(الصفحة101)
المفردات: الإصر عقد الشيء وحبسه بقهره . أي أنه يسلب الاختيار على الشيء .
ومن البديهي أ نّ مثل هذا العقد أو الحبس يستلزم الضيق . ثمّ يقول: والمأصر والمأصد كلاهما بمعنى حبس السفينة ، أي العمل على ربط فيها السفينة بالقرب من السواحل . فالمحبس هو المكان الذي تعاق فيها حركة السفينة ، ويضيّق عليها بأن لا تعطى مجالاً لأن تميل إلى هنا وهناك .
بعد ذلك يورد الراغب قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}(1) فيقول: إصرهم أي الاُمور التي تثبّتهم وتقيّدهم عن الجزاء والوصول إلى الثواب ، ثمّ يقول: وعلى ذلك ـ أي على نفس المعنى ـ الآية الكريمة: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} .
وورد في مجمع البحرين: أ نّ أصل الإصر الضيق والحبس ، وإنّما ذكر الحبس لإشتماله على معنى الضيق . يقال أصّره بإصره ، إذا ضيّق عليه وحبسه . يقال للثقل إصراً لأ نّه يأصر صاحبه عن الحركة ، أي ما يمنع الإنسان عن الحركة ويجعله في ضيق ، ثمّ يقول : إنّ قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} هو مثل لثقل تكليفهم ، التكليف الذي كان عليهم والذي كان على الاُمم قبلهم . فهذه التكاليف كانت ثقيلة بالنسبة إليهم وكانت تسبّب لهم ضيّقاً وشدّة . ولذلك كان من بركات رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الاُمّة الإسلامية أن يضع عنهم إصرهم .
وما لاحظناه هنا هو أ نّ الإصر في الحقيقة معناه الضيّق . إذن نحن لم نتوصل بعد إلى الفرق بين العناوين الثلاثة: الضيق ، والحرج ، والإصر . فالحرج فسّر بالضيق . والإصر أيضاً وإن كان قد أخذ فيه معنى الحبس ، إلاّ أنه استعمل بهذا المعنى لكونه يفيد معنى الضيق .
وأمّا العنوان الأخير ، وهو عنوان العسر ، فقد ورد في الآية الكريمة: {يُرِيدُ اللهُ
1 . الأعراف : 157 .
(الصفحة102)
بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(1) جاء في النهاية: أ نّه ضدّ اليسر ، وهو الضيق والشّدة والصعوبة ، وكما هو واضح فإنّ هذه المعاني الثلاثة تعطي معنى واحد عبّر عنه بتعابير شتّى .
وورد في القاموس: العسر بالضم ضدّ اليسر ، وتعسّر عليه الأمر ، وتعاسر واستعسر ، اشتدّ وإلتوى ، الشّدة والالتواء هو تعبير آخر عن الضيق ، بدليل أ نّ صاحب النهاية أورد الضيق والشدّة معاً ، وفي القاموس قال: إشتدّ وإلتوى ويومٌ عسر ، أي شديدٌ أو شومٌ . إنّما جاء بالشؤم بلحاظ ما يرافقه من شدّة . فالشؤم عادةً يلازمه مصيبة مّا وشدّة عبرّ عنها بالعسر . وهنا نرى أ نّ هذا العنوان هو الآخر يرادف الضيق .
وورد في المفردات ـ وهو برأيي من أدقّ الكتب اللغوية ـ : أعسر فلان ، أي ضاق فلان ، وتعاسرا لقوم طلبوا تعسير الأمر . ويوم عسير يتعصّب فيه الأمر . ثمّ بعد أن أتى بلفظ يتعصّب . قال بعدها مباشرةً: ضاق: تعصّب فيه الأمر ، من هنا نجد أ نّ صاحب النهاية استعمل الضيق والشدّة والصعوبة التي عبرّ عنها في المفردات بالقول «يتعصّب فيه الأمر» في رديف واحد .
إذن ، فما يفهم من اللغة أ نّ عنوان الحرج ، وعنوان الإصر ، وعنوان العسر كلّها بمعنىً واحد ، وهو الضيق ، والضيق هو الرتبة العليا من الصعوبة والشدّة وما شابه ذلك . وكما لاحظتم في ما سبق فإنّ هناك جملة من الروايات فسّرت الحرج في الآية الكريمة بالضيق .
لكن المحقّق النّراقي (قدس سره) في كتابه «العوائد» يرى أ نّ العسر في قوله تعالى: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} هو أعمّ من الضيق ، والنسبة بين الضيق والعسر هي العموم
1 . البقرة : 185 .
(الصفحة103)
والخصوص المطلق ، وكلّ ضيق يمكن أن نقول عنه أنّه عسر ، ولكنّ كلّ عسر لاينطبق عليه أنه ضيق . وهناك مصاديق في العسر ، لاينطبق عليها الضيق ، ثمّ يوردّ عدّة أمثلة في هذا المجال(1) ، فيقول: لو أ نّ مولى من الموالي كان له عبد ، وأجبر هذا المولى عبده على تناول دواء كريه . ولنفرض أن هذا الدواء كريه بدرجة أنه لايوجد هناك انسان يرغب في تناوله . هنا يتحقّق عنوان العسر ، فيقال : إنّ المولى أجبر العبد على القيام بعمل شاقّ . ولكن في نفس الوقت ، لايعبرّ عنه بأنه ضيّق عليه ، فلا يقال: إنّ المولى ضيق عليه بسبب شرب هذا الدواء .
ومثال آخر: لو فرضنا أن هناك شخصاً يقوى على حمل مائة كيلو غرام من الثقل ، وليس بمقدوره أن يحمل أكثر من هذا الثقل ، فلو اُعطي لهذا الشخص حمولة بوزن تسعين كيلو على أن يحملها مسافة فرسخ واحد . هذا العمل على حدّ تعبير المرحوم النّراقي (قدس سره) هو عملٌ شاقّ . ولكن لو تكرّر هذا العمل منه ، بأن يقال له: عليك أن تحمل هذا القدر من الثقل إلى المكان الفلاني يوميّاً . هذا التكرار للعمل يبدّل حالة العسر الذي كان عليها إلى ضيق . هنا يقال عنه: إنّ الأمر قد ضيّق عليه .
من هنا يتضح لدينا أ نّ هناك فرق بين العسر والضيق . ماهو الملاك الذي استند عليه في هذا المثال؟ هل هو اللغة أم العرف؟ فإذا كان الملاك في الإختلاف المفروض هو اللغة ، فهذا ما أجبنا عنه في خلال نقلنا لآراء كبار اللغويين . حيث لاحظنا أ نّ الراغب في مفرداته يصرّح بأ نّ قوله : أعسر فلان ، نحو أضاق ، أي مثل أضاق فلان . وهنا لايقصد أ نّ هناك مماثلة أدبيّة ولغوية . إنّما هذه المماثلة هي مماثلة معنويّة . فقوله : أعسر فلان نحو أضاق ، أي مثل أضاق في المعنى ، يعني أ نّ معنى أعسر هو نفس معنى أضاق ، فلو كان الملاك هو اللغة ، فإنّ تتبّع أقوال
1 . عوائد الأيّام : 62 .
(الصفحة104)
اللغويين والتدقيق في تعبيراتهم يؤكّد لنا أ نّه لايوجد هناك فرق بين العسر والضيق ، والعسر لايكون أعمّ من الضيق .
معنى العسر في العرف العامّ
إذا قلتم أ نّ الملاك في ذلك هو العرف العامّ ، ففي حال مخالفة العرف العامّ للّغة ، ينبغي أن نحمل ألفاظ الكتاب والسنّة على العرف العامّ ، بدليل أن النّاس هم المخاطبون ، وأن الحديث إنّما يدور مع الناس . بناءً على ذلك ، إذا حصل هناك أختلاف بين اللغة وبين العرف ، أي بين الفهم اللغوي والفهم العرفي ، فالملاك هو العرف . والعرف العامّ في خصوص هذا المورد يرى أن العسّر أعمّ من الضيق .
وفي معرض الرّد على هذا الإستدلال نشير إلى نقطتين هامتين:
النقطة الأوّلى: إن التعبير باليسر والعسر في الآية الشّريفة جاء في سياق الحديث عن الصوم . حين ابتدأت الآية بالكلام عن الصوم وهو قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، وورد في تتمة الآية: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ} {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(1) وقلنا سابقاً في تفسير هذه الآية ، أ نّ قوله {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} إنّما هو لبيان الحكم الإثباتي ، أي الجانب الإثباتي في الآية ، وأمّا قوله {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} فهو بيان لجانب النفي الذي يتضمّنه الحكم الشرعي .
بعبارة أوضح: إنّه إشارة إلى المريض والمسافر ، وأ نّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يعلّل عدم إيجابه للصوم في شهر رمضان على المريض والمسافر بأن قال: {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} ، وأمّا قوله: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} فهل المقصود منه أن
1 . البقرة : 185 .
(الصفحة105)
يكون علّة لتعيّن وجوب الصوم في شهر رمضان على غير المريض والمسافر . أو أنّه علّة في وجوب الصوم في عدّة أيّام اُخر على المريض والمسافر ، أو أنّه يمكن أن يكون تعليلاً للموردين معاً ، أو أ نّ الصحيح هو أن نقول بأ نّ هذا القسم من الآية: {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} لا علاقة له بأصل الصوم ، وإنّما سيقت العبارة للتأكيد على {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ} .
ونلاحظ أ نّ الآية بعد أن صرّحت بأ نّ المريض والمسافر عليهما أن يصوما في وقت آخر ، قالت: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} . فالآية الكريمة ربطت بين اليسر وبين وجوب الصوم في الأ يّام الاُخر .
وسواء قلنا بأ نّ قوله تعالى: {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} ناظرة إلى وجوب الصوم مطلقاً في رمضان لغير المريض والمسافر ، وفي غير رمضان للمريض والمسافر ، أو أ نّ العبارة جاءت في خصوص وجوب الصوم على المريض والمسافر في عدّة من أ يّام اُخر ، فإنّ هذا القسم في الآية: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} إنما جيء به للتعبير عن وجوب الصوم في شهر ما ، فهذا يسر في قبال العسر . فالعسر هنا هل يمكن أن يكون بمعنى غير معنى الضيق؟ وإذا قلنا ، ا نّ أقلّ صعوبة وشدّة تسمّى عسر ، فأين يتحقّق اليسر الذي تشير إليه الآية؟
بناءً على ذلك ، إذا أردنا أن نطرح مسألة العرف ونقول بأ نّ الآية ناظرة إلى العرف ، فلابدّ أن ندقّق لنرى في أيّ مورد صرف الله سبحانه وتعالى كلمة اليسر ، وجعل العسر في قبال اليسر؟ نقول:
أوّلاً: إنّ نفس الآية تشير إلى ذلك المعنى ، حتّى لو لم يكن للّغة في هذا المجال أيّ رأي ، ولم تتعرّض إلى هذا المعنى ، بل إنّ نفس قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} كفيل بحلّ المسألة . فقد عبرّ عن وجوب الصوم في شهر رمضان باليسر، مع أ نّه أشكل وأعسر من حمل تسعين كيلو مع القدرة على حمل مائة كيلو.
(الصفحة106)
ثانياً: عرفنا في خلال الروايات واللغة أ نّ الحرج بمعنى الضيق ، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ، إنّما هو بصدد بيان مسألة الضيق . وبناءً على ما قيل من أ نّ العُسر أعمّ من الضيّق ، ، فإنّ الآية الكريمة {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} ناظرة إلى معنىً أوسع وأعمّ ، فيشمل الضيق ، كما أنه يشمل غيره من الموارد من مصاديق العسر . أي أ نّ عنوان نفي العسر ـ إن صحّ التعبير ـ أعمّ من عنوان نفي الحرج . وبناءً على ذلك قد يرى البعض وجاهة الرأي الذي أشار إليه المرحوم الميرزا الأشتياني (قدس سره) من أ نّ الآيتين لاتنافي بينهما . فكلا الآيتين جاءتا بصيغة النفي من دون أن تكن هناك منافاة بين الآيتين ، وكأ نّ الآيتين قد جاءتا بصيغة الإثبات .
كما أنّه لايمكن حمل أحدهما على الاُخرى ، لأنّه لاتوجّه هناك آية مقيّدة واُخرى مطلقة .
ولمّا لم يكن هناك تناف بين الآيتين ، أمكن أن نقول : إن آية: {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} أعمّ من الآية الاُخرى . وبعبارة اُخرى : إنّ قاعدة نفي العسر أعمّ من قاعدة نفي الحرج .
ولنا أن نقول: إنّه ليس ممكناً أن نتوصّل إلى هذه النتيجة . لأ نّ في بحث المطلق والمقيد ، عندما يكون هناك توافق من حيث الإثبات والنفي ، قال الأصحاب إنّه حتّى لو استفدنا وحدة الحكم من طريق وحدة السبب فهذا من قبيل حمل المطلق على المقيد . فمثلاً إذا كان هناك دليل مفاده: إن ظاهرت فأعتق رقبة ، ووجد دليل آخر فحواه: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة . فهنا وحدة السبب ـ وهو الظهار ـ تكشف عن أنّ الحكم هنا واحد لا أكثر ، والحكم الواحد لايكون مقيّداً ومطلقاً في آن واحد .
إذن لابدّ لنا أن نحمل المطلق على المقيّد . وحتّى لو استفدنا وحدة الحكم من
(الصفحة107)
الخارج ، فهذا لايغيّر حكم المسألة .
وبناءً على ما تقدّم في باب المطلق والمقيّد نقول: إنّ القرآن الكريم يستعمل تعبيرات شتّى في بيان مقصوده ، وهذا ما نجده في الآيات التي استعرضناها سابقاً والتي تشكّل محور بحثنا هذا . وهي قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} و {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} و {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} فجميع هذه الآيات تستهدف معنى واحد ، وبناءاً على ذلك وحتّى لو سلّمنا بأ نّ العسر أعمّ من الضيق ، لابدّ وأن نأخذ بالمقيّد ، لأ نّنا نعلم أ نّه لاتوجد لدينا مسألتان ، مسألة نفي العسر ومسألة نفي الحرج ، وإنّما هناك مسألة واحدة عبرّ عنها بتعبيرات مختلفة . ومن هنا يتعيّن علينا أن نأخذ بالقدر المتيقّن ، وهو الحرج والضيق . فالقاعدة سواء عبّرت عنها بقاعدة الحرج ، أو نفي العسر ، أو قاعدة نفي الإصر ـ عبرّ عنها بما شئت ـ إنّما مدار البحث فيها هو الضيق .
نسبة قاعدة لا حرج إلى (قاعدة لا ضرر):
بعدما تبيّن ثبوت قاعدة «لا حرج» في الجملة والمراد من العناوين المذكورة في خطاباتها لابدّ لنا من البحث في مفاد القاعدة وأ نّه هل يجري فيها الاختلاف الواقع في مفاد قاعدة لا ضرر أو لا يجري ونقايس بين قاعدة لا حرج وقاعدة لا ضرر . خاصّة إذا عرفنا أ نّ هناك احتمالات متعدّدة تطرح في قاعدة لا ضرر ، لنرى هل أ نّ قاعدة لا حرج هي مثل قاعدة لا ضرر . أي أ نّها غير محدّدة المعنى . أو أ نّ قاعدة لا حرج لها معنىً محدّد ، ولا تحتمل وجوه وإحتمالات متعدّدة كما هو الحال بالنسبة لقاعدة لا ضرر؟!
ولكي تتّضح عمليّة المقايسة بين القاعدتين لابدّ من إشارة سريعة للمعاني المختلفة في قاعدة لا ضرر .
(الصفحة108)
الآراء الأربعة في مدلول «لا ضرر»
توجد هناك أربعة آراء مهمّة في خصوص هذه القاعدة . وتبحث هذه الآراء في كلمة «لا» الموجودة في العبارة «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» هل هي «لا» نافية ، أو هي ناهية؟ هناك رأيان من هذه الأربعة يذهبان إلى أ نّ «لا» هذه تفيد النفي ، أحد هذين الرأيين هو للشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه(1) ، والآخر للمرحوم المحقّق الخراساني (قدس سره) في كتاب الكفاية(2) .
وأمّا الرأيان الآخران فمفادهما: أ نّ «لا» تفيد النهي . أحدهما للمرحوم شيخ الشريعة الأصفهاني (قدس سره) والآخر لسيّدنا الاُستاذ الإمام الخميني (قدس سره) ، وهناك أراء اُخرى في هذا المضمار ليست ذات أهميّة .
يقول الشيخ الأنصاري (قدس سره) في كتابه الرسائل: إنّ عبارة «لا ضرر» تفيد الإخبار «ذلك لأ نّ النفي يفيد الإخبار» ومعناها أ نّه لا ضرر في الإسلام . فالمعنى أ نّه لم يجعل في الإسلام حكمٌ يوجب تحقّق الضرر ، بل إنّ الشيخ يتوسّع في ذلك فيقول: إنّ عبارة «لا ضرر» تفيد عدم الحكم أيضاً ، وتخبر عنه في حال كون عدم الحكم موجباً للضرر أو يساعد على الضرر . أي أنها تنفي عدم الحكم . ومثال ذلك لو فرضنا أن الوضوء أصبح مضرّاً بتمام معنى الضرر . ولنفرض أ نّ فيه ضررٌ مالي ، كأن يقال لشخص ما: أعطنا مليون تومان لنعطيك ماءً تتوضّأ به ، فلو باع جميع ما لديه لما تمكّن من أن يوفّر هذا القدر في المال . فيلزم وجوب الوضوء على هذا الشخص الضرر التّام .
وأمّا المثال على عدم الحكم ، فيفرض الشيخ الأنصاري (قدس سره) هذا الفرض ، وهو أ نّه لو لم يكن هناك في الإسلام خيار بإسم خيار الغبن ، فإنّ عدم جعل الخيار هذا
1 . فرائد الاصول 2 : 460 .
2 . كفاية الاصول : 381 .
(الصفحة109)
بالنسبة للمغبون في المعاملة يكون ضررياً . هنا بناءً على قاعدة لا ضرر ، يثبت الخيار .
إذن ، رأي الشيخ الأنصاري (قدس سره) هو أن ما يأتي بعد «لا» النافية هو صيغة للحكم المحذوف ، أي أ نّ «لا ضرر» تعني لا حكماً ضررياً ، لا عدم الحكم الضرري ، أي لايمكن أن ينتفي الحكم إذا كان انتفاؤه ضرريّاً . ثمّ يفسّر قاعدة «لا ضرر» بالمعنى التالي: وهو أ نّكم أينما وجدتم حكماً يستلزم الضرر ، فلابدّ أن تستدلّوا بالقاعدة بأ نّه لا وجود لهذا الحكم ، وإذا رأيتم أ نّ عدم الحكم ، أي انتفاء الحكم يستدعي الضرر فلابدّ وأن تحكموا استناداً إلى القاعدة أنّ عدم الحكم غير متحقّق ، بل إنّ هناك حكماً قد تحقّق .
النفي الحقيقي والإدّعائي
ويّتفق المرحوم المحقّق الآخوند (قدس سره) في كتابه «الكفاية» مع المحقّق الشّيخ الأنصاري (قدس سره) في أ نّ «لا» هنا ، نافية ، ولكنّه يفسّر العبارة بطريقة متفاوتة فيقول: لدينا استعمالات كثيرة تشبه إلى حدٍّ ما عبارة «لا ضرر في الإسلام» وهذه الاستعمالات على نوعين: البعض منها على نحو الحقيقة ، والبعض الآخر مبتنية على الإدّعاء والزعم ليس إلاّ . فمثلاً إذا لم يكن هناك رجلٌ في الدار وأردت أن تخبر عن ذلك فتقول: لا رجل في الدار . هنا أنت تنفي حقيقة كون رجل في الدار . ونفي الحقيقة هذا «على حدّ تعبير المرحوم الآخوند (قدس سره)» إنّما يبيّن على نحو الحقيقة . فعندما لايكون هناك رجلٌ في الدار ، وأردت الإخبار عن ذلك بقولك «لا رجل في الدار» هنا نفيت الرجولية في الدار على نحو الحقيقة ، وليس على نحو الزعم والإدّعاء .
ولكن هناك استعمالات من نوع آخر ظاهرها نفي الحقيقة ، ولكن بعد النظر والإمعان نرى أ نّ نفي الحقيقة في هذه الاستعمالات ليس على نحو الحقيقة وإنّما على
(الصفحة110)
نحو الإدعاء . ومثال ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «يا أشباه الرجال ولا رجال»(1) .
فهنا الإمام (عليه السلام) ينفي عنوان الرجال وحقيقة الرجال . ولكن هذا النفي لا على نحو الحقيقة ، بل على نحو الإدّعاء . أي أنّه إذا وجد هناك رجال ، ولكن لم يلمس فيهم خصال الرجال ، من قبيل الحميّة والغيرة والشهامة والشجاعة ، حينئذ يمكن أن يقال على نحو الإدّعاء «لا رجال» لا على نحو الحقيقة . يقول المرحو الأخوند (قدس سره): إنّ عبارة «لا ضرر في الإسلام» هي من قبيل قول الإمام (عليه السلام) «لا رجال» فالإسلام يريد أن يبيّن هذه الحقيقة ، وهي أ نّ الآثار والصفات المترتّبة في الموارد الضرريّة «هنا يقع المرحوم في مغالطة ولسنا هنا بصدد بيان هذه المغالطة» من قبيل الوضوء الضرري والغسل الضرري تنتفي ، وحينئذ لايبقى هناك وضوء ولا غسل . أي أ نّ الوضوء إذا خرج عن كونه حكماً وانتفت منه صفة المقدّمية للواجب لايعدّ وضوءاً .
وبعبارة اُخرى: الوضوء مع احتمال الضرر ليس بوضوء . لانعدام آثار الوضوء من قبيل الوجوب والمقدميّة للصّلاة .
ونلاحظ على المرحوم المحقق الأخوند (قدس سره) بالإضافة إلى مغالطته ، أنّه يرى أ نّ الآثار والصفات المترتّبة على الموارد الضرريّة تنتفي بقاعدة لا ضرر . فوجوب الوضوء مثلاً ، إذا كان ضرريّاً فإنّ قاعدة لا ضرر تأتي وتنفي هذا الوجوب كمقدّمة للصلاة . إذن ، في الحقيقة هو يفسّر «لا» بأ نّها نافية ، ولكنّه لا يوجّه النفي إلى الحكم مباشرةً ، بل يوجّه حكم النفي باتّجاه الموضوع الضرري ويقول: إنّ حقيقة هذا الموضوع منتفية ، أي ينفي ماهيّة الوضوء باعتبار أ نّ الوضوء الضرري لا يتحقّق فيه آثار وصفات الوضوء .
1 . كفاية الاصول : 381 . وراجع نهج البلاغة ، الخطبة : 27 .
(الصفحة111)
إلى هنا ننتهي من بيان رأي هذين العلمين ، وننتقل الآن إلى من قال بأ نّ «لا» في قاعدة لا ضرر تفيد النهي .
رأي الشيخ الشريعة المحقق الأصفهاني (قدس سره):
ولشيخ الشّريعة المحقق الأصفهاني (قدس سره) في هذا المضمار كلام صريح حيث يقول: إنّ قاعدة «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» معناها أنه لا يحقُّ لأحد في الإسلام أن يلحق الضرر بالآخرين . وهذا نهيٌ وخطابٌ تكليفي . ثمّ يذكر عدّة آيات تشابه في دلالتها على النهي قاعدة لا ضرر منها قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}(1) .
فهنا لا رفث يعني: يحرم الرفث في الحجّ ، يحرم الفسوق في الحجّ ، يحرم الجدال في الحجّ . ويقول (قدس سره): إنّ قاعدة لا ضرر في الإسلام هي ينفي هذا المعنى ، أي يحرم الضرر . فـ«لا ضرر» تدلّ على أ نّ هناك تكليف من قبل الباري مفاده: أ نّ إضرار المسلم بأخيه المسلم هو من الأعمال المحرّمة إلى يوم القيامة(2) .
الإمام الخميني والنهي الولائي
وأمّا الإمام القائد (قدس سره) فيرى أيضاً أ نّ قاعدة «لا ضرر في الإسلام» تفيد النهي أيضاً . ويعتقد أ نّ النهي هنا هو من باب حرمة الضرر في الإسلام . لكنّه يقول: إنّ حرمة الإضرار هذه لا يكون حكماً إلهيّاً ، بل إنّ الحرمة هنا هو حكم ولائي من قبل الرسول . فالرسول له شؤون مختلفة ، منها النّبوة والوساطة في البلاغ عن الله سبحانه وتعالى ، وللرسول عنوان آخر ، وهو كونه حاكم على المسلمين . وبناءً على
1 . البقرة: 197 .
2 . قاعدة لاضرر ولا ضرار ص37 ، الفصل الثامن ، (ط) مؤسسة آل البيت .
(الصفحة112)
ذلك له الحقّ في أن يتدخّل في اُمور المسلمين ويحكم بما يراه ، لأ نّه وليّ أمر المسلمين .
وهذا ما نراه واضحاً في قضيّة سمرة بن جندب ، حين تدخّل الرسول الأكرم (قدس سره)وحكم لصالح الرجل الأنصاري ، لأنّ سمرة كان يدخل دار الأنصاري دون أن يستأذن ، أو يعلم الرجل الأنصاري وزوجته حين دخوله . وهذا ما يسّبب إحراجاً للأنصاري وزوجته التي فوجئت أكثر من مرّة بدخوله وهي على غير حجاب ، فطلب منه أن يستأذن ويُعلم من في الدار بدخوله فأبى بحجّة أ نّ النخلة في دار الرجل الأنصاري ملكه ، ومن حقّه أن يأتي إليها متى ما شاء ، وبعد أن شكى الرجل الأنصاري إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أحضر الرسول سمرة ، وخاطبه بلين في أن يستأذن قبل أن يدخل الدار ، فلم يقبل ذلك .
فطلب منه (صلى الله عليه وآله) أن يبيعها بأكثر من ثمنها ، وأبدى استعداده لشراء النخلة منه مهما كان الثمن . وقال له: أعوض نخلتك هذه بنخلة في الجنّة . ولكن سمرة بن جندب رفض هذه العروض ، هنا التفت الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى الرجل الأنصاري وقال له: أذهب وأقطعها فلا ضرر في الإسلام(1) .
من وجهة نظر الإمام الخميني (قدس سره) فإنّ لا ضرر ليس حكماً تحريمياً مثل «لا تشرب الخمر» ، أي أنه ليس حكماً تحريمياً ثابتاً إلى يوم القيامة . بل هو حكم ولائي يدخل ضمن المهامّ الحكوميّة للرسول (صلى الله عليه وآله) شرّعه الرسول حفاظاً للنظام الموجود في مجتمعه (صلى الله عليه وآله) آنذاك . ومن هنا فإنّ مقولة «لا ضرر» على رأي سيّدنا الإمام (قدس سره)لاتفيد الفقه لا من قريب ولا من بعيد . كما أ نّه يعتقد بضرورة فصل هذه المقولة عن فقهنا .
1 . وسائل الشيعة 25 : 429 ، باب عدم جواز الإضرار بالمسلم ، الحديث 1 و 3 و 4 .
(الصفحة113)
ومن هنا يمكن أن نقول: أ نّ قاعدة لا حرج تمتاز على مقولة لا ضرر بأ نّها لا يصدق فيها هذا الكلام .
الأقوال الأربعة وقاعدة نفي الحرج
هنا قد يتساءل: هل تجري هذه الأقوال الأربعة في قاعدة نفي الحرج جميعها ، أولاً ؟ .
في الجواب على ذلك نقول: إنّ القولين اللذين يعتبران أ نّ «لا» في «لا ضرر» ناهية ، ويفسّران القاعدة على هذا الأساس لايمكن تسريتهما في قاعدة لا حرج ، لأ نّ قاعدة «لا حرج» تتضمّن «ما» ولا توجد فيها «لا» كي يترّدد في شأنها: هل هي «لا» ناهية أم نافية؟
أضف إلى ذلك أ نّ ظهور العبارة يفيد الاخبار والحكاية . ولايمكن أن نتصور أ نّ مفاد قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} هو جملة إنشائية . إذن ، هذان الرأيان لايردان في هذه القاعدة ، وأمّا بالنسبة للتعبيرات الاُخرى من قبيل {وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} بمعنى أ نّ الله عزّوجلّ أراد أن ينفي إرادة الإعسار بكم ، فلا معنى للنهي . صحيح أن هناك «لا» قد وردت ، لكنّها نافية وليست ناهية .
والآية الاُخرى التي لابدّ من التوقّف عندها هي قوله تعالى على لسان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} . هذه الآية جاءت بصيغة الدعاء والطلب . وبناءً على القواعد اللغوية والأدبية فإنّ «لا» هنا ناهية ، ولذا جزمت الفعل المضارع . ولكن هذا لايعيّن أ نّ السياق في هذه الآية يفيد النهي الوارد على لسان الرسول بصيغة الدعاء . أي أ نّ القاعدة ليس مفادها «لا تحمل» . بل مفادها هو الإستجابة ، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق . حيث قلنا : إنّ
(الصفحة114)
سياق الآية يشعرنا أ نّ الدعاء قد استجيب . وأ نّ الله تبارك وتعالى لم يحمل الإصر . وهذا يعني أ نّ الجملة خبريّة وليست إنشائيّة .
من هنا نلّخص إلى هذه النتيجة ، وهي أ نّ الآيات الواردة في قاعدة لا حرج ، لايمكن أن نستفيد منها المفهوم الذي يستخلصه شيخ الشريعة الأصفهاني (قدس سره) من قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام .
هل يمكن الاستفادة من القرآن في الأحكام الولائية؟
ويتّضح رأي الإمام (قدس سره) في هذه المسألة من خلال وجهة نظره في خصوص قاعدة لا ضرر ، إذ أ نّ قاعدة لا حرج مستندة إلى القرآن الكريم ، أي أ نّها كلام الله ، بخلاف قاعدة لا ضرر التي لاتستند إلى أصل قرآني ، بل هي قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قضيّة سمرة بن جندب . ولو كانت قاعدة لا ضرر تستند إلى أصل قرآني لما اعتبرها السيّد الإمام (قدس سره) حكماً ولائيّاً .
إذن ، قاعدة نفي الحرج لاتشملها مقولة الإمام (قدس سره) في خصوص قاعدة لا ضرر ، لأن أدلّة قاعدة الحرج ، مأخوذة من في القرآن الكريم . وليست حكماً ولائيّاً كما هو الحال في قاعدة لاضرر . والحكم الولائي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لادليل عليه من القرآن إلاّ أ نّ القرآن الكريم قد يذكر حكماً ولائيّاً من باب الحكاية عنه . أي أ نّه قد يذكر بعض المسائل من قبيل الحكاية ، لا بمعنى أنه يتبنّى تلك المسائل بنفسه ، بناءً على ذلك لايمكن طرح أيّاً من مبنيي المرحوم شيخ الشّريعة الأصفهاني (قدس سره)والسيّد الإمام (قدس سره) الوارد في لا ضرر ، في قاعدة لا حرج .
وأمّا الرأي الآخر والذي يتبنّى على أساس أ نّ «لا» في لا ضرر هي نافية ، وعبرّ عنه ببيانين: أحدهما للشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه ـ والآخر للمحقّق الخراساني (قدس سره) في كتاب الكفاية ، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يصدق كلا
(الصفحة115)
المعينين في قاعدة لا حرج ، أو لا يصدق؟
نأتي للتفسير الذي طرحه الشيخ الأنصاري (قدس سره) في خصوص قاعدة لاضرر . يقول الشيخ: إنّ الضرر هنا هو صفة للحكم الإسلامي ، أي للوجوب وما يشابه الوجوب ، معنى قوله لا ضرر هو أ نّ الإسلام يشرع فيه حكم ينشأ منه . هل هذا المعنى ينطبق مع قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} .
يظهر لأوّل وهلة أ نّ هذا المعنى يمكن تطبيقه على قاعدة نفي الحرج ، ومطابقته لهذه القاعدة أجلى وأوضح من مطابقته على قاعدة لا ضرر . لأنّه بناءً على مبنى الشيخ (قدس سره) لابدّ وأن نلتزم بالحذف بأن نقول : هناك محذوف ، فلا ضرر يعني: لا حكم ينشأ منه الضرر ، أ مّا في {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} لا داعي للحذف . لإنّ قوله «ما جعل» يعني ما شرع لكم في الدين . ويستشعر من كلمة «في الدين» أ نّ المقصود هنا هو الوظائف والتكاليف العمليّة . صحيح أ نّ الدين هو مجموعة من اعتقادات وواجبات ، ولكن يفهم من السياق أ نّ هناك تأكيداً على الوظائف العمليّة خاصّة . بمعنى أنّ الله تبارك وتعالى لم يجعل عليكم فيما قرّره من التكاليف من حرج ، فواضح أ نّ المعنى مطابق لمنطوق الآية ، ولا يلزم أن نقدّر كلمة ، كأن تكون كلمة «حكم» مثلاً . أي أ نّ ما قاله الشيخ الأنصاري (قدس سره) في خصوص قاعدة لا ضرر تدلّ عليه الآية في قاعدة لا حرج بوضوح . فقد يجد من لايقبل بالمعنى الذي يطرحه الشيخ في خصوص قاعدة لا ضرر ، إلاّ أنه لايمكن أ نّ نتصوّر أن هناك أحداً يرفض الظهور الذي تدلّ عليه الآية في قاعدة لا حرج .
إذن ، ما بيّنه الشيخ سابقاً ممكن تصوّره بسهولة وأوضح من ذي قبل في قاعدة لا حرج .
(الصفحة116)
النفي الإدّعائي وقاعدة نفي الحرج
وأمّا على أساس مبنى المحقق الخراساني (قدس سره) الذي كان يرى أ نّ «لا ضرر» على نحو نفي الحقيقة ، فكلمة الضرر اخذ فيها لحاظ الماهيّة ، و «لا» تدلّ على النفي أي تنفي هذه الحقيقة . ولكن المرحوم اعتبر في نفي الحقيقة لحاظين: فتارةً يكون نفي الحقيقة على نحو الحقيقة ، وتارةً على نحو الادّعاء ، فهو يعتبر «لا ضرر» تفيد نفي الحقيقة ، ولكن لا على نحو الحقيقة ، وإنّما على نحو الإدّعاء . إذن ، لا ضرر يعني لا وضوء مع الضرر ، أي أ نّ آثار الوضوء كالوجوب والمقدّمية تنتفي ، فلا يكون واجباً ولا يكون مقدّمة للصلاة ، بل ينتقل إلى التيمّم .
من هنا يتبيّن لدينا أ نّ نقطة الإرتكاز في كلام الآخوند (قدس سره) هي نفي الحقيقة ادّعاءاً ، والآية لاتفيد نفياً للحقيقة من الأساس ، وفرضاً لو أخذنا بكلام المحقق الخراساني (قدس سره) في خصوص لا ضرر ، فهل بالإمكان أن نطبق كلامه هذا في خصوص قاعدة لا حرج؟
والجواب: كلاّ ، لأ نّ محلّ الكلام هنا مباين لما هو عليه من قاعدة لا ضرر ، والتعبير هناك في قاعدة لا ضرر يبتني على أساس نفي الحقيقة ، وأمّا هذه القاعدة فتفيد الإخبار عن عدم الحكم . والإخبار عن عدم الحكم هو من مهامّ الله تبارك وتعالى ، كما أ نّ ثبوت الحكم أيضاً هو من مهامّ الباري عزّوجلّ . وهذا بخلاف مالو اُريد طرح موضوع من المواضيع على نحو نفي الحقيقة ، فيأتي الكلام فيه: هل هذا النفي للحقيقة على نحو الحقيقة ، أو على نحو المجاز والمسامحة؟ والكلام في قاعدة لا حرج يلحظ فيه نفي الحقيقة من الأساس . والحاصل أ نّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يخبرنا بعدم الجعل .
ويظهر من خلال ذلك أ نّ رأياً واحداً من مجموع الأربعة الآراء التي استعرضناها يمكن أن ينطبق على قاعدة لا حرج بطريق أولى وأوضح من إنطباقه
(الصفحة117)
على قاعدة لا ضرر ، وبناءً على هذا الرأي ، أمكن القول أ نّ مفاد {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} أن الله تبارك وتعالى لم يقرّ جعلاً ينشأ منه الحرج .
الثمرة على اختلاف المباني:
هنا لابدّ في التوقّف عند نقطتين:
النقطة الاُوّلى: هي أ نّنا لو فرضنا أ نّ المعنى الذي أشار إليه المحقّق الخراساني (قدس سره)في خصوص قاعدة لا ضرر يمكن أن يصدق هنا أيضاً ، فقوله «ما جعل» على أنها تفيد نفي الحقيقة . وكأ نّ آية: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} هي بمعنى: ليس في الدين وضوء حرجي . فإذا حملناها على هذا المعنى ، فهل هناك ثمرة بين هذا المعنى والمعنى الظاهري .
ذكر المرحوم البجنوردي (قدس سره) في كتابة القواعد الفقهية في قاعدة لا حرج ، ثمرة علمية مبتنية على أساس كلام المرحوم الشيخ الأنصاري (قدس سره) المحقق الخراساني (قدس سره) إذا أردنا تطبيق كلامهما على قاعدة لا حرج . والثمرة هي أن المرحوم الآخوند (قدس سره) في الكفاية في بعض الموارد استفاد من قاعدة لا حرج في إبطال وجوب الاحتياط العقلي .
بعبارة اُخرى: هناك بعض الموارد التي مع فرض عدم وجود قاعدة لا حرج ، يحكم العقل فيها بالاحتياط . ومن هذه الموارد الشبهات غير المحصورة .
ونعني بالشبهات غير المحصورة إنّك لو علمت علماً إجماليّاً بأ نّ أحد أفراد الخبز في المدينة طبخ من طحين نجس ولنفرض أن الطحين كان يحوي على فضلة فأر ، وتعلمون أ نّ في الشبهة المحصورة يحكم العقل بوجوب الاحتياط ، وبالتالي بوجوب الإجتناب في جميع أطراف العلم الإجمالي . والشبهات غير المحصورة حكمها الأوّلي هو نفس هذا الحكم . إذ أ نّ العلم الإجمالي لايختلف عن العلم
(الصفحة118)
التفصيلي من حيث منجزيّته . فكما أ نّ العلم التفصيلي منجزّ ، العلم الإجمالي هو أيضاً منجّز ، فلو تحقّق العلم الإجمالي بالحرمة ، فإنّ العقل يحكم بلزوم الإجتناب إذا كانت أطراف العلم الإجمالي محصورة ، ويحكم بلزوم الإحتياط إذا كانت أطراف العلم الإجمالي غير محصورة ، إلاّ أ نّ المرحوم المحقق الخراساني (قدس سره) يقول بأ نّه من الممكن أن نرفع اليد عن لزوم الاحتياط بقاعدة نفي العسر والحرج .
ومن هنا وجد التباين بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة . لأ نّ لزوم الاحتياط في الشبهات المحصورة لايستلزم العسر والحرج . أمّا في الشبهات غير المحصورة فإنّ لزوم الاحتياط يسلتزم العسر والحرج . ولذلك نرفع اليد عن هذا اللزوم . ونقول: لايلزم عليك أن تحتاط . وأمّا القدر الذي يمكن أن يرتفع ، فهذا خارج عن دائرة البحث ، بل إنّ المرحوم الخراساني (قدس سره)يذهب إلى أكثر من ذلك ، وهو أ نّنا لانرفع اليد عن لزوم الاحتياط إستناداً إلى قاعدة نفي الحرج فحسب ، بل نجعل هذا المعنى هو الملاك في الشبهة غير المحصورة .
إذن ، المرحوم المحقق الخراساني (قدس سره) يرفع لزوم الاحتياط في الشبهة غير المحصورة بقاعدة العسر والحرج .
وهنا يُطرح هذا السؤال على المرحوم الخراساني (قدس سره): ما هو التعريف الذي عرفت به قاعدة نفي العسر والحرج والذي يمكن من خلاله رفع اليد عن لزوم الاحتياط العقلي مع كونه حكماً عقلياً بالتمسّك بقاعدة نفي الحرج؟
من وجهة نظرنا فإنّ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} غير خارجة عن دائرة الأحكام الشرعيّة . فالفعل «جعل» فاعله هو «الله» أي: ما جعل الله عليكم في الدين من حرج ، وقاعدة لا حرج تقول: إنّ الحكم الشرعي إذا استلزم الحرج فإنّ هذا الحكم حينئذ غير مجعول من قبل الباري عزّوجلّ .
ومن هنا في الشبهات غير المحصورة نسأل الآخوند (قدس سره) عن رأيه في قاعدة لا
(الصفحة119)
حرج ، وكيف يفهمهما؟ لأ نّ الموجود في الكفاية هو تفسيره لقاعدة لا ضرر ، وأمّا قاعدة لا حرج فلا ندري ماهي وجهة نظره فيها .
فإذا كان يرى أن قاعدة لا حرج تساوق قاعدة لا ضرر من حيث المعنى ، فهذا يعني أ نّه لايمكن الجمع بين فتواه في خصوص الشبهة غير المحصورة ، وبين المعنى الذي يأخذ به في خصوص القاعدة . لأ نّه استناداً على مبناه ، فإنّ ما يمكن أن نستفيده من الآية في المثال أ نّ هناك علماً إجمالياً بالنجاسة في الأطراف غير المحصورة ، إذاً ، لا نجاسة ، وكأنه لا توجد هناك أيّة نجاسة ، حيث تنفي حقيقة وجود النجاسة . لتحقّق الحرج . فالآخوند (قدس سره) ينفي النجاسة المتردّدة بين الأطراف غير المحصورة ، أي ينفي موضوع النجاسة لما يلزم منها الحرج . ولكن النجاسة بنفسها لا يلزم منها الحرج ، وإنّما لزوم الاحتياط في النجاسة هو يلزم الحرج . فلو لم يلزم عن العلم الإجمالي الاحتياط العقلي ، لما وقعنا في الضيق والحرج ، حتّى مع بقاء العلم الإجمالي بالنجاسة على قوّته . وفي الردّ على ذلك نقول:
أوّلاً: إنّ قاعدة الحرج لا تستلزم حكماً عقلياً .
ثانياً: إنّ الأثر المترتّب على النجاسة أثر شرعي ، ولزوم الاحتياط العقلي يستلزم الحرج ، وبناءً على ذلك إذا أراد المرحوم الآخوند (قدس سره) أن يطبق مفاد قاعدة لا ضرر في خصوص قاعدة لا حرج ، أي يرفع لزوم مراعاة الاحتياط بقاعدة لا حرج ، لزم من ذلك التناقض مع ما قلناه من أ نّ قاعدة لا حرج لا تستلزم حكماً عقلياً . وأمّا على ما نقول به نحن ، فيمكن أن نوفّق بينهما . لانّنا نناقش الموضوع على الأساس الحكم الشرعي ، فمثلاً ، إذا اختلطت فضلة الفأرة بالطحين في أحد أفراد الخبز ، واستلزم الحكم بنجاسة فضلة الفأرة لزوم الاحتياط ، حينئذ يمكننا القول أ نّ الحكم بالنجاسة يلزم عنه الحرج ، وهنا يتدّخل الشارع إنطلاقاً من قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ويرفع الحكم بالنجاسة .
(الصفحة120)
آية الحرج ومفهوم الوصف
والآن نبحث هذه القاعدة من زاوية اُخرى ، فنقول هل الحرج الموجود في الآية ينطبق عليه عنوان الوصف؟ وإذا كان كذلك فما هو الموصوف؟
الموصوف هو الحكم ، فقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} يعني ما جعل عليكم في الدين من حكم حرجي ، فهل الحرج هنا صفة ونعت للحكم ، أو أ نّ الحرج صفة لفعل المكلّف ، أي ما جعل عليكم في الدين من فعل حرجي وعمل حرجي؟ فإذا جعلنا الحرج صفة للفعل ، حينئذ يكون «وما جعل» بمثابة ، ما أوجب ، يعني: ما أوجب الله عليكم في الدين فعلاً حرجيّاً ، ولقائل أن يقول: ما الداعي لإثارة مثل هذا الاستفهام والخوض فيه؟
والذي يدعونا لإثارة هذه النقطة ، هو أ نّنا عادة ما نواجه حرجاً في موارد متعدّدة ، وعليه لابدّ أن نشخّص ما هي الاُمور التي تستدعي الحرج ، هل التوضؤ أو الإغتسال في جوّ شديد البرودة هو من الحرج؟ فإذا قلنا بذلك فمؤدّى ذلك أ نّ الأمر الحرجيّ هو ما كان يحسب حرجيّاً في الخارج ، أي أ نّ عمل المكلّف قد يسبّب حرجاً ، وهذا يستدعي أن نعتبر الحرج في الآية الكريمة صفة للفعل ، وإذا جعلنا الحرج صفة للفعل فيكون معنى الآية: ما أوجب الله عليكم فعلاً حرجيّاً ، وما أوجب الله عليكم وضوءً حرجيّاً .
ولكن هذا الفهم للآية غير موافق لظاهرها ، لأ نّ عبارة «من حرج» في الحقيقة حلّت محلّ مفعول مطلق نوعي ، فلو أردنا أن نمعن النظر في الآية من الناحية الأدبيّة يبدو أ نّ الحرج يتعلّق بالفعل . أي أ نّ الحرج صفة للفعل . فهو مفهوم نوعي مطلق ، هنا لابدّ من الإجابة على هذا السؤال ، وهو: هل المجعول الذي دلّ عليه فعل «جعل» هو نفس فعل المكلّف ، أو أ نّ المجعول هو عبارة عن الحكم الشرعي؟ أي أ نّ ما جعله الله تبارك وتعالى هو جعل الإيجاب كوجوب الوضوء ،
|