(الصفحة121)
أو الوضوء بذاته غير مجعول من قبل الله ، وبغضّ النظر عن أ نّ الوضوء يتضمّن حقيقة شرعيّة ، فإنّ مواضع أفعال المكلّف ليست من المجعولات الشرعيّة . فليس بمقدورنا أن نقول بأ نّ الله تبارك وتعالى جعل الوضوء ، ثمّ نفسّر جعل الوضوء بمعنى أ نّه أوجب الوضوء . والصحيح أن الله جعل وجوب الوضوء ، ولذلك نرى أنهم يعبرّون عن الأحكام التكليفيّة بالمجعولات الشرعيّة . ففي شرب الخمر هل من الصحيح أن نقول: جعل شرب الخمر؟
قد يقال: إنّ الجعل في الواجبات التي ليس لها أيّة حقيقة شرعية يستعمل كذلك ، فهل من الصحيح أن نقول: إنّ الشارع جعل ردّ السّلام ، أو أ نّ الصّحيح هو أ نّ الشّارع جعل وجوب ردّ السلام ، فمجعول الشارع هو وجوب ردّ السلام لا ردّ السلام بذاته ، ردّ السلام فعل للمكلّف ، وهو أمر تكليفي وحقيقة خارجية . أ مّا ما يتعلّق بالشارع بما أ نّه جاعل فهو الحكم المتعلّق بردّ السلام ، أي وجوب ردّ السلام .
إذن ، لا معنى لأن نعلّق الجعل على الوضوء فنقول: جعل الوضوء ، ومن ثمّ نقول: جعل الوضوء يعني وجوب الوضوء . فالأحكام التكليفيّة هي المجعولة شرعاً ، وأمّا متعلّقاتها فليست مجعولة .
والسبب في إثارتنا لهذه النقطة التي هي خارجة عن دائرة بحثنا هو أ نّهم قالوا: لابدّ من تشخيص موارد الحرج في الخارج ، فالوضوء بالماء البارد في فصل الشتاء ممّا يستدعي الحرج ، وبناءً على ذلك فسّروا قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} بمعنى ما أوجب الله من فعل حرجي .
وفي مقام الردّ على هذا المعنى نقول: ليكن الوضوء بالماء البارد أمراً حرجيّاً ، فما علاقة ذلك بي كمكلّف إذا لم يكن الوضوء واجباً ، وكلمة «عليكم» التي وردت في الآية الكريمة توحي أ نّ الأمر مرتبط بالمكلّف ، وأمّا الوضوء فما لم يكن حكماً
(الصفحة122)
تكليفيّاً لا يدخل ضمن اهتمامات المكلّف ، ولا ربط له به حتّى لو كان الفعل ممّا لا يطاق ، فما يتعلّق بالمكلّف هو التكليف ، وهناك أشياء كثيرة في العالم تستدعي الحرج ، فهل تريد الآية أن تربط هذه الأشياء بالمكلّف؟ إنّ الحرج المقصود إنّما هو بالتكليف ، فلو قالوا: يجب عليك أن تتوضّأ بالماء البارد في فصل الشتاء فقد ضيّقوا عليك ، وأمّا إذا لم يوجبوا الوضوء حينئذ لا يهمّك ما إذا كان الوضوء بالماء البارد فيه حرج أو ضيق .
إذن لابدّ أن نلتفت إلى هذه النقطة ، وهي أ نّ الوضوء بالماء البارد لا علاقة له بالمكلّف ، لا من قريب ، ولا من بعيد ، إلاّ بعد أن يكون تكليفاً ، فمعنى الآية واضح وصريح ، وهو: ما جعل عليكم في الدين من جعل حرجي ، ولا معنى لأن نقول: الوضوء هو المجعول ، والفعل هو المجعول إلاّ على سبيل المجاز والمسامحة .
والشيخ الأنصاري (قدس سره) في بيانه لقاعدة لا ضرر اختار هذا المعنى أيضاً ، حيث إعتبر كلمة «ضرر» صفة للحكم وقال: إنّ «لا ضرر» يعني ما جعل في الإسلام حكم ضرري ، ويتّضح هذا المعنى بشكل أكبر في الآية: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ومن الناحية الأدبيّة أيضاً يفترض أن تكون العبارة «من حرج» مكان المفعول المطلق والذي يفيد النوع ، أي ما جعل عليكم في الدين جعلاً حرجياً .
محصّل القول: إنّ قاعدة لا حرج واضحة وصريحة في معناها ، وهو أ نّ الله تبارك وتعالى إمتناناً على الاُمّة الإسلامية وعلى الأمّة المرحومة لم يجعل لها حكماً حرجيّاً ، والأحكام التي جعلت للاُمّة هي أحكام غير حرجيّة .
قاعدة لا حرج والأدلّة المثبتة للأحكام
ثمّ ندخل في مباحث اُخرى ، في تحديد النسبة القائمة بين قاعدة لا حرج
(الصفحة123)
والأدلّة للأحكام بالعنوان الاوّلي ، وبعبارة اُخرى : ماهي النسبة بين قاعدة لا حرج ودليل وجوب الوضوء؟ وأيّ نسبة بينها وبين الدليل الموجب للغسل ، وماهي العلاقة بينها وبين الدليل الذي يقضي بوجوب الصيام عندما يكون الصيام مستدعياً للحرج؟ إذ أ نّ تحديد النسبة بين قاعدة لاحرج والأدلّة الأوليّة هو من البحوث المهمّة .
البحث الآخر في أنه هل يوجد هناك ثمّة موارد خاصّة خرجت عن هذه القاعدة ، أو لا؟ ولو سلّمنا بوجود موارد خرجت بالتخصيص ، فهل هذه المواد كثيرة بحيث تجعل من قاعدة لا حرج قاعدة موهونة ، أو أ نّها ليست من الكثرة بحيث توجب الوهن في القاعدة؟
ومن المباحث الاُخرى في هذا المجال هو لو أ نّ إنساناً لم يستفد من التسهيل والإمتنان الذي توفّره له القاعدة ، ولنفرض أ نّه صام مع كون الصوم بالنسبة إليه حرجيّاً ، فهل يصحّ صومه أم أ نّ صيامه باطل؟ وهناك عدّة مواضع اُخرى كلّ منها مفيدة بحدّ ذاتها . نعود إلى البحث الأوّل الذي أشرنا إليه في النسبة بين قاعدة لا حرج والأدلّة الأوليّة المثبتة للتكليف .
المرحوم صاحب الرياض(1) والمرحوم النّراقي (قدس سره) في كتاب «العوائد»(2) ذهبا إلى الرأي القائل بأ نّ قاعدة لا حرج تعارض الأدلّة الأوليّة ، والتقابل الموجود هو تقابل العموم والخصوص من وجه ، فأيّ دليل من الأدلّة إذا ما قيس بالقاعدة سوف يكون بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه ، فلو أخذنا قاعدة لا حرج مع دليل الوضوء على سبيل المثال نرى أ نّ دليل الوضوء ينصّ على أ نّ الوضوء واجب ، سواء إستدعى الحرج ، أو لم يستدعي ، فمفاد قاعدة لا حرج هو أ نّ الحكم
1 . لم نعثر عليه .
2 . العوائد ، ص64 .
(الصفحة124)
الحرجي مرفوع ، سواء كان ضمن الوضوء ، أو غيره من الأعمال والأفعال التكليفية ، فهما يجتمعان في أمر واحد ، وهو الوضوء الحرجي ، ويفترقان بأمرين هما الوضوء غير الحرجي ، والآخر الحرج في غير الوضوء ، ففي الوضوء غير الحرجي ما به الافتراق هو دليل الوضوء ، وأمّا في باب الحرج الموجود في غير الوضوء ، فإنّ ما به الافتراق هو دليل نفي الحرج ، فيتعارض الدليلان ، أي دليل نفي الحرج مع دليل الوضوء ، إذن في حال تعارضهما ما هو الحلّ؟
حينئذ لابدّ من وجود حرج خارجي يمكن من خلاله حلّ المسألة على أساس قاعدة لا حرج ، وبدون حرج خارجي يبقى لدينا دليلان متعارضان ينفي أحدهما الآخر .
هذا تمام الكلام الذي أفاده هذان العلمان من علمائنا الكبار ، ولكن يبدو أنه في زمن هذين العلمين لم يكن عنوان حكومة الأدلّة مبيّناً ولم يكن في زمانهما وضوح في خصوص هذه المسألة . ومن هنا نجد أنه لمّا وصل الدور إلى المرحوم الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه الشّريف صرّح بهذا المعنى ، وهو أ نّ قاعدة لا حرج كقاعدة لا ضرر في دلالتها ، وهي حاكمة على الأدلّة الأوّليّة ، وهذا يعني أنه لايمكن لنا أن نقدّر النسبة بين الدليل الحاكم والمحكوم ، ولايمكن أن نقول: إنّ هناك إشتراك من جهة ، وإفتراق من جهتين ، كما أ نّه لا نلحظ منهما ـ أي في الدليل الحاكم والمحكوم ـ أيّهما ظاهر وأيّهما أظهر من حيث لسان الدليل ، حيث تنتفي هنا مسألة الظاهر والأظهر بين الدليل الحاكم والمحكوم ، بل إنّ الدليل الحاكم وإن كان ضعيفاً من حيث الدلالة فهو مقدّم على الدليل المحكوم ، لأ نّ الدليل الحاكم بمثابة الشارح والمفسّر للدليل المحكوم ، وظيفته الإشراف على الدليل المحكوم ، ولكن توجد في الدليل المحكوم جوانب عديدة غير ملحوظة ، سواء فيما يختصّ بموضوع الدليل المحكوم ، أو بما يرتبط بالمقدّمات أو بالنتائج .
(الصفحة125)
إذن ما يقول المرحوم الشّيخ الأنصاري (قدس سره) هو أ نّ الآية: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} تعتبر دليلاً حاكماً ، ولذا لا داعي لأ نّ نلحظ النسبة ، كما أ نّه لايلزم أن يكون هناك حرج خارجيّ ، لأ نّ العبارة حاكمة وجاءت في مقام الإخبار ، وهي ناظرة إلى المجعولات ، أي الاُمور التي هي ترتبط بالباري جلّ وعلا ، خصوصاً وأ نّ الآية ورد فيها «في الدين» يعني مجموعة التكاليف ، سواء اشتملت كلمة الدين على العقائد ، أو لم تشتمل ، فهذا ما لسنا بصدده وخارج عن موضوع بحثنا . ما يهمّنا من كلمة «في الدين» هو الجانب الفقهي ، ففي الدين يعني في المقرّرات الإسلامية ، وفي الأحكام الإلهيّة ، في الوجوبات والتحريمات وأمثال ذلك .
فلو كانت العبارة هي كالتالي «ما جعل عليكم في التكاليف من حرج» إذن تكون واضحة في دلالتها على الوضوء والغسل والصوم وغير ذلك من التكاليف التي تشكّل بمجموعها مفهوم الدين ، فحتّى لو لم تكن هناك عبارة «في الدين» فإنّ معنى حاكميّة هذه القاعدة ظاهرة من خلال العبارة ، ولكن عبارة «في الدين» توضح المسألة بشكل أكبر . وتوحي أ نّ مجموعة الأحكام ما جعل فيها الباري تبارك وتعالى من حكم حرجي ، وإذا كان الإطلاق الموجود في بعض الأدلّة يقيّد تعيّن الوجوب في الوضوء حتّى في حال الحرج ، فإنّ حقيقة الأمر ليس كذلك ، ووجوب الوضوء ليس مجعولاً .
إذن عبارة «في الدين» لها دخل في قاعدة نفي الحرج . فإنها تخرج المسألة عن باب التعارض فلا يبقى أي مجال للقول بأ نّ قاعدة نفي الحرج تقع في موازاة دليل وجوب الوضوء ، وبعبارة اُخرى: إنّها بقوّة الأدلّة التي تدلّ على الإيجاب وتشرع الأحكام .
أضف إلى ذلك أ نّ رواية عبد الأعلى التي بحثناها سابقاً تحكي عن الإمام
(الصفحة126)
قوله: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله» أي من الآية الكريمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} إذن ، الآية تحلّ لنا الإشكال ، ولكن لو كان هناك تعارض بين الآية ، والدليل على الوضوء ، فكيف تحلّ المسألة؟ يرى المحقق النراقي (قدس سره) صاحب كتاب العوائد أ نّه في حال حصول التعارض بين الآية وبين دليل الوضوء فنحتاج إلى مرجع خارجي ، وعندما ترجعون إلى آية «ما جعل» فإنكم في الواقع قد رجعتم إلى دليل معارض ، أمّا الرّواية فمفادها أ نّ المسألة ليس بهذا الشكل ، فمتى دقّقتم في الآية: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} فسوف تتوصّلون إلى هذه النقطة ، وهي أ نّ المسح على البشرة غير واجب ، والسؤال هو: متى يصحّ هذا الكلام؟
والجواب: أ نّه غير صحيح مالم يكن مبتنياً على أساس الحكومة ، أي على أساس أ نّ هناك دليلاً حاكماً على دليل آخر .
وبناءً على ذلك نصل إلى ما أفاده الشيخ الأنصاري (قدس سره) من أ نّ قاعدة لا حرج لا يبحث فيها مسألة معارضتها للأدلّة الأوليّة ، بل أ نّ البحث فيها هو من جهة الحاكميّة والمحكوميّة ، والدليل الحاكم لايبحث فيه سوى جهة حاكميته ، ولا يلحظ فيه لا النسبة ولا قوّة الدلالة ، فإذا ثبت الدليل الحاكم ، فلا داعي لبحث الأظهريّة والظاهريّة ، لأ نّ الظاهريّة والأظهريّة بحث آخر ، ولا يرتبط بمسألة الحاكميّة والمحكوميّة والتي تشكل باباً مستقلاًّ بنفسها .
ردّ كلام صاحب الرياض والنراقي (قدس سره)
أمّا ما أفاده المرحوم النراقي والمرحوم صاحب الرياض (قدّس سرّهما) من أ نّه: لابدّ من مرجّح خارجي . ففي مقام الردّ عليهما فنقول: نحن لانسلّم بأ نّ هناك تعارضاً ، هذا أوّلاً .
(الصفحة127)
وعلى فرض تسليمنا فالإشكال الثّاني هو أ نّه لقائل أن يقول: إنّ قاعدة لا حرج لابدّ وأن تكون متقدّمة على غيرها ، ولا تحتاج بالأساس إلى مرجّح خارجي ، والسبب في تقدّم قاعدة لا حرج مع افتراض التعارض هو أ نّ قاعدة لا حرج إنّما جاءت في مقام الإمتنان ، وهذا دليل على تقدّمها على الأدلّة الأوليّة ، وإلاّ لو كانت محكومة من قبل الأدلّة الواقعيّة . أي أن تكون الأدلّة الأوليّة متقدّمة عليها لما بقي هناك ما يمُنَّ به الله على هذه الاُمّة ، إذن أين هذا الامتنان؟ وقد منّ الله على هذه الاُمّة بما لم يمنّ به على غيرها من الاُمم فأقتضى ذلك أن تكون القاعدة راجحة على دليل الوضوء دائماً ، ولا حاجة إلى مرجع آخر ، بل أ نّ القاعدة بنفسها متقدّمة ، لكونها جاءت في مقام الإمتنان ، والإمتنان هو المرجع الذي يقتضي أن تكون قاعدة لا حرج متقدّمة على الأدلّة الأوليّة .
ولو فرضنا أ نّ هناك نوعاً من التعارض ، مع ذلك لا حاجة للتعويل على المرجع الخارجي ، بل إنّ قاعدة الإمتنان تثبت أرجحيّة قاعدة نفي الحرج حتّى مع فرض التعارض ، والصواب هو فيما عرضه الشيخ الأنصاري (قدس سره) من أ نّ دليل نفي الحرج حاكم على الأدلّة الأوّليّة .
قاعدة لا حرج والتخصيص
هل تقبل قاعدة لا حرج التخصيص ، أو لا؟ وبعبارة اُخرى: هل يمكن تخصيصها ، أو لا يمكن تخصيصها؟ ولو فرضنا أ نّ تخصيصها أمراً ممكناً ، فهل جرى عليها التخصيص أم لا؟
ولو فرضنا وقوع التخصيص ، فهل أ نّ موارد التخصيص كثيرة ، أم لا؟ وهذا البحث من المباحث المهمّة في قاعدة لا حرج .
أمّا إمكان التخصيص وعدمه ، فقد قلنا فيما سبق : من أ نّ البعض اعتبر قاعدة
(الصفحة128)
لا حرج قاعدة عقلية ، وذكرنا جملة من القرائن إستدلّ بها هذا البعض . ولكن جميع الإستدلالات والقرائن التي ساقوها كانت قابلة للردّ والمناقشة . ولو سلّمنا بأن هذه القاعدة هي قاعدة عقليّة كما ذهب إليه بعض الأعلام من أساتذة الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه ، حينئذ تكون غير قابلة للتخصيص ، لأ نّ حكم العقل لا يخصّص ، فلا يمكن أ نّ نتصوّر أ نّ هناك إستثناء وشواذّ في القاعدة ، إلاّ إذا كان الإستثناء إستثناءً منقطعاً خارجاً عن موضوع حكم العقل ، وأمّا مع بقاء الموضوع ، فلا إستثناء في الأحكام والقواعد العقليّة .
إذن ، القائلون بأ نّ قاعدة لا حرج هي قاعدة عقليّة ، رفضوا إمكان التخصيص . وبناءً على ذلك لايمكنهم أن يبحثوا في أ نّ القاعدة ، هل خصّصت أو لم تخصّص؟ ولكن إذا قلنا بشرعيّة القاعدة ، أي أنّها قاعدة شرعيّة تعبديّة ، فمن الواضح أ نّ القاعدة الشرعيّة قابلة للتخصيص ، وعليه فالقائلين بشرعيّة القاعدة يمكنهم أن يفرضوا موارد إستثناء وموارد تخصيص للقاعدة . أ مّا لو قلنا بأن القاعدة وردت في مقام الإمتنان ، فهل هي بذلك قابلة للتخصيص ، أو أنّها غير قابلة للتخصيص؟
هل هناك ثمّة منافاة بين كون القاعدة واردة في مقام الإمتنان ، وبين قبولها التخصيص؟ مع أ نّنا في مقام الإثبات قد يتراءى لنا في الظاهر أ نّ القاعدة لم تخصّص ، ولكن هذا الإستظهار يتعلّق بمقام الإثبات ، أمّا من حيث الثبوت فليس بمقدورنا أن نجزم بأ نّ ما ورد في مقام الإمتنان لا يمكن أن يخصّص . فالحديث المشهور «رفع عن امّتي مالا يطيقون» ورد في مقام الإمتنان ، لكن ومع علمنا أ نّ من الموارد التسعة التي ذكرت في هذا المجال هو «ما استُكرهوا عليه» ، إلاّ أن الإكراه على القتل قد استثني بمقتضى الأدلّة الخاصّة . فالإكراه على القتل لايجيز القتل حتّى ولو هُدِّد المكرهُ بالقتل . إذن لايوجد لدينا أيّ دليل على استحالة هذا المعنى وهو
(الصفحة129)
أ نّه إذا كانت القاعدة واردة في مقام الإمتنان ، حينئذ تكون كالقاعدة العقليّة في إستحالة التخصيص . فمن الممكن أن ترد القاعدة في مقام الإمتنان ومع ذلك فهي قابلة للإستثناء في بعض الموارد ، لوجود خصوصيّة معيّنة تمتاز بها تلك الموارد .
من هنا نخلص إلى القول بأ نّ قاعدة لا حرج هي قاعدة شرعيّة وتعبّدية ، وهذا يبدو واضحاً من خلال أسانيد القاعدة . فالقاعدة تستند إلى الآيات والروايات فقط . وحتّى الإجماع لا مدخليّة له في قاعدة لا حرج . كما أ نّ دليل العقل لا مجال له في هذه القاعدة . وكما يظهر من الروايات والآيات أ نّ القاعدة وردت في مقام الإمتنان . وبناءً على ذلك فإنّ قاعدة لا حرج قابلة للتخصيص . وعليه لابدّ من أن نبحث في الشريعة الإسلامية لنرى هل هناك ثمّة أحكام مخصّصة في قاعدة لا حرج؟
وما يظهر من أدلّة القاعدة هو أ نّ هذه القاعدة في مقام الإثبات لم تخصّص . فلو أمعنّا النظر في الآية: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} أو في الآية {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} والآية: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} خاصّة الآية الأخيرة ، حيث نلحظ فيها أ نّ كلمة «إصراً» وردت نكرة في سياق النفي . وظاهر هذه الآية أ نّ دعاء الرسول جاء بهذا النحو أيضاً .
إنّ تعبير الآية يختلف عن التعبير في قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} حيث نلاحظ أ نّ هناك موارد خصّصت فيها عبارة {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . أمّا في هذه الآية ، فقد لاحظنا فيها أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، دعا الباري تعالى في مسألة عامّة . واستجابت له بشكل عامّ وكلّي .
الموارد الحرجيّة في الشّريعة المقدّسة
ويظهر من خلال هذه الآية والآيات السابقة أ نّ القاعدة لم تخصّص ، وإن
(الصفحة130)
كانت التخصيص غير مستحيل بالنسبة لها . ومن جهة اُخرى هناك بعض التكاليف الإسلامية التي إذا لاحظها الإنسان فسوف يجد فيها حرجاً شديداً ، وهذه التكاليف لو قيست بالموارد التي نفي فيها الإلزام والوجوب إستناداً إلى قاعدة نفي الحرج ، لشاهدنا أ نّ الحرج الموجود في تلك التكاليف أشدّ بكثير من هذه الموارد ، ومع ذلك لم يصدر فيها أيّ حكم للنفي . الموارد التي نتحدّث عنها كثيرة منها: الجهاد . فالجهاد مع مافيه من تبعات وآثار يمكن أن نقول عنه بأ نّه يتضمّن كثيراً من الحرج والقتل والإعاقة وحتّى تلاشى الجسد وتلف الأموال وغير ذلك من المصائب .
وهنا نسأل: أليس الجهاد أمر حرجي؟ فالجهاد في نفسه يبدو في الوهلة الاُولى أنّه تكليف حرجي من دون أن نحتاج في ذلك إلى أن نعقد نسبة بينه وبين موارد الحرج . ولكن فلو فسّرنا الحرج بمعنى الضيق والشدّة والصعوبة فسوف يتّضح لنا أ نّ الجهاد يتضمّن أعلى مراتب الشدّة والضيق . ومع ذلك نلاحظ أ نّ تكليف الجهاد لايرتفع بقاعدة لا حرج . هذا أوّلاً .
وثانياً: إذا أردنا أن نعقد نسبة بينه وبين بعض الموارد التي تتضمّن شيئاً يسيراً من الحرج ، فهذا ما يعقد المسألة بصورة أكبر . حيث نشاهد أ نّ بعض الموارد فيها شيء يسير من الحرج قد شملتها القاعدة ، مثال ذلك الصوم بالنسبة للمسافر . والآية في هذا الخصوص بيّنه الدلالة حيث جاء فيها: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ* يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(1) .
هنا إذا أردنا أن نقيس هذه الموارد بالجهاد ، ألا يتضحّ من خلال المقايسة بينهما أ نّ الجهاد أكثر حرجاً من صوم المسافر؟ وهناك موارد اُخرى منها: إنّنا نقرأ
1 . سورة البقرة ، 183 ـ 184 .
(الصفحة131)
في الفقه . أ نّ الشخص إذا أصبح مستطيعاً ولم يذهب إلى الحجّ عن عمد فحكمه أن يؤدّي ما عليه من الحجّ بأيّ نحو أمكن ، ومهما كانت الظروف ، وبالرغم من كلّ المشاق التي قد تعترض طريقه .
ومن الموارد الاُخرى في هذا المجال هو فيما إذا قتل شخص شخصاً آخر عمداً ، هنا وليّ المقتول له أن يقتصّ من القاتل ، والقصاص بالنسبة له أمر عادي ، ولكن استعداد القاتل للحضور أمام المحكمة للإقتصاص منه ليس بالأمر الهيّن أبداً . ولكن يجب شرعاً على القاتل المثول لأجل الإقتصاص منه ، وفي حال هروبه من القصاص فإنّه يرتكب مخالفةً شرعية . وهنا لنا أن نتصوّر مدى الحرج الذي لا حرج فوقه . لأن حضور القاتل في المحكمة يعني بالنسبة له خاتمة عسيرة ، فأيّ حرج أشدّ من هذا الحرج الذي يرى فيه الإنسان نفسه ملزماً شرعاً بأن يضع نفسه تحت تصرف وليّ القاتل لكي يقتلهُ؟
وكذلك الحال في باب الحدود . فلو حكم على رجل وامرأة بالرجم ، فما هو الواجب الشرعي الذي يتحتّم عليهما القيام به؟ من الواضح أ نّهما مكلّفان شرعاً أن يضعاً نفسهما تحت تصرّف الحاكم الشرعي ، والحاكم يقوم برجمها حتّى الموت . فهل يتصوّر أن هناك حكماً آخر هو أشدّ حرجاً من هذا الحكم ، ومع ذلك نجد أ نّ قاعدة لا حرج لا تتدخّل في مثل هذه الموارد الشديدة الحرجيّة .
فلا يوجد هنا شخص قد حكم عليه بالرجم يمكن أن يقول بأ نّ قاعدة لا حرج تجيز له الفرار من السجن ، وبالتالي التخلّص من الرجم .
وهناك موارد كثيرة من هذا القبيل منها: اللواط والزنا وموارد اُخرى يجري فيها حكم القتل . وأشدّ من ذلك الموارد التي يحكم فيها عليه بالإحراق والإلقاء من شاهق . ومع ذلك كلّه فإنّ المحكوم مكلّف شرعاً أن يضع نفسه تحت تصرّف حاكم الشرع كي يجري بحقّه الحكم الشرعي .
(الصفحة132)
وقد يعتاد الإنسان لا سمح الله على إرتكاب محرّم من المحرّمات ، ووظيفته الشرعيّة في مثل هذه الحالة أن يقلع عن عادته ، وكما يقال فإن ردّ المعتاد عن عادته كالمعجز ، أي أنّ الإقلاع عن الذنب وتركه بالنسبة لمن إعتاد على الذنب يستدعي الحرج . ومع ذلك فإنّ وجوب ترك الذنب يبقى ثابتاً . ولا يحقّ لمثل هذا الشخص أن يحتجّ ويقول: إنّي إعتدت على هذا الذنب ، وقاعدة لا حرج ترفع عنّي الوجوب .
ويذكر المرحوم الميرزا الآشتياني (قدس سره) مثالاً فيقول: نفس هذا الإجتهاد الذي نسعى جميعاً للحصول عليه ، هو واجب كفائي ، من واجبات الإسلام ومن الوظائف الشرعيّة ، وحيث لا تفرّق القاعدة بين الوجوب الكفائي والوجوب العيني فإنّ هذا الوجوب الكفائي للإجتهاد من حيث الشدّة والصعوبة [على حدّ تعبيره] أشدّ من الجهاد الأكبر . ثمّ يقول: وقد يتصوّر البعض أ نّ الإجتهاد مثل التجارة ، فكما إذا انصرف الإنسان عن التجارة عدّة سنوات . يعود بعد هذه السنوات تاجراً ، فكذلك هو الإجتهاد ، ولكن هؤلاء لم يعرفوا بعد حقيقة الإجتهاد وما فيه من الصعوبة والمشقّة ، ومع ذلك ، نلاحظ أ نّ قاعدة لا حرج لا تتدخّل هنا ولا تمنعه من أن يكون واجباً كفائياً . ولا أحد يدّعي أ نّ الحكم بالوجوب هذا مرتفع بدليل قاعدة لا حرج .
المرحوم الميرزا الآشتياني (رحمه الله) يذكر مثالاً آخر فيقول: لو أ نّ شخصاً نذر أن يحجّ إلى بيت الحرام ماشياً ، فهذا النذر صحيح وينعقد ، ويتوجّه إليه الخطاب: (أوفوا بالنذر) حيث إنّ وجوب الوفاء بالنذر هو من أشدّ مراتب الحرج بالنسبة إليه . وكذا إذا نذر أن يصوم سنة كاملة ففي جميع هذه الموارد يتعيّن الحكم الشرعي بوجوب الوفاء بالنذر ، وبحسب الظاهر لابدّ أن يرتفع بقاعدة لا حرج .
(الصفحة133)
التوفيق بين هذه الموارد والقاعدة
وهنا نسأل: مع وجود هذه الموارد ، كيف يمكننا أن نوفّق بينها وبين قاعدة لا حرج؟ هل يمكننا أن نقول بأ نّ هذه الموارد تخرج عن قاعدة لا حرج بالتخصيص . أو أ نّ هناك علل اُخرى بموجبها تكون هذه الموارد خارجة بالتحقيق .
ومن جملة علمائنا الأعلام (رحمهم الله) الذين بحثوا هذا الموضوع هو المرحوم صاحب الفصول (قدس سره) . فقد أفرد ـ بحثاً خاصّاً في آخر كتاب الفصول تحت عنوان «إستحالة التكليف بما لايطاق» ، بحث فيه: هل أن التكليف بمالا يطاق محال ، أو ليس بمحال؟ والبعض فصّل بين موارد مالا يطاق ، وبعد أن يتمّ المرحوم صاحب الفصول بحثه هذا ، يفرد تتمّة لبحث قاعدة لا حرج(1) . وهناك يرى رضوان الله عليه أ نّ الموارد التي ذكرت في باب تخصيص قاعدة لا حرج ، ليست من موارد التخصيص ، بل إنّها خارجة عن قاعدة لا حرج بلحاظ موضوعاتها . ويشير إلى عدّة موارد منها: مسألة الجهاد . ومنها أيضاً قضيّة هؤلاء الذين شقّ عليهم الإيمان بالإسلام حتّى أن القرآن حكى عنهم ما قالوه: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ}(2) أي أنّهم لايطيقون الإسلام أبداً .
يقول صاحب الفصول (قدس سره): إنّ هؤلاء يخالفون الحقّ إلى هذه الدرجة ، ثمّ يتساءل: ألم يكن واجبهم هو قبول الحقّ والإسلام؟ نعم ، لكن هذا التكليف بالنسبة لهم فيه حرج شديد . ثمّ يضرب مثالاً آخر ، وهو تهيئة النفس لتقبّل القصاص والحدود .
ثمّ يأتي بعدّة تخريجات لكلّ من مسألة الجهاد ، وتوطين النفس لتقبل الحدود
1 . الفصول : 333 .
2 . الأنفال: 32 .
(الصفحة134)
والقصاص يريد بذلك أن يخرج هذه الموارد من قاعدة لا حرج على أ نّها لاتعدّ من مستثنيات القاعدة . وفي الحقيقة إنّ الإستثناء في هذه الموارد هو من قبيل الإستثناء المنقطع ، ولا علاقة له بقاعدة لا حرج أبداً .
والسؤال هنا كيف نرفع إشكال التنافي بين القاعدة وهذه الموارد الحرجيّة .
توجد هناك عدّة ردود على هذا السؤال .
منها: ما قيل من أنّه لا مانع لأن تكون هناك تكاليف حرجيّة ، وفي نفس الوقت لاتتنافى مع ثبوت القاعدة المذكورة . والسؤال الذي يطرح هنا هو: كيف نتعامل مع أدلّة النفي؟ وقد أجاب أصحاب هذا القول بجوابين:
أحدها: إننّا نعتبر هذه الأدلّة مخصّصة لقاعدة نفي الحرج . وبعبارة اُخرى: إنّ قاعدة نفي الحرج هي قاعدة فقهيّة عامّة . وعليه فكما تكون الإطلاقات الفقهيّة الاُخرى قابلة للتخصيص ، فكذلك من الممكن أن نلتزم بهذا المعنى أيضاً في خصوص قاعدة (لا حرج) ، وقد قلنا : إنّ مجرّد كون قاعدة لا حرج في مقام الإمتنان ، لا يعني أنّ احتمال التخصيص فيها ممتنع ، وأنّ الموارد التي ذكرناها وغيرها تخرج من القاعدة بحجّة التخصيص .
الثاني: إنّ قاعدة لا حرج بالأساس لم يلحظ فيها جهة العموم بالشكل الذي يتصوّر ، وإنّما هي بالأصل محدودة وفي نطاق خاصّ وفي موارد خاصّة ، وبناءً على ذلك يقال في معنى الآية الشريفة: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} إنّ الإصر الذي كان على الاُمم السابقة غير موجود في هذه الاُمّة ، والشاهد على ذلك آية اُخرى هي قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَْغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(1) أي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) مهمّته أن يضع عن الناس ما كانت
1 . الأعراف : 157 .
(الصفحة135)
تقتضيه الأديان السابقة من أغلال ، ويبدو من قوله تعالى: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}(1) أ نّ الإصر الذي يطلب عدم حمله على هذه الاُمّة هو الإصر الذي كان على الاُمم السابقة خاصّة ، وليس مطلق الإصر ، ولذا لو اُريد تحميل إصر آخر ، فهذا لاينافي الآية الكريمة ، هذا ما أفاده البعض في حلّ المشكلة .
الاستفادة من ظهور الآية:
وهذا ـ أي الردّ الثاني ـ في الحقيقة خلاف ظاهر الآية الكريمة: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، فالنكرة أي «إصراً» جاءت في سياق النفي ، أمّا في قوله: «كما حملته» فيتّخذ صيغة إثباتية ، والنفي الموجود في الآية هو نفي عامّ .
بعبارة اُخرى: لو حذفنا عبارة «كما حملته» من الآية فتكون الآية: (ربّنا لا تحمل علينا إصر الذي حملته على الذين من قبلنا) ، فهل هذا يعني أنّ الآية تأخذ عنوان الوصف وتتضمّن قيداً إحترازياً ، وهل هذا هو المعنى الذي تفيده الآية ، أم أنّ النكرة إذا وردت في سياق النهي ، أو النفي فإنّها تفيد العموم؟ وقوله «لا تحمل علينا إصراً» أي لا تحمل علينا أيّ لون من ألوان الإصر أو أنواعه ، ولمّا كان التشبيه في الجانب الإثباتي من الآية وهو: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} فهذا يعني أنّ الإصر كان موجوداً لدى الاُمم السّابقة ، إلاّ أنّه لايمكن أن نستفيد من ذلك جهة العموم بأن نقول: إنّ كافّة المصاديق فيها جنبة إثباتية ، ولكن في قوله: {لاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} يمكن أن نستفيد منه جانب التعميم ، ولا نستطيع أن نقول
1 . البقرة : 286 .
(الصفحة136)
بأنّ الآية: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} معناها: (إصر الذي حملته على الذين من قبلنا) .
وأمّا الآية الاُخرى ، وهي قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَْغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فلا يعلم أنّها متعلّقة بالآية: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} والظاهر أنّها تحكي عن إصر وأغلال كانت على قوم من الأقوام . بالإضافة إلى جهلهم ، بدليل أنّ الآية لم تقل: ويضع عنهم إصراً كان ثابتاً عليهم دينيّاً ، أو يضع عنهم الأغلال التي كان الدين قد حملها عليهم ، فالإصر والأغلال التي ذكرتها هذه الآية يقصد منها الأغلال والأثقال الناتجة عن جهلهم وتعصبهم وحميّتهم ، والتي كانت تثقل على عاتقهم ، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وألغى كلّ هذه المسائل ، ولا يوجد هناك أيّ دليل في أنّ آية: (ويضع عنهم أصراً) هي من سنخ هذه الآية ، أي آية: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، بل من الواضح أنّ الإصر المنظور في آية: (ويضع عنهم إصرهم) ليس الإصر الثابت عليهم من جهة الدين ، والأغلال أيضاً لم يقصد بها تلك التي كانت ثابتة عليهم من قبل الدين ، ومن هنا يجب علينا أن لا نخلط بين الآيتين ، والآن ما هو ردّنا على الإشكال المطروح؟
هناك عدّة ردود اُخرى ذكرت في هذا المجال ، منها: ردّ المرحوم بحر العلوم (قدس سره)والذي يعود أساساً إلى الردّ الأوّل لصاحب الفصول (قدس سره) الذي استعرضنا وسنتطرّق إليه لاحقاً إن شاء الله .
جواب صاحب الفصول (قدس سره):
أفضل الردود في هذا المجال هو ما أفاده صاحب الفصول عليه الرحمة . حيث ذكر في إجابته ثلاثة موارد وأجاب على كلّ مورد منها بإجابة خاصّة .
أحد هذه الموارد هو مسألة الجهاد .
(الصفحة137)
والمورد الآخر هو مسألة الإيمان بأصل المذهب بالنسبة لمن يشقّ عليه قبول الإسلام بدرجة يتمنّى معه أن يمطره الله تبارك وتعالى بحجارة من السماء ، أو ينزل عليه العذاب دون أن يستسلم لقول الحقّ . والمورد الثالث هو مسألة حضور القاتل أمام المحكمة ، وتمكين وليّ الدم من نفسه في القصاص ، وكذا الحال بالنّسبة لمن حكم عليه بالرجم حيث يمكّن من نفسه في سبيل أن يجري الحاكم الشرعي الحدّ الإلهي عليه ، وهناك ثلاثة ردود لصاحب الفصول (قدس سره) في مسألة الجهاد(1) .
الردّ الأوّل: هو نفس ما ذكره السيّد بحر العلوم (قدس سره) ، حيث يشترك الإثنان صاحب الفصول والسيّد بحر العلوم (قدس سره) بردّ واحد: وهو كالتالي: إنّنا لا نقبل كونه أمراً حرجيّاً ، لأنّ كون الجهاد أمراً حرجيّاً لابدّ وأن يقرّه عامّة النّاس ، والحال أنّه ليس المسلمين فحسب ، بل عموم الناس من أيّ مذهب كانوا وأيّاً كان دينهم ، وأكثر من ذلك حتّى الذين لايدينون بدين كالشيوعيين وأمثالهم نرى أنّ مسألة الحرب مسألة مطروحة ومتعارف فيما بينهم ، وبالطبع فإنّ دواعي الحرب تختلف من شخص لآخر . ومن مجموعة إلى مجموعة ، فالبعض يحارب من أجل الدفاع عن نفسه وأحواله وعرضه ، والآخر يحارب من أجل مذهبه وعقيدته وإن كانت عقيدته فاسدة ، إذن ، الحرب أمر طبيعي جدّاً ، فقد يخاطر الإنسان بحياته من أجل هدف يعتقد به ، وهذه المسألة ليست بالمسألة الحرجيّة ، بل هي طبيعيّة ومتعارف عليها لدى المسلمين وغير المسلمين . من هنا أمكننا القول أنّ مفهوم الجهاد الذي جاء به الإسلام موجود لدى الشعوب والاُمم الاُخرى ، ويفوق الإسلام غيره من المذاهب والاتجاهات بما يولي الجهاد من أهمية خاصّة ، وبما يحتسب له من ثواب وأجر اُخروي . إذن وجود مثل هذه المعطيات من أجر وثواب لدى الإسلام
1 . الفصول: 334 .
(الصفحة138)
خاصّة يجعلنا نتساءل: لماذا نعتبر الجهاد أمراً حرجيّاً؟ بل هو مسألة طبيعية ; إذن مجرد إحتمال خطر الموت ، أو ذهاب الأموال لا يوجب القول بحرجيته . فلو كان حرجيّاً لهرب الجميع ، ولمّا وجد هناك من يتصدّى لمهامّ الحرب والجهاد ، في حين نرى أ نّ الحرب أمرٌ طبيعي رافق البشريّة منذ تأريخها الأوّل واشترك فيها الجميع .
الحرج من خلال الملاكات والمصلحة:
ولكن أفضل ردّ على الإشكال هو الردّ الثاني لصاحب الفصول ، ومفاده هو: إننّا إذا أردنا أن نعيّن كون الفعل حرجيّاً أو لا ، لابدّ من أن نلحظ جانب المصلحة في الفعل ، فليس من الصحيح أن نلحظ صورة الفعل بما فيه من خصوصيّة ، هل هو حرجيّ ، أم لا؟ بل الصحيح أن نرى ماهو الهدف من وراء هذا الفعل؟ وما هي المصلحة المترتّبة عليه؟ فالدقّة في هذه اللحاظات له مدخلية في كون الفعل حرجيّاً أو غير حرجيّ .
ونورد مثالاً على ما قلناه غير المثال الذي أورده صاحب الفصول ، لنفرض أنّ إنساناً بقي مستيقظاً طوال الليل ولم ينم أبداً ، هنا لايمكننا أن نقول : إنّ عمله هذا حرجيّ أو غير حرجيّ ، أي لا نستطيع أن نحكم عليه . بل يجب أن نرى وقبل كلّ شيء ما هي المصلحة من بقائه مستيقظاً . فلو أراد أن يسهر طوال الليل لأمر ثانوي غير مهم ولنفرض أنّه لم ينم ليلته مقابل شيء يسير من المال ، فالسهر ليلة كاملة هذا يعدّ أمراً حرجيّاً ، ولكن نفس هذا السهر ، لو كان لإحياء ليلة القدر وطلب ما في هذه الليلة من أجر وثواب عظيم لا يعتبر أمر حرجيّ فحسب ، بل الإنسان يتمنّى أن تكون كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان ليلة القدر كي يبقى مستيقظاً ليطلب الفيض الإلهي ويستفيد من بركاته . وهذه المسألة عرفيّة . ولنفرض أنّ إنساناً بقي مستيقظاً حتّى الصباح يرعى مريضاً يحتاج إلى رعايته
(الصفحة139)
وخدمته ، ولنفرض ثانية هذا الشخص يحبّ المريض حبّاً شديداً ، هنا نراه يبقى ساهراً من دون أن يشعر بشيء من التعب أو الإعياء ، فعمله هذا ليس بحرجيّ . وفي المقابل إذا قيل لسجين من السجناء: يجب عليك أن لا تنام الليل حتّى يسفر الصباح . فإنّه يشعر بالحرج في كلّ دقيقة تمرّ ، في حين أ نّ العمل واحد في كلا الحالتين .
من هنا نقول: إنّ إعتبار الحرج وعدم إعتباره بالنسبة لفعل مّا ، إنّما يتمّ بلحاظ المصالح المترتّبة على الفعل . وامّا لماذا أخذت المصلحة بعين الإعتبار في حرجية الفعل؟ هذا السؤال لم يجب عنه صاحب الفصول عليه الرحمة ، لكنّنا نقول: إنّ السبب في إعتبار المصلحة هو أنّنا عندما عرّفنا الحرج قلنا: إنّه أقلّ مرتبة من عدم القدرة لدى العرف ، إذن ما هو الملاك في الحرج؟ الملاك في ذلك هو ما كان في العرف قادراً عليه ، إلاّ أنّه يأبى أن يقوم به ، فلابدّ أن نذهب إلى العرف لنرى متى يتقبّل العرف القيام بعمل معيّن ، ومتى يأبى ذلك! وهنا بالذات ينفسخ المجال للأهداف والمصالح ، فعندما تكون المصلحة شديدة وكبيرة نجد العرف يقدم على العمل بدون سأم وبلا تردّد ، بل برغبة وشوق كبيرين ، أمّا عندما تكون المصلحة جزئية ، وليست بذات أهمية ، فإنّ العرف يأبى من أن لا ينام الليل كلّه مقابل منفعة جزئية قليلة ، وهذا هو ما يقال عنه بأنّه لا يتحمّل . ونحن مضطرّون إلى أن نحكّم العرف ، لأنّ الحرج في الآية الكريمة يراد به نفس هذا المعنى العرفي ، ومن هنا يتبيّن لنا أنّ الجهاد في نظر العرف ليس فوق طاقة الإنسان المسلم ، فالجهاد من أجل حفظ بيضة الإسلام ، والحفاظ على استقلال الدولة ، سواءً كان جهاداً دفاعياً كما هو المفترض في زماننا ، أو كان الجهاد جهاداً ابتدائياً لأجل نشر الأحكام الإسلامية ليس هو ممّا لا يطاق في نظر العرف .
إذن ، خلاصة الردّ الثاني الذي قال به صاحب الفصول والذي أرى أنّه في
(الصفحة140)
مسألة الجهاد خاصّة يعدّ أفضل الردود ، أي أنّنا لا نستطيع أن نقول: إنّ هذا العمل حرجي وهذا غير حرجي جزافاً ومن دون أيّ اعتبار ، بل لابدّ من ملاحظة الغايات والمصالح المترتّبة عليه .
الحرج بالقياس إلى الحالة النفسيّة للمكلّف:
والردّ الثالث الذي أجاب به صاحب الفصول هو: أنّه لابدّ أن نعرف أوّلاً: هل أنّ الحرج الملحوظ في الجهاد بما في الجهاد من الأعمال الشاقّة ، أو هو بإعتبار الحالة النفسيّة التي تتولّد عند بعض والتي تسمّى بالخوف ، أي هل أنّ الإشتراك في الحرب واستخدام الأسلحة والمشي على الأقدام لمسافات طويلة هي التي تشكّل جانب الحرج ، أو أ نّ الحالة النفسيّة التي نسمّيها الخوف والتي قد ترافق الإنسان في الجهاد ، فيخاف أن يتعرّض لقصف جوي ، أو أن تصيبه طلقة هي التي تجعل من الجهاد أمراً حرجيّاً؟
يقول المرحوم في الإجابة على هذا التساؤل: بأنّ حالة الخوف منشؤها في نفس الإنسان ، أي أنّ هذا الشخص بحدّ ذاته يفتقد للشجاعة والجرأة ، وهذا لا علاقة له بالتكليف الإلهي ، فلو كنت إنساناً يملأ الخوف وجودك ، فلا يحقّ لك أن تصوّر الجهاد بأنّه أمر حرجي ، ثمّ تستدلّ بقاعدة نفي الحرج على إرتفاع التكليف الحرجي ، إذن الحرج لابدّ وأن يتحقّق في التكليف بحدّ ذاته . وإلاّ فخوف المكلّف لا علاقة له بالتكليف . والخوف هو رذيلة من الرذائل لدى هذا الإنسان .
القاعدة وإيقاع الإنسان نفسه في الحرج:
وهنا نورد أجوبة المرحوم صاحب الفصول في الموردين المتبقّيين ، والمورد الأوّل: هو المثال الذي ساقه عن اُولئك الذين لا يطيقون الإسلام ، حيث يحكي
|