وأمّا في صورة العلم بالفساد وتحقّق الإقباض معه فربما يقال بأنّ الإقباض من الغير إذن في قبض مال المالك مع حفظ مالكيّته ، فيكون ماله عند القابض أمانة مالكية ، ولكن يمكن أن يقال بأنّه في هذه الصورة أيضاً لا تتحقّق الأمانة المالكية ; لأنّ الإقباض ولو مع العلم بالفساد إنّما يبتني على عدم الاعتناء بالفساد الذي حكم به الشارع ، وبعبارة اُخرى : يحكم نفس البائع مثلا بصحّة المعاملة على خلاف الشارع ، ويأذن في القبض مبنيّاً عليه ، وإلاّ لا يتحقّق الجمع بين العلم بالفساد وبين الإقباض معه ، فتدبّر .
وكيف كان ، فلا شبهة في خروج صورة الجهل بالفساد ـ والقبض معه ـ عن الأمانة المالكية المبحوث عنها في القاعدة .
وثانياً : أنّ المفروض في الأمانة المالكية ـ وكذا الشرعية ـ هو أن يكون وقوع المال تحت يد الغير مأذوناً فيه من دون أن يقع في مقابله عوض ، ففي الإجارة التي هي من موارد الأمانة المالكية ، وإن كان قد وقع في مقابل المنفعة عوض ، إلاّ أنّه لم يقع في مقابل العين التي تكون في يد المستأجر بإذن المؤجر شيء ، وأمّا في المقبوض بالعقد الفاسد يكون إذن المعطي مقيّداً بالعوض وواقعاً في مقابله . غاية الأمر أنّه حيث لم يمض الشارع العوض المسمّى ـ لفرض فساد المعاملة ـ يكون عليه العوض الواقعي من المثل أو القيمة في صورة التلف ، فالمقبوض بالعقد الفاسد خارج عن الأمانتين .
الثالث : المبيع التالف في يد البائع قبل قبضه وبعد تحقّق المعاملة الصحيحة ، فإنّه مضمون على البائع ، وإن كان بقاؤه في يد البائع بإذن المشتري المالك له بمجرّد وقوع العقد .
والجواب : أنّ الدليل على الضمان فيه هي الأخبار الواردة الدالّة على أنّ كلّ
الصفحة 42
مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه(1) ، وقد فهم منها المشهور(2) ـ باعتبار عدم كونه من قبيل الضمانات وتلف ملك الغير في يده ، وإلاّ لو كان كذلك لكان مقتضاه الضمان الواقعي ; أي المثل أو القيمة ـ انفساخ العقد آناًما قبل التلف ، ورجوع كلّ واحد من العوضين إلى ملك مالكه الأوّل ، فالتلف وقع في ملك البائع ، وعليه : فلا يرتبط ذلك بالمقام بوجه .
وفي هذه الأخبار احتمال آخر مذكور في محلّه ، ولابدّ من البحث في مفاد هذه الأخبار الذي هو قاعدة فقهية مستقلّة إن شاء الله تعالى .
الرابع : المال الباقي في يد الغاصب بإذن المالك ، فإنّه حكم فيه بالضمان في البقاء أيضاً ، مع أنّه مأذون فيه من قبل المالك على ما هو المفروض .
والجواب : أنّه إن كان البقاء مأذوناً فيه حقيقة من طرف المالك ; بأن كان الغاصب قد أراد تسليم العين المغصوبة إلى المالك وجعلها في اختياره ، ومع ذلك لم يقبل المالك ، بل جعلها أمانة عنده ، فالحكم بالضمان فيه ممنوع جدّاً ; لأنّه لا مجال له أصلا ، وكون حدوث الوقوع تحت يد الغاصب بلا إذن لا يقتضي دوام الحكم واستمراره إلى البقاء المغاير للحدوث في الإذن وعدمه .
وإن لم يكن البقاء مأذوناً فيه حقيقة ، بل كان مجرّد رضا المالك بالبقاء ، فهذا لا يقتضي تحقّق الأمانة المالكية ولا رفع الضمان بوجه أصلا .
الخامس : أنّهم حكموا بالضمان في اللقطة ومجهول المالك إذا تصدّق به عن
(1) الكافي : 5 / 171 ح 12 ، تهذيب الأحكام : 7 / 21 ح 89 و ص 230 ح 1003 ، وعنهما وسائل الشيعة : 18 / 23 ، كتاب التجارة ، أبواب الخيار ب10 ح1 . عوالي اللئالي : 3 / 212 ح 59 ، وعنه مستدرك الوسائل : 13 / 303، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب 9 ح 1 .
(2) اُنظر غنية النزوع : 229 ، قواعد الأحكام : 2 / 69 ، تذكرة الفقهاء : 10 / 112 ، النظر الثالث ، اللمعة الدمشقية : 75 ، جامع المقاصد : 4 / 308 ، الروضة البهية : 3 / 525 .
الصفحة 43
طرف صاحبه ، ثم وجد المالك ولم يرض بالتصدّق(1) ، مع أنّ أصل يده وكذا التصدّق مأذون من قبل الشارع ، فكيف يجتمع ذلك مع الحكم بالضمان؟
والجواب : وقوع الخلط في هذا المورد ; فإنّ مورد القاعدة على ما عرفت(2)هي صورة التلف ، ولا إشكال في أنّه مع تلف المال في يد الملتقط وكذا مال مجهول المالك ، لا يتحقّق به الضمان بوجه ; لأنّه أمانة شرعية .
وأمّا التصدّق الذي هو بمنزلة إتلاف مال الغير ، فهو خارج عن مورد القاعدة ، والوجه في الضمان فيه مع كونه مأذوناً فيه من قبل الشارع ، هو كون الإذن به مقيّداً بذلك ; بمعنى أنّ الشارع لم يأذن بالتصدّق مطلقاً ، بل به مقيّداً بالضمان مع وجدان المالك وعدم الرضا بالتصدّق .
السادس : المأكول في المخمصة ، فقد حكم فيه بالضمان(3) مع أنّ الأكل كان مأذوناً فيه من قبل الشارع .
والجواب : ما تقدّم في الأمر الخامس من عدم شمول القاعدة لصورة الإتلاف بوجه ، والأكل من مصاديق الإتلاف ، وثبوت الضمان فيه مع كونه مأذوناً فيه من قبل الشارع إنّما هو لأجل كون الإذن مقيّداً به ، كما في التصدّق في الأمر الخامس .
فانقدح من جميع ماذكرنا عدم انتقاض القاعدة بمورد من هذه المواردأصلا ،وأنّ الموارد المتقدّمة التي تخيّل النقض بها كلّها غير مرتبطة بها ، وقد عرفت(4) أيضاً أنّه لامانع من تخصيص القاعدة لوكان هناك دليل على التخصيص ;لعدم إبائهاعنه أصلا .
هذا تمام الكلام في قاعدة عدم ضمان الأمين إلاّ مع التعدّي والتفريط.
(1) المبسوط : 3 / 320 ، النهاية : 284 ـ 285 ، السرائر : 2 / 101 ـ 102 ، البيان : 218 ، الروضة البهية : 7/ 95 ، جواهر الكلام : 16 / 75 .
(2) في ص 35.
(3) المبسوط : 6 / 286 ـ 287 ، شرائع الإسلام : 3 / 230 ، مسالك الأفهام : 12 / 118 ـ 119 ، الروضة البهيّة : 7 / 356 ، جواهر الكلام : 36 / 435 .
(4) في ص 33 .
الصفحة 47
قاعدة الإتلاف
وهي أيضاً من جملة القواعد الفقهية المشهورة ، بل لا خلاف فيها ، بل ممّا اتفق عليها الكلّ ، بل ربما يقال : إنّها مسلّمة بين جميع فرق المسلمين ، بل ربما يدّعى أنّها من ضروريات الدين(1) ، ولكن يجب توجيهه بأنّ المراد كونها من ضروريات الفقه لا من ضروريات الدين حتّى يوجب إنكارها الارتداد والخروج عن الإسلام ، وقد نبّهنا مراراً ثبوت الفرق بين ضروريّ الفقه وبين ضروري الدين ، وأنّ إنكار الأوّل لا يوجب الارتداد بخلاف الثاني ، وعبارة القاعدة بمثل هذا النحو : «من أتلف مال الغير بدون إذن منه فهو له ضامن» والبحث فيها من جهات :
الجهة الاُولى : في مدرك القاعدة ، والظاهر عدم كونها واردة بهذه العبارة في رواية ، وإن اشتهر في الألسن : «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» ولكنّ الظاهر
(1) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 2 / 25 .
الصفحة 48
أنّه لا يوجد في كتب الحديث .
واستدلّ عليها الشيخ في محكي المبسوط(1) وابن إدريس في محكي السرائر(2)بقوله تعالى : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}(3) . نظراً إلى أنّ إتلاف مال الغير بدون إذنه ورضاه اعتداء عليه ، وتعبيره سبحانه وتعالى عن ضمان المثل والقيمة بالاعتداء إنّما هو للمشاكلة التي هي من المحسّنات البديعيّة ; كقوله تعالى : {وَجَزَاءُ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}(4) ، فالآية تدلّ دلالة واضحة على أنّ «من أتلف مال الغير بدون إذنه ورضاه فهو له ضامن» .
ويمكن المناقشة في الاستدلال بالآية تارة : من جهة أنّ عنوان الإتلاف المأخوذ في القاعدة أعمّ من الإتلاف الواقع عن عمد واختيار ; لأنّ الإتلاف في حال النوم مثلا يوجب الضمان للقاعدة ، مع أنّه يمكن منع تحقّق الاعتداء مع عدم التوجّه والالتفات ، فتدبّر . واُخرى : من جهة أنّ مفادها جواز الاعتداء بالمماثل بنحو الحكم التكليفي للغير . وأمّا الضمان الذي هو حكم وضعيّ على من صدر عنه الإتلاف ـ كما هو مفاد القاعدة ـ فلا دلالة للآية عليه .
وربما يستدلّ عليها بقاعدة «ضمان اليد» المستفادة ممّا رواه في المبسوط(5) عن الحسن ، عن سمرة أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي ، وفي بعض النسخ : حتّى تؤدّيه(6) . وهذه الرواية مرويّة عن طريق الخاصّة أيضاً ، نظراً إلى أنّه
(1) المبسوط : 3 / 60 .
(2) السرائر : 2 / 480 .
(3) سورة البقرة 2 : 194 .
(4) سورة الشورى 42 : 40 .
(5) المبسوط : 3 / 59 .
(6) تقدّم في ص 28 .
الصفحة 49
إذا كان التلف موجباً للضمان فالإتلاف بطريق أولى .
ولكنّ الظاهر ـ بعد ملاحظة أنّ المراد «باليد» في قاعدة «ضمان اليد» هي اليد العادية أو غير المأذونة ، على ما مرّ في قاعدة «عدم ضمان الأمين» المتقدّمة(1) ، وبعد ملاحظة أنّ المراد من «عدم الإذن» في قاعدة الإتلاف عدم الإذن في الإتلاف ، لا عدم الإذن في كونه في يد الغير ـ أنّ النسبة بين الموردين عموم من وجه ; لافتراق قاعدة «الإتلاف» فيما إذا أتلف مال الغير مع عدم كونه تحت يده بوجه، كما إذا رماه بسهم مثلا فأتلفه ، وفيما إذا أتلف مال الغير مع كون يده عليه بإذن من المالك ، كما في صورتي التعدّي والتفريط في الأمانة المالكية على ما مرّ(2) ، وافتراق «قاعدة ضمان اليد» فيما إذا كانت العين في يد الغير مع كونها عادية أو غير مأذونة باقية لم يتحقّق تلفها لها بعد ; فإنّها تكون حينئذ مضمونة وعلى عهدة ذي اليد ، على ما هو مفاد القاعدة ، مع عدم شمول «قاعدة الإتلاف» لها بوجه .
وعلى ماذكرنا لامجال لاستفادة حكم المقام من«قاعدة ضمان اليد» إلاّ بالإضافة إلى خصوص مادّة الاجتماع ، وهو لا يترتّب عليه أثر بعد دلالة «قاعدة ضمان اليد» .
وعن الشيخ في المبسوط : روى الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : حرمة مال المسلم كحرمة دمه(3) ، ورواه الخاصّة أيضاً(4) . ومقتضى عموم التشبيه ثبوت الضمان في إتلاف المال كثبوته في الدم .
وروى الشيخ أيضاً في المبسوط ، عن عبد الله بن السائب ، عن أبيه ، عن
(1) في ص 28 .
(2) في ص 38 .
(3) المبسوط : 3 / 59 ، مسند أبي يعلي الموصلي : 4 / 380 ذ ح 5097 ، سنن الدارقطني : 3 / 23 ح 2865 ، حلية الأولياء : 7 / 334 ، كنز العمال : 1 / 93 ح 404 ، مختصر زوائد مسند البزّار : 1 / 541 ح 948 .
(4) أمالي الطوسي : 537 قطعة من ح 1162 ، وعنه وسائل الشيعة : 12 / 281 كتاب الحج ، أبواب العشرة ب 152 ح 9 .
الصفحة 50
جدّه ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جادّاً ولا لاعباً ، من أخذ عصا أخيه فليردّها(1) .
وفي الاستدلال به ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم اختصاص مورد القاعدة بما إذا كانت اليد على المال غير مأذونة ; لشمولها لصورة الإذن ، غاية الأمر عدم كون الإتلاف مأذوناً فيه ـ أنّ غاية مفاده الحكم التكليفي وهو وجوب الردّ. وأمّا الضمان الذي هو حكم وضعي فلا .
وروى في المستدرك عن دعائم الإسلام روايات في هذا الباب :
منها : ما عن أبي عبد الله، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطب يوم النحر بمنى في حجّة الوداع وهو على ناقته العضباء ، فقال : أيّها الناس إنّي خشيت أنّي لا ألقاكم بعد موقفي هذا ، بعد عامي هذا ، فاسمعوا ما أقول لكم وانتفعوا به . ثمّ قال : أيّ يوم أعظم حرمة؟ قالوا هذا اليوم يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال : فأيّ الشهور أعظم حرمة؟ قالوا : هذا الشهر يارسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال : فأيّ بلد أعظم حرمة؟ قالوا : هذا البلد يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ،قال : فإنّ حرمة أموالكم عليكم وحرمة دمائكم كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، إلى أن تلقوا ربّكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا هل بلّغت؟ قالوا : نعم ، قال : اللّهمّ اشهد ، الحديث(2) .
ومنها : ما عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضاً ، أ نّه قال في حديث : فمن نال من رجل مسلم شيئاً من عرض أو مال وجب عليه الاستحلال من ذلك والتنصّل من كلّ ما كان منه إليه ، وإن كان قد مات فليتنصّل من المال إلى ورثته ، وليتب إلى الله ممّا أتى
(1) المبسوط : 3 / 59 ، سنن الترمذي : 4 / 462 ح 2165 ، السنن الكبرى للبيهقي : 8 / 505 ح 11739 ، شرح السنة : 10 / 264 ح 2572 ، كنز العمال : 10 / 367 ح 30341 .
(2) دعائم الإسلام : 2 / 484 ح 1729 ، وعنه مستدرك الوسائل : 17 / 87 ، كتاب الغصب ب 1 ح 1 .
الصفحة 51
إليه حتى يطلع الله ـ عزّ وجلّ ـ عليه بالنّدم والتوبة والتنصّل ، ثمّ قال : ولست آخذ بتأويل الوعيد في أموال الناس ولكنّي أرى أن تؤدّى إليهم إن كانت قائمة في يدي من اغتصبها ويتنصّل إليهم منها ، وإن فوّتها المُغتصِب أعطى العوض منها ، فإن لم يعرف أهلها تصدّق بها عنهم على الفقراء والمساكين ، وتاب إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ ممّا فعل(1) .
ومنها : ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قضى فيمن قتل دابّة عبثاً ، أو قطع شجراً ، أو أفسد زرعاً ، أو هدم بيتاً ، أو عوَّر بئراً أو نهراً ، أن يغرم قيمة ما أفسد واستهلك ، ويضرب جلدات نكالا ، وإن أخطأ ولم يتعمّد ذلك فعليه الغرم ولا حبس عليه ولا أدب ، وما أصاب من بهيمة فعليه ما نقص من ثمنها(2) .
ودلالة هذه الروايات وإن كانت مخدوشة بالإضافة إلى أكثرها ، إلاّ أنّ ملاحظة المجموع ـ مع الأدلّة المتقدّمة ، ومع كون القاعدة متّفقاً عليها ـ لا تبقي ريباً في ثبوتها ولا شكّاً في تحقّقها ، ولأجله لا حاجة إلى التطويل بذكر سائر المدارك ، كما لا يخفى .
الجهة الثانية : في بيان المراد من ألفاظ هذه القاعدة ، فنقول :
أمّا الإتلاف المضاف إلى المال ، فالظاهر أنّ المراد منه هو الإفناء والإهلاك المتعلّق بذات المال ، بأن أخرجه عن صفحة الوجود وأفناه بالمرّة بحيث لم يكن هناك شيء يشار إليه بأنّه مال الغير .
وأمّا إذا تعلّق الإفناء لا بذات المال ونفسه ، بل بماليّته مع بقاء ذاته ; كما لو غصب الثلج في الصيف فأبقاه إلى الشتاء ، فردّه فيه مع أنّه لا مالية له في الشتاء ; أي لا يبذل بإزائه المال فيه ، فالظاهر عدم شمول القاعدة له ; سواء كانت بهذه العبارة
(1) دعائم الإسلام : 2 / 485 ح 1731 ، وعنه مستدرك الوسائل : 17 / 87 ، كتاب الغصب ب 1 ح 2 .
(2) دعائم الإسلام : 2 / 424 ح 1476 ، وعنه مستدرك الوسائل : 17 / 95 ، كتاب الغصب ب9 ح6 .
الصفحة 52
المعروفة أو بمثل ما في بعض الروايات المتقدّمة من أنّ «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ، فإنّ التعبير الثاني أيضاً لا يقتضي الضمان بعد بقاء المال بذاته ، وإن عرض له الفناء والهلاك بملاحظة ماليّته ، إلاّ أن يستفاد حكمه من مثل قوله تعالى : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}(1) نظراً إلى أنّ إفناء المالية اعتداء لا محالة .
وأمّا المال المضاف إليه الإتلاف ، فالظاهر أنّ المراد به هو المال في الآية الشريفة ; وهي قوله تعالى : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}(2) . وهو عبارة عن كلّ شيء يكون مطلوباً ومرغوباً عند الناس لاجل قضاء حوائجهم به ، ودخيلا في معاشهم أو شيء يحصل مطلوبهم به .
فالأوّل : كالمأكولات والمشروبات والملبوسات والمساكن والمراكب ومثلها ، من دون فرق بين ما إذا كان من قبيل الجواهر الموجودة لا في موضوع ، أو من قبيل الأعراض التي تسمّى في الاصطلاح بالمنافع ; كركوب الدابّة وسكنى الدّار والتزيّن بالذهب والفضّة والأحجار الكريمة ، من دون فرق بين أن يكون الاحتياج إليه نوعاً أو في خصوص بعض الحالات ; كالأدوية التي يعالج بها المريض ، وكالآلات المحتاج إليها في دفن الأموات .
والثاني : كالأوراق الماليّة الموجودة في هذه الأزمنة التي لها دخل في تحصيل ما يرفع الحوائج بها ، فإنّها أيضاً مال ، غاية الأمر ان ماليّتها امر اعتباري يدور مداره ، فمادام الاعتبار مستظهراً به يكون اتصافه بالمالية محفوظاً ، وأمّا تعريف المال بأنّه ما يبذل بإزائه المال ، فهو وإن كان شاملا لجميع ما ذكرنا ، إلاّ أنّه لا خفاء في كونه تعريفاً دوريّاً .
(1) سورة البقرة 2: 194.
(2) سورة الكهف 18 : 46 .
الصفحة 53
وأمّا الضمان المأخوذ في القاعدة ، فحيث يكون المفروض فيها صورة الإتلاف ، ويكون مرجع ضمان المال المتلف إلى كونه في عهدته ، يجب الخروج عنها بأداء المثل في المثليّات والقيمة في القيميات ، ولا مجال للضمان المعاوضي هنا بعد عدم وجود معاوضة في البين ، بل الضمان هو الضمان الحقيقي الذي هو عبارة عن ضمان المثل أو القيمة .
وقد عرفت أنّ الضمان في القاعدة مقيّد بصورة عدم الإذن ، ومرّ أيضاً أنّ المراد هو عدم الإذن في الإتلاف ، من دون فرق بين ما إذا كانت يده على مال الغير على تقدير ثبوت اليد يداً عادية أو غير مأذونة ، وبين ما إذا كانت يداً مأذونة ; كالأمين في صورة التعدّي والتفريط على ما تقدّم(1) .
الجهة الثالثة : أنّ الإتلاف قد يكون بالمباشرة، وقد يكون بالتسبيب .
فالأوّل : مثل أن يأكل مال الغير الذي يكون من المأكولات ، أو أن يشرب ماله الذي يكون من المشروبات ، أو يحرق أثوابه ، أو يرمي حيوانه بسهم فيهلكه ، وشبه ذلك ممّا يصدر عنه فناء مال الغير وهلاكه عن نفسه وإرادته ، من دون وساطة فاعل آخر .
والثاني : عبارة عن كلّ فعل صار سبباً لوقوع التلف ، بحيث لو لم يكن لم يتحقّق التلف ، ولكنّه لم يكن علّة تامّة ولا جزءاً أخيراً من العلّة التامّة، وعليه : فهو الذي لا يلزم من وجوده الوجود ، ولكن يلزم من عدمه العدم .
لا خفاء في أنّ القدر المتيقّن من مورد القاعدة الذي لا شبهة في ثبوت الضمان فيه هو القسم الأوّل الذي يكون الإتلاف فيه بالمباشرة .
وأمّا القسم الثاني : فقد ادّعى في محكي الجواهر نفي الخلاف فيه(2) ، بل ربما
(1) في ص 28 .
(2) جواهر الكلام : 37 / 46 .
الصفحة 54
يقال بأنّه يمكن تحصيل الإجماع على كونه موجباً للضمان ، ولكن لابدّ من ملاحظة الأخبار بعد إمكان القول بكفاية التسبيب في صحّة اسناد الإتلاف فإنّه إذا فرض أنّ مع عدمه لم يكن يتحقّق التلف بوجه ، والمفروض كونه فعله من دون واسطة يتحقّق الإتلاف الحقيقي المضاف إلى من تحقّق منه الإتلاف بالتسبيب، فتدبّر ; فإنّ ذلك لا يتمّ في جميع موارد التسبيب كما سيأتي .
أمّا الرّوايات :
فمنها : صحيحة الحلبي ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن الشيء يوضع على الطّريق فتمرّ الدابّة فتنفر بصاحبها فتعقره؟ فقال : كلّ شيء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه(1) .
ومنها : صحيحة زرارة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قلت له : رجل حفر بئراً في غير ملكه ، فمرّ عليها رجل فوقع فيها ، فقال (عليه السلام) : عليه الضمان ; لأنّ كلّ من حفر في غير ملكه كان عليه الضّمان(2) .
ومنها : موثقة سماعة قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يحفر البئر في داره أو في ملكه (أرضه)؟ فقال : ما كان حفر في داره أو في ملكه فليس عليه ضمان ، وما حفر في الطريق أو في غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها(3) .
ومنها : رواية السكوني ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من أخرج ميزاباً ، أو كنيفاً ، أو أوتد وتداً ، أو أوثق دابّة ، أو حفر شيئاً في طريق
(1) الكافي : 7 / 349 ح 2 ، تهذيب الأحكام : 10 / 223 ح 878 ، الفقيه : 4 / 115 ح 396 ، وعنها وسائل الشيعة 29/ 243 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 9 ح 1 .
(2) الكافي : 7 / 350 ح 7 ، تهذيب الأحكام : 10 / 230 ح 907 ، وعنهما وسائل الشيعة : 29 / 241 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 8 ح 1 .
(3) الكافي : 7 / 350 ح 4 و ص 349 ح 1 ، تهذيب الأحكام : 10 / 229 ـ 230 ح 903 و 904 ، الفقيه : 4 / 114 ح 390 ، وعنها وسائل الشيعة : 29 / 241 ـ 242 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 8 ح 3 .
الصفحة 55
المسلمين ، فأصاب شيئاً فعطب فهو له ضامن(1) .
ومنها : غير ذلك من الروايات الكثيرة الدالّة على ضمان المسبّب ـ بالكسر ـ مثل المباشر للإتلاف ، التي وردت جملة منها في شاهدي الزور اللذين شهدا بالقتل ، فقتل المشهود عليه بسبب هذه الشهادة ، ثمّ رجعا عنها ، ومفادها : أنّه إن قالا بالخطأ فعليهما الدية ، وإن قالا بتعمّد الكذب فعليهما القصاص(2) .
ثمّ إنّ مقتضى أكثر الروايات المتقدّمة انحصار الحكم بالضّمان بما إذا أضرّ بطريق المسلمين ، أو حفر البئر في غير ملكه ، فلا ضمان فيما إذا حفر بئراً في ملكه فوقع فيها أحد فهلك ، وإن كانت السببيّة موجودة في هذه الصورة ; لأنّه لو لم يحفر البئر لم يتحقّق الوقوع ، فلا يتحقّق الهلاك بوجه ، كما أنّ مقتضى إطلاق الروايات عدم الفرق بين ما إذا قصد موجد السبب لترتب المسبّب ووقوعه عقيبه ، وبين ما إذا لم يقصد ذلك ، بل وبين ما إذا كان بقصد عدم الوقوع وبرجاء العدم .
ومنه يظهر الفرق بين ما إذا كان المدرك في هذه الجهة هي الرّوايات ، وبين ما إذا كان هو الإجماع ; فإنّه على التقدير الثاني يكون القدر المتيقّن من معقده هي صورة قصد موجد السبب لترتّب المسبّب وتحقّقه عقيبه ، كما أنّ القدر المتيقّن من معقده هو ما إذا كان مثل حفر البئر في غير ملكه ، وقد عرفت مراراً أنّه لا أصالة للإجماع مع وجود نصّ معتبر في معقده ، فالدليل هي الرّوايات .
وظهر أيضاً عدم انطباقها على جميع موارد السبب ; لاختصاص الحكم بالضمان فيها بما ذكر ، هذا كلّه فيما إذا كان هناك السبب فقط .
(1) الكافي : 7 / 350 ح 8 ، تهذيب الأحكام : 10 / 230 ح 908 ، الفقيه : 4 / 114 ح 392 ، وعنها وسائل الشيعة : 29 / 245 ، كتاب الديات ، أبواب موجبات الضمان ب 11 ح 1 .
(2) يراجع وسائل الشيعة : 29 / 128 ـ 130 ، كتاب القصاص ، أبواب القصاص في النفس ب 63 و 64 ، ومستدرك الوسائل : 18 / 256 ، كتاب القصاص ، أبواب القصاص في النفس ب 52 .
الصفحة 56
في اجتماع السبب والمباشر
لو اجتمع السبب والمباشر ، فهل الضمان على الأوّل ، أو على الثاني ، أو على كليهما بالاشتراك؟ وجوه واحتمالات .
قال المحقّق في الشرائع : إذا اجتمع السبب والمباشر قدّم المباشر في الضمان على ذي السبب ، كمن حفر بئراً في ملك غيره عدواناً ، فدفع غيره فيها إنساناً ، فضمان ما يجنيه الدفع على الدّافع(1) . وقد ادّعي عدم الخلاف(2) بل الإجماع عليه(3) ، بل ربما يقال : إنّ تقديم المباشر على السّبب عندهم من المسلّمات .
أقول : الظاهر وضوح تقديم المباشر في الضمان على ذي السبب في الفرع المذكور في كلام المحقّق ; لظهور استناد الإتلاف فيه إلى خصوص المباشر ، وكون السبب من المعدّات التي لا توجب الضمان مع صدور الإتلاف من الفاعل المختار ، والاّ كان صانع السيف ضامناً إذا قتل به المباشر .
كما أنّه ربما ينعكس الأمر ويكون الاستناد إلى ذي السبب واضحاً بحيث لا مجال للاستناد إلى المباشر ، كما في شاهدي الزور في باب القتل ، فإنّ القتل يستند إليهما عرفاً لا إلى الحاكم أو من يأتمر بأمره المباشر لصدور القتل ، كما لا يخفى ، فاللازم فرض الكلام في غير مثل هذين الموردين .
فنقول : ذكر المحقّق البجنوردي (قدس سره) في قواعده الفقهيّة في هذه الجهة تفصيلا ، خلاصته : أنّه إذا كان المباشر فاعلا مختاراً عاقلا ، وكان ملتفتاً إلى أنّ عمله هذا يترتّب عليه التلف ، فلا شك في اختصاصه بكونه ضامناً ، وأمّا إذا لم يكن المباشر ذا إرادة وشعور ، فالضمان على ذي السبب ; كمن أجّج ناراً في غير ملكه فنشرتها
(1) شرائع الإسلام : 3 / 237 .
(2) جواهر الكلام : 37 / 54 .
(3) كشف اللثام : 11 / 279 ، مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 501 ، رياض المسائل : 14 / 236 .
الصفحة 57
الريح ، فأصابت النار مال غيره فاحترق ، فالضمان على ذي السبب ; لأنّه المتلف حقيقة .
وأمّا إن كان عاقلا مختاراً في فعله ، ولكنّه لا يعلم بأنّ فعله هذا يترتّب عليه التلف ، فإن لم يكن مغروراً ولا مكرهاً فالضمان على المباشر ; لأنّه لا فرق في جريان قاعدة الإتلاف بين صورة العلم بترتّب التلف على فعله ، وبين صورة عدم العلم ; لأنّ الموضوع للحكم بالضمان هو مطلق الإتلاف ، وأمّا لو كان مغروراً كالممرّض الجاهل ، فهو وان كان ضامناً لأجل قاعدة الإتلاف ، لكنّه يرجع إلى الغارّ لقاعدة الغرور ، من دون فرق بين صورة علم الغارّ وصورة جهله .
وأمّا إذا كان مكرهاً فليس عليه ضمان إذا كان الإكراه في غير الدّماء ، فإذا اُكره على الدفع في البئر فمات ، فإن كان الدفع في البئر من الاسباب العادية للموت ، فالدافع ضامن ، لأنّه لا تقية في الدّماء ، وإذا اُكره على إتلاف مال الغير فالضمان على المكره ـ بالكسر ـ لا على المكره ـ بالفتح ـ لأنّ السبب هنا أقوى من المباشر ; لأنّ المباشر وإن كان فاعلا ولكنّه ليس بمختار ، ولذلك نقول ببطلان معاملات المكره ـ بالفتح ـ والعرف والعقلاء ينسبون الفعل إلى المكره ـ بالكسر ـ ويسندونه إليه ، كما أنّه لو أمر المكره خدّامه وغلمانه الذين يخافون من مخالفته بهدم دار شخص ، لا ينسب هدم الدار عند العرف إلاّ إلى ذلك المكره(1) .
وهذا التفصيل وإن كان في غاية المتانة ، إلاّ أنّ الوجه لعدم ثبوت الضمان في صورة الإكراه ليس ما أفاده من عدم شمول قاعدة الإتلاف ، وعدم استناده إلى المكره ـ بالفتح ـ ضرورة أ نّ شرب الخمر ولو كان عن إكراه لا يسند إلاّ إلى الشارب المكره لا إلى المكره ، بحيث يترتّب على إكراهه حدّ شرب الخمر ،
(1) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 2 / 35 ـ 36 .
الصفحة 58
فالشارب هو المكره ـ بالفتح ـ لكن حديث رفع الإكراه(1) بمقتضى حكومته على دليل الحرمة وعلى دليل ترتّب الحدّ ، يرفع كلا الأمرين ، وفي المقام أيضاً مقتضى قاعدة الإتلاف ثبوت الضمان على المكره المتلف ، لكن دليل رفع الإكراه يرفع الحكم الوضعي كما يرفع الحكم التكليفي .
وممّا ذكرنا يظهر أنّ بطلان معاملات المكره ليس لأجل عدم صدور المعاملة منه ، وعدم استناد المعاملة إليه ، بل لأجل اعتبار طيب النفس في المعاملة ، وهو لا يجتمع مع الإكراه بوجه ، كما أنّ إسناد هدم الدار إلى المكره في المثال ليس لأجل الإكراه ، بل لأجل كون الخدّام والغلمان بمنزلة الأدوات والآلات ، فتدبّر . ولكن مقتضى ما ذكرنا في الإكراه ، عدم ثبوت الضمان عليه أيضاً ; لعدم استناد الإتلاف إليه ، فالمكره ـ بالفتح ـ لا يكون ضامناً ; لاقتضاء حديث رفع الإكراه لعدم ضمانه ، والمكره ـ بالكسر ـ لا يكون ضامناً ; لعدم استناد الإتلاف إليه ، بل هو فعل اختياري صادر عن المكره ، وإن كان صدوره لأجل الإكراه .
ولا مجال لدعوى عدم تحقّق الضمان في صورة الإكراه أصلا بعد تحقّق إتلاف مال الغير وسببيته للضّمان ، ولأجله يشكل الحكم في باب الإكراه .
ثم إنّه لابدّ في توضيح هذا التفصيل من بيان أنّ مسألة شاهدي الزور التي حكم فيها بضمانهما مع كون المباشر للقتل هو الحاكم أو من يأتمر بأمره من الفاعل المختار ، تكون من مصاديق الغرور ، فقرار الضمان فيها على الغارّ وهو الشاهدان ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّ في هذه المسألة ـ وهي مسألة اجتماع السبب والمباشر ـ فروعاً كثيرة
(1) الكافي : 2 / 462 ح 1 و 2 ، التوحيد : 353 ح 24 ، الخصال : 417 ح 9 ، الفقيه : 1 / 36 ح 132 ، وعنها وسائل الشيعة : 7 / 293 ، كتاب الصلاة ، أبواب قواطع الصلاة ب 37 ح 2، و ج 8 / 249 ، كتاب الصلاة ، أبواب الخلل ب 30 ح 2، و ج 15 / 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1 ـ 3 .
الصفحة 59
مذكورة في الكتب الفقهية ، وقد وقع في بعضها الاختلاف من جهة كون الضمان على السبب أو على المباشر ، ولا بأس بالتعرض لجملة منها :
منها : أنّه قال في الشرائع : لو ألقى صبيّاً في مسبعة ، أو حيواناً يضعف عن الفرار ، ضمن لو قتله السّبع(1) ، وذكر الصبي بقرينة توصيف الحيوان بأنّه يضعف عن الفرار ، إنّما هو لعدم قدرته على الفرار نوعاً ، لا لخصوصية فيه غير هذه الجهة ، ضرورة أنّه لا فرق في الحرّ بين الصغير والكبير ، وعلى ما ذكرنا فمنشأ الحكم بالضمان في هذا الفرع هي قاعدة الإتلاف المبحوث عنها في المقام ، ونظر المحقّق (قدس سره) إلى أنّ الإتلاف ـ مع فرض ضعف الصبي والحيوان عن الفرار ، وكون المباشر للقتل هو السبع الذي لا معنى لثبوت الضمان عليه ـ يستند إلى الإنسان الملقي ، فهو القاتل عن عمد واختيار ، ويترتّب على عمله القصاص مع إلقاء الصبي ، وضمان القيمة مع إلقاء الحيوان ، فمنشأ هذا الحكم هو أقوائية السبب من المباشر ، وثبوت الضمان على السبب .
ومنها : ما ذكر في الشرائع أيضاً من أنّه لو غصب شاة فمات ولدها جوعاً ، ففي الضمان تردّد ، وكذا لو حبس مالكَ الماشية عن حراستها فاتّفق تلفها ، وكذا التردّد لو غصب دابّة فتبعها الولد(2) ، والفتاوى فيه مختلفة ; فبعضهم يحكم بالضمان(3) ، وبعضهم يحكم بالعدم(4) ، وصاحب الشرائع يتردّد .
ربما يقال ـ بعد أنّه لا دليل على ضمان التسبيب بعنوانه ـ : إنّه لابدّ من ملاحظة العناوين التي اُخذت موضوعاً للحكم بالضمان في الرّوايات المتقدّمة ، وهي ثلاثة :
(1) شرائع الإسلام : 3 / 237 .
(2) شرائع الإسلام : 3 / 237 ـ 238 .
(3) الدروس الشرعية : 3 / 107 ، الروضة البهية : 7 / 25 ، حاشية الإرشاد (المطبوع مع غاية المراد): 2 / 393 .
(4) مسالك الأفهام : 12 / 169 .
الصفحة 60
أحدها : عنوان «كلّ شيء يضرّ بطريق المسلمين»، وهذا العنوان غير متحقّق في شيء من هذه الموارد ، إلاّ أن يقال : إنّه لا خصوصيّة للطريق ، بل المناط هو الإضرار بالمسلمين ، وهو غير معلوم ، خصوصاً مع الإضافة إلى المسلمين وعدم اختصاص القاعدة بهم .
ثانيها : عنوان «من حفر بئراً في الطريق أو في ملك غيره»، وهذا أيضاً غير متحقّق في المقام ، إلاّ أن يقال : إنّه لا خصوصية لحفر البئر ، بل المراد إيجاد ما هو سبب تلف مال الغير في العادة ، مع وقوع التلف فعلا وترتّبه على السّبب .
ثالثها : ما جعل موضوعاً للضمان من الاُمور الخمسة في خبر السكوني المتقدّم ، مثل إخراج الميزاب أو الكنيف ، ويستظهر منه قاعدة كلّية ; وهي : أنّ كلّ فعل صدر من فاعل عاقل مختار ، وكان سبباً في العادة لوقوع تلف في مال المسلمين أو في أنفسهم ، ولم يتوسّط بين ذلك الفعل والتلف فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار ، بحيث يكون التلف مستنداً إليه عند العرف والعقلاء ، فهو ـ أي فاعل السبب ـ ضامن ، وهذا استظهار لا قياس .
وعليه : يكون الحكم في الموارد الثلاثة هو الضمان ، إلاّ أن يناقش في سند هذه الرواية ; لاشتراك السكوني بين من هو موثوق به ، إن كان المراد به إسماعيل بن مهران ، وغير موثوق ، إن كان المراد به هو إسماعيل بن أبي زياد ; فإنّه عامي(1) .
أقول : الظاهر أنّه لا اختلاف بين العنوان الثالث المذكور في خبر السكوني مع العنوان الأوّل ; فإنّ الاُمور الخمسة في خبر السكوني مقيّدة بالوقوع في طريق المسلمين ; ضرورة أنّ قوله (صلى الله عليه وآله) : «في طريق المسلمين» ـ بعد الأمر الخامس ـ متعلّق بجميع الاُمور الخمسة ، لا بخصوص الأمر الخامس ، وعليه: فيتّحد العنوانان ، وقد
(1) القائل هو المحقّق البجنوردي في قواعده الفقهيّة : 2 / 38 ـ 39 .
|