(الصفحة181)
الفجر في الليالي المقمرة
الحمد لله الذي فلق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً والصلاة والسلام على شمس الوجود محمد وآله الطيبين الأبرار المعصومين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين .
أمّا بعد فهذه رسالة نفيسة في تعيين الفجر في الليالي المقمرة وهي التي ألقاها أستاذنا الكبير فقيه أهل البيت آية الله العظمى الحاج الشيخ محمد الفاضل اللنكراني دام ظله الوارف في ليالي شهر رمضان سنة 1418 هـ .ق .
ولمّا كان هذا البحث مورد التدقيق من الوجهة العلميّة للعلماء والمجتهدين ومورد الحاجة من الوجهة العمليّة للمكلّفين والمقلّدين فأردت أنّ أُنَظِّمَ بحث الأستاذ مدّ ظلّه العالي حتّى يستفيد منه روّاد الفقه واسألُ الله تعالى أن يجعل هذا ذخيرة ليوم فقري وحاجتي وأن يجعلني من خَدَمة فقه أهل البيت عليهم آلاف التحيّة والثناء .
قم المقدسة ـ اكبر خادم الذاكرين (خادمي)
27 ربيع الثاني 1420 هـ . ق
(الصفحة182)
بسم الله الرحمن الرحيم
ماهو حكم الصلاة والصوم في الليالي المقمرة الّتي يتأخّر فيها ظهور نور الفجر ويتأخر فيها غلبة نوره على نور القمر؟ وهذه المسألة من المسائل المبتلى بها خصوصاً في شهر رمضان وهي أنّ طلوع الفجر في الليالي المقمرة متأخّر عن الساعات المعينة بحسب القواعد النجومية أو لا .
ومن المعلوم انّ الليالي المقمرة تتحقّق من الليلة الثانية عشر إلى الرابعة والعشرين من كلّ شهر وهي التي يكون ضوء القمر فيها شديداً بالنسبة إلى سائر الليالي . والظاهر أنّ هذا البحث لم يكن مطروحاً في كتب القدماء والمتوسطين والّذي طرحه أولاً بهذا الشكل صاحب الجواهر (رحمه الله)واحتاط في تأخير صلاة الفجر في الليالي البيض والغيم حتّى يتبين الفجر بنحو الاحتياط الاستحبابي(1) .
ثمّ المحقّق الهمداني (رحمه الله) فرّق بين الليالي المقمرة والليالي المغيمة بتأخير الصلاة حتّى يتبين الفجر في الأول دون الثاني(2) . وهذه المسألة تكون ذات آثار أحدها في الدخول في صلاة الصبح وثانيها في امتداد وقت صلاة العشاء أو العشاءين وثالثها في جواز الأكل والشرب في سحر رمضان ورابعها في نافلة الصبح فإنّ أوّل وقتها طلوع الفجر وإن جوّز تقديمه وإتيانه بعد نافلة الليل لمن صلى نافلة الليل ويعبّر عنه بإقحام نافلة الصبح في نافلة الليل .
1 . قال صاحب الجواهر: «ينبغي التربص فيه (أي القمر) حتّى يتبين ويظهر ، خصوصاً في ليالي البيض والغيم ، للاحتياط في أمر الصلاة وإيماء التشبيه بالقبطية البيضاء ونهر سوري إليه وخبر ابن مهزيار» جواهر الكلام ، ج 7 ، ص 97 ـ 98 ، طبع دار الكتب الإسلامية .
2 . مصباح الفقيه ، ج 2 ، ص 25 .
(الصفحة183)
وبعد هذا المحقّق ، من أصرّ على هذا المبنى هو الإمام الخميني (قدس سره) فإنّه (قدس سره) دوّن رسالة موجزة في تعيين طلوع الفجر في الليالي المقمرة وكنت استنسخه في السنوات الماضية وتلك النسخة موجودة عندي ولكن في زماننا هذا طبعت هذه الرسالة وهذه الرسالة كما قلنا مختصرة في حد صفحة أو صفحتين . واختار هو مختار الهمداني (رحمه الله) باستناد الكتاب والسنّة وقال المحقّق الهمداني: «مقتضى ظاهر الكتاب والسنة وكذا فتاوى الأصحاب اعتبار اعتراض الفجر وتبيّنه في الاُفق بالفعل فلا يكفي التقدير مع القمر لو أثّر في تأخّر تبين البياض المعترض في الاُفق» وسيأتي بيان إنّه لماذا قال ظهور «فتاوى الأصحاب» مع أنّ هذه المسألة لم تكن معنونة في كلمات الفقهاء .
والعمدة هو البحث عن الكتاب وهو قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الاَْبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الاَْسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)(1) .
ذكر المفسرون ذيل هذه الآية وجوهاً في وجه نزولها وقال الطبرسي (رحمه الله) في المجمع: «روى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه رفعه إلى أبي عبدالله (عليه السلام): قال كان الأكل محرّماً في شهر رمضان بالليل بعد النوم وكان النكاح حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان وكان رجل من أصحاب رسول الله يقال له مطعم بن جبير أخو عبدالله بن جبير الذي كان رسول الله وكلّه بِفَم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة وفارقه أصحابه وبقي في اثني عشر رجلاً فقتل على باب الشعب وكان أخوه
1 . البقرة: 186 .
(الصفحة184)
هذا مطعم بن جبير شيخاً ضعيفاً وكان صائماً فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر فلمّا انتبه قال لأهله قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة فلمّا أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فَرَقَّ له وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرّاً في شهر رمضان فأنزل الله هذه الآية فأحلّ النكاح بالليل في شهر رمضان والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر» . فحاصل شأن النزول أنّه بعد تشريع الصوم كان هناك حكمان أحدهما تحريم مجامعة النساء في ليلة شهر رمضان مضافاً إلى حرمتها في نهار رمضان لمن كان صائماً وثانيهما عدم جواز الأكل والشرب بعد النوم فإنّ نام بعد أكل العشاء واستيقظ قبل الفجر فلا يجوز له السحور أي ما يسمى بالفارسية بـ«سحرى» فجواز أكل السحور كان لمن لم ينم في الليل .
ولمّا وقع اغماء الشيخ وتخلّف الشباب تغيّر الحكم وجوّز الشارع أكل السحور بعد النوم والجماع في الليل ولايخفى أن الأمر في قوله تعالى: (باشِرُوا) وفي قوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا) في مقام رفع الحظر ولا يدلّ على الوجوب ، بمعنى أن المباشرة والأكل والشرب في الليل كان ممنوعاً ومحظوراً والآن لا بأس بها .
الكلام في الغاية
إلى هنا اتضح شأن نزول الآية ومفادها إلى الغاية أي «حتّى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر» والكلام هنا في الغاية ومن المعلوم انّ العرف يستفيد منها بمناسبة شأن النزول وخصوصيات الآية جواز المباشرة والأكل والشرب إلى تبين طلوع الفجر أمّا بعده فلا والمؤيّد لهذا المطلب قوله بعد ذلك «ثُمَّ اتِمُوا الصّيامَ إلَى اللّيل» بمعنى انّ إباحة هذه الاُمور تنتهي بمجرّد طلوع الفجر وعليكم من بعد طلوع الفجر إتمام الصيام إلى الليل .
(الصفحة185)
والمهم توضيح هذه الغاية ومن المؤسف أ نّ أكثر الكتب التي اُلّفت في توضيح آيات الأحكام وبعض التفاسير التي راجعتها لم أجد توضيحاً وافياً بالنسبة إلى هذه الغاية مع إنّ ثمرة مهمة فقهيّة تترتّب على هذه الفقرة وقبل توضيح هذه الغاية نقدم مقدّمة عبّر عن هذه المقدّمة في بعض الكتب بعنوان «الضابطة» .
الضابطة: وهو أنّ العناوين والمفاهيم المأخوذة في موضوعات الأحكام وخصوصيات الأحكام ظاهرة في الفعلية أو لا .
مثال ذلك أنّه إذا قال الشارع في دليل: «الماء المتغيّر نجس» أو قال الفقهاء في الرسائل العملية أو الكتب الفقهية: «إذا تغيّر الماء الطاهر أحد أوصافه الثلاثة ـ اللون والرائحة والطعم ـ بملاقاة نجس العين يصير نجساً ولو كان الماء عشرة اكرار» . فما المراد بالتغير ، هل التغير فعلي وتحقيقي بمعنى أنّه إذا تغير رائحته يستشمّ منه الرائحة بالفعل وإذا تغير لونه يرى تغيره كالدم الذي اُريق في الكرّين من الماء وصار الماء أحمر أو أنّ المراد بالتغيّر هو الأعم من الفعلي والتقديري كما إذا اُرِيقَتْ مادة كيمياوية في الماء ثمّ اريق دم كثير فيه بنحو لو لم تكن تلك المادة في الماء لتغيّر لونه ، هل هو نجس أو لا .
يذكر المحققون هنا تلك الضابطة ويقولون ظاهر العنوان المأخوذ في موضوع الدليل الفعلية أيّ الماء المتغيّر بالفعل ، ففي المثال لا يحكم بالنجاسة لأنّ التغير هنا «تقديرى» أو «لولائي» بمعنى أنّه لولا المادة لأثّر الدم في الماء لكنّها مانعة عن التغيّر بالفعل .
واستثنى الفقهاء من هذه القاعدة عنوان العلم واليقين وأمثال ذلك فإنّه إذا أخذ في الدليل فلا موضوعية له بل هو طريق إلى الواقع كقوله «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنه نجس» .
أو «كلّ شيء شكّ في طهارته ونجاسته فهو طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» .
(الصفحة186)
ولا خصوصية لعنوان العلم بل يجوز قيام البيّنة مقامه فيثبت بها نجاسة الشيء أيضاً وهكذا يجوز قيام الاستصحاب مقام العلم فيثبت به نجاسة الشيء أيضاً . وهكذا يجوز قيام أخبار ذي اليد مقامه كما إذا أخبر صاحب البيت بأنّ هذه السجادة نجسة فيثبت بأخباره نجاستها وإخباره حجّة ولو لم تحصل مظّنة أو علم بالنجاسة .
فتحصل أن هنا ضابطتين الأولى بالنسبة إلى المستثنى منه وهي إنّ موضوعات الأحكام ظاهرة في الفعلية ولعناوين الموضوعات خصوصيّة وموضوعيّة .
والثانية بالنسبة إلى المستثنى وهو عنوان العلم واليقين وأمثال ذلك كالتبيّن ولا خصوصيّة عرفاً لهذه العناوين ولذا يجوز قيام غيره كالأمارة والأصل مقامه .
ثمّ إذا اتضح هاتان الضابطتان نرجع إلى قوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الاَْبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الاَْسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ)فنقول:
أوّلاً: أنّ الخيط الأبيض هو الفجر الصادق الذي يشبه الخيط لقلّة عرضه وهو بنحو أفقي في السماء ويتزايد شيئاً فشيئاً .
وثانياً: أنّ الخيط الأسود عبارة عن الليل وعبّر عنه بالخيط أيضاً لوجهين أمّا للمشاكلة(1) التي من المحسنات البديعية التي ذكرت في المطول والمختصر بمعنى أنه لمّا عبّر عن الفجر بالخيط الأبيض عبّر عن الليل بالخيط الأسود للمشاكلة في التعبير وإمّا للمقايسة بين الخط الأبيض ومايشغل من الليل فإنّ الخيط الأبيض يشغل بمقدار خيط أسود من الليل وأنّه يزول بالخيط الأبيض مثله من السواد وهذا الوجه يمكن استفادته من المجمع بالتأمّل وإن لم أقل أنه يريد ذلك جزماً .
وثالثاً: أنّ قوله «من الفجر» احتمالات ثلاثة: التبعيضية والتبيينية والنشوية
1 . قال الخطيب القزويني في تلخيص المفتاح: المشاكلة وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً (مختصر المعاني ، ص 190) .
(الصفحة187)
الأوّل أنّه للتبعيض وعلى هذا «من» متعلّق بالخيط الأبيض(1) ومعنى الآية هكذا «حتّى يتبين الخيط الأبيض الذي هو بعض الفجر» والبعضية بحسب شروع الفجر حيث إنّ الفجر الصادق في شروعه كالخيط الأبيض الدقيق وقليل العرض ثمّ بتقرّب الشمس إلى الأفق يصير البياض عريضاً يعترض شيئاً فشيئاً . والإمام الخميني جعل هذا الاحتمال بعيداً عن ظاهر الآية(2) .
والثاني: أنّه للتبيين وفي هذا الفرض احتمالان:
أحدهما: وهو الذي عليه المفسّرون ـ أنّه يُبيّن الخيط الأبيض الّذي هو فاعل «يتبيّن» ونقل أهل التفسير أ نّ عدي بن حاتم بعد نزول الآية توهّم أنّ معناها عدم جواز الأكل والشرب حتّى إذا بلغ بياض السماء إلى حدٍّ يتميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولذا أخذ بيده خيطاً أبيض وخيطاً أسود(3) .
ونقل بعض أنه أخذ عقالين أسود وأبيض ووضعهما تحت فراشه وآخر الليل كان يستيقظ وينظر إليهما ولكنّه لمّا لم يتمكن من التميّز إلاّ بعد مضي زمان كثير من طلوع الفجر راجع النبي ونقل ما فعل فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال (صلى الله عليه وآله) : ليس معنى الآية ما فهمتَ بل المقصود من الخيط الأبيض هو الفجر والنهار والمقصود من الخيط الأسود الليل .
فعلى هذا الاحتمال أعني من للتبيّين وأنّها مبّينة للخيط الأبيض فمعنى الآية هكذا «حتّى يتبّين لكم الخيط الأبيض أيّ الفجر» وبناءً على هذا الاحتمال الفجر
1 . مراده الشريف أنّه متعلّق بأحد أفعال العموم مثل «ثابتاً» وهو حال للخيط الأبيض .
2 . قال في رسالته الشريفة: «وأمّا جعل «من» تبعيضية فبعيد كما لايخفى» (رسالة في تعيين الفجر ، ص 13 في الليالي المقمرة) ولعلّ وجهه إنّ الفجر هو أول ظهور الضوء وشروعه ولا فرض للكلّ والبعض هنا .
3 . قال في المجمع: روى أنّ عدي بن حاتم قال للنبي: إنّي وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود فكنت انظر فيهما فلا يتبين لي فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى رؤيت نواجذه ثمّ قال يابن حاتم إنّما ذلك بياض النهار وسواد الليل (مجمع البيان ، ج 1 ، ص 281 ، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي) .
(الصفحة188)
شيء والتبين شيء آخر .
وثانيهما: أنّه يبيّن نفس التبين وهذا الاحتمال في كلام الإمام الخميني وجعله ظاهر الآية وكانّ الفجر يبين مجموع الفعل والفاعل والمفعول «يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود» ومعنى الآية أنه يجوز الأكل والشرب حتّى يتبين لكم الخيط الأبيض عن الخيط الأسود وهذا التبين هو الفجر .
والعجب أنه (رحمه الله) لم يذكر الاحتمال الأوّل الذي ذكره المفسرون حتّى بنحو الاحتمال وكأنه التزم بأنّ «من» لو كان للتبيين كانا بياناً للتبين فقط لا غير .
وهذا الاحتمال اساس فتوايه بتأخير الصلاة والصوم هو هذا المطلب فإنه من جهة استبعداحتمال التبعيض ومن جهة اُخرى التزم بكون«من»للتبيين بالمعنى الثاني وإنّ التبين هو الفجر والفجر لم يتحقّق إلاّ بعد غلبة ضوء الشمس على ضوء القمر .
وعلى هذا الاحتمال الفجر عين التبين .
والثالث: أنه للنشوء ـ بمعنى أنّ التبين ناش عن الفجر وهذا الاحتمال في الآية يقول الإمام الخميني (قدس سره) أنه من ابداعاتنا ولم نجده في كلمات المفسرين(1) .
وعلى هذا الاحتمال ، الناشئ أي التبين متأخر عن المنشأ أي الفجر والتبين شيء والفجر شيء آخر ولازم هذا الاحتمال الإلتزام بجواز الأكل والشرب بعد الفجر إلى حصول التبين مع أنه لايمكن الإلتزام بجوازهما بعده ولذا ضعّف هذا الاحتمال(2) .
1 . لم يذكر المفسرون هذا الاحتمال وإليك عبارة الطبرسي; في المجمع: «يحتمل «من» معنيين أحدهما أن يكون بمعنى التبعيض لأن المعنى من بعض الفجر وليس الفجر كلّه ، عن ابن دريد والآخَر أنه للتبيين لأنّه بيّن الخيط الأبيض فكأنه قال الخيط الأبيض الذي هو الفجر» (مجمع البيان ، ج 1 ، ص 281 ، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي) .
2 . قال: اِنّ جعلها نشوية خلاف الظاهر بل هو احتمال أبديناه والمفسرون جعلوها للتبيين أو التبعيض (رسالة في تعيين الفجر في الليالي المقمرة ، ص 13) .
(الصفحة189)
وهنا بحث من جهة الحكم الظاهري في إستدامة جواز الأكل والشرب بمقتضى الاستصحاب في ليلة رمضان لمن لم يحرز طلوع الفجر وفي وجوب الإمساك في النهار لمن لم يحرز غروب الشمس وهذا لايرتبط بكلامنا الآن لأنّ كلامنا الآن في الحكم الواقعي لا الحكم الظاهري والرجوع إلى الاستصحاب .
والفجر بنظره الشريف عين التبيّن ولكنّ بناءً على احتمال المفسّرين ، الفجر على نحوين امّا متبيّن وامّا غير متبيّن كما انّ سائر العناوين كالنجاسة أمّا متبيّن سواء كان بالعلم أو البينّة أو غيرهما وامّا غير متبيّن .
لايقال بناء على نظره (رحمه الله) فإذا لم يتفحّص المكلّف عن الفجر لم يحصل التبين والفجر .
لانا نقول: التبين وصف للواقع وانّ له واقعية في الخارج ويحصل في وقته وان لم نُحِقّق عنه وهذا كضوء سراج في غرفة فإنه موجود وإن لم نفتح باب الغرفة ولم نَره الاّ أنّ الذي يأكل السحور ويريد الصوم لابد أن يحقق عنه حتّى لم يقع أكله بعد الفجر .
مُلخّص نظر الإمام الخميني
ومحصّل نظره أنّ من للتبيين لا للتبعيض والنشوء «ومن» بيان لنفس التبين لا الخيط الأبيض وعلى هذا الفجر عبارة عن تبين الخيطين وتميزهما وفي الليالي المقمرة يقهر نور القمر على بياض الفجر بواسطة أصل وجود القمر أولاً وبواسطة قربه من الاُفق الشرقي ثانياً . وذلك حيث إنّ ضوء القمر شديد ويمنع عن تبين البياض في أوائل طلوع بياض الفجر وحينما تقرب الشمس من الاُفق وينبسط الخيط الأبيض يتفوّق البياض على ضوء القمر ولايتحقّق التبين بحسب الواقع أصلاً إلاّ أنّه يتحقق واقعاً ولكنّه مستور بالنسبة إلينا وهذا مثل السراج الذي نوره
(الصفحة190)
ضعيف في قبال السراج الذي نوره شديد فنور الضعيف لايتبين ولا يتميز أصلاً هذا بيان كلامه (قدس سره) بفهمنا الناقص .
ولنا في هذه النظرية إشكالات:
الأوّل: أنّ «من» التبيينية لا تكون بياناً للجملة بل بياناً لكلمة واحدة أو المضاف والمضاف إليه أو الصفة والموصوف(1) .
والثاني: أنه لو سلّم أنّ «من» التبيينية تكون بياناً للجملة كما يكون بياناً للمفرد فاللازم الاستظهار من الآية بأنّ «من» في الآية بيان لأيّ شيء للجملة أو المفرد .
والثالث: أنّ الفجر هل يكون فيه إجمال حتّى يحتاج إلى التبين . هل له حقيقة شرعية أو المتشرعية كالصلاة ، والظاهر أنّ العناوين التي مثل الفجر كزوال الشمس وغروبها ليس لهما حقيقة شرعية أو المتشرعية بل هما بمعناهما العرفي واللغوي موضوعان للأحكام الشرعية والزوال أمر محسوس بالعين للإنسان وهكذا الغروب ـ أيّ استتار القرص في الاُفق ـ أمر محسوس لمن يرى الاُفق نعم جعل الشارع ذهاب الحمرة المشرقية عن الرأس أمارة للغروب لمن يعيش في البلاد التي لم ير الاُفق فيها كبلدنا «قم» .
فمن البعيد جداً خروج الشارع عن المعنى العرفي واللغوي للفجر فالمستظهر من الآية عدم كون الفجر عبارة اُخرى عن التبين ولا يكون «من» للتبيين .
ثمّ تقدّم انّ الاحتمالات في الآية بناء على ما ذكره الإمام الخميني بالنسبة إلى
1 . وسيأتي انّ بعض الروايات الواردة في تفسير الآية مثل صحيحة علي بن مهزيار ـ التي قال الإمام الخميني بانها أظهر أخبار الباب في إثبات مختاره ـ تدلّ بالصراحة على بيانيّة الفجر للخيط الأبيض لا على بيانيته لنفس التبين حيث ذكر فيها «الفجر يرحمك الله هو الخيط الأبيض المعترض» والعجب كل العجب أنه (رحمه الله) لم يذكر هذا حتّى بنحو الاحتمال في الآية .
(الصفحة191)
«من» ثلاثة:
التبعيض والتبيين والنشوية وبعد المراجعة إلى بعض الكتب المفصلة كمغنى اللبيب لابن هشام لم نجد معنى النشوء لـ «من» مع أنه ذكر خمسة عشر معنى لها نعم أحد هذه المعاني قابل للانطباق(1) على النشو وهو «من» بمعنى التعليل كما في الكتاب كقوله تعالى (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً)(2) أي الغرق ناش من خطيئاتهم ، وكما في الإشعار مثل الشعر المعروف لفرزدق في مورد الأمام زين العابدين «يُغْضى حياءً ويُغْضى من مهابته» أي الإغضاء ناش من المهابة .
فإذا كان المراد من النشو التعليل فله وجه وامّا بعنوان النشو فلا يوجد في كلام المحققين من الأدباء .
وأمّا «من» التبيينية فهي لبيان الجنس وهذا الجنس وهو الذي فيه الإبهام ويعبّر عن الماهية المبهمة ، بالجنس ومعلوم انّ الجنس بالاصطلاح الأدبي غير الاصطلاح المنطقي .
ولذا يقول الألف واللام لتعريف الجنس فيتضح انّ في الجنس إبهاماً يرفع بالألف واللام والأمثلة التي مثّلوا بـ«من» التبيينية تكون في المفردات في مقابل الجملة ولا يكون في كلمات الأدباء إشارة إلى أن «من» لتبيين الجملة .
فانقدح أولاً أنّه لا يكون «من» التبيين الجملة وثانياً: أنه لو فرض من الجهة الأدبية وجود «من» لتبيين الجملة فنقول لايمكن فرضه في الآية لنقطتتين:
الأولى: ماتقدّم من عدم وجود الحقيقة الشرعية بل المتشرعية للفجر كما
1 . الظاهر انطباقه على «من» الابتدائية إذا كانت ناظرة إلى منشأ الشيء مثل قوله تعالى «وجعلنا من الماء كلّ شيء حي» (انبياء 30) ولذا قيل في قوله تعالى: «فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله» (الزمر 21) انّ «من» للابتداء وفسّر الدسوقي بقوله: «ياويلنا ويلاً نشأ من هذا» (شرح الدسوقي ج 1 ، ص 319) .
2 . نوح: 25 .
(الصفحة192)
عرفنا وجداناً انّ الشارع لم يضع حقيقة شرعية للزوال والغروب .
والثانية: أنه لو فسّر الشارع الفجر بالتبين لكان له وجه ولكنّه فعل في الآية بالعكس وفسّر التبين بالفجر ونحن نعلم انّ المعهود في الألفاظ التي فيها حقيقة شرعية كالصلاة مثلاً ، تفسيرها بماهياتها الشرعية فتفسّر الصلاة بالأفعال والأذكار وانّ أوّلها التكبير وآخرها التسليم وبعبارة أخرى اللفظ موضوع وتعريفه محمول كما في «الإنسان حيوان ناطق» ولا يعملون بالعكس «الحيوان الناطق إنسان» وفي الآية بناء على ما ذكره الإمام الخميني (رحمه الله)الفجر جعل بياناً للتبيين وهذا بعكس المعهود .
فما ذهب إليه الإمام الخميني (قدس سره) لايمكن الإلتزام به والحال نطرح كلام الهمداني (رحمه الله) .
كلام المحقّق الهمداني في المسألة
ذكر المحقق(1) الهمداني (رحمه الله) في كلامه نكتتان: احديهما انّ «من» في الآية بيان للخيط الأبيض لا النفس التبيّن ومع ذلك يجب تأخير الصلاة والصوم حتّى يقهر نور الفجر على نور القمر لانّ المأخوذ في الآية تبيّن الخيط الأبيض «حتّى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر» وظاهر العناوين المأخوذة في الأدلّة ، الموضوعية فكما ذكرنا في قوله «الماء المتغير نجس» انّ ظهور التغير في التغير الفعلي
1 . قال في كتاب الصلاة (في باب المواقيت) في التنبيه الثاني هكذا: مقتضى ظاهر الكتاب والسنة وكذا فتاوي الأصحاب ، اعتبار اعتراض الفجر وتبيّنه في الاُفق بالفعل ، فلا يكفي التقدير مع القمر لو أثّر في تأخّر تبيّن البياض المعترض في الاُفق ، ولايقاس ذلك بالغيم ونحوه فإنّ ضوء القمر مانع عن تحقق البياض ، مالم يقهره ضوء والغيم مانع عن الرؤية ، لا عن التحقق وقد تقدّم في مسألة التغير التقديري في مبحث المياه من كتاب الطهارة ماله نفع في المقام ، (مصباح الفقيه ، ج 2 ، ص 25) .
(الصفحة193)
لا التقديري فكذلك هنا لابد من تحقق التبين بالفعل وفي الليالي المقمرة ليس التبين فعلياً بل التبين تقديري ولولائي بمعنى إنه لولا ضوء القمر لتبين الفجر ولكنّ مع وجود ضوء القمر لا وجود للتبين واقعاً فيجوز للمكلّف أن يأكل ويشرب إلى أن يتحقق التبين الفعلي .
وثانيتهما: الفرق بين الليالي المقمرة والمغيمة والحكم بوجوب التأخير في الأوّل دون الثاني لانّ الغيم أمر عرضي ومانع عن الرؤية كما يكون العمى في الأعمى والعمش في الأعمش والذي يضعف بصره مانعاً عن رؤية التبين بخلاف نور القمر في الليالي المقمرة وبعبارة اُخرى إنّما المشكل في الليالي المقمرة في المرئي أي الفجر بمعنى أنه لم يتحقق مع وجود ضوء القمر والمشكل في الليالي المغيمة في الرؤية لا المرئي بمعنى انّ الفجر تحقّق ولكنّ الغيم مانع عن الرؤية .
نقد نظرية الهمداني (رحمه الله)
وفي كلامه نظر لما تقدّم في ضمن الضابطة الكلية من انّ ظاهر العناوين وإن كان في الموضوعية كتغيّر الماء ولكن لهذه القاعدة استثناءً وهو انّ مادة «العلم» و «اليقين» ونحوهما كالتبيّن ظاهرة في الطريقية عرفاً .
فما ذكر في مباحث القطع في علم الاُصول ـ من انّ القطع امّا موضوعي وامّا طريقي والموضوعي إمّا تمام الموضوع وإمّا جزء الموضوع والقطع الموضوعي إمّا أخذ بنحو الطريقية والكاشفية وأمّا أخذ بنحو الوصفية ـ لاينافي ما ذكرنا هنا ، لانّ البحث في ظهور الكلمات عرفاً ومادة العلم واليقين ونحوهما ظاهرة في الطريقية إلاّ أن تقوم قرينة على الموضوعية فيمكن أخذ العلم بنحو الموضوعية في الدليل ولكنّه يحتاج إلى القرينة والأصل عدمها . ولو سلّم عدم الفرق بين العلم وسائر العناوين
(الصفحة194)
وانّها كلّها ظاهرة في الموضوعية فأجيب بما أجاب به بعض الفحول من انّ فرق الهمداني (رحمه الله) بين الليالي المقمرة والمغيمة بلا وجه لانّ الغيم في المغيمة مانع عن رؤية الفجر وكذلك في المقمرة أيضاً نور القمر مانع عن رؤية الفجر لا انّ الفجر لم يتحقق .
ومثال ما نحن فيه مثال وجود السراج الضعيف والسراج الشديد فإنّ الضوء الضعيف موجود ولكنّه مقهور ، لا أنه ليس بموجود أصلاً وكذلك ضوء القمر موجود ولكنّه مقهور لنور القمر .
فمسألة الليالي المقمرة مثل الليالي المغيمة بحيث إذا علمنا من الخارج طلوع الفجر ـ كما إذا علمناه باِخبار المنجمين ـ لايجوز الأكل والشرب في رمضان سواء كان الغيم موجوداً أم كان ضوء القمر غالباً على ضوء الفجر .
أمّا «من» التبعيضية فهو خلاف الظاهر لانّ معيار «من» التبعيضية جواز وضع كلمة «بعض» بدلها مثل قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)فبوضع كلمة «بعض» بدله لا يتغير المعنى بخلاف الآية فانّ وضع «بعض» لا يصحّ في الآية لوجهين:
الأوّل: انّ الفجر غير قابل للتبعيض حيث انّ الفجر هو الانشقاق والانفجار وبمجرّد ظهور الخيط الأبيض يتحقق الانشقاق ولا انشقاق بعده حتّى يكون الانشقاق الأوّل بعضه .
والثاني: انّه تنخرم سَلاسة الآية حيث يصير المعنى «حتّى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود بعض الفجر» .
والمتحصّل ان «من» للتبيين وبيان للخيط الأبيض والتبين عنوان طريقي لا موضوعي خلافاً للهمداني (رحمه الله) ولا تكون «من» بياناً للتبيّن كما ذهب إليه الإمام الخميني ولا يتمّ «من» النشوية ولا «من» التبعيضية .
هذا تمام الكلام في الآية والآن نبحث عن الروايات .
(الصفحة195)
روايات الباب
هنا روايات بعضها في مقام تفسير الآية أو الاستشهاد بها وبعضها في صلاة الصبح وأوّل وقتها من دون إشارة إلى الآية .
وامّا الرواية التي في تفسير الآية أو الاستشهاد بها ـ وهي التي عدّها الإمام الخميني أظهر الأخبار وادّلها على مختاره ـ صحيحة علي بن مهزيار: «قال: كتب أبو الحسن بن الحصين إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) معي: جعلت فداك قد اختلف موالوك (مواليك) في صلاة الفجر ، فمنهم من يصلّي إذا طلع الفجر الأوّل المستطيل في السماء ، ومنهم من يصلّي إذا اعترض في أسفل الاُفق واستبان ، ولست أعرف أفضل الوقتين فأصلّي فيه ، فإن رأيت أن تعلّمني أفضل الوقتين وتحدّه لي ، وكيف أصنع مع القمر والفجر لا يتبين (تبين) معه ، حتّى يحمّر ويصبح ، وكيف أصنع مع الغيم وما حدّ ذلك في السفر والحضر فعلت إن شاء الله ، فكتب (عليه السلام) بخطّه وقرأته: الفجر يرحمك الله هو الخيط الأبيض المعترض ، وليس هو الأبيض صعداً فلا تصلّ في سفر ولا حضر حتّى تبينه ، فإنّ الله تبارك وتعالى لم يجعل خلقه في شبهة من هذا ، فقال: كلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فالخيط الأبيض هو المعترض الذي يحرم به الأكل والشرب في الصوم وكذلك هو الذي يوجب به الصلاة»(1) .
سند الرواية
هذه الرواية مروية بطريقين طريق الكليني وطريق الشيخ وامّا طريق الكليني فهكذا: محمد بن يعقوب عن علي بن محمد عن سهل بن زياد عن علي بن مهزيار والكلام في هذا الطريق في «سهل بن زياد» فبعض وثّقه وقال انّ الأمر في السهل
1 . رسائل الشيعة ، ج 2 ، أبواب المواقيت ، باب 27 ، ح 4 .
(الصفحة196)
سهل وبعض ضعّفه أو قال بعدم توثيقه .
وامّا طريق الشيخ فهكذا: محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن الحصين (بن أبي الحصين)(1) .
وهذا السند وإن لم يكن فيه «سهل بن زياد» إلاّ أنّ فيه «الحصين» وهو غير موثق بخلاف أبو الحسن بن الحصين الذي في طريق الكليني فإنه موثّق وبملاحظة وحدة المكاتبة ، تعدّد الكاتب بعيد والذي ينبغي أن يقال انّ في طريق الشيخ تصحيفاً وانّ الصحيح أبو الحسن بن الحصين .
دلالة الرواية
وفي الرواية ثلاثة سؤالات:
السؤال الأوّل: عن أوّل وقت صلاة الصبح وفي أوّل الوقت خصوصيتان:
أحديهما: انّ الصلاة قبله باطلة .
وثانيتهما: انّ الصلاة فيه أفضل وهذا السؤال الأول عن الشبهة الحكمية وانّ أول صلاة الصبح الفجر الكاذب أو الفجر الصادق .
والفرق بينهما ثلاثة الأوّل انّ الكاذب حالته عمودية ولذا عبّر عنه بالمستطيل والصادق افقية مع استدارة ولذا عبّر عنه في بعض الروايات بذنب السرحان .
والثاني: انّ الكاذب لمعانه وضيائه في الأوّل شديد ويضعف شيئاً فشيئاً ، والصادق بالعكس لانّ الشمس تقرب من كرة الأرض فيزداد ضياء الفجر الصادق شيئاً فشيئاً .
والثالث: انّ بياض الفجر الكاذب لايتصل بالاُفق بخلاف بياض الفجر
1 . التهذيب ، ج 2 ، ص 36 ، ح 115 ، طبع دار الكتب الإسلامية .
(الصفحة197)
الصادق فإنّه يتصل بالاُفق ولذا عبّر في الرواية بأنه «اعترض في أسفل الاُفق» .
ثمّ كتب الراوي «لستُ أعرف أفضل الوقتين فأصلّي فيه» وليس مراده أفضل الوقتين بل بقرينة ما بعده مراده انّه لم أعرف أصلَ وقت صلاة الصبح حتّى أصلي فيه .
الثاني: السؤال عن الصلاة في الليالي المقمرة والمغيمة(1) وظاهر هذا السؤال بقرينة «حتّى يحمرّ ويصبح» عن الشبهة الموضوعية ، يعني انّ الفجر حصل ولكن لا يتبيّن حتّى يحمر ويصبح والقرينة الاُخرى عطف بحث الغيم إلى بحث القمر وقال «كيف أصنع مع الغيم» . ويمكن إرجاعه إلى الشبهة الحكميّة بمعنى انّ السائل يسأل عن أوّل الوقت في الليالي المقمرة والمغيمة بأنه هل هو نفس الفجر الواقعي وإن لم يتبيّن لنا أو الفجر مع التبين بالنسبة إلينا .
الثالث: السؤال عن الفجر في السفر والحضر(2) وانّ الحكم فيهما واحد أو لا وهذا السؤال عن الشبهة الحكمية قطعاً . وقوله «فعلتُ إن شاء الله» جزاء لقوله «فان رأيت تعلمني» .
ثمّ بعد اتّضاح السند والدلالة فلنا بحث مع الإمام الخميني (قدس سره) وبحث مع المحقق الهمداني (رحمه الله) .
امّا بالنسبة إلى كلام الإمام الخميني فإنّه (قدس سره) التزم بـ «مِن» التبيينية وانّ الفجر بيان لنفس التبين وهذه الرواية ـ التي قال هو بأنّها أظهر روايات الباب ـ تدل
1 . «وكيف أصنع مع القمر والفجر لا يتبيّن معه ، حتّى يحمرّ ويصبح وكيف أصنع مع الغيم» وأعلم أنّ في نسخة الشيخ بدل «الغيم» «القمر» والظاهر انّه زيادة لانّه تكرار ركيك مضافاً إلى أنّ صاحب الوسائل يذكر اختلاف النسخ ولكن مع ذلك هنا يقول بعد نقل الكليني: «إن الشيخ ذكر مثله» من دون إشارة إلى اختلاف فعلم أن نسخة التهذيب عند صاحب الوسائل هو «الغيم» أيضاً .
2 . «وما حدّ ذلك في السفر والحضر» .
(الصفحة198)
بالصراحة على بيانيّة الفجر للخيط الأبيض لا لنفس التبيّن .
إن قلت: لعل «المعترض» في قوله «والفجر . . . هو الخيط الأبيض المعترض» بمعنى «المتبيّن» ويتمّ مراد الإمام الخميني (قدس سره) .
قلت: في الرواية قرينة قطعيّة على انّ المعترض في مقابل المستطيل لا بمعنى المتبيّن لانّه أولاً قال بعد ذلك «وليس هو الأبيض صعداً» يعني ليس الفجر الصادق هو المستطيل وثانياً قال: «فلا تصلّ في سفر ولا حضر حتّى تبيّنه» فلو كان «المعترض» بمعنى «المتبيّن» لما كان معنىً لقوله «حتّى تبيّنه» لأنه لا معنى لتبين المتبيّن ، فالضمير المفعولي في «تبيّنه» راجع إلى الفجر والفجر تارةً متبين وتارةً غير متبيّن كما انّ سائر الواقعيات كخمرية هذا المائع تارةً متبين وتارةً غير متبيّن .
وامّا بالنسبة إلى كلام المحقّق الهمداني (رحمه الله) حيث جعل «من» بياناً للخيط الأبيض ولكنّه التزم بموضوعية التبين لا طريقيته فنقول ، هل للرواية بيان زائد على موضوعية التبين أكثر ممّا في الآية أو لا ، الظاهر إن تعبير الرواية عين تعبير الآية والإمام (عليه السلام) استدل بنفس الآية فلمّا قلنا انّ التبين في الآية طريقي لا موضوعي فنقول في الرواية كذلك .
ثمّ التأمّل في الرواية يقتضي بأنّ الأمام (عليه السلام) أجاب بسؤالين من السؤالات الثلاثة للراوي أحدهما ملاك أوّل وقت صلاة ، الصبح وثانيهما عدم الفرق بين السفر والحضر ، وامّا السؤال المهمّ الذي عنى به السائل وهو أوّل الوقت في الليالي المقمرة والمغيمة فلم يُجِب بحسب الظاهر .
فما نقول في توجيه هذا المطلب؟
نقول هنا أربعة احتمالات: الأوّل انّ الإمام لم يُجِب هذا السؤال أصلاً وهذا بعيد لأنّه (عليه السلام) أجاب بالسؤالين ولا تكون خصوصية في السؤال الثالث فكيف لايجيبه مع عناية السائل واهتمامه بهذا السؤال .
(الصفحة199)
الثاني: انّ الإمام أجاب بهذا السؤال وحكم بموضوعية التبيّن في مورد وجود نور القمر والغيم وفيه انّ هذا الاحتمال مستلزم لما هو مخالف لقول جميع الفقهاء وهو لزوم تأخير الصلاة والإمساك في الصوم حتّى يتبيّن الفجر مع أنه لم يوجد فقيه حتّى الهمداني والإمام الخميني ، التزم بالتأخير في الليالي المغيمة .
الثالث: ما استفيد من ذيل كلام الإمام الخميني في رسالة تعيين الفجر وإنّ الإمام (عليه السلام) أجاب وحكم بموضوعية التبيّن في مورد وجود القمر دون الغيم والفرق بين الليالي المقمرة والمغيمة قد كان واضحاً عند السائل وإنّ الغيم أمر عرضي دون نور القمر ولذا فهم اختصاص الجواب بمورد وجود القمر .
وفيه انّ الظاهر عدم إمكان تحميل هذا الإحتمال بالرواية كما هو الظاهر .
الرابع: أنّ الإمام أجاب بأنّ الفجر هو الخيط الأبيض والتبيّن عنوان طريقي لا موضوعي وهذا أنسب الإحتمالات بالرواية فإذا تبيّن وعلم بانشقاق الفجر سواء كان بالرؤية أو باِخبار المنجمين أو غيرهما تحقّق أوّل وقت صلاة الصبح وأوّل وقت إمساك الصوم وأمّا مالم يتبين فيجوز بمقتضى استصحاب عدم دخول الوقت إتيان النافلة الليلية وعدم جواز الدخول في صلاة الصبح وجواز الأكل والشرب في رمضان .
فتحصّل انّ كلام الإمام الخميني في بيانية «من» لنفس التبيّن غير تامّ من أساسه لصراحة الرواية في بيانية «من» للخيط الأبيض وكلام الهمداني في موضوعية التبيّن مخدوش بما ذكرنا في الإحتمال الرابع وإن التزم ببيانية «من» للخيط الأبيض .
هذا تمام الكلام في صحيحة علي بن مهزيار .
وامّا الروايات التي في صلاة الصبح وأوّل وقتها فهي على ثلاثة طوائف: قسم ذكر الفجر بعنوان أوّل وقت صلاة الصبح وقسم ذكر طلوع الفجر وقسم ذكر
(الصفحة200)
انشقاق الفجر .
امّا في القسم الأوّل فروايات استدلّ بها على موضوعية التبيّن ووجوب تأخير الصلاة والإمساك .
منها: صحيحة علي بن عطية عن أبي عبدالله (عليه السلام): انّه قال: الصبح (الفجر) هو الذي إذا رأيته كان معترضاً كأنّه بياض نهر سوراء(1) .
رواها المشائخ الثلاثة ، الصدوق والطوسي والكليني ، وفي نسخة الوافي(2)للمحدّث الكاشاني بدل «بياض سوراء» «نباض سورى» بالألف المقصورة لا الممدودة والنباض من نبض أيّ سال الماء وجرى فبناء على البياض ، مراده بياض نهر سوري وبناءً على النباض سيلان هذا النهر قال في الوافي «سورى» بالمقصورة
1 . وسائل الشيعة ، ج 3 ، أبواب المواقيت ، باب 27 ، ح 2 ، قال في التنقيح: «وقد يناقش في سندها بأنّ علي بن عطية الراوي لها وإن كان ثقة ، وثّقه النجاشي في ترجمة أخيه الحسن إلاّ أنّ في طريق الصدوق إليه علي ابن حسان وهو مردّد بين الواسطي الثقة ، والهاشمي الضعيف وقد قال النجاشي في حقّه: علي بن حسان الكبير الهاشمي . . . ضعيف جداً ذكره بعض أصحابنا في الغلاة فاسد الاعتقاد ، له كتاب تفسير الباطن ، تخليط كلّه وعن ابن فضال انّه كذاب وقال العلاّمة ، انّ له كتاباً سمّاه كتاب تفسير الباطن لا يتعلق من الإسلام بسبب هذا .
والصحيح انّ طريق الصدوق إلى الرجل صحيح ، إذ الظاهر انّ علي بن حسان الواقع فيه هو الواسطي الثقة ، لأن الصدوق (قدس سره) روى في الفقيه عن علي بن حسان عن علي بن عطية ، وليس هذا إلاّ الواسطي فإنّ الهاشمي لا يروي إلاّ عن عمّه عبد الرحمن بن كثير ولم يعلم له أية رواية عن علي بن عطية أو غيره .
على انّ الرواية رواها كلّ من الكليني والشيخ (قدس سرهما) بطريق صحيح أو حسن ـ باعتبار إبراهيم بن هاشم ـ إذاً فالرواية غير قابلة للمناقشة من حيث السند» (التنقيح ، كتاب الصلاة ، ج 1 ، ص 281) .
2 . وقال صاحب الوافي: «النباض بالنون والباء الموحّدة من نبض الماء إذا سال وربما قرأ بالموحّدة ثمّ الياء المثناة من تحت (البياض) وسوري على وزن بُشرى موضع بالعراق والمراد بنباضها أو بياضها، نهرها كما دلّ عليه خبر هشام بن الهذيل «حين يعترض الفجر فتراه مثل نهر سورى» وقال الطريحي في مجمع البحرين في مادة نبض «يقال نبض العِرق بالكسر ينبض نبضاً ونبضاناً إذا تحرك» وقال في مادة «سور» (سورى كطوري وقد تمد (سوراء) بلدة بالعراق من أرض بابل من بلاد السريانيين وفي الحديث «وقد سأل عن الفجر قال إذا رأيته معترضاً كأنّه بياض نهر سوري» ويريد الفرات).
|