عليك قيمة يوم الردّ بالإضافة إلى ما بين الصحة والعيب .
وأمّا بناءً على تعلّق الظرف بـ «عليك» بلحاظ كون معناه الفعل ; وهو : أنّه يلزم عليك ، فمعناه أنّ الثابت على العهدة في يوم الردّ والأداء هي القيمة ، فيمكن أن يقال بظهوره أيضاً في كون الثابت هي القيمة في ذلك اليوم وإن كان يمكن المناقشة فيه بأنّ غاية ما تدلّ عليه حينئذ هو كون الثابت في يوم الردّ هي القيمة ، وأمّا أنّ القيمة قيمة أيّ يوم فالرواية ساكتة عنه .
ولكنّ الظاهر عدم تعلّق الظرف بـ «عليك» وإن كان متضمّناً لمعنى الفعل ; لأنّه إن كان المراد باللزوم هو لزوم الأداء والدفع فلا فائدة في ذكر الظرف أصلا ; لأنّه يصير حينئذ أمراً واضحاً لا حاجة إلى بيانه ; لوضوح أنّ أداء القيمة إنّما يقترن مع أداء العين ، وردّها مع وصف كونها معيوبة . وإن كان المراد باللزوم هو الثبوت على العهدة ، فلا خفاء في أنّ الثبوت الكذائي إنّما يتحقّق بنفس عروض العيب ، وصيرورة الدابّة معيبة في يد الغاصب ، فلا وجه لجعل الظرف متعلقاً به حتى يصير معناه أنّ الثبوت إنّما يكون زمانه يوم الردّ والأداء .
ويحتمل أن يكون الظرف متعلّقاً بالعيب ; بمعنى أنّه لابدّ في العيب من ملاحظة يوم الأداء ; إذ ربما يمكن أن يكون العيب في أوّل عروضه قليلا ثمّ ازداد بعده ، وفي هذه الصّورة لابدّ من ملاحظة ما عليه العيب من الكثرة والشدّة في يوم ردّ العين معيبة ، ولازم ذلك أنّه لو فرض العكس وصيرورة العيب قليلة أو خفيفة لكان اللازم ملاحظة وقت الأداء دون وقت العروض .
وبالجملة : فالرواية على التقدير الأوّل الذي يكون الظرف متعلّقاً بالقيمة تؤيّد عدم دلالتها في الجملات السابقة على هذه الجملة على كون المراد هي القيمة يوم الغصب .
ثمّ إنّه ربما يستشكل الأخذ بهذه الصحيحة بأنّها مخالفة للقواعد العامّة
الصفحة 142
والضوابط القطعية المقرّرة في كتاب القضاء للمدّعي والمنكر ; وهي أنّ البيّنة على المدّعى واليمين على من أنكر ، والتفصيل قاطع للشركة ، فالمدّعي وظيفته إقامة البيّنة والمنكر اليمين . نعم ، يمكن له ردّ اليمين إلى المدّعي في فرض عدم ثبوت البيّنة له ، مع أنّ الصحيحة ظاهرها تخيير المالك ابتداءً بين الحلف وبين إقامة البيّنة ، غاية الأمر أنّه مع عدم الحلف وعدم البيّنة تصل النوبة إلى حلف الغاصب . وهذا لا ينطبق على قواعد باب القضاء وفصل الخصومات بوجه .
وربما يوجّه ذلك ; بأنّ الاختلاف يمكن أن يكون باختلاف كيفية انشاء دعويهما ، وبعبارة اُخرى : لا يجتمع الأمران في مورد واحد وفي مصبّ دعوى كذلك ، بل لهما موردان ، فإنّه إن كان مصبّ الدعوى تنزّل القيمة التي يجب عليه أداؤها من القيمة السّابقة بحيث كان الغاصب مدّعياً للتنزّل والمالك منكراً له ، تكون وظيفة المالك حينئذ اليمين مع عدم ثبوت البيّنة للمنكر على التنزّل لأنّ الأصل عدم التنزل .
وإن كان مصبّ الدعوى نفس القيمة الثابتة من غير اتفاق على القيمة السّابقة ، بل ومن دون اطّلاع عليها ، بل كان النزاع في مجرّد القيمة من حيث الزيادة وعدمها ، فالقول قول الغاصب ; لإنكاره الاشتغال بالزائد عمّا يدّعيه من القيمة ، وعلى المالك إقامة البيّنة لكونه مدّعياً في هذه الصورة فلم يجتمع الأمران في مورد واحد .
وهذا التوجيه وإن كان يؤيّد عدم دلالة الرواية على كون المدار هي القيمة يوم المخالفة ; لأنّ لازمه الإتّفاق في المورد الأوّل على القيمة قبل الغصب الذي لا تكون العين بيد الغاصب وتحت استيلائه ، وهذا في غاية البعد ، بخلاف ما لو كان مدلول الرواية هي القيمة يوم الدفع ; فإنّ الإتّفاق على القيمة قبل يوم الدفع كيوم الأخذ والغصب أمر عاديّ لا بعد فيه أصلا ، إلاّ أنّه في نفسه مستبعد . وأبعد منه حمل
الصفحة 143
الحلف هنا على الحلف المتعارف الذي يرضى به المحلوف له ويصدّقه فيه من دون محاكمة ، والتعبير بردّه اليمين على الغاصب من جهة أنّ المالك أعرف بقيمة بغله ، فكان الحلف حقّاً له ابتداءً ، ولكن ذلك لا يقدح في أصل دلالة الرواية على تعيين القيمة وأنّ الملاك قيمة أيّ يوم .
ثمّ إنّه بناءً على ما قلنا من عدم ظهور الرواية في شيء من فقراتها في خلاف ما تدلّ عليه القاعدة المستفادة من «على اليد ما أخذت» من كون المدار هي قيمة يوم الدفع ، لابدّ من حملها عليها ; لعدم التعارض بينهما بعد فرض ظهور القاعدة ، وعدم ظهور الرواية في خلافها .
وأمّا إن قلنا بظهور الرواية في كون المناط هي القيمة يوم الغصب كما عليه بعض الأعاظم (قدس سره) (1) ، فالظاهر لزوم الأخذ بالرواية ; لعدم بلوغ ظهور القاعدة مرتبة ظهور الرّواية ، خصوصاً بعد الاختلاف فيه وإنكار بعض ظهور القاعدة في لزوم دفع قيمة يوم الدفع كما نقلناه عنه (2)، فالإنصاف أنّه على هذا التقدير لا محيص عن الالتزام بقيمة يوم الغصب .
ثمّ إنّه بقي في بحث القاعدة اُمور ينبغي التنبيه عليها :
الأوّل : ما لو تعذّر أو تعسّر ردّ العين من دون أن يعرض لها التلف ، كما لو سرق أو غرق أو ضاع أو أبق ، وأنّه هل يجب بمقتضاها إعطاء بدل الحيلولة للمالك أم لا؟ واللازم قبل البحث في هذا الأمر من التنبيه على أمرين :
أحدهما : أنّ محطّ البحث في لزوم إعطاء بدل الحيلولة وعدمه هو مجرّد القاعدة المستندة إلى قوله (صلى الله عليه وآله) «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» . وأمّا الأدلّة
(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 249 ، المكاسب والبيع (تقريرات أبحاث الميرزا النائيني) : 1 / 362 ـ 364 .
(2) في ص 127 ـ 129 .
الصفحة 144
الاُخرى التي يمكن استفادة الحكم بالضمان منها فهو خارج عن محلّ البحث هنا ; مثل ما ورد في باب الأمانات المضمونة ممّا يدلّ على تحقّق الضمان بالاُمور المذكورة كالسرقة ومثلها ، ومثل قاعدة الضرر وفوت سلطنة المالك وأشباههما ، فإنّ الجميع خارج عن محلّ البحث هنا وإن كان يجب البحث عنها في مسألة بدل الحيلولة بعنوان عام .
ثانيهما : أنّ التعذّر والتعسّر وعدم إمكان الردّ له مراتب مختلفة ; فإنّه تارة : يكون في مدّة قصيرة يعلم بإمكان ردّ العين بعد انقضائها .
واُخرى : يكون في مدّة طويلة مقرونة باليأس من الوصول إليها ; كما إذا وقعت العين في قعر البحر مثلا .
وثالثة : في تلك المدّة مع رجاء الوصول إليهما ووجدانها .
أمّا الصورة الاُولى : فالظاهر أنّه لا مجال لدعوى الانتقال إلى بدل الحيلولة في تلك المدّة القصيرة مستنداً إلى «على اليد» لوضوح أنّه لا دلالة له على لزوم أداء المثل أو القيمة في هذه الصورة ، وبعبارة اُخرى : لا يكون أداء المثل أو القيمة في هذا الفرض من مراتب أداء العين الذي هو غاية للحكم بالضمان .
وأمّا الصورة الثانية : فهي ملحقة بالتلف عند العرف والعقلاء ، حيث إنّهم لا يفرّقون بينها وبين التلف الحقيقي بوجه ، وعليه : فأداء المثل أو القيمة ليس لأجل الحيلولة ، بل لأجل حصول التلف العرفي ، فالعمدة في البحث هي الصورة الثالثة ، فنقول :
ربما يقال بأنّ مقتضى القاعدة لزوم ردّ المثل أو القيمة في هذه الصورة ، نظراً إلى أنّ مقتضاها كون العين المأخوذة بدون إذن المالك والشارع ، ثابتة ومستقرّة في عالم الاعتبار التشريعي على عهدة المالك بجميع خصوصياتها الشخصية وصفاتها النوعية وماليّتها ، كما أنّ الأمر كذلك عند العقلاء ، فيجب تكليفاً ووضعاً ردّ
الصفحة 145
الجهات الثلاث مع الإمكان ، وعند تلف العين يجب ردّ الجهتين الأخيرتين .
وأمّا مع التعذّر أو التعسّر على ما هو المفروض في المقام ، فحيث يسقط التكليف بردّ العين للتعذّر أو التعسّر ، فيدور الأمر بين أن يسقط عن ردّ جميع الجهات الثلاث ، أو يبقى بالنسبة إلى الجهتين الباقيتين إن كانت مثليّة ، والجهة الواحدة الباقية إن كانت قيميّة ، ولا وجه للأوّل ; لأنّه بلا دليل بل الدليل على عدمه ; وهو قوله (صلى الله عليه وآله) : «على اليد . . .» ; لدلالته على استقرار الجهات الثلاث في العهدة ، وبارتفاع الاُولى لا ترتفع الاُخريان ، فيجب عليه إعطاء المثل إن كانت مثليّة والقيمة إن كانت قيميّة .
ولكن بملاحظة ما عرفت(1) في معنى «على اليد» ومفاده من كونه عبارة عن مجرّد الحكم الوضعي الشرعي مغيّى بتحقّق الأداء ، تعرف أنّه لا دلالة له على الحكم التكليفي بوجه ، بل مرجعه إلى أنّ الأداء رافع للضمان وغاية له ، وأمّا أنّه واجب فهو مستفاد من دليل آخر ، فاللازم حينئذ ملاحظة أنّ الأداء المجعول غاية للحكم بثبوت ضمان العين المأخوذة ، واستقرارها على عهدة المستولي وذي اليد ، هل يكون من مراتبه أداء المثل أو القيمة في المقام، كما في صورة التلف الحقيقي أو العرفي ، أو أنّه لا يكون من مراتبه ; لثبوت الفرق بين المقام وبين صورة التّلف ، فالغاية لا تتحقّق إلاّ بأداء نفس العين بعد رفع التعذّر والتعسّر ؟
لا يبعد أن يقال بالثاني ; لأنّ كلّما فرض أن يكون أداءً ومن مراتبه ، فلابدّ من فرض كونه غاية ورافعاً للضمان المستفاد من «على اليد» . وبعبارة اُخرى : بعد كون الأداء في الحديث متصفاً بأنّه غاية رافعة للضمان ، فكلّما فرض من مراتبه لابدّ وأن يكون متّصفاً بهذا الوصف ، فلا مجال لدعوى تحقّق الأداء في مورد مع فرض عدم ارتفاع الضمان بسببه ، وعليه : فالانتقال إلى المثل أو القيمة في المقام إن كان متّصفا
(1) في ص 110 .
الصفحة 146
بهذه الصّفة فلازمه الالتزام بارتفاع ضمان العين بسببه ، مع أنّه لا مجال للالتزام به ، وإن لم يكن متّصفاً بهذه الصفة فهو خارج عن الحديث وشموله ، وعليه : فلا دلالة للحديث على الانتقال المزبور بوجه .
الأمر الثاني : لا شبهة في تحقّق الضمان بمقتضى القاعدة فيما إذا كانت اليد التي عليها ما أخذت واحدة لا تعدّد فيها . وأمّا لو تعاقبت الأيدي العادية أو غير المأذونة على مال الغير ، فهل يستفاد من دليل القاعدة تعدّد الضمان بحيث كان للمالك الرجوع إلى أيّة واحدة منها شاء أم لا؟
ربما يقال : نعم ; لأنّ مفاد الحديث الشريف جعل الضمان لكلّ يد عادية بطور القضية الحقيقيّة ، فكما أنّه يشمل وقوع الأيدي المتعدّدة على الأموال المتعدّدة ، كذلك يشمل الأيدي المتعدّدة إن وقعت على مال واحد ; لأنّ المناط في تعدّد الضمان تعدّد اليد ; إذ هو موضوع الحكم بالضمان على نحو القضية الحقيقيّة ، فتنحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد أفراد موضوعها الذي هي اليد ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقية ، ولا دخل في تعدّد ما تقع عليه في الحكم بالضمان ، ومن آثار ذلك أي تعدّد الضمان ، جواز رجوع المالك إلى كلّ واحدة منها .
ونحن نضيف إليه أنّ تقييد المضمون بكونه مأخوذاً لليد لا ينافي تعدّد الضمان بوجه ، نظراً إلى أنّ الضامن الثاني لم يأخذ العين المضمونة من مالكها ، بل من الضامن الأوّل ، وربما لا يكون الأخذ من الضامن الأوّل بصورة القهر والغلبة ، بل بإذنه ورضاه .
وجه عدم المنافاة ما أشرنا إليه من كون الأخذ في الحديث الشريف كناية عن عدم الإذن ، وكون الاستيلاء على العين غير مرضيّ للمالك ، وفي هذه الجهة لا فرق بين الضامن الأوّل والثاني ـ وهكذا ـ أصلا ، لأنّه كما أنّ يد الأوّل يد غير مأذونة وغيرمرضية ،كذلك يد الثاني والثالث وهكذا ، فلا فرق بين الأيدي من هذه الجهة .
الصفحة 147
وعليه : فمقتضى الحديث الشريف تعدّد الضمان وإن كانت العين المضمونة واحدة ، كما إذا كانت اليد واحدة والعين المأخوذة متعدّدة ; فإنّه يكون ضامناً بالإضافة إلى الجميع ; لتعدّد ما عليه اليد .
نعم ، في مسألة تعدّد الضمان بالإضافة إلى مال واحد إشكال من جهة مقام الثبوت مع قطع النظر عن مقام الإثبات ; وهو أنّ المال الواحد كيف يمكن أن يكون مضموناً بضمانات متعدّدة في عرض واحد ; لأنّه كما أنّ وجود مال واحد في الخارج بتمامه عند شخص ، وكذلك بتمامه عند شخص آخر في نفس ذلك الزمان مستحيل ، وإلاّ يلزم أن يكون الواحد اثنين ، كذلك وجوده في عهدة اثنين في عالم الاعتبار بحيث يتحقّق بالأداء تفريغ ما في الذمّة ويرتفع به الضمان كذلك ; لأنّه لا يمكن أن يكون للشيء الواحد أدائين في عرض واحد ، وحيث إنّه غير ممكن ، فلو كان في عهدة شخصين ، وفرضنا أنّ أحدهما أدّاه ، فلا يرتفع الضمان عن عهدة الآخر إلى يوم القيامة ; لأنّ أداءه ثانياً غير ممكن .
وبعد ثبوت الإشكال من جهة مقام الثبوت فلابدّ من التصرف فيما يدلّ عليه في مقام الإثبات ، إمّا بالحمل على الاشتراك في ضمان واحد ; بمعنى أنّ مثل ذلك المال أو قيمته في عهدة الشخصين بالشركة ، فيجب عليهما أداء المثل أو القيمة بهذا النحو ; أي بنحو الشركة . وإمّا بالحمل على الطولية ، والمراد بها كون اللاّحق ضامناً لما يؤدّي السابق ، فالمالك له الرّجوع إلى أيّ واحد من العادين . وإذا رجع إلى بعضهم ، فإن كان هو اللاّحق فليس له الرجوع إلى السابق ; لأنّ السابق ليس ضامناً لللاحق ، وإن كان هو السابق فله الرجوع إلى اللاّحق ; لأنّه ضامن لما يؤدّيه السابق كما هو المفروض .
هذا ، وقد أجاب عن أصل الإشكال المحقّق الخراساني صاحب الكفاية في محكيّ حاشيته على المكاسب للشيخ الأعظم الأنصارى (قدس سرهما) بأنّه يمكن بنحو
الصفحة 148
الواجب الكفائي ; بأن يكون كلّ واحد من الشخصين مكلّفاً بالأداء في ظرف عدم أداء الآخر ، فليس تكليف بأدائين حتّى يكون ممتنعاً ، بل امتثال مثل هذا التكليف لا يقتضى إلاّ أداءً واحداً ، والمقام أيضاً كذلك ، فيكون على كلّ واحد منهما وجوب تدارك المال التالف وأدائه في ظرف عدم تدارك الآخر وأدائه(1) .
ويمكن الإيراد عليه بأنّه إن كان مراده ثبوت حكم تكليفيّ متعلّق بالأداء وتدارك المال التالف بالنسبة إلى شخصين كثبوته في الواجبات الكفائية ، فيرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه ليس المفروض خصوص صورة التلف ، بل صورة بقاء العين أيضاً ، ولا معنى للتدارك مع فرض البقاء ـ : أنّ الكلام في مفاد حديث «على اليد» ، وقد عرفت(2) أنّ مدلوله مجرّد الحكم الوضعي ، وأنّ العين المأخوذة ثابتة على عهدة ذي اليد وذمّة المستولي حتى يتحقّق الأداء الرافع للضمان ، فهو لا يدلّ إلاّ على حكم وضعيّ مغيّى ، ولا دلالة له على الحكم التكليفي بوجه .
وإن كان مراده تنظير المقام بالحكم التكليفي الثابت في الواجبات الكفائيّة ، فيرد عليه وضوح بطلانه ; لأنّ تقييد الوجوب هناك بما إذا لم تتحقّق الموافقة والامتثال من الآخر وإن كان ممكناً ، إلاّ أنّه لا معنى لتقييد الضمان المدلول عليه بالحديث بمثل ذلك ، فالإشكال لا ينحلّ بذلك .
ثمّ إنّ حمل الحديث على الاشتراك مع أنّه مخالف لظاهره جدّاً خلاف ما استقرّ عليه الفتاوى ; من ثبوت تمام المال على من تلف في يده ، وأنّه إذا رجع المالك إلى السابق فهو يرجع بالجميع إلى اللاّحق ، فلا مجال لهذا الحمل أصلا .
وأمّا الحمل على الطوليّة ، فغاية توضيحه أن يقال : إنّ اليد الاُولى ضامنة لنفس المالك ابتداءً بنفس المال المغصوب ; بمعنى أنّ نفس المال بوجوده الاعتباري
(1) حاشية المكاسب للمحقق الخراساني : 83 .
(2) في ص 110 .
الصفحة 149
في عهدة ذيها ، وأمّا اليد الثانية فهي ضامنة للعين المضمونة بما هي مضمونة ، وبعبارة اُخرى : المال الذي صار مغصوباً ووقع تحت اليد العادية يكون في ذمّة الغاصب بما له من الصفات والخصوصيات تكوينية أم اعتباريّة ، ولكن ما يقع تحت اليد الاُولى ليس إلاّ نفس العين بصفاتها التكوينية فقط ; لعدم ثبوت صفة اعتباريّة لها في هذا الحال .
وأمّا اليد الثانية فتقع العين تحتها بما هي مضمونة ، التي هي صفة اعتباريّة ، ففي اليد الثانية تزيد هذه الصّفة ، فكما أنّه لو كان للعين صفة خارجيّة تضمن اليد الواقعة عليها تلك الصّفة الخارجية ، كذلك تضمن الصفة الاعتبارية لها ، لو كانت لها ففي الغصب الثاني تكون ذات العين مع صفة كونها في ذمّة الغاصب الأوّل في ذمّة الغاصب الثاني ، وهكذا الحال لو وقع المال تحت يد ألف غاصب ، فضمان كلّ لاحق في طول ضمان سابقه ; لأنّ ضمان السابق بمنزلة الموضوع لضمان اللاّحق ، فلا يمكن أن يكونا في عرض واحد ، بل لا يمكن أن يكونا في زمان واحد ; لأنّ ضمان اللاّحق متأخّر عن السابق حتى زماناً ، وهو الذي اختاره المحقّق النائيني على ما في تقريراته ، حيث قال :
إنّ ذمّة اللاّحق مشغولة بما يجب خروجه عن ذمّة السّابق ; أي ذمّته مخرج لما يضمنه الأوّل فما يؤدّيه الأوّل يؤخذ من الثاني ; لاشتغال ذمّته للمالك بما له بدل ; أي عهدة في ذمّة الأوّل ، فإذا رجع المالك إليه فهو لا يرجع إلى السابق ; لعدم كونه مغروراً منه بالفرض . وأمّا لو رجع المالك إلى السّابق فهو يرجع إلى الثاني ; لأنّه ضمن شيئاً له بدل في ذمّة السّابق ، والبدل يجب أن يخرج من الثاني ، قال : وهذا هو المراد من البدل في كلام المصنف ; يعني الشيخ الأعظم الأنصاري ـ إلى أن قال : ـ وليس المراد من البدل بدل أصل المال نظير المنافع حتى يقال : إنّ الثاني وإن ضمن
الصفحة 150
ما له بدل ، إلاّ أنّ الأوّل كذلك أيضاً (1) .
والتحقيق أن يقال : إنّ مسألة تعدّد الضمان بالإضافة إلى مال واحد بنحو الاستقلال إن لوحظت بالنّسبة إلى أثره الذي هو جواز رجوع المالك إلى أيّ واحد من السابق واللاّحق ، ويكون مخيّراً في ذلك من الابتداء ، فتصويرها بمكان من الإمكان ; لأنّه لا مانع في عالم الاعتبار من اعتبار ثبوت المال على عهدة شخصين ، والحكم بضمان اليدين ، وقياسه بالوجود الخارجي الذي لا يعقل فيه التعدّد مع فرض الوحدة ممنوع ، بل هو أشبه بالوجود الذهني ، من جهة أنّ زيداً الموجود في الخارج الذي يستحيل عروض التعدّد له بلحاظ هذا الوجود يمكن إيجاده في الذهن مرّة بعد اُخرى ، وكذلك لا مانع من اعتبار العين الشخصية الخارجية المتصفة بالوحدة لا محالة في ذمّة شخصين وعلى عهدة يدين ، ونحن لا نرى وجهاً للاستحالة في عالم الاعتبار بوجه .
ودعوى عدم إمكان تحقّق الغاية وهو الأداء من كليهما ، فإذا فرض أداء واحد منهما يكون الضمان باقياً بالإضافة إلى الآخر ; لاستحالة تحقّق الغاية منه ، مدفوعة بأنّ الغاية هي طبيعة الأداء لا خصوص أداء ذي اليد ، ولذا لو فرض وصول العين إلى المغصوب منه من غير طريق الغاصب يرتفع ضمان الغصب بذلك ، فالغاية هي الطبيعة ، وهي في الصورة المفروضة في الدعوى متحققة ، فأداء أحدهما كما هو رافع لضمانه رافع لضمان الآخر أيضاً وهذا في غاية الوضوح لو فرض كون الغاية مذكورة في الحديث بصورة «حتّى تؤدّي» الظاهر في أنّها عبارة عن أداء العين لا أداء ذي اليد لها ، حيث إنّها حينئذ بصيغة المبني للمفعول والنائب للفاعل هو العين .
نعم ، لو كان المذكور فيه بصورة «حتى تؤدّيه» بصيغة المبني للفاعل والفاعل هو اليد لا يكون فيه هذا الوضوح ، وبالجملة : لا مجال للإشكال من جهة أصل
(1) منية الطالب في شرح المكاسب : 2 / 187 ـ 188 .
الصفحة 151
تعدّد الضمان لا من جهة المغيّى ولا من جهة الغاية أصلا . هذا كلّه بالإضافة إلى جواز رجوع المالك إلى أيّ واحد منهما شاء ، ومنه ينقدح أنّه مع الرجوع إلى واحد منهما واستيفاء حقّه منه لا مجال له للرجوع إلى الآخر ; لارتفاع الضمان رأساً بتحقّق غايته ، فلا يجوز له الرجوع إلى الآخر أصلا .
وأمّا جواز رجوع السابق إلى اللاّحق إذا رجع المالك إلى السابق واستوفى حقّه منه ، والمفروض عدم تحقّق التلف في يده وعدم كونه غارّاً بالنسبة إلى اللاّحق ، فقد عرفت توجيهه من طريق الطولية الراجعة إلى كون الثاني ضامناً للعين بوصف كونها مضمونة التي هي صفة اعتبارية ، ومعنى ضمان الضمان كون اللاّحق ضامناً للخسارة والبدل الذي يعطيه السّابق ويدفعه إلى المالك ، وقد اختاره سيّدنا الاُستاذ الإمام الخميني ـ أدام الله ظلّه الشريف ـ في كتابه في البيع ، حيث قال :
إنّ وصف «كونه مضموناً» أمر قابل لوقوع اليد عليه كسائر الأوصاف تبعاً للعين ، وتصحّ فيه العهدة وكونه على الآخذ ، وعهدة وصف المضمون على الضامن الثاني للضامن الأوّل ، ترجع عرفاً إلى ضمان الخسارة الواقعة عليه من قبل ضمانه ، وليس معنى ذلك أنّ المضمون له هو المالك ، بل المضمون له هو الضامن لما ضمنه للمالك . ثمّ قال : وبالجملة : إطلاق «على اليد . . .» يقتضى شموله لكلّ ما يصدق فيه «أنّها عليه» بوجه ، والمضمون له غير مذكور ومحوّل إلى فهم العرف والعقلاء .
وفي المقام يكون الضامن مضموناً له بالنسبة إلى ضمانه ، ولا يوجب ذلك الضمان رفع ضمان الضامن الأوّل ونقله إلى الضامن الثاني ; لأنّ موضوع ضمان الثاني هو ضمان الأوّل ، ولا يعقل رفع الموضوع بالحكم ، وليس الضمان بالنسبة إلى المالك حتى يقال : معناه النقل أو الأداء عند عدم أداء الأوّل ، بل لازم ضمان الثاني للأوّل
الصفحة 152
ليس إلاّ جبر خسارته ، وغاية هذا الضمان إرجاع المال المضمون إلى الضامن الأوّل ، فإنّه أداء للوصف المأخوذ . قال : ولعلّ كلام الشيخ الأعظم (قدس سره) يرجع إلى ذلك وإن كان بعيداً من ظاهره(1) ، إنتهى موضع الحاجة .
ويرد على الطولية أوّلا : أنّ محذور تعدّد الضمان لمال واحد عرضاً كما هو المفروض في أصل الإشكال يأتي في الطولية أيضاً ، لأنّ زمان الضمان الثاني وإن كان متأخّراً عن زمان الضمان الأوّل ، إلاّ أنّه يجتمع في الزمان الثاني ضمانان لا محالة .
ودعوى تغاير المتعلقين لأنّ ضمان اليد الاُولى متعلّق بنفس العين ، وضمان الثانية متعلّق بضمان العين في ذمّة اليد الأولى وهكذا ، مدفوعة بأنّه إن اُريد بالتغاير مجرّد كون العين مضمونة في اليد الاُولى خالية عن الصفة الاعتبارية وهي المضمونية ، وفي اليد الثانية مشتملة عليها ، فلا محالة قد اجتمع في العين ضمانان وإن كان المضمون في الثاني واجداً لخصوصية زائدة أيضاً ، وإن اُريد بالتغاير اختلاف المضمونين بالمرّة ، كما هو ظاهر تعبير الدعوى ، فيردّه ـ مضافاً إلى منعه ـ أنّ مقتضاه عدم جواز رجوع المالك إلى اللاّحق أصلا ، كما لا يخفى .
وثانياً : منع كون صفة المضمونية صفة اعتبارية داخلة في دائرة الضمان ، بحيث كان مرجع ضمانها إلى لزوم أداء المثل أو القيمة إلى الاُولى مع رجوعه إلى الثانية ، فإنّها ليست من الصّفات الرّاجعة إلى العين ، وبعبارة اُخرى : الضمان إنّما هو حكم ثابت على العهدة ، واضافته إلى العين إنّما هو لمجرّد افتقاره إلى المضمون .
وامّا كون المضمونية صفة داخلة في دائرة الضمان ، كسائر الصفات الدخيلة فيها لكونها مرهونة مثلا ، فممنوع والشاهد ملاحظة العقلاء ، حيث إنّهم لا يفرّقون بين الغاصب الأوّل والغاصب الثاني فيما يرجع إلى غصب العين أصلا ، ولا يرون اختلافاً بينهما من جهة ما هو المضمون والثابت على العهدة بوجه ، فكما أنّ
(1) كتاب البيع للإمام الخميني : 2 / 502 .
الصفحة 153
المضمون في الغصب الأوّل إنّما هي نفس العين بسائر صفاتها ، فكذلك المضمون في الغصب الثاني ، ولا فرق بين المضمونين .
وثالثاً : أنّه لو سلّمنا كون المضمونيّة داخلة في دائرة ضمان العين ، فهل المراد منه كون الغاصب الثاني ضامناً لشخصين : أحدهما : المالك ، وثانيهما : الغاصب الأوّل ، أو المراد منه كونه ضامناً للمالك فقط ، غاية الأمر كون المضمون هي العين مع صفة المضمونيّة ، فعلى الأوّل يكون لازمه جواز رجوع الغاصب الأوّل إلى الثاني وإن لم يرجع المالك إليه بعد أو بالكليّة ; لكون الثاني ضامناً له على ما هو المفروض ، وعلى الثاني لا يبقى مجال لجواز رجوع الأوّل إلى الثاني أصلا ، والتفكيك بين الموصوف والصفة في الضمان قد عرفت أنّ لازمه عدم جواز رجوع المالك إلى الغاصب الثاني ، مع أنّه مخالف لقاعدة «على اليد» الحاكمة بتعدّد الضمان بنحو القضية الحقيقية ، كما لا يخفى .
والعجب تصريحه ـ دام ظلّه ـ بأنّ أداء العين إلى الغاصب الأوّل يوجب رفع الضمان بالكلّية من الغاصب الثاني ، كما لا يخفى .
وهنا وجوه اُخر لهذه الجهة ـ التي هي من مشكلات مسائل الفقه ; لأنّه لا يعرف لها وجه مع كون كلّ واحد من السابق واللاّحق عادياً غير مغرور كما هو المفروض ـ :
منها : ما أفاده صاحب الجواهر (قدس سره) في كتاب الغصب ممّا لفظه : أنّ ذمّة من تلف بيده مشغولة للمالك بالبدل وإن جاز له إلزام غيره باعتبار الغصب بأداء ما اشتغل ذمّته به ، فيملك حينئذ من أدّى بأدائه ما للمالك في ذمّته بالمعاوضة الشرعية القهريّة ، قال : وبذلك اتّضح الفرق بين من تلف المال في يده ، وبين غيره الّذي خطابه بالأداء شرعيّ لا ذمّيّ ، إذ لا دليل على شغل ذمم متعدّدة بمال واحد ،
الصفحة 154
فحينئذ يرجع عليه ولا يرجع هو(1) .
وأورد عليه الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) بقوله : وأنت خبير بأنّه لا وجه للفرق بين خطاب من تلف بيده ، وخطاب غيره بأنّ خطابه ذميّ وخطاب غيره شرعي ; مع كون دلالة «على اليد ما أخذت» بالنسبة إليهما على السّواء ، والمفروض أنه لا خطاب بالنسبة إليهما غيره .
مع أنّه لا يكاد يفهم الفرق بين ما ذكره من الخطاب بالأداء والخطاب الذميّ ، مع أنّه لا يكاد يعرف خلاف من أحد في كون كلّ من ذوي الأيدي مشغول الذمّة بالمال فعلا ما لم يسقط بأداء أحدهم أو إبراء المالك ، نظير الاشتغال بغيره من الديون في إجباره على الدفع أو الدفع عنه من ماله ، وتقديمه على الوصايا والضرب فيه مع الغرماء ، ومصالحة المالك عنه مع آخر ، إلى غير ذلك من أحكام ما في الذّمة .
مع أنّ تملّك غير من تلف المال بيده لما في ذمّة من تلف المال بيده بمجرّد دفع البدل ، لا يعلم له سبب اختياري ولا قهريّ ، بل المتّجه على ما ذكرنا سقوط حقّ المالك عمّن تلف المال في يده بمجرّد أداء غيره ; لعدم تحقّق موضوع التدارك بعد تحقّق التدارك .
مع أنّ اللازم ممّا ذكره أن لا يرجع الغارم فيمن لحقه في اليد العادية إلاّ إلى من تلف في يده ، مع أنّ الظاهر خلافه ; فإنّه يجوز له أن يرجع إلى كلّ واحد ممّن بعده . نعم ، لو كان غير من تلف بيده فهو يرجع إلى أحد لواحقه إلى أن يستقرّ على من تلف في يده(2) .
ومنها : ما أفاده الشيخ الأعظم المتقدّم في ذيل مباحث الفضولي ممّا لفظه : أنّ
(1) جواهر الكلام : 37 / 34 .
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 509 ـ 511 .
الصفحة 155
الوجه في رجوعه هو أنّ السّابق اشتغلت ذمّته له بالبدل قبل اللاّحق ، فإذا حصل المال في يد اللاّحق فقد ضمن شيئاً له بدل ، فهذا الضمان يرجع إلى ضمان واحد من البدل والمبدل على سبيل البدل ; إذ لا يُعقل ضمان المبدل معيّناً من دون البدل ، وإلاّ خرج بدله عن كونه بدلا ، فما يدفعه الثاني فإنّما هو تدارك لما استقرّ تداركه في ذمّة الأوّل ، بخلاف ما يدفعه الأوّل ; فإنّه تدارك نفس العين معيّناً ; إذ لم يحدث له تدارك آخر بعد ، فإن أدّاه إلى المالك سقط تدارك الأوّل له .
ولا يجوز دفعه إلى الأوّل قبل دفع الأوّل إلى المالك ; لأنّه من باب الغرامة والتدارك ، فلا اشتغال للذمّة قبل حصول التدارك ، وليس من قبيل العوض لما في ذمّة الأوّل ، فحال الأوّل مع الثاني كحال الضامن مع المضمون عنه في أنّه لا يستحق الدفع إليه إلاّ بعد الأداء .
والحاصل : أنّ من تلف المال في يده ضامن لأحد الشخصين على البدل من المالك ومن سبقه في اليد ، فيشتغل ذمّته إمّا بتدارك العين ، وإمّا بتدارك ما تُداركها ، وهذا اشتغال شخص واحد بشيئين لشخصين على البدل ، كما كان في الأيدي المتعاقبة اشتغال ذمّة أشخاص على البدل بشيء واحد لشخص واحد(1) .
واستشكل عليه السيّد الطباطبائي في حاشية المكاسب :
أوّلا : بأنّ كون العين حين ضمان اللاّحق لها متصفة بكونها ذات بدل لا يوجب ضمانه للبدل أيضاً ، فإنّ سبب الضمان لم يتحقّق بالنسبة إلى البدل الذي هو في ذمّة السابق ; إذ لم يثبت البدل في يد اللاّحق كما ثبت نفس العين . ودعوى كونه من توابع العين كما ترى ; إذ ليس هذا من شؤون العين كالمنافع والنماءات حتى يكتفى بقبض نفس العين في قبضه .
(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 508 ـ 509 .
الصفحة 156
وثانياً : بأنّا لو سلّمنا ذلك كان مقتضاه ضمان البدل أيضاً لمالك العين لا للسّابق ; فإنّ البدل الذي في ذمّة السابق ملك لمالك العين ، فمقتضى الضمان هو أن يكون بدل البدل أيضاً للمالك ، ولا وجه لكونه لمن عليه البدل .
وثالثاً : بأنّه لو فرض أنّ العين بعد ما صارت في يد اللاّحق رجعت إلى السابق ثانياً وتلفت في يده ، كان مقتضى ما ذكره هو جواز رجوع السابق إلى اللاّحق ، مع أنّ العين قد تلفت في يده ; وذلك لأنّه يصدق على اللاّحق أنّه ضمن شيئاً له بدل ، فكان مقتضى ما ذكره هو ضمانه ، إمّا للمالك بنفس العين أو للسابق ببدلها ، مع أنّ المسلّم خلاف ذلك ; فإنّ تلف العين قد كان بيد السابق ، فكيف يجوز له الرجوع إلى اللاّحق ، إلى آخر ما ذكره من الايرادات السّبعة(1) .
ولكن عمدة ما يرد على الشيخ (قدس سره) بملاحظة ما ذكرنا في معنى «على اليد» أنّ ما على اليد وعلى عهدتها هي نفس العين في جميع الحالات وبالإضافة إلى جميع الأيادي المتعاقبة ، من دون فرق بين حال البقاء وبين حال التلف ، وكذا بين اليد السابقة واليد اللاحقة ، والانتقال إلى البدل إنّما هو في مرحلة الأداء الذي له مراتب ، فالثابت على اليد بمقتضى حديثه هي نفس العين مطلقاً ، وعليه : فالتفكيك بين ضمان السابق وبين ضمان اللاّحق لا وجه له ، مع أنّ نسبة الحديث إليهما على السّواء ، كما اعترف به في الإيراد على صاحب الجواهر (قدس سره) .
وإن كان نظره (قدس سره) إلى الطولية التي عرفتها ، فقد مرّ الجواب عنها أيضاً ، فراجع(2) .
ومنها : ما أفاده المحقّق الخراساني (قدس سره) في حاشيته على المكاسب ممّا لفظه : وأمّا حديث جواز رجوع اليد السّابقة إلى اللاّحقة لو رجع إليها المالك ، المستلزم لكون
(1) حاشية المكاسب للسيد اليزدي : 2 / 311 ـ 312 .
(2) في ص 152 ـ 153 .
الصفحة 157
قرار ضمان التالف على من تلف عنده ، مع المساوات فيما هو سبب الضمان ، فهو أيضاً من آثار حدوث سبب ضمان ما كان في ضمان الآخر لواحد آخر ، وأحكامه عند العرف ، ويؤيّده الاعتبار ، ولم يردع عنه في الأخبار ، فلابدّ من الالتزام به شرعاً ، كما هو الحال في جلّ أحكام الضّمان ، حيث إنّه لا وجه له إلاّ الثبوت عرفاً ، وعدم الردع عنه شرعاً ، وكشف ذلك عن إمضاء الشارع فيما إذا اُطلق دليل الضمان ، فتدبّر جيّداً»(1) .
وعبارته وإن كانت ظاهرة في الطولية ، إلاّ أنّ هذه الطولية غير الطوليّة المتقدّمة التي منعناها ، فإنّ هذه الطولية مرجعها إلى السبق واللحوق فقط ، لا إلى كون المضمونيّة للأوّل داخلة في دائرة ضمان الثاني ، كما لا يخفى .
ومنها : ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره) في مباحث كتاب الغصب على ما قرّره بعض الأعاظم من تلامذته ; فإنّه بعد أن ذكر أنّ مفاد «على اليد» الضمان والتعهّد الذي يعبّر عنه بالفارسيّة بـ «عهده دارى» وليس مفاده اشتغال الذمّة بشيء ; فإنّ الضمان اعتبار من اعتبارات العقلاء يعتبرونه للعين حتى في حال وجودها ، قال :
يمكن أن يكون الوجه في المسألة ـ أي مسألة جواز رجوع السابق إلى اللاّحق ـ أنّ السابق وإن حكم عليه بالضمان من جهة صدور الغصب منه ، ولكن كان متمكّناً حين وجود العين من الخروج عن العهدة بأداء العين إلى مالكه ، من دون أن يصير متضرّراً بسبب ذلك ، وبعد أن أخذها منه اليد اللاّحقة لزمه المثل أو القيمة ، فصارت هي الباعثة لتضرّره ، فيستحق بذلك الرجوع عليها .
وبعبارة اُخرى : العين المغصوبة وإن لم تكن ملكاً لليد السّابقة ، ولكنّها كانت بحيث يستحقّ أن يستخلص من الضمان بسبب أدائها ، فكأنّ العين كانت متعلّقة
(1) حاشية المكاسب للمحقق الخراساني : 83 .
الصفحة 158
لحقّ السابق ، وحديث «على اليد . . .» كما يدلّ على ضمان العين ، كذلك يدلّ على ضمانها لمن كان هذه متعلّقة لحقّه ، نظير العين المرهونة إذا غصبها غاصب ، فإنّه يضمن للراهن نفس العين وللمرتهن متعلّق حقّه .
وبالجملة : فلو كانت العقلاء يحكمون باستحقاق السابق للرجوع إلى اللاّحق ، فلعلّه كانت من جهة أنّهم يرون للسابق حقّاً متعلقاً بالعين ، وهو عبارة عن استحقاقه لأن يخرج نفسه من الضمان بسبب هذه العين ، من دون أن يرد عليه ضرر ، والضرر المتوجّه عليه من المثل أو القيمة إنّما هو من جهة غصب اللاّحق ، فيرجع عليه بذلك . قال : ولعلّ هذا مراد الشيخ (قدس سره) من عبارته المتقدّمة أيضاً ذلك(1) .
ويرد عليه أوّلا : عدم جريانه في جميع فروض المسألة ; لأنّ من جملتها ما إذا كان وقوع العين في يد اللاّحق بأذن من السّابق ، مع الإعلام بكونه غصباً مأخوذاً عدواناً وعلى سبيل غير مشروع ; فإنّه لا يكون الضرر المتوجّه عليه في هذه الصّورة إلاّ من قبل نفسه ; لأنّ وقوعه في يد اللاّحق كان بإذن منه .
وثانياً : عدم كون الغصب موجباً لتعلّق حق الغاصب بالعين المغصوبة ، وكون أدائها الواجب موجباً لسقوط ضمانه لا يستلزم تعلّق حقّ بها أصلا ، والتنظير بالعين المرهونة إذا غصبها غاصب في غير محلّه .
ومنها : ما أفاده بعض الأعلام على ما في تقريراته في البيع ; من أنّ الغاصب الأوّل يملك بأدائه التالف المعدوم كملك المعدوم في باب الخيارات ، فكما أنّ في موارد الإتلاف إذا غصب مثلا أحد مال الغير فأتلفه لا شبهة أنّ للمالك أن يرجع إلى المتلف إذا أراد ويأخذ منه بدل ماله ، وما بقي من ماله من الرضاض والكسور فهو للضامن ، وليس للمالك أن يدّعي كون الرضاض له ، وإلاّ يلزم الجمع بين
(1) اُنظر كتاب الغصب للمحقّق البروجردي : 151 ـ 154 .
الصفحة 159
العوض ، والمعوّض ، كما أ نّه لو كان للأجنبي فهو خلاف البداهة ، فيكون للضامن ، فكذلك في المقام يكون التالف للغاصب الأوّل بالمعاوضة القهرية ، ونتيجتها جواز الرجوع ببدله إلى من تلف في يده .
نعم ، قد يكون اعتبار الملكية لغواً ، كما إذا كان الغاصب واحداً فتلف عنده المال فأخذ المالك منه ، فاعتبار ملكية التالف هنا لغو ، وليس التلف بمجرّده مانعاً عن اعتبار الملكية في المقام ; لما عرفت نظيره في باب الخيارات ، وبالجملة : رجوع السابق إلى اللاّحق ، إنّما هو مقتضى السّيرة العقلائية القطعيّة كما هو واضح(1) .
وأنت خبير بأنّه إن كان مراده الإتكاء على نفس السيرة العقلائية فهو يرجع إلى كلام المحقّق الخراساني (قدس سره) ; من كون رجوع السابق إلى اللاّحق من الآثار العقلائية للضمان ، والأحكام العرفية الثابتة له(2) . وإن كان مراده توجيه السّيرة وبيان الوجه لها كما هو ظاهر صدر العبارة ، فيمكن المناقشة في ذلك بعدم كون اعتبار المعدوم ملكاً ممّا يساعده العقلاء مطلقاً ، والمراد بملك المعدوم في باب الخيار إن كان هو : أنّ التلف في زمن الخيار ممّن لا خيار له ، فلا مجال له ; لما قد اشتهر في وجهه من أنّه تنفسخ المعاملة آنّاً ما قبل التلف وتدخل العين في ملك من لا خيار له ، ثمّ يقع التلف في ملكه لوجود الدليل عليه .
وإن كان المراد هو التلف في يد من ليس له الخيار ، كما إذا كان تلف المبيع في يد المشتري في زمن خيار البائع ، فإنّه بعد ما فسخ البائع ينتقل المبيع التالف إلى ملكه بمقتضى الفسخ ، فيرجع إلى بدله من المثل أو القيمة لتعذّر ردّ عينه ، فالأمر وإن كان كذلك من جهة الرجوع إلى البدل ، إلاّ أنّه لم يعلم كون وجهه اعتبار التالف ملكاً للبائع الفاسخ ، بل من أحكام الفسخ عند العقلاء والشارع أنّه إذا كان الفسخ مع
(1) مصباح الفقاهة : 4 / 383 ـ 384 .
(2) حاشية المكاسب للمحقق الخراساني : 83 .
الصفحة 160
بقاء العين تنتقل العين إلى الفاسخ ، وإذا كان مع تلفه ينتقل بدله إليه ، فتدبّر جيّداً .
ومنها : ما اختاره المحقّق العراقي (قدس سره) في رسالة عثرت عليها بعد نقل الوجوه المتقدّمة ; وهي رسالة في تعاقب الأيدي ، وقد ألّفها في أواخر عمره الشريف ; وهي مطبوعة في ذيل شرحه لكتاب القضاء لشيخه اُستاذ الكلّ المحقّق الخراساني (قدس سره) وملخّصه :
أنّ الظاهر من العامّ أنّ ما على اليد عين ما أخذت لا إضافته بالجملة ، فلا قصور في اعتبار تعدّد وجود ما أخذت حسب تعدّد الأيدي بلحاظ تعدّد الأبدال القائمة عليها ، وبملاحظة أنّ وجود البدل نحو وجود للمبدل ، وهذه الجهة هي مصحّح العنايتين في وجودات العين على حسب تعدّد الأيدي .
وعليه : فمرجع «على اليد» في اليد الأولى إلى كون ما هو تحت يده واستيلائه باخذه على يده ، فكأنّه قال : إنّ ما هو تحت يده على يده ، ولازمه اعتبار وجود آخر لما تحت يده بجعله فوقها ، ولازمه اعمال عناية في اعتبار العين فوق اليد وعليها .
وحينئذ يبقى الكلام في أنّ محلّ إعمال العناية تارة نفس وجود العين ، ويقال : إنّ الوجود بالعناية على اليد حقيقة بمعنى إبقاء مدلول «على» والاستعلاء على حقيقته بلا تصرّف فيه ، و اُخرى محلّ إعمال العناية هو مدلول «على» ، وأنّ الوجود الحقيقي للعين الذي هو تحت اليد كان على اليد بلا تصرّف في وجود العين أبداً ، ويترتّب على كلّ واحد من العنايتين نتائج متعدّدة .
منها : أنّه على العناية الاُولى كان الوجود الاعتباري للعين قبل أداء الضامن إيّاه ملك الضامن حقيقة ; إذ هو حينئذ عين بدله الذي هو قبل أدائه ملك الضامن ، غاية الأمر عناية كونه عين ما أخذت موجب لاستحقاق مطالبة المالك أيّاه ، وهذا بخلاف العناية الثانية ; إذ وجود العين بالحقيقة في أيّ مكان كان هو ملك المالك ،
|