الوديعة ب4 ح7 .
(2) الكافي : 5 / 238 ح 4 ، تهذيب الأحكام : 7 / 184 ح 812 ، وعنهما وسائل الشيعة : 19 / 80 ، كتاب الوديعة ب 4 ح 5 .
(3) دعائم الإسلام : 2 / 491 ح 1755 ، وعنه مستدرك الوسائل : 14 / 16 ، كتاب الوديعة ب 4 ح 4 .
الصفحة 30
قبل الله دون المالك ، غير ظاهر .
ومنها : ما في الوسائل أيضاً عن قرب الإسناد ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ليس لك أن تأتمن من خانك ، ولا تتّهم من ائتمنت(1) .
ومنها : غير ذلك من الروايات الواردة في الأبواب المتعدّدة من الوديعة والعارية واللقطة وغيرها ، الدالّة على عدم ثبوت ضمان على الأمين . نعم ، هنا بعض الروايات الظاهرة في الضمان ; مثل ما ورد في القصّار والصائغ :
كرواية يونس قال : سألت الرّضا (عليه السلام) عن القصّار والصائغ أيضمنون؟ قال : لايصلح إلاّ أن يضمنوا(2) .
ورواية الحلبي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضمن القصّار والصائغ احتياطاً على الناس ، وكان أبي يتطوّل عليه إذا كان مأموناً(3) .
ورواية السكوني ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضمن الصبّاغ والقصّار والصائغ احتياطاً على أمتعة الناس ، وكان لا يضمن من الغرق والحرق والشيء الغالب ، الحديث(4) .
والظاهر أنّ المراد من التطوّل الذي تدلّ عليه رواية الحلبي هو التطوّل في مقام العمل ، مع جواز التغريم الذي هو متفرّع على ثبوت الضمان ، وعليه : فلا ينافي
(1) قرب الإسناد : 72 ح 231 ، وعنه وسائل الشيعة : 19 / 81 ، كتاب الوديعة ب 4 ح 9 .
(2) الكافي : 5 / 243 ح 10 ، تهذيب الأحكام : 7 / 219 ح 958 ، الاستبصار : 3 / 132 ح 473 ، وعنها وسائل الشيعة : 19 / 144 ، كتاب الإجارة ب 29 ح 9 .
(3) الكافي : 5/242 ح3، تهذيب الأحكام : 7/22 ح962، الإستبصار: 3/133 ح478، وعنها وسائل الشيعة: 19/142، كتاب الإجارة ب29 ح4 .
(4) الكافي : 5 / 242 ح 5 ، تهذيب الأحكام : 7 / 219 ح 956 ، الاستبصار : 3 / 133 ح 471 ، الفقيه : 3 / 162 ح 714 ، مستطرفات السرائر : 63 ح 43 ، وعنها وسائل الشيعة : 19 / 142 ، كتاب الإجارة ب 29 ح 6 .
الصفحة 31
التضمين من ناحية أمير المؤمنين (عليه السلام) مطلقاً ، ويؤيّده بل يدلّ عليه مرسلة الصدوق ، أنّ أبا عبد الله (عليه السلام) قال : كان أبي (عليه السلام) يضمّن الصائغ والقصّار ما أفسدا وكان عليّ بن الحسين (عليهما السلام) يتفضّل عليهم(1) . مع أنّ موردها صورة الإفساد والإتلاف التي يكون الحكم فيها الضمان بمقتضى القاعدة والنصوص الكثيرة(2)الواردة في صورة الإفساد ، فالتفضّل والتطوّل لا ينافي الضمان ، ولكنّه حيث يكون في المقام رواية اُخرى ظاهرة في عدم الضمان ، وهي :
رواية معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن الصبّاغ والقصّار؟ فقال : ليس يضمنان(3) . ودلالتها على حكم صورة التلف ظاهرة .
وروايتان ظاهرتان في التفصيل في مثل القصّار في الضمان وعدمه بين صورتي الأمن والإتّهام :
إحداهما : رواية أبي بصير المشتملة على قول أبي عبد الله (عليه السلام) : أنّه لا يضمّن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلاّ أن يكونوا متّهمين(4) .
وثانيتهما : رواية محمد بن الحسن الصفار قال : كتبت إلى الفقيه (عليه السلام) في رجل دفع ثوباً إلى القصّار ليقصّره ، فدفعه القصّار إلى قصّار غيره ليقصّره ، فضاع الثوب ، هل يجب على القصّار أن يردّه إذا دفعه إلى غيره وإن كان القصّار مأموناً؟ فوقّع (عليه السلام) هو ضامن له إلاّ أن يكون ثقة مأموناً إن شاء الله(5) .
(1) الفقيه : 3 / 161 ح 706 ، وعنه وسائل الشيعة : 19 / 47 ، كتاب الإجارة ب 29 ح 20 .
(2) وسائل الشيعة: 19 / 141 ـ 147، كتاب الإجارة ب 29 .
(3) تهذيب الأحكام : 7 / 220 ح 964 ، الاستبصار : 3 / 132 ح 477 ، وعنهما وسائل الشيعة : 19 / 145 ، كتاب الإجارة ب 29 ح 14 .
(4) تهذيب الأحكام : 7 / 218 ح 951 ، الفقيه : 3 / 163 ح 715 ، وعنهما وسائل الشيعة : 19 / 144 ، كتاب الإجارة ب 29 ح 11 .
(5) تهذيب الأحكام : 7 / 222 ح 974 ، الفقيه : 3 / 163 ح 720 ، وعنهما وسائل الشيعة : 19 / 146 ، كتاب الإجارة ب 29 ح 18 .
الصفحة 32
يكون مقتضى الجمع بين الروايات المتعارضة في المقام هو التصرّف في المطلقات منها ، وحملها على الرواية المفصِّلة التي يكون مقتضاها ثبوت الضمان مع التهمة وعدم كونه مأموناً ، وعدمه مع كونه كذلك ، وعليه تتحقّق المخالفة مع الروايات المتقدِّمة الظاهرة في عدم ضمان الأمين مطلقاً ، فاللازم أن يقال : إنّ الروايات الدالّة على الضمان في المقام خارجة عن محلّ البحث ; لأنّ موردها صورة الشك في تحقّق التلف في يد الصائغ والقصّار ومثلهما .
والدليل عليه ـ مضافاً إلى التعليل بكون تضمين أمير المؤمنين (عليه السلام) إنّما هو لأجل الاحتياط على أمتعة الناس ـ ذيل رواية السكوني الدالّ على أنّه لم يكن يضمّن من الغرق والحرق والشيء الغالب ; فإنّ مقتضاه أنّه مع العلم بثبوت التلف واستناده إلى أمر آخر دون مثل الصائغ ، لم يكن هناك تضمين أصلا ، فالتضمين الثابت في الصدر إنّما هو في مورد الشك في تحقّق التلف أو الشكّ في الاستناد إلى العامل واحتمال كونه هو المتلف .
ومنه يظهر أنّ مورد الرواية المفصِّلة أيضاً إنّما هو خصوص صورة الشكّ ، ويؤيّده بل يدلّ عليه أنّ نفس هذا التفصيل لا يلائم إلاّ مع هذه الصورة ; فإنّ الإتّهام وعدمه لا يرتبطان إلاّ بما إذا كان هناك شكّ ، وإلاّ فمع العلم بثبوت التلف وعدم الاستناد إلى العامل لا يكون فرق بين المتّهم وغيره ، فالإنصاف أنّ الروايات الدالّة على عدم الضمان محكّمة .
هذا ما ورد في باب الإجارة ، وقد ورد في أبواب اُخر بعض ما يدلّ على الضمان ; مثل ما ورد في باب المضاربة بمال اليتيم ، وأنّ العامل ضامن(1) . وما ورد في
(1) وسائل الشيعة : 9 / 83 ـ 89 ، كتاب الزكاة ، أبواب من تجب عليه الزكاة ب 1 و 2 و ج 19 / 27 : كتاب المضاربة ب 10 .
الصفحة 33
العارية ممّا يدلّ على ضمان عارية الدرهم والذهب والفضة(1) . وما ورد في الوصيّ ممّا يدلّ على ضمانه في الجملة(2) . وما ورد في باب اللقطة وأنّه إذا تلفت فالواجد ضامن لها(3) ، ولكنّها على تقدير عدم إمكان حملها على ما لا ينافي الروايات المتقدّمة ، يكون مفادها ضمان الأمين في الجملة ، ولا بأس به ; لأنّ قاعدة عدم ضمان الأمين قابلة للتخصيص ، ولا مجال للالتزام بابائها عنه أصلا .
ثمّ إنّه مع ما عرفت من وجود روايات متكثرة واردة في المسألة ، وأنّ الأمين لا يكون ضامناً إلاّ مع التعدّي أو التفريط ، يشكل الاستدلال في مقابل عموم قاعدة ضمان اليد ـ على تقديره ـ بإجماع الفقهاء وإرسالهم المقام إرسال المسلّمات ; فإنّه مع وجود روايات متكثّرة دالّة على عدم الضمان ، وثبوت حجيّة بعضها من جهة السّند أيضاً ، لا يبقى مجال للإجماع ولا لدعوى كونه دليلا مستقلاًّ في مقابل الروايات ، كما لا يخفى . نعم ، لو كانت الروايات بأجمعها قاصرة من حيث السّند ، لكان الإجماع كاشفاً عن الاعتبار وجابراً للضعف من جهة السّند .
وكيف كان ، فالعمدة على تقدير شمول قاعدة ضمان اليد هي الرّوايات الواردة في عدم ضمان الأمين . هذا كلّه من جهة الدليل على القاعدة .
وأمّا من سائر الجهات ، فيقع الكلام في اُمور :
الأمر الأوّل : أنّ الضمان المنفي هنا هو الضمان الثابت في قاعدة اليد ، وهو كون المال في ذمّة ذي اليد وفي عهدته ، الذي هو أمر اعتباري عند العقلاء والشرع وإن كان بينهما اختلاف في بعض الموارد ، وهو أي ثبوت المال في العهدة ـ وبتعبير الرواية «على اليد» ـ يستمرّ إلى أن يتحقّق أداء نفس المال مع وجوده وإمكان أدائه
(1) وسائل الشيعة : 19 / 96 ، كتاب العارية ب 3 .
(2) وسائل الشيعة : 19 / 348 ، كتاب الوصايا ب 37 .
(3) وسائل الشيعة : 25 / 460 ، كتاب اللقطة ب 14 .
الصفحة 34
أو أداء مثله أو قيمته عند تلفه أو ما بحكمه ، فمرجع الضمان المنفي هنا إلى عدم ثبوت المال التالف على عهدة الأمين وفي ذمّته ، فلايجب عليه أداء مثله أو قيمته ، وقد عبّر في مرسلة أبان المتقدّمة بأنّه ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أميناً(1) .
الأمر الثاني : أنّ المراد من الأمين هو مقابل الخائن الذي إذا وقع مال الغير تحت يده وفي اختياره لا يأبى من الخيانة فيه الموجبة لتلفه أو لحصول منقصة فيه ، وهل المراد من الأمين من كان غير خائن في نفسه وبحسب وصفه الواقعي ، كما اشتهر توصيف النبيّ (صلى الله عليه وآله) به قبل البعثة ; حيث كانوا يخاطبونه (صلى الله عليه وآله) بأنّه أمين ، أو أنّ المراد منه في المقام هو المؤتمن الذي ائتمنه صاحب المال بالنسبة إلى ماله الذي أوقعه تحت يده؟
وعلى التقدير الثاني ، هل المراد بالمؤتمن من كان مورداً لوثوق صاحب المال ، واطمئنانه بأنّه يكون محفوظاً عنده بجميع أجزائه وأوصافه ، ولا يتحقّق منه الخيانة بالنسبة إليه أصلا . أو أنّ المراد بالمؤتمن من كان طبع جعل المال في اختياره مقتضياً لعدم خيانته ; مثل ما إذا كان بصورة الوديعة التي غرضها حفظ المال ، أو العارية التي يكون غرضها الانتفاع مع بقاء المال بجميع شؤونه وإن لم يكن مورداً للوثوق بوجه أصلا؟
لابدّ للوصول إلى ما هو المراد من الأمين في القاعدة المبحوث عنها في المقام ، من ملاحظة عدم اختصاصها بالأمانة المالكيّة وشمولها للأمانة الشرعية التي يكون الإذن فيها من قبل الشارع ، ومن الواضح عدم تحقّق الأمانة في مقابل الخيانة بحسب الوصف الواقعي في كثير من مواردها ، كما أنّه لا معنى لتحقّق الإئتمان في جميعها بمعنى الوثوق بأنّه لا يتحقّق منه الخيانة ولا يصدر منه الخلاف .
(1) في ص 29 .
الصفحة 35
كما أنّه لابدّ من ملاحظة رواية المقنع المتقدّمة(1) التي وقع فيها السؤال عن المودع إذا كان غير ثقة ، فإنّ ظاهره تحقّق الإيداع من المالك مع عدم وثوقه بالمستودع ، إلاّ أن يقال : إنّ المراد هو عدم الوثاقة في القول غير المنافي للأمانة في مقام العمل ، أو يقال بخروجه عن الوثاقة بعد الإيداع وإن كان متّصفاً بها حينه ، ولكنّ الاحتمالين الأخيرين بعيدان ، والظاهر هو الأوّل .
ثمّ إنّه لابدّ من ملاحظة أمر ثالث ; وهو أنّ استثناء صورة التعدّي والتفريط من ضمان الأمين هل يكون بنحو الاستثناء المتّصل ، كما هو ظاهر عنوان القاعدة ، أو بنحو الاستثناء المنقطع الذي مرجعه إلى زوال وصف الأمانة في إحدى الصورتين؟ والمراد بالتعدّي هو أن يفعل فعلا يضرّ بالمال الذي يكون تحت يده ; كما إذا كان المال حيواناً فجعل غذاءه ممّا لا يناسبه ، كما أنّ المراد بالتفريط هو ترك فعل موجب لتلفه ; كما إذا ترك تغذيته بالمرّة في مثال الحيوان .
ربما يقال بالثاني كما اختاره المحقّق البجنوردي في قواعده الفقهية(2) ، حيث ذكر أنّ عدم التعدّي والتفريط مأخوذان في حقيقة الأمين ، والاستثناء في القاعدة مستدرك ; لأنّه إذا صدر عنه التعدّي أوالتفريط فهوخائنوليس بأمين ، فهما ضدّان .
ولكن ما أفاده ـ مضافاً إلى ما عرفت من كونه خلاف ظاهر عنوان القاعدة ـ فرع كون المراد من الأمين هو الأمين بحسب وصفه الواقعي في مقابل الخائن كذلك ، وهو أوّل الكلام ، بل محلّ منع بعد ما عرفت من عدم ثبوته في كثير من موارد الأمانة الشرعيّة بل المالكيّة ، على ما مرّ من ظهور السؤال في الرواية في ذلك(3) .
(1) في ص 29 .
(2) القواعد الفقهية للمحقق للبجنوردي : 2 / 13 .
(3) في ص 29 .
الصفحة 36
وبما ذكرنا ينقدح أنّ المراد من الأمين في المقام هو المؤتمن ، وأنّ المراد من المؤتمن هو الذي يكون طبع جعل المال بيده مقتضياً لعدم خيانته ، وكأنّه يكون مقيّداً به من دون فرق بين أن يكون الإذن من المالك أو من الله ، ولا يشترط ثبوت وصف الأمانة له في نفسه ، ولا الوثوق بكون المال محفوظاً عنده ، وعليه: يكون استثناء صورة التعدّي والتفريط بنحو الاستثناء غير المنقطع . نعم ، لابدّ حينئذ من إقامة الدليل عليه ، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى .
ويدلّ على ما ذكرنا رواية المقنع ومرسلة أبان المتقدّمتين(1)، حيث وصف الإمام (عليه السلام) الرجل بكونه أميناً مع عدم تعرّض في السؤال لثبوت وصف الأمانة له ، ولا للوثوق لصاحب المال بعدم تحقّق الخيانة منه أصلا ، فمعناه أنّ نفس جعل المال في يد المستبضع مقتض لذلك وإن لم يكن هناك أمانة واقعاً ولا وثوق أصلا .
الأمر الثالث : في استثناء صورة التعدّي أو التفريط من الحكم بعدم ضمان الأمين ، ولا يخفى عدم ورود هذين العنوانين في دليل شرعيّ حتى يجب التكلّم في مفادهما من حيث موضوعيّتهما للحكم الشرعي ، بل الوجه في ثبوت الضمان في موردهما ـ مع ملاحظة أنّ المتفاهم العرفي من عنوان التعدّي هو التجاوز ; أي التجاوز عن دائرة الإذن والتعدّي عمّا هو المأذون فيه ، ومن عنوان التفريط هو التضييع ، فالتعدّي هو الإفراط والتجاوز ، والتفريط هو التضييع ـ هو كون التلف في موردهما مستنداً إلى من كان المال في يده ، فيتحقّق عنوان الإتلاف الذي هو سبب مستقلّ لتحقّق الضمان ; لقاعدة الإتلاف التي هي قاعدة مستقلّة غير قاعدة ضمان اليد .
والوجه فيه : وضوح أنّه لو غذّي الحيوان بما لا يناسبه كمّاً أو كيفاً فتلف ، يكون تلفه حينئذ مستنداً إلى من فعل به ذلك ، كما أنّه لو ترك تغذيته بالمرّة يستند
(1) في ص 29 .
الصفحة 37
التلف إلى التارك .
وعليه : فالوجه في ثبوت الضمان في موردي التعدّي والتفريط هو صدق الإتلاف حينئذ ، ولا شبهة في عدم شمول الروايات المتقدّمة الدالّة على عدم ضمان الأمين لصورة الإتلاف ، بل موردها صورة التلف عنده ; فإنّ مورد السؤال في رواية المقنع المتقدّمة(1) صورة انعدام المال مع الشكّ في كونه بنحو التلف ، أو الإتلاف ، مع دعوى من كان المال في يده الأوّل ، وظاهره أنّه مع العلم بحصول الإتلاف واستناد التلف إليه لا يبقى مجال لتوهّم عدم ثبوت الضمان ، كما أنّ مورد المرسلة المتقدّمة(2) صورة الهلاك أو السرقة من دون مدخليّة المستبضع في ذلك أصلا .
وأمّا قوله (عليه السلام) : ليس على المؤتمن ضمان(3) ، فالمتفاهم العرفي منه هو عدم الضمان مع التلف ، لا ما يشمل صورة الإتلاف أيضاً ، فبعد قصور أدلّة عدم ضمان الأمين للشمول لصورة الإتلاف يكون مقتضى سببيّة الإتلاف للضمان ثبوته مع التعدّي والتفريط الموجبين لتحقّق الإتلاف .
وعلى ما ذكرنا يصير استثناء صورتي التعدّي والتفريط من قبيل الاستثناء المنقطع ، لا بالنحو الذي ذكر سابقاً ، بل من جهة أنّ مورد القاعدة صورة التلف ، والصورتان واردتان في مورد الإتلاف ، فتدبّر .
نعم ، قد يتحقّق عنوان التعدّي مع عدم صدق الإتلاف وتحقّق الاستناد ، كما في مورد صحيحة أبي ولاّد(4) المعروفة الواردة في مورد اكتراء البغل إلى مكان معيّن ، فتجاوز عمّا أذن له إلى مكان آخر ، الدالّة على ثبوت الضمان لو تلف البغل ،
(1 ـ 2) في ص 29 .
(3) تقدّم أيضاً في ص29.
(4) وسائل الشيعة : 19 / 119 ، كتاب الإجارة ب 17 ح 1 ، وتأتي بتمامها في ص 125 .
الصفحة 38
وأنّه يضمن قيمة بغل يوم المخالفة .
والوجه في ثبوت الضمان فيه ـ مضافاً إلى إمكان دعوى صدق الإتلاف في مثل هذا المورد أيضاً، فتدبّر ـ : أنّه مع التعدّي والتجاوز عمّا أذن له ، يكون مقتضى قاعدة «اليد»(1) ثبوت الضمان فيه ; سواء قلنا بأنّ المراد من اليد فيها هي اليد العادية ، أو اليد غير المأذونة ، أو مطلق اليد ، ولا دلالة للروايات المتقدِّمة الواردة في عدم ضمان الأمين على نفي الضمان في هذه الصّورة ; لعدم شمولها لها بوجه ، كما لا يخفى .
الأمر الرابع : قد مرّت الإشارة ـ بل التصريح مراراً ـ إلى أنّ المراد من الأمانة في هذه القاعدة أعمّ من الأمانة المالكية والأمانة الشرعيّة(2) . والمراد بالاُولى هو ما إذا كان وقوع المال بيده بإذن المالك ، أو من هو بحكمه كوكيله أو الوليّ ، وبالثانية هو ما إذا كان الإذن المزبور من قبل الله تبارك وتعالى دون المالك .
فمورد الاُولى جميع المعاملات التي تصدر من المالك أو من بحكمه ، بدون أن تكون متضمّنة لنقل العين ; سواء كان من جهة تمليك المنفعة كباب الإجارة ، أو تمليك الانتفاع كالعارية ، أو كان الغرض مجرّد كونه محفوظاً عنده كالوديعة ، أو كان الغرض أن يعامل معه بحصّة من الربح كالمضاربة ، أو أن يزرع فيه بحصّة من الحاصل كالمزارعة ، أو أن يسقيه بحصّة من الثمرة كالمساقاة ، أو أن يحمله من مكان إلى مكان آخر كالحمّال والمكاري ، ففي جميع هذه الموارد تكون الأمانة مالكية .
ومورد الثانية جميع الموارد التي يكون الإذن فيها من طرف الشارع ، كالمعاملات التي تقع على أموال الغيّب والقصّر بدون أن يكون فيها نقل العين ، كجميع ما ذكرنا في موارد الأمانة المالكية ، وكذلك في مثل اللقطة التي يكون الملتقط مأذوناً فيها من قبل الشارع مادام مشغولا بالتعريف ، فالأمانة في القاعدة
(1) يأتي البحث عنها في ص78 .
(2) في ص 34 .
الصفحة 39
تشمل كلتا الأمانتين .
الأمر الخامس : أنّه قد انتقض عموم هذه القاعدة بموارد :
الأوّل : المقبوض بالسّوم ، حيث حكموا فيه بالضمان(1) ، مع أنّ وقوع المال تحت يد القابض إنّما هو بإذن المالك أو من بحكمه ، كما هو المفروض في المقبوض بالسّوم .
وربما يجاب تارة بأنّ هذه المسألة خلافية ، وقد ذهب جمع إلى عدم الضمان معلّلا بأنّه أمانة مالكية(2) ، واُخرى بأنّه يمكن أن يقال بأنّه ليس القبض فيه بعنوان الأمانة ، بل بعنوان أن يكون عند اختيار القابض للاشتراء مضموناً عليه بالمسمّى(3) ، وبعبارة اُخرى : يكون قبضه وأخذه بعنوان المقدّميّة للشراء الذي يكون فيه الضمان بالمسمّى ، فهو خارج عن الأمانة المالكيّة والشرعية بالتخصّص لا بالتخصيص ، فلا تنخرم به القاعدة ; لأنّه خارج عن موضوع الأمانة .
أقول : لا خفاء في بطلان الجواب الثاني ; لأنّ الأخذ بعنوان المقدمية للشراء الذي يكون فيه الضمان بالمسمّى ، لا يوجب الخروج عن الأمانة المالكية بعد وضوح كون المال واقعاً تحت يده بإذن المالك ، وكان الغرض منه أنّه على تقدير تعلّق غرض القابض به ، وموافقة شرائه لمصلحته ، أن يتحقّق منه الشراء ، فالمقدميّة لا تقتضي إسراء حكم ذي المقدّمة إليها ، خصوصاً بعد عدم ترتّبه عليها أحياناً ; لعدم موافقته لغرض القابض، وعدم تحقّق الاشتراء عقيبه .
فالحقّ أن يقال : إنّ مبنى الحكم في المقبوض بالسّوم إن كان هو القاعدة ، فهي
(1) المبسوط : 2 / 363 ، شرائع الإسلام : 3 / 238 ، إرشاد الأذهان : 1 / 362 ، إيضاح الفوائد : 2 / 166 ، جامع المقاصد : 4 / 177 و ج 6 / 315 ، رياض المسائل : 8 / 147 ، جواهر الكلام : 37 / 72 ـ 73 .
(2) السرائر : 2 / 86 ، مختلف الشيعة : 5 / 342 ، مسالك الأفهام : 12 / 174 ـ 175 ، مجمع الفائدة والبرهان : 8 / 192 ، كفاية الأحكام : 256 .
(3) تحرير المجلّة : 2 / 21 ـ 22 ، الفصل السادس .
الصفحة 40
تقتضي عدم الضمان ; لأنّه أمانة مالكية يجري فيها ما يجري في سائر الموارد ، وإن كان هو الدليل الخاصّ ، فلا مانع منه على فرض تماميّته ; لصلاحية أدلّة عدم ضمان الأمين ; لورود التخصيص عليها ، وعدم إبائها عنه .
الثاني : المقبوض بالعقد الفاسد ، حيث حكموا فيه بالضمان(1) ، وأجروه مجرى الغصب في جميع الأحكام ، إلاّ في الإثم في خصوص صورة الجهل بالفساد ، مع أنّ القابض مأذون من قبل المالك ، من دون فرق بين قبض الثمن بالإضافة إلى البائع ، أو المثمن بالنسبة إلى المشتري .
والجواب عنه: أوّلا : أنّ مورد القاعدة في الأمانة المالكية ما إذا كان وقوع المال تحت يد الغير بإذن المالك مع حفظ كونه مالكاً ، وأنّ غير المأذون مأذون عن المالك ومن قبله في أن يكون ماله تحت يده ، فالمفروض كون الآذن مالكاً والمأذون غير مالك ، وأمّا القبض في المقبوض بالعقد الفاسد ، فإنّما يتحقّق بتخيّل كون القابض صار مالكاً بالعقد الواقع بينهما ، ففي الحقيقة يكون تسليم المال من المثمن والثمن ، إنّما هو باعتبار كونه مالكاً يستحقّ ملكه وماله ; ضرورة أنّ تسليم المبيع إلى المشتري من البائع ، إنّما هو باعتقاد صيرورته مالكاً للمبيع بالبيع الواقع بينهما ، فليس من قبيل إذن المالك للغير ووقوع المال تحت يده مقروناً به ، فلا تتحقّق الأمانة المالكية .
وهذا في صورة الجهل بالفساد واضح ، ضرورة أنّه مع الجهل واعتقاد صحّة المعاملة لا يكون القبض والإقباض إلاّ بتخيّل تحقّق الانتقال وحصول الملكية للقابض ، وأنّ المال ماله ، فبينه وبين الأمانة المالكية المفروضة في القاعدة بون بعيد .
(1) السرائر : 2 / 326 و 488 ، شرائع الإسلام : 2 / 13 و ج 3 / 238 ، تذكرة الفقهاء : 10 / 290 ، جامع المقاصد : 6 / 215 ، مسالك الأفهام : 3 / 154 و ج 12 / 174 ، رياض المسائل : 8 / 147 ، كفاية الأحكام : 256 و 260، الحدائق الناضرة : 18 / 466 ، جواهر الكلام : 22 / 256 و ج 37 / 71 ، .
|