(الصفحة 521)
ا لمسح على ا لرجلين بأيّهما يبدأ با ليمين أو يمسح عليهما جميعاً معاً ؟
فأجاب (عليه السلام) : «يمسح عليهما جميعاً معاً ، فإن بدأ بإحداهما قبل ا لاُخرى فلايبدأ إلاّ با ليمين»(1) .
ومنها : روايـة ا لحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قا ل : «إذا نسي ا لرجل أن يغسل يمينـه ، فغسل شما لـه ومسح رأسـه ورجليـه ، فذكر بعد ذلك غسل يمينـه وشما لـه ومسح رأسـه ورجليـه ، وإن كان إنّما نسى شما لـه فلْيغسل ا لشما ل ، ولايعيد على ما كان توضّأ . وقا ل : أتبع وضوءك بعضـه بعضاً»(2) .
فإنّ ذيلها يستفاد منـه حكم كلّي با لنسبـة إ لى جميع أجزاء ا لوضوء وإن كان موردها غسل ا ليدين .
وبا لجملـة : فا لظاهر أ نّـه لا مجا ل للإشكا ل في دلالـة هذه ا لروايات على اعتبار ا لترتيب ; وعدم جواز تقديم ا ليسرى على ا ليمنى .
نعم مقتضى إطلاق أكثرها تعيّن تقديم ا ليمنى على ا ليسرى ، ولكنّـه مقيّد بما إذا أراد ا لبدأة بإحداهما على ما يقتضيـه ا لتوقيع ا لمتقدّم .
وحينئذ فرفع ا ليد عن إطلاق ا لآيـة ا لشريفـة بسبب هذه ا لروايات ـ ا لتي بعضها صريح في وجوب ا لترتيب ، كصحيحة محمّد بن مسلم(3) ـ ممّا لاإشكا ل فيه .
ودعوى ا لشهرة على خلافـه(4) ممّا لاتسمع ، خصوصاً بعد دعوى
1 ـ ا لاحتجاج 2 : 589 ـ 590 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 450 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب 34 ، ا لحديث 5 . 2 ـ ا لكافي 3 : 34 / 4 ، تهذيب ا لأحكام 1 : 99 / 259 ، الاستبصار 1 : 74 / 228 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 452 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب 35 ، ا لحديث 9 . 3 ـ تقدّم في ا لصفحـة 519 . 4 ـ اُنظر جواهر ا لكلام 2 : 229 .
(الصفحة 522)
ا لشيخ (قدس سره) في «ا لخلاف» ا لإجماع على وجوب ا لترتيب بين أعضاء ا لوضوء كلها(1) ، فالأقوى وا لأحوط مراعاة ا لترتيب ، فتدبّر .
حول كفاية مسح الرجلين بيد واحدة
ثمّ إنّـه هل يجب أن يكون مسح ا لرجلين بكلتا ا ليدين ; بأن يمسح كلّ واحدة منهما بغير ما يمسح بـه ا لاُخرى ، أو يكفي مسحهما بيد واحدة ؟
وعلى ا لتقدير ا لأوّل هل يعتبر أن يكون مسح ا لرّجْل ا ليمنى با ليد ا ليمنى وا لرّجل ا ليسرى با ليد ا ليسرى ، أو يكفي ا لعكس أيضاً ؟ وجوه :
مقتضى إطلاق ا لآيـة ا لشريفـة ـ بعد تقييدها بلزوم كون ا لمسح ببلّـة ا لوضوء ، وكون ا لآلـة هي ا ليد ، كما عرفت(2) ـ هو كفايـة ا لمسح با ليد مطلقاً ; بلا اعتبار قيد آخر ، فيجوز مسحهما بيد واحدة ، وليس هنا ما يمكن أن يستفاد منـه ا لتقييد إلاّ صحيحـة زرارة ا لمتقدّمـة(3) ، ا لواردة في حكايـة أبي جعفر وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفيها : «ومسح مقدّم رأسـه وظهر قدميـه ببلّـة يساره وبقيّـة بلّـة يمناه» . وفيها أيضاً أ نّـه قا ل أبو جعفر (عليه السلام) : «إنّ الله وِتْر يُحبّ ا لوِتْر ، فقد يُجزيك من ا لوضوء ثلاث غُرفات : واحدة للوجـه ، واثنتان للذراعين ، وتمسح ببلّـة يُمناك ناصيتك ، وما بقي من بلّـة يمينك ظَهْر قدمك ا ليمنى ، وتمسح ببلّـة يسارك ظَهْر قدمك ا ليسرى» ا لحديث .
ودلالـة قولـه : «ومسح مقدّم رأسـه . . .» إ لى آخره على ا لمطلوب ممنوعـة ; لأ نّـه ـ مضافاً إ لى أنّ غايـة مدلولـه : أ نّـه (عليه السلام) مسح رجليـه بكلتا
1 ـ ا لخلاف 1 : 95 ـ 96 ، ا لمسألـة 42 . 2 ـ تقدّم في ا لصفحـة 471 . 3 ـ تقدّم في ا لصفحـة 453 ،464 ، 473 ، 478 ، 497 .
(الصفحة 523)
يديـه ، ولا دلالـة فيـه على أ نّـه مسح ا لرّجل ا ليمنى با ليد ا ليمنى وا ليسرى با ليسرى ـ أ نّـه مسوق لبيان كفايـة ا لبِلّـة في مقابل ا لقول باعتبار ا لماء ا لجديد ، كما هو ظاهر .
وأ مّا قول أبي جعفر (عليه السلام) فدلالتـه على ا لتقييد مبنيّـة على أن يكون قولـه : «وتمسح ببلّـة يُمناك . . .» إ لى آخره جملـة مستقلّـة غير مرتبطـة بسابقها ، وأ مّا لو كان منصوباً معطوفاً على فاعل «يجزيك» ; بحيث كان متفرّعاً على كفايـة ثلاث غُرفات ـ كما أنّ دعواه غير بعيدة ـ فلا دلالـة على ا لمقام ; لأنّ مفاده ـ حينئذ ـ مجرّد كفايـة ثلاث غرفات وا لمسح با لبلّـة وعدم لزوم ا لماء ا لجديد ، ولا نظر لـه إ لى آلـة ا لمسح .
وعلى ا لأوّل أيضاً يمكن منع جواز تقييد ا لآيـة بـه ; لأنّ اعتبار ا ليُمنى في مسح ا لرأس ـ مضافاً إ لى ظهوره في وجوب مسح ا لناصيـة بأجمعها ـ ربما يُوهن ا لتمسّك بـه في مسح ا لرّجل أيضاً .
وبا لجملـة:فرفع ا ليد عن إطلاق ا لآيـة بسبب هذه ا لروايـة في غايـة ا لإشكا ل ، فا لظاهر ـ حينئذ ـ هو ا لوجـه ا لأخير وإن كان ا لأحوط هو ا لأوّل .
التنبيه الرابع: حكم من قطع بعض مواضع مسحه
إذا قُطع بعض موضع ا لمسح يجب عليـه ا لمسح على ما بقي ، وا لوجـه فيـه ما عرفت : من أنّ ا لتحديد في ا لآيـة إنّما وقع من طرف ا لكعب فقط ، لا من ا لطرفين(1) ، فإذا قطع بعض موضع ا لمسح فا لقدرة على مسح ا لرّجل إ لى ا لكعب ـ ا لمأمور بـه في ا لآيـة ا لشريفـة ـ باقيـة بعد ، فيجب عليـه مسح ا لمقدار ا لباقي .
1 ـ تقدّم في ا لصفحـة 503 .
(الصفحة 524)
التنبيه الخامس: في حكم مقطوع الرِّجل من الكعب
لو قطع من ا لكعب : فتارة يكون من ابتدائـه ، واُخرى من فوقـه .
ففي ا لأوّل : إن قلنا بدخولـه في ا لمحدود ووجوب مسحـه أيضاً ، فحكمـه حكم ما لو قطع ممّا دون ا لكعب بلا إشكا ل ، وإن قلنا بخروجـه عنـه وعدم وجوب مسحـه فحكمـه حكم ا لفرض ا لآتي .
وفي ا لثاني مقتضى ا لقواعد سقوط ا لوضوء وانتقا ل ا لفرض إ لى ا لتيمّم ، وليس ا لمقام من قبيل أقطع ا ليد ا لذي حكمنا فيـه سابقاً بسقوط غسل ا ليد با لنسبـة إ ليـه(1) ; لأ نّـه هنا يكون قادراً على ا لتيمّم ا لكامل ، بخلاف أقطع ا ليد ا لذي دار أمره بين ا لوضوء ا لناقص وا لتيمّم كذلك ، كما هو غير خفيّ ، وروايـة رفاعـة ا لمتقدّمـة ـ ا لواردة في أقطع ا ليد وا لرّجل(2) ـ ظاهرها ما إذا بقي من موضع ا لغسل وا لمسح شيء ، ولذا سُئل فيها عن حكم موضع ا لقطع ، وقد تقدّم .
وتوهّم : أنّ ا لعجز عن امتثا ل ا لأمر بمسح ا لأرجل لايوجب سقوط ا لأمر بغسل ا لوجـه وا ليدين ومسح ا لرأس لأنّ هنا أوامر متعدّدة(3) .
مدفوع : بمنع ذلك ; وأنّ هذه ا لأوامر مسوقـة لبيان كيفيّـة ا لوضوء ، ولايكون كلّ واحد منها أمراً مستقلاّ ، مضافاً إ لى أنّ لازم ذلك ا لاكتفاء بغسل ا لوجـه فقط فيما إذا لم يقدر إلاّ عليـه ، مع أ نّـه لايلتزم بـه أحد ، وا لتمسّك بقاعدة ا لميسور قد عرفت ما فيـه(4) .
1 ـ تقدّم في ا لصفحـة 438 . 2 ـ تقدّم في ا لصفحـة 433 . 3 ـ اُنظر مستند ا لشيعـة 2 : 143 . 4 ـ تقدّم في ا لصفحـة 302 .
(الصفحة 525)
وبا لجملـة:فا لقاعدة تقتضي سقوط ا لوضوء بعد ا لعجز عنـه ، وانتقا ل ا لفرض إ لى ا لتيمّم ، إلاّ أنّ ا لظاهر أ نّـه لا خلاف في وجوب ا لوضوء ، وقد حُكي عن جماعـة نقل ا لإجماع عليـه(1) ، وا لأحوط ا لجمع بينهما .
التنبيه السادس: في وجوب المسح على البشرة
إنّ ا لواجب هو ا لمسح على بشرة ا لقدم ، ولايجوز على حائل من خُفّ أو غيره إلاّ في مورد ا لتقيّـة أو ا لضرورة ; لما عرفت ـ فيما تقدّم ـ من أنّ ا لأرجل حيث لاتكون بحسب ا لنوع ذات شعر كثير كا لوجـه وا لرأس ، فا لمتبادر عند ا لعرف من وجوب ا لمسح عليها ، هو ا لمسح على نفس ا لبشرة ، بخلافهما(2) ، وحينئذ فلو فرض كون ا لشعر بحيث يمنع عن وصول ا لماء إ ليها ، فلابدّ من إزا لتـه أو ا لمسح على ا لموضع ا لخا لي منـه .
ولكن مقتضى عموم صحيحـة زرارة ا لمتقدّمـة كفايـة ا لمسح عليـه ; حيث قا ل : قلت لـه : أرأيت ما كان تحت ا لشعر ؟ قا ل : «كلّ ما أحاط بـه ا لشعر فليس للعباد أن يغسلوه ، ولايبحثوا عنـه ، ولكن يجري عليـه ا لماء»(3) .
وقد عرفت ـ فيما سبق ـ أنّ ا لعدول في ا لجواب عن خصوص ا لمورد ، وا لتعبير بكلمـة «كلّ» ، دليل على عدم اختصاص ا لحكم ا لمذكور في ا لجواب بـه وشمولـه لجميع مواضع ا لوضوء(4) ، فا لروايـة بعمومها تدلّ على عدم وجوب
1 ـ جواهر ا لكلام 2 : 230 . 2 ـ تقدّم في ا لصفحـة 491 . 3 ـ تهذيب ا لأحكام 1 : 364 / 1106 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 476 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب 46 ، ا لحديث 2 . 4 ـ تقدّم في ا لصفحـة 22 .
(الصفحة 526)
ا لبحث عمّا أحاط بـه ا لشعر وكفايـة غسل ا لظاهر أو مسحـه . هذا في ا لشعر .
وأ مّا في غير ا لشعر ممّا يكون حائلاً كا لخُفّ أو غيره ، فلا إشكا ل في عدم جواز ا لمسح عليـه ، ولايختصّ ذلك بالأرجل ; لوضوح أ نّـه لايجوز ا لمسح على ا لحائل في ا لرأس أيضاً ، وما ورد من جواز ا لمسح على ا لحِنّاء(1) متروك أو مؤوّل .
في جواز المسح على النعلين
وكيف كان ، فقد ورد في ا لأخبار : جواز ا لمسح على ا لنعلين ; وعدم وجوب استبطان ا لشراكين وإدخا ل ا لأصابع تحتهما(2) .
ولكن وقع ا لكلام في أنّ ا لمسح على ا لشراك ، هل يقوم مقام ا لمسح على ا لمقدار ا لمستور بـه ، أو أ نّـه يكفي لمثل هذا ا لشخص ا لمسح إ لى حدّ ا لشراك ، ولايجب عليـه أزيد من ذلك ا لمقدار ; لا على ا لبشرة ، ولا على ا لشراك ، أو أنّ عدم وجوب ا لاستبطان ، إنّما هولكون معقد ا لشراك خارجاً عن موضع ا لمسح ، فلايكون ذلك مستثنىً من ا لحائل ا لذي لايجوز ا لمسح عليـه ؟ وجوه ، أجودها ا لأخير ; لما عرفت : من أنّ ا لكعب هي قبّـة ا لقدم ، وأنّ ا لظاهر خروجـه عن ا لمسافـة ا لتي يجب مسحها ، وا لمعلوم أنّ معقد ا لشراك خارج عن موضع ا لمسح ، فكما لايجب ا لاستبطان لايجب ا لمسح على ا لشراك أيضاً . هذا هو مقتضى ا لقاعدة .
وأ مّا ا لروايات ا لواردة في هذا ا لمقام :
فمنها : صحيحـة ا لأخوين ا لمتقدّمـة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، أ نّـه قا ل في
1 ـ تهذيب ا لأحكام 1 : 359 / 1079 و 1081 ، الاستبصار 1 : 75 / 232 و 233 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 455 ـ 456 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب 37 ، ا لحديث 3 و 4 . 2 ـ ا لفقيـه 1 : 27 / 86 ، تهذيب ا لأحكام 1 : 64 / 182 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 414 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب 23 ، ا لحديث 4 ، و 460 ، ا لباب 38 ، ا لحديث 11 .
(الصفحة 527)
ا لمسح : «تمسح على ا لنعلين ، ولاتدخل يدك تحت ا لشِّراك ، وإذا مسحت بشيء من رأسك ، أو بشيء من قدميك ما بين كعبيك إ لى أطراف أصابعك ـ ا لأصابع ـ فقد أجزأك»(1) .
وا لمراد با لمسح على ا لنعلين ليس ا لمسح على ا لشراك ، وإلاّ لكان ذلك منافياً للذيل ا لمسوق لبيان حدّ ا لمسح في ا لقدمين ; وأ نّـه ما بين ا لكعبين إ لى أطراف ا لأصابع ; لما عرفت من أنّ ا لكعب هي قبّـة ا لقدم(2) ، وما بينـه وبين ا لأصابع ا لذي هو حدّ ا لمسح ليس معقد ا لشراك ، فوجوب ا لمسح عليـه يُنافي ا لتحديد بذلك ا لمقدار ، كما هو واضح .
ونظيرها روايـة زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قا ل : «توضّأ عليٌّ ; فغسل وجهـه وذراعيـه ، ثمّ مسح على رأسـه وعلى نعليـه ، ولم يدخل يده تحت ا لشِّراك»(3) .
ومنها : صحيحـة اُخرى للأخوين أيضاً طويلـة ، وفيها : أ نّـه ـ يعني أبا جعفر (عليه السلام) ـ قا ل : «ولايدخل أصابعـه تحت ا لشِّراك» . ثمّ قا ل : «إنّ الله تعا لى يقول : (يَا أَيُّهَا ا لَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إ لى ا لصَّلاةِ . . .)» إ لى آخر ا لآيـة . ثمّ قا ل :«فإذا مسح بشيء من رأسـه ، أو بشيء من قدميـه بين ا لكعبين إ لى أطراف ا لأصابع ، فقد أجزأه»(4) .
1 ـ تهذيب ا لأحكام 1 : 90 / 237 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 414 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب 23 ، ا لحديث 4 . 2 ـ تقدّم في ا لصفحـة 508 . 3 ـ ا لكافي 3 : 31 / 11 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 414 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب23 ، ا لحديث 3 . 4 ـ ا لكافي 3 : 25 / 5 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 388 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب 15 ، ا لحديث 3 .
(الصفحة 528)
فإنّ ظاهرها وجوب مسح ذلك ا لمقدار من نفس ا لقدم ، فيصير قرينـة على أنّ ا لمراد با لمسح على ا لنعلين ـ في ا لخبرين ا لمتقدّمين ـ ليس ا لمسح على ا لشراك ، بل ا لمراد ا لمسح في حا ل كونـه من ا لنعلين .
ويمكن أن يقا ل باتّحاد ا لروايـة ا لاُولى مع هذه ا لروايـة ، ا لخا ليـة عن ا لمسح على ا لنعلين ، وكون إحداهما منقولـة با لمعنى ، وحينئذ فينحصر ما يدلّ على ذلك با لروايـة ا لثانيـة ، وهي غير نقيّـة ا لسند(1) ، فا لظاهر عدم وجوب ا لمسح على ظاهر ا لشراك ، وكون معقده خارجاً عن ا لمسافـة .
نعم لو فُسّر ا لكعب با لمفصل ، أو قيل بدخولـه في ا لمسافـة ، لكان للإشكا ل مجا ل ، ولكنّـه خلاف ا لتحقيق ، كما عرفت(2) .
1 ـ رواها ا لكليني ، عن ا لحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن ا لوشاء ، عن أبان بن زرارة . وا لروايـة غير نقيـة ا لسند بمعلّى بن محمّد ا لذي قا ل ا لنجاشي فيـه : إنّـه مضطرب ا لحديث وا لمذهب وكتبـه قريبـة . راجع رجا ل ا لنجاشي : 418 / 1117 ، رجا ل ا لعلاّمـة الحلّي : 259 / 2 ، ا لوجيزة ، ا لمجلسي : 324 ، تنقيح ا لمقا ل 3 : 233 / 1202 . 2 ـ تقدّم في ا لصفحـة 515 ، 517 .
(الصفحة 529)
التقيّة وحكمها
وحيث جرى في ا لكلام ذكر ا لتقيـة ، واستثناء صورتها من عدم جواز ا لمسح على ا لحائل ، فلابأس ببيان موضوعها وحكمها بنحو ا لإطلاق ; وتفصيل ا لقول في هذا ا لمقام لكثرة ا لفوائد وا لآثار ا لمترتّبـة عليها ، فنقول :
انقسامات التقيّة
ا لتقيّـة لها إضافـة إ لى فاعلها ا لمسمّى با لمتّقي ، وإضافـة إ لى ا لشخص ا لذي يُتّقى عنـه ، وإضافـة إ لى ا لشيء ا لذي يُتّقى فيـه ، وتنقسم بملاحظـة ا لإضافات ا لثلاثـة إ لى تقسيمات :
أمّا بملاحظـة فاعلها ا لمسمّى با لمتّقي ، فتنقسم إ لى أنّ ا لمتّقي : قد يكون نبيّاً ، وقد يكون وصي نبي ، وقد يكون غيرهما من ا لرعيّـة .
ولايترتّب على بيان حكم هذه ا لأقسام ـ من حيث جواز ا لتقيّـة على ا لنبيّ وعدمـه وكذا على ا لإمام كثير فائدة .
وأمّا بملاحظـة من يُتّقى عنـه : فتارة يكون ذلك ا لشخص من ا لكفّار ، واُخرى من ا لفرق ا لمنتحلين للإسلام ، وثا لثـة من ا لمسلمين .
وعلى ا لتقدير ا لثا لث : قد يكون سلطاناً ، وقد يكون مرجعاً للفتوى ، وقد
(الصفحة 530)
يكون من ا لعوامّ ومن ا لرعيّـة .
وا لفرض ا لأوّل وا لأخير من هذه ا لفروض ا لثلاثـة يجري فيما لو كان شيعيّاً إماميّاً ، فإنّـه قد يتّفق أن يرى ا لسلطان ا لإمامي ا لمصلحـة في اتّفاق ا لاُمّـة ; وا لأخذ بفتاوى مراجع أهل ا لتسنّن ، فتتحقّق ا لتقيّـة عنـه ـ حينئذ ـ في فعل أو ترك أو خصوصيّـة عمل مثلاً ، كما أنّ ا لتقيّـة ربما تتحقّق با لنسبـة إ لى عوامّ ا لشيعـة ، ا لمعتقدين لما هو خلاف ا لحقّ وفتاوي مراجعهم ، ومن هنا يعرف أنّ ا لتقيّـة عن عوامّ ا لعامّـة وإظهار موافقتهم ، قد يكون فيما أخذوه من مراجعهم ، وقد يكون فيما يعتقدونـه ولو كان مخا لفاً لفتاوي مراجعهم .
وأمّا بملاحظـة ا لشيء ا لذي يُتّقى فيـه : فتارة يكون في ا لدماء ، واُخرى في غيرها من ا لاُمور ا لكثيرة وا لأشياء غير ا لعديدة .
ثمّ إنّ ا لتقيّـة قد تشتمل على ا لخوف ، وقد لاتكون كذلك ، بل ا لمقصود بها مجرّد ا لمداراة مع من يُتّقى عنـه . وعلى ا لأوّل : قد يكون ا لخوف عن ا لضرر على نفسـه أو من يتعلّق بـه ، وقد يكون عن ا لضرر على غيره من ا لمسلمين ، وقد يكون عن ا لضرر على ا لإسلام .
في حدود جريان التقيّة
إذا عرفت ذلك فنقول : هل ا لتقيّـة تجري في جميع ا لأشياء أو لا ؟
قد يقا ل با لعموم فيما لو كانت ا لتقيّـة لخوف ا لضرر ; نظراً إ لى ا لأدلّـة ا لعامّـة ا لجاريـة في ا لمقام(1) وفي غيره ، مثل حديث نفي ا لضرر(2) ، ودليل نفي
1 ـ وسائل ا لشيعـة 16 : 349 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، أبواب فعل ا لمعروف ، ا لباب 24 ، و : 357 ، ا لباب 25 ، ا لحديث 2 . 2 ـ وسائل ا لشيعـة 18 : 32 ، كتاب ا لتجارة ، أبواب ا لخيار ، ا لباب 17 ، ا لحديث 3 و 4 و 5 ، و 25 : 399 ، كتاب ا لشفعـة ، ا لباب 5 ، ا لحديث1 ، و : 427 ، كتاب إحياء ا لموات ، ا لباب 12 ، ا لحديث 1 و 3 و 4 و 5 .
(الصفحة 531)
ا لحرج(1) ، وحديث ا لرفع ا لمشتمل على رفع ما اضطُرّوا إ ليـه(2) .
أقول : أ مّا حديث نفي ا لضرر فقد ذكرنا في ا لاُصول : أ نّـه ليس ناظراً إ لى ا لأحكام ا لمجعولـة ا لشرعيّـة ونافياً للأحكام ا لضرريّـة ، بل إنّما هو حكم سياسي إسلاميّ صدر من ا لنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أ نّـه حاكم وسلطان ، كما يظهر بمراجعـة مورده وا لتأ مّل فيـه ، وتحقيقـه في موضعـه(3) .
وأ مّا ا لآخران ـ وهما دليل نفي ا لحرج وحديث ا لرفع ـ فهما وإن كانا حاكمين على ا لأدلّـة ا لأوّليّـة ا لمتكفّلـة لبيان ا لأحكام ا لواقعيّـة إلاّ أنّ ا لتمسّك بهما في نفي ا لحكم في جميع موارد ا لحرج وا لاضطرار في غايـة ا لإشكا ل ; ضرورة أنّ ا لمراد با لحرج وا لاضطرار هو ا لعرفي منهما .
وحينئذ فهل يرى أحد ارتفاع حرمـة إيقاع ا لناس في ا لضلالـة وترويج ا لباطل ـ مثلاً ـ بمجرّد حرج ضعيف أو اضطرار خفيف ، وكذا ارتفاع حرمـة ما يترتّب عليـه في ا لشريعـة ا لقتل أو ا لرجم ، كا لزنا با لمحارم أو ا لمحصنات بمجرّد دوران ا لأمر بينـه وبين أداء ما ل يسير ، أو تحمّل مشقّـة يسيرة ، ونحو ذلك من ا لأمثلـة ا لتي لايمكن ا لالتزام فيها بارتفاع أحكامها بمجرّد ذلك ، وحينئذ فلابدّ من ملاحظـة ا لأمرين ا للذين دار ا لأمر بينهما وترجيح ا لأهمّ منهما .
فظهر : أنّ ا لتمسّك با لدليلين ا لمذكورين لجريان ا لتقيّـة في جميع ا لموارد ،
1 ـ ا لمائدة (5) : 6 ، ا لحجّ (22) : 78 . 2 ـ ا لاختصاص : 31 ، ا لتوحيد : 353 / 24 ، ا لخصا ل : 417 / 9 ، وسائل ا لشيعـة 15 : 369 ، كتاب ا لجهاد ، أبواب جهاد ا لنفس ، ا لباب 56 ، ا لحديث 1 . 3 ـ بدائع ا لدرر في قاعدة نفي ا لضرر ، ا لإمام ا لخميني(قدس سره) : 113 ـ 114 .
(الصفحة 532)
محلّ نظر بل منع ، كما أنّ ا لاستناد إ لى ا لعمومات ا لواردة في ا لتقيّـة ـ مثل قولـه : «ا لتقيّـة في كلّ شيء»(1) ـ غير جائز ; لأ نّها وإن كانت بلسان ا لعموم ، إلاّ أ نّها بنظر ا لعرف منصرفـة عن مثل ا لموارد ا لمقدّمـة .
التقيّة في شرب المسكر والمسح على الخُفّين
وكيف كان ، فقد اختلفت ا لأخبار في جواز ا لتقيّـة في بعض ا لأشياء ، مثل شرب ا لمسكر وا لمسح على ا لخُفّين ، فمقتضى طائفـة منها أ نّـه لا تقيّـة فيـه :
مثل صحيحـة زرارة قا ل : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : في ا لمسح على ا لخُفّين تقيّـة ؟ فقا ل : «ثلاث لا أتّقي فيهنّ أحداً : شرب ا لمسكر وا لمسح على ا لخُفّين ومتعـة ا لحجّ» . قا ل زرارة : ولم يقل : ا لواجب عليكم أن لاتتّقوا فيهنّ أحداً»(2) .
وروايـة سعيد بن يسار ، قا ل : قا ل أبوعبدالله (عليه السلام) : «ليس في شرب ا لنبيذ تقيّـة»(3) .
وروايـة حنّان قا ل : سمعت رجلاً يقول لأبي عبدالله (عليه السلام) : ما تقول في ا لنبيذ ، فإنّ أبا مـريم يشربـه ، ويزعم أ نّك أمرتـه بشربـه ؟ فقا ل : «معـاذ الله أن أكون أمرتـه بشرب مسكر ، والله إنّـه لشيء مـا اتّقيت فيـه سلطاناً ولا غيره ، قا ل
1 ـ ا لمحاسن : 259 / 308 ـ 309 ، ا لكافي 2 : 220 / 18 ، وسائل ا لشيعـة 16 : 349 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، أبواب فعل ا لمعروف ، ا لباب 24 ، و : 357 ، ا لباب 25 ، ا لحديث 2 . 2 ـ ا لكافي 3 : 32 / 2 ، ا لفقيـه 1 : 30 / 95 ، تهذيب ا لأحكام 1 : 362 / 1093 ، الاستبصار 1 : 76 / 237 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 457 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب 38 ، ا لحديث 1 ، و 16 : 215 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، ا لباب 25 ، ا لحديث 5 . 3 ـ ا لكافي 6 : 414 / 11 ، تهذيب ا لأحكام 9 : 114 / 494 ، وسائل ا لشيعـة 25 : 351 ، كتاب ا لأطعمـة وا لأشربـة ، أبواب ا لأشربـة ا لمحرّمـة ، ا لباب 22 ، ا لحديث 2 .
(الصفحة 533)
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ مسكر حرام ، وما أسكر كثيره فقليلـه حرام»(1) .
وروايـة أبي (ابن) عمر ا لأعجمي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث أ نّـه قا ل : «لا دين لمن لا تقيّـة لـه ، وا لتقيّـة في كلّ شيء إلاّ في ا لنبيذ وا لمسح على ا لخُفّين»(2) . وغير ذلك من ا لأخبار ا لظاهرة في ذلك .
وبإزائها أخبار اُخر يُستفاد منها ثبوت ا لتقيّـة في ا لمذكورات أيضاً :
منها :روايـة سُلَيم بن قيس ا لهلالي ، قا ل : خطب أمير ا لمؤمنين (عليه السلام) ، فقا ل : «قد عَمِلتِ ا لولاة قبلي أعمالاً خا لفوا فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعمّدين لخلافـه ، ولو حملتُ ا لناس على تركها لتفرّق عنّي جندي أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم (عليه السلام) ، فرددتـه إ لى ا لموضع ا لذي كان فيـه . . .» إ لى أن قا ل : «وحرّمتُ ا لمسح على ا لخُفّين ، وحَددتُ على ا لنبيذ ، وأمرتُ بإحلال ا لمتعتين ، وأمرت با لتكبير على ا لجنائز خمس تكبيرات ، وألزمتُ ا لناس ا لجهر بـ (بسم الله ا لرحمن ا لرحيم) . . .» إ لى أن قا ل : «إذن لتفرّقوا عنّي» ا لحديث(3) .
وظاهره أ نّـه (عليه السلام) كان يتّقي في ا لحكم بعدم جواز ا لمسح على ا لخُفّين وبإحلال ا لمتعتين وبحرمـة ا لنبيذ .
ومنها :روايـة أبي ا لورد ، قا ل : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : إنّ أبا ظبيان حدّثني : أ نّـه رأى عليّاً (عليه السلام) أراق ا لماء ، ثمّ مسح على ا لخُفّين . فقا ل : «كذب أبو ظبيان ، أما
1 ـ ا لكافي 6 : 410 / 12 ، وسائل ا لشيعـة 25 : 351 ، كتاب ا لأطعمـة وا لأشربـة ، أبواب ا لأشربـة ا لمحرّمـة ، ا لباب 22 ، ا لحديث 3 . 2 ـ ا لمحاسن : 259 / 309 ، ا لكافي 2 : 217 / 2 ، ا لخصا ل : 22 / 79 ، وسائل ا لشيعـة 16 : 215 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، ا لباب 25 ، ا لحديث 3 . 3 ـ ا لكافي 8 : 59 / 21 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 458 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب 38 ، ا لحديث 3 .
(الصفحة 534)
بلغك قول عليّ (عليه السلام) فيكم: سبق ا لكتاب ا لخفّين» . فقلت : فهل فيهما رخصـة ؟ فقا ل : «لا ، إلاّ من عدوّ تتّقيـه ، أو ثلج تخاف على رجليك»(1) .
ومنها :روايـة درست بن أبي منصور ، قا ل : كنت عند أبي ا لحسن موسى (عليه السلام) وعنده ا لكُمَيْت بن زيد ، فقا ل للكُمَيْت : «أنت ا لذي تقول :
فالآن صرتُ إ لى اُميّـ *** ـة وا لاُمور لها مصائر
إ لى أن قا ل : «إنّ ا لتقيّـة تجوز في شرب ا لخمر»(2) .
وا لجمع بين ا لطائفتين أن يقا ل : إنّ ا لمراد بعدم ا لتقيّـة فيما ذكر ، ليس كونـه مستثنىً من عمومات ا لتقيّـة حتّى يُنافي ا لطائفـة ا لثانيـة ، بل ا لمراد أ نّـه لا موقع للتقيّـة فيـه غا لباً ; لعدم وجوب شرب ا لخمر وا لمسح على ا لخُفّين عندهم ; حتّى يكون تركهما مخا لفاً لطريقهم ، وأ مّا متعـة ا لحجّ فيمكن ا لإتيان بها من دون ا لتفاتهم ; لأ نّهم ـ أيضاً ـ إذا دخلوا مكّـة يطوفون ويسعون ، وعمرة ا لتمتّع لاتزيد عليهما ، وا لنيّـة أمر قلبي لايطّلع عليـه ا لناس ، وا لتقصير أيضاً يمكن إخفاؤه عنهم ; إذ هو يتحقّق بمجرّد نتف شعرة واحدة أو قصّ ظفر واحد .
ويمكن أن يكون وجـه ا لجمع : هو أنّ ا لأئمّـة (عليهم السلام) كانوا لايتّقون في ا لمذكورات ; لكون ا لفتوى بحرمـة ا لنبيذ وا لمسح على ا لخُفّين وجواز متعـة ا لحجّ معروفاً عنهم ; بحيث يعرفـه خلفاء ا لجـور منهم ، وذلك لايوجب عدم تقيّـة ا لشيعـة فيـه أيضاً ، ويؤيّد هذا ا لوجـه ما فـي ذيل صحيحـة زرارة ا لمتقدّمـة من قولـه : ولم يقل : «ا لواجب عليكم أن لا تتّقوا فيهنّ أحداً» .
1 ـ تهذيب ا لأحكام 1 : 362 / 1092 ، الاستبصار 1 : 76 / 236 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 458 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب 38 ، ا لحديث 5 . 2 ـ اختيار معرفـة ا لرجا ل : 207 / 364 ، وسائل ا لشيعـة 16 : 216 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، ا لباب 25 ، ا لحديث 7 .
(الصفحة 535)
وكيف كان ، فرفع ا ليد عن عمومات دليل ا لحرج ، وحديث ا لرفع ، وعمومات ا لتقيّـة ، وخصوص ا لروايات ا لمتقدّمـة ، ا لدالّـة على جريان التقيّـة في ا لاُمور ا لمذكورة ـ بمجرّد تلك ا لروايات ا لدالّـة على عدم جريانها فيها القابلـة للتوجيـه بما ذكر ـ في غايـة ا لإشكا ل ، خصوصاً بعد مساعدة الاعتبار على أ نّـه لو دار ا لأمر بين ا لقتل ، ومجرّد شرب ا لنبيذ أو ا لمسح على ا لخُفّين ، لكان ا لترجيح مع ا لثاني ، بل هو ا لمتعيّن .
ويؤيّده : أ نّـه لم يظهر من أحد ا لفتوى بوجوب ترك ا لتقيّـة فيما ذكر .
فالأقوى جريان عمومات ا لتقيّـة بالإضافـة إ ليـه أيضاً .
التقيّة في الدماء وفي سبّ الأئمة(عليهم السلام)
وأ مّا ا لدماء فلا إشكا ل ـ كما أ نّـه لا خلاف ـ في عدم ا لتقيّـة فيها(1) ، كما أ نّـه لا إشكا ل في ثبوتها في سبّ ا لأئمّـة (عليهم السلام) ; فيما إذا لم يستلزم إضلال ا لناس وتزلزل أركان ا لمذهب ، كما إذا وقع من رئيس ا لشيعـة ومرجعهم مثلاً ، وإلاّ فلايجوز ، بل ا لترجيح مع مدّ ا لرقاب ، كما ظهر وجهـه ممّا تقدّم .
وأ مّا ا لتبرّي منهم (عليهم السلام) وإظهار ا لبراءة ، فقد ورد فيـه روايات مختلفـة ، وقد جمعها في «ا لوسائل» في ا لباب ا لتاسع وا لعشرين من أبواب كتاب ا لأمر با لمعروف(2) ، وعمدة ما يدلّ على ا لجواز روايـة مسعدة بن صدقـة ، قا ل : قيل لـه : إنّ ا لناس يروون : أنّ علياً (عليه السلام) قا ل على منبر ا لكوفـة : أيّها ا لناس إنّكم ستُدعون إ لى سبّي فسبّوني ، ثمّ تُدْعَون إ لى ا لبراءة منّي فلا تبرّؤوا منّي . فقا ل : «ما أكثر ما
1 ـ ا لسرائر 2 : 25 ، منتهى ا لمطلب 2 : 994 / ا لسطر 11 ، مجمع ا لفائدة وا لبرهان 7 : 550 ، رياض ا لمسائل 1 : 510 / ا لسطر16 ، مستند ا لشيعة 14 : 194 ، جواهر ا لكلام 22 : 169 . 2 ـ وسائل ا لشيعـة 16 : 225 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، ا لباب 29 .
(الصفحة 536)
يكذب ا لناس على عليّ (عليه السلام) ، ثمّ قا ل : إنّما قا ل : إنّكم ستُدعون إ لى سبّي فسبّوني ، ثمّ تُدعون إ لى ا لبراءة منّي وإنّي لَعلى دين محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولم يقل : ولاتبرؤوا منّي» . فقا ل لـه ا لسائل : أرأيت إن اختار ا لقتل دون ا لبراءة ؟ فقا ل : «والله ما ذلك عليـه ، وما لـه إلاّ ما مضى عليـه عمّار بن ياسر ; حيث أكرهـه أهل مكّـة وقلبـه مطمئنّ بالإيمان ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيـه : (إِلاَّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)(1) فقا ل لـه ا لنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عندها : يا عمّار إنْ عادوا فعُدْ ، فقد أنزل الله عذرك ، وأمرك أن تعود إن عادوا»(2) .
ولايخفى أنّ مسعدة وإن كان عامّياً(3) ، إلاّ أنّ روايتـه موثوق بها ، بل قيل إنّ رواياتـه أصحّ من روايات جميل بن درّاج(4) ، وعليـه فا لسند غير قابل للمناقشـة .
وأ مّا ا لدلالـة : فلايخفى أنّ ا لمراد بقولـه (عليه السلام) : «ثمّ تُدعون إ لى ا لبراءة منّي وإنّي لعلى دين محمّد صلّى الله عليـه وآلـه» ، ليس ا لنهي عن ا لتبرّي عنـه ، وإلاّ لما كان ما حكاه ا لسائل عن ا لناس كذباً عليـه (عليه السلام) ، بل ا لمراد أ نّـه لاتضرّ براءتكم با لنسبـة إ ليّ ; لأ نّي على دين محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فيستفاد منـه ا لجواز ، ولذا استفاد ا لسائل ذلك ، فسأل عن إختيار ا لقتل دون ا لبراءة .
هذا ، ويستفاد من قولـه : «والله ما ذلك عليـه وما لـه إلاّ ما مضى . . .» إ لى آخره وجوب ا لبراءة عند دوران ا لأمر بينها وبين ا لقتل ، لا مجرّد ا لجواز ، ولاثبوت ا لتخيير ، كما يشهـد بذلك وجوب ا لمضيّ علـى ما مضـى عليـه عمّار ا لذي أمره
1 ـ ا لنحل (16) : 106 . 2 ـ قرب ا لإسناد : 8 ، ا لكافي 2 : 219 / 10 ، وسائل ا لشيعـة 16 : 225 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، ا لباب 29 ، ا لحديث 2 . 3 ـ اُنظر رجا ل ا لطوسي : 137 ، معجم رجا ل ا لحديث 18 : 137 ـ 139 . 4 ـ تنقيح ا لمقا ل 3 : 212 / ا لسطر 15 .
(الصفحة 537)
الله تعا لى با لعود إن عادوا .
وبا لجملـة:فمدلول هذه ا لروايـة ـ ككثير من ا لروايات ا لظاهرة في ا لجواز ـ هو وجوب ا لبراءة وحرمـة تركها .
وبإزاء هذه ا لأخبار روايات اُخر ظاهرة ـ بل صريحـة ـ في حرمـة ا لتبرّي ووجوب مدّ ا لرقاب(1) ، ولكن كلّها مخدوشـة من حيث ا لسند ، ولايمكن رفع ا ليد بسببها عن عمومات ا لتقيّـة ، وخصوص ا لأخبار ا لمجوّزة للتبرّي ، خصوصاً في هذا ا لحكم ا لذي يرجع إ لى تجويز قتل ا لنفوس بل إيجابـه ، فالأقوى بمقتضى ما عرفت جواز ا لتبرّي ـ بل وجوبـه ـ عند ا لدوران بينـه وبين ا لقتل .
نعم قد يكون ذلك مستلزماً لتزلزل أركان ا لمذهب وإضلال ا لشيعـة ، فلايجوز كما عرفت .
حول تعلّق الوجوب بالتقية بعنوانها
ثمّ إنّ ا لتقيّـة هل تعلّق ا لوجوب بها بعنوانها ، أو أنّ ا لواجب إنّما هي ا لعناوين ا لاُخر ، كترك إ لقاء ا لنفس في ا لهَلَكـة وغيره من ا لعناوين ؟
وا لتحقيق أن يقا ل : إنّ ا لتأ مّل وا لتتبّع في ا لأخبار ا لواردة في ا لتقيّـة ، يقضي بأنّ هنا عناوين ثلاثـة لا ربط لأحدها بالآخر ; لا من حيث ا لموضوع ا لذي هو نفس تلك ا لعناوين ، ولا من حيث ا لحكم كما يجيء :
ا لأوّل : عنـوان الاضـطرار ا لذي يجـوّز تـرك ا لـواجبات وفعل ا لمحرّمات ، وقـد اُطلق ا لتقيّـة عليـه في مثل قولـه (عليه السلام) : «ا لتقيّـة في كلّ شيء يضطرّ إ ليـه
1 ـ وسائل ا لشيعـة 16 : 228 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، ا لباب 29 ، ا لحديث 8 و 9 و 10 ، و : 232 ، ا لباب 30 ، ا لحديث 21 .
(الصفحة 538)
ابن آدم»(1) ، وا لحكم في هذه ا لصورة يدور مدار ا لاضطرار ا لذي هو معنىً عرفي ، ولا إشكا ل في عدم وجوب ا لإتيان بما يرفع بـه الاضطرار ، بل ا لظاهر مجرّد ا لجواز وا لإباحـة ، كما هو ظاهر حديث ا لرفع(2) وقولـه (عليه السلام) : «ما من شيء إلاّ أحلّـه الله لمن اضطُرّ إ ليـه»(3) .
ا لثاني : عنوان ا لتقيّـة ا لذي ورد فيـه : أ نّـه «لا دين لمن لا تقيّـة لـه»(4) وأنّ تاركها أسوء حالاً من ا لنُّصّاب(5) بل ا لكُفّار .
وا لمراد بـه : هو كتمان ا لمذهب وإخفاؤه عن ا لعامّـة ، ويقابلـه عنوان ا لإذاعـة وا لإشاعـة ، ولا إشكا ل في وجوبـه وإن لم يكن في ا لبين خوف ا لضرر أصلاً .
كما يدلّ عليـه ا لأخبار ا لكثيرة ; ا لتي منها روايـة هشام بن سا لم وغيره ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) : في قول الله عزّ وجلّ : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا)(6) قا ل : «بما صبروا على ا لتقيّـة» ، (وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ ا لسَّيِّئَةَ) قا ل :
1 ـ ا لمحاسن : 259 / 308 ، ا لكافي 2 : 220 / 18 ، وسائل ا لشيعـة 16 : 214 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، ا لباب 25 ، ا لحديث 2 . 2 ـ ا لاختصاص : 31 ، ا لتوحيد : 353 / 24 ، ا لخصا ل : 417 / 9 ، وسائل ا لشيعـة 15 : 369 ، كتاب ا لجهاد ، أبواب جهاد ا لنفس ، ا لباب 56 ، ا لحديث 1 . 3 ـ كتاب ا لنوادر : 75 / 161 ، وسائل ا لشيعـة 23 : 228 ، كتاب ا لأيمان ، ا لباب 12 ، ا لحديث18 . 4 ـ ا لكافي 2 : 217 / 2 ، وسائل ا لشيعـة 16 : 210 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، ا لباب 24 ، ا لحديث23 ، 24 ، و : 215 ، ا لباب 25 ، ا لحديث 3 . 5 ـ تفسير ا لإمام ا لعسكري (عليه السلام) : 175 / 84 ، الاحتجاج 1 : 557 ، وسائل ا لشيعـة 16 : 229 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، ا لباب 29 ، ا لحديث 11 . 6 ـ ا لقصص (28) : 54 .
(الصفحة 539)
«ا لحسنـة ا لتقيّـة ، وا لسيّئـة ا لإذاعـة»(1) .
فإنّ جعل ا لتقيّـة ا لحسنـة مقابلـة للسيّئـة ، ظاهر في وجوبها ، كما أنّ جعل ا لتقيّـة في مقابل ا لإذاعـة ، ظاهر في كون ا لمراد بها هو كتمان ا لمذهب ، كما يشهد بـه ا لتعبير عنـه في بعض ا لأخبار با لخباء(2) ، ا لذي هو بمعنى ا لستر وا لإخفاء .
وأصرح من هذه ا لروايـة في كون ا لمراد با لتقيّـة هو كتم ا لدين وإخفاءه عن غير أهلـه روايـة معلّى بن خُنَيْس ، قا ل :
قا ل أبوعبدالله (عليه السلام) : «يا معلّى اكتم أمرنا ولا تُذعـه ، فإنّـه من كتم أمرنا ولم يذعـه أعزّه الله بـه في ا لدنيا ، وجعلـه نوراً بين عينيـه في ا لآخرة يقوده إ لى ا لجنّـة . يا مُعلّى من أذاع أمرنا ولم يكتمـه أذلّـه الله بـه في ا لدنيا ، ونزع ا لنور من بين عينيـه في ا لآخرة ، وجعلـه ظلمـة تقوده إ لى ا لنار . يا معلّى إنّ ا لتقيّـة من ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقيّـة لـه»(3) ا لحديث .
فإنّ ا لتعليل لوجوب ا لكتم بكون ا لتقيّـة من ديني ودين آبائي صريح في كون ا لمراد بها هو ا لكتمان وإخفاء ا لمذهب .
ا لثا لث : عنوان ا لمداراة مع غير أهل ا لمذهب وحسن ا لمعاشرة معهم ; بحضور جماعاتهم وتشييع جنائزهم وغير ذلك ، وقد ورد في ا لأخبار ا لكثيرة(4)
1 ـ ا لكافي 2 : 172 / 1 ، وسائل ا لشيعـة 16 : 203 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، ا لباب 24 ، ا لحديث1 . 2 ـ معاني ا لأخبار : 162 / 1 ، وسائل ا لشيعـة 16 : 207 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، ا لباب 24 ، ا لحديث 15 ، و : 219 ، ا لباب 26 ، ا لحديث 2 . 3 ـ ا لكافي 2 : 177 / 8 ، وسائل ا لشيعـة 16 : 236 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، ا لباب 32 ، ا لحديث6 . 4 ـ اُنظر وسائل ا لشيعـة 16 : 219 ، كتاب ا لأمر وا لنهي ، ا لباب 26 ، ا لحديث 2 و 3 .
(الصفحة 540)
ا لتحريض وا لترغيب عليـه . وهذا غير عنوان ا لتقيّـة ا لتي قد عرفت وجوبـه .
وبا لجملـة : فا لغرض بيان أنّ هنا عناوين مختلفـة ، كما أنّ أحكامها ـ أيضاً ـ كذلك ، كما عرفت .
ثمّ إنّ ا لتقيّـة ـ بمعنى كتم ا لدين وإخفائـه عن غير أهلـه ـ هل تكون واجبـة ، أو أنّ ا لإذاعـة ا لتي هي في مقابلها محرّمـة ؟ ظاهر بعض ا لروايات مثل روايـة هشام بن سا لم ا لمتقدّمـة ثبوت كلا ا لأمرين ; بمعنى وجوب ا لتقيـة وحرمـة ا لإذاعـة معاً .
ولكن ا لظاهر أحد ا لأمرين ; لأ نّـه مع ا لبعث إ لى ا لتقيّـة لا حاجـة إ لى ا لزجر عن ضدّها ، وكذا ا لعكس . نعم لا سبيل لنا إ لى إثبات شيء منهما .
وتظهر ا لثمرة فيما إذا عمل على خلاف ا لتقيّـة ، كما إذا سجد في ا لصلاة على ا لتربـة ا لحسينيـة :
فعلى ا لقول بوجوب ا لتقيّـة لا وجـه لبطلان سجوده ا لمستلزم لبطلان صلاتـه ; لأنّ فعلـه كان متّحداً مع عنوان ا لإذاعـة ، وهي على هذا ا لتقدير غير محرّمـة ، ووجوب ا لتقيّـة لايستلزم حرمـة نقيضها ، فضلاً عن ضدّها ، كما حقّق في محلّـه(1) .
وأ مّا على ا لقول بحرمـة ا لإذاعـة فصحّـة عبادتـه وفسادها ـ في ا لفرض ا لمزبور ـ تبتني على ا لنزاع ا لمعروف في ا لاُصول ، وهو جواز اجتماع ا لأمر وا لنهي وعدمـه :
فعلى ا لقول با لجواز ـ كما هو مقتضى ا لتحقيق(2) ـ لا وجـه لبطلان ا لعبادة ،
1 ـ اُنظر مناهج ا لوصول 2 : 9 ، تهذيب ا لاُصول 1 : 287 . 2 ـ اُنظر مناهج ا لوصول 2 : 128 ـ 131 ، تهذيب ا لاُصول 1 : 391 .
|