صفحه 80 حيث لا تكون محسوسة إلاّ بسبب النقوش والألوان ، أو الارتفاعات الثابتة عليه وفي سطحه ; فلذا يكون الدليل على حركته حركة ذلك النقش واللون أو الارتفاع . ومن جهة التعبير عن حركتها بالمرور الذي فيه إشارة إلى بطء حركة الأرض وملائمتها ، حسب القانون الطبيعي الذي أودعه الله فيها . ومن جهة أ نّ التشبيه بالسحاب ـ مع كون حركتها مختلفة ، فإنّها قد تمرّ إلى جانب المشرق ، وقد تتحرّك إلى سائر الجوانب من الجوانب الأربعة ـ يدلّ على عدم اختصاص حركة الأرض بحركة خاصّة ، بل لها حركات مختلفة ربما تتجاوز عشرة أنواع . ومن غير تلك الجهات . 4 ـ ما ورد في شأن كرويّة الأرض ; مثل قوله ـ تعالى ـ : (يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ) (1) . تقول العرب: «كار الرّجل العِمامة على رأسه إذا أدارها ولفّها ، وكوّرها بالتشديد صيغة مبالغة وتكثير»(2) فالتكوير في اللغة إدارة الشيء عل الجسم المستدير كالرأس بالإضافة إلى العمامة ، فتكوير الليل على النهار ظاهر في كرويّة الأرض ، وفي بيان حقيقة الليل والنهار على الوجه المعروف في الجغرافية الطبيعيّة . وقوله ـ تعالى ـ : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) (3) . وتوضيح المراد من هذه الآية الشريفة: أنّ الكتاب العزيز قد استعمل فيه لفظ المشرق والمغرب : تارةً بصيغة الإفراد ; كقوله ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ) (4) . (1) سورة الزمر 39 : 5 . (2) المصباح المنير : 2 / 543 كور . لسان العرب: 5 / 449 . كور . (3) سورة الرحمن 55 : 17 . (4) سورة البقرة 2 : 115 . صفحه 81 واُخرى بصيغة التثنية; كهذه الآية التي نحن بصدد التوضيح للمراد منها . وقوله ـ تعالى ـ : (يَــلَيْتَ بَيْنِى وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) (1) . وثالثة بصيغة الجمع ; كقوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـرِقَ الأَْرْضِ وَمَغَـرِبَهَا) (2) . وقوله ـ تعالى ـ : (فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَـرِقِ وَ الْمَغَـرِبِ إِنَّا لَقَـدِرُونَ ) (3) . أمّا ما ورد فيه هذان اللفظان بصيغة الإفراد : فهو مع قطع النظر عن الآيات الظاهرة في التعدّد يلائم مع وحدتهما ، وأ مّا بعد ملاحظتها فلا محيص عن أن يكون المراد منه هو النوع المنطبق على المتعدّد من أفرادهما . وأ مّا ما ورد فيه هذان اللفظان بصيغة المثنّى: فقد اختلف المفسِّرون في معناه ، فقال بعضهم: المراد مشرق الشمس ومشرق القمر ومغربهما (4) ، وحمله بعضهم على أنّ المراد منه مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما (5) ، ولكن بعد اهتداء البشر إلى كرويّة الأرض وأ نّها فلك مستدير كرويّ ، واستكشافهم لوجود قارّة اُخرى على السطح الآخر للأرض ، يكون شروق الشمس عليها غروبها عن قارّتنا; ظهر أنّ المراد بالآية هو تعدّد المشرق بالإضافة إلى الشمس في كلّ يوم وليلة ، لا أنّ التعدّد بلحاظ الشمس والقمر ، ولا بالنظر إلى اختلاف الفصول ، بل لها في كلّ أربع وعشرين ساعة مشرقان: مشرق بالإضافة إلى قارّتنا ، ومشرق بلحاظ القارّة الاُخرى المكتشفة (6) . وياليتها لم تُكتَشف ! . (1) سورة الزخرف 43 : 38 . (2) سورة الأعراف 7 : 137 . (3) سورة المعارج 70 : 40 . (4، 5) جامع البيان عن تأويل آي القرآن : 27 / 157 ـ 158 وج29 / 107 ، التبيان في تفسير القرآن : 9 / 467 ، التفسيرالكبيرللفخرالرازي:10/350، تفسيرغرائب القرآنورغائب الفرقان:6/229، مجمع البيان: 9/ 299. (6) البيان في تفسير القرآن : 74 ـ 77 ، القرآن وأسرار الخليقة . صفحه 82 وربّما يؤيّد ذلك بالآية الشريفة المتقدّمة المقتصر فيها على تثنيّة المشرق فقط ; نظراً إلى أنّ الظاهر منها أنّ البُعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة ، فلا يمكن حملها على مشرقي الشمس والقمر ، ولا على مشرقي الصيف والشتاء ; لأنّ المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة ، فلا يمكن حملها على مشرق الشمس والقمر ، ولا على مشرق الصيف والشتاء ; لأنّ المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة ، فلابدّ من أن يراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب ، ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقاً لجزء آخر من الكرة الأرضيّة ليصحّ هذا التعبير . ولكن في التأييد نظر; لاحتمال أن يكون لفظ «المشرقين» في هذه الآية تثنية للمشرق والمغرب ، لا تثنية للمشرق فقط ; ليدلّ على تعدّد المشرق ، مع قطع النظر عن المغرب ، ولعلّ هذا الاحتمال أقوى ; من جهة أنّ البُعد والفصل إنّما يناسب مع الشروق والغروب ، لا مع تعدّد المشرق كما هو غير خفيّ . هذا ، ولكن ذلك لا يضرّ بدلالة الآية المتقدّمة المشتملة على تثنية المشرق والمغرب معاً ; فإنّ ظهورها فيما ذكرنا من تعدّد المشرق والمغرب لخصوص الشمس في كلّ يوم وليلة ممّا لا ينبغي أن ينكر ، فدلالتها على كرويّة الأرض ووجود قارّة اُخرى واضحة لا ريب فيها . وأمّا ما ورد فيه ذلك بصيغة الجمع; فدلالته على كرويّة الأرض واضحة ; فإنّ طلوع الشمس على أيّ جزء من أجزاء كرة الأرض يلازم غروبها عن جزء آخر ، فيكون تعدّد المشارق والمغارب واضحاً لا تكلّف فيه ولا تعسّف . والمحكيّ عن بعض المفسِّرين(1) حمل ما ورد فيه ذلك على مطالع الشمس (1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 27 / 158 ، الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي : 15 / 27ـ 28 و64 ، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان : 6 / 360 ، مجمع البيان في تفسير القرآن: 10 / 115 . صفحه 83 ومغاربها باختلاف أيّام السنة وتعدّد الفصول ، ولكنّه ـ مع أنّه تكلّف لا ينبغي أن يصار إليه ـ لا يتلاءم مع التأمّل في الآيات الدالّة على ذلك ; فإنّ الظاهر من الآية الاُولى أنّ مشارق الأرض ومغاربها كناية عن مجموع الأرض وأجزائها ; فإنّه الذي ينبغي أن يكون القوم المستضعفون وارثين له (1) ، وأ مّا مجرّد المشارق والمغارب المختلفة باختلاف الفصول وأيّام السنة ، فلا يتلاءم مع الوراثة أصلاً ، كما أنّها لا تتلاءم مع الحلف والقسم ، فتدبّر . ويؤيّد ذلك ما ورد في أخبار الأ ئـمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين . وممّا يدلّ على كرويّة الأرض مثل ما رواه في الوسائل ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر ، وكنت أنا اُصلّي المغرب إذا غربت الشمس ، واُصلّي الفجر إذا استبان لي الفجر . فقال لي الرجل : ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ; فإنّ الشمس تطلع على قوم قبلنا ، وتغرب عنّا وهي طالعة على قوم آخرين بعد؟ قال : فقلت: إنّما علينا أن نُصلّي إذا وجبت الشمس عنّا ، وإذا طلع الفجر عندنا ، ليس علينا إلاّ ذلك ، وعلى أولئك أن يصلّوا إذا غربت عنهم»(2) . ومثله قول أبي عبدالله (عليه السلام) في رواية اُخرى: «إنّما عليك مشرقك ومغربك»(3) . فإنّهما ظاهران في أ نّ اختلاف المشرق والمغرب إنّما هو باختلاف أجزاء الأرض الناشئ عن استدارتها وكرويّتها . غاية الأمر أنّه يجب على كلّ قوم رعاية (1) إشارة إلى الآية 137 من سورة الأعراف ، الميزان في تفسير القرآن: 8 / 228 ـ 229 . (2) الأمالي للصدوق: 140 ح142 ، وعنه وسائل الشيعة : 4 / 179 ، كتاب الصلاة ، أبواب المواقيت ب16 ح 22 ، وبحار الأنوار: 83 / 58 ح17 . (3) تهذيب الأحكام: 2 / 264 ح1053 ، الاستبصار: 1 / 266 ح961 ، الفقيه: 1 / 142 ح661 ، الأمالي للصدوق: 139 ح139 ، وعنها وسائل الشيعة : 4 / 198 ، كتاب الصلاة ، أبواب المواقيت ب 20 ح 2 . وفي بحار الأنوار: 83 / 57 ح14 عن الأمالي ، وفي ملاذ الأخيار: 4 / 333 ح90 عن التهذيب. وفي روضة المتّقين: 2 / 69ـ 70 عن الفقيه . صفحه 84 مشرق أرضه ومغربها . 5 ـ من الأسرار التي دلّ عليها الكتاب العزيز تعدّد السماوات والأرضين ، مع أنّ الحسّ الذي كان هو الطريق المنحصر للبشر في ذلك العصر لا يكاد يهدي إلاّ إلى وحدتهما ; ولذا كان جمهور المتقدّمين متّفقين على وحدة الأرض ، وأنّه ليس غير هذه الأرض التي نحن نعيش فيها ونمشي في مناكبها أرض اُخرى (1) . لكنّه قد استقرّ رأي الفلاسفة ـ بعد القرن العاشر من الهجرة ـ على تعدّد الأرضين وعدم اختصاص الأرض بهذه الكرة المحسوسة لنا(2) . نعم ، المحكي عن الشيخ الرئيس أبي علي(3) أنّه حكى القول بكثرة الأرضين ، وتعدّدها عن حكماء قديم الفرس (4) ،(5) . وأشار إلى ذلك الشاعر المعروف الفارسي المشهور بـ «نظامي»(6) في قوله: شنيدستم كه هر كوكب جهانيست *** جداگانه زمين و آسمانيست(7) وكيف كان ، فالثابت عند المتأخّرين أنّ كلّ كوكب سيّار أرض مستقلّ ، مشتمل على ما في أرضنا من الجبال والبحار والسحاب والحيوانات وغيرها ، وقد (1) اُنظر الهيئة والإسلام لهبة الدين الشهرستاني : 84 ـ 85 . (2) المصدر نفسه: 79 ـ 80 و 105 ، وهم الفلاسفة الغربيّون بعد اختراع الميكروسكوب والتليسكوب . . . (3) أبو علي الحسين بن سينا ، الفيلسوف الحكيم الشاعر الملقّب بالشيخ الرئيس ، له مؤلّفات مشهورة: منها: القانون والشفاء والإشارات ، توفّي بهمذان سنة 428 أو 427 هـ . (الكنى والألقاب للشيخ عبّاس القمّي 1 : 320 ـ 323 .) (4) الشفاء للشيخ الرئيس ، الطبيعيّات: 2 / 54 ، الفنّ الثاني ، الفصل السابع . صفحه 85 دلّ الكتاب على تعدّد السماوات والأرضين بقوله ـ تعالى ـ : (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـوَ ت وَ مِنَ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ) (1) . فإنّ ظاهرها تعدّد الأرضين كالسماوات ، وبلوغها سبعاً مثلها ، وقد وقع التصريح بالأرضين السبع في الدعاء المعروف: «سبحان الله ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع ، وما فيهنّ وما بينهنّ ، وربّ العرش العظيم»(2) . ويؤيّده ما رواه جماعة عن الرضا ـ صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المنتجبين ـ في جواب السؤال عن ترتيب السماوات السبع والأرضين السبع ، ممّا مرجعه إلى أنّ الأرض التي نحن فيها أرض الدنيا ، وسماءها سماء الدنيا ، والأرض الثانية فوق سماء الدنيا ، والسماء الثانية فوقها ، وهكذا(3) . وبالجملة: دلالة الكتاب على مثل هذا الأمر غير المحسوس ـ الذي كان مخالفاً لآراء البشر في عصر النزول ـ تهدي الباحث هداية واضحة ، وترشد الطالب إرشاداً بيّناً إلى نزوله من عند الله الخالق للسماوات السبع ، ومن الأرض مثلهنّ . 6ـ ومن تلك الأسرار ما بيّنته الآيات الدالّة على حركة الشمس أوّلاً ، وكونها أصلاً في الحركة ثانياً ، وعلى تعدّدها ثالثاً ، وأ نّها بمرور الدهور يعرض لها التكوير ، ويبلغ إلى حدٍّ يصدق قوله ـ تعالى ـ : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) (4) الموافق للرأي (1) سورة الطلاق 65 : 12 . (2) الكافي: 3 / 122 ح3 وص124 ح7 و 9 ، الفقيه: 1 / 77 ح346 ، تهذيب الأحكام 1 : 288 ح 839 و 840 ، وعنها وسائل الشيعة: 2 / 459ـ 460 ، كتاب الطهارة ، أبواب الاحتضار ب 38 ح 1 ـ 3 ، وفي بحار الأنوار: 81 / 233 ح9 عن الفقه المنسوب للإمام الرضا(عليه السلام) : 165 ، وفي ص239 ح25 عن الهداية للصدوق: 104 ، وفي ص240 قطعة من ح26 عن الدعوات للراوندي: 245 ، الرقم 693 ، وفي ج84 / 206 ح23 عن فلاح السائل: 134 ، وفي ص260 ح4 عن مصباح المتهجّد: 200 ، الرقم 287 . (3) مجمع البيان : 10 / 44 ، الهيئة والإسلام : 90 . (4) سورة التكوير 81 : 1 . صفحه 86 الجديد في باب الشمس ونقصان نورها وحرارتها تدريجاً . وغير ذلك من الأسرار التي دلّ عليها الكتاب تصريحاً أو تلويحاً ، التي ينبغي أن تؤلّف في كتاب واحد ، مع أنّ العلم بتوفّره ، والاكتشاف بتكثّره لم يبلغ إلى مرتبة يحيط لأجلها بجميع الأسرار الكونيّة ، والرموز الخلقيّة المذكورة في الكتاب العزيز . نسأل الله ـ تبارك وتعالى ـ لأن يهدينا سبيل الرشاد ، وهو الهادي إلى ما يتعلّق بالمبدإ والمعاد . ثمّ إنّ هنا وجوهاً اُخر في باب إعجاز القرآن ، ولكن ما ذكرنا من النواحي التي كانت أعمّ ممّا أشار إليها الكتاب وما لم يشر إليه ، يكون فيه غنى وكفاية للطالب غير المتعصِّب ، والباحث غير العنود ، ولا يبقى بعد ملاحظة ما ذكرنا شكّ وارتياب في أنّ القرآن وحي إلهيّ ، وكلام الله الخارج عن حدود القدرة البشريّة . ولكن هنا أوهام وشبهات حول إعجاز القرآن لا بأس بالإشارة إليها بأجوبتها ، وإن كان بعضها ـ بل كلّها ـ من السخافة والبطلان بمكان لا ينبغي إضاعة الوقت ، وإعمال القوّة العاقلة في دركها وإبطالها ، إلاّ أنّه لأجل إمكان إيراثها الارتياب في بعض العقول الناقصة ، والنفوس غير الكاملة لا مانع من التعرّض لمهمّاتها . صفحه 87 * شبهة غموض الإعجاز . * شبهة التناقض والاختلاف . * شبهة وجود العجز عن الإتيان بغير القرآن أيضاً . * شبهة العجز عن المعارضة بسبب الخوف والتطبّع على القرآن . * شبهة الخلط والتداخل بين الموضوعات القرآنية . * شبهة احتقار المعارضة وعدم الإعلان عنها . * شبهة وقوع المعارضة ، وتعداد من عارض بلاغة القرآن ، والجواب عن كلّ ذلك بالتفصيل . صفحه 88 صفحه 89 شبهات حول إعجاز القرآن شبهة غموض الإعجاز إنّ المعجز لابدّ وأن يعرف إعجازه جميع من يراد بالإعجاز إقناعه ، وكلّ من كان المهمّ اعتقاده بصدق مدّعي النبوّة ; ليخضع في مقابل التكاليف التي يأتي بها ، والوظائف التي هو الواسطة في تبليغها وإعلامها ; ضرورة أنّ كلّ فرد منهم مكلّف بتصديق مدّعي النبوّة ، فلابدّ أن تتحقّق المعرفة ـ معرفة الإعجاز ـ بالإضافة إلى كلّ واحد منهم ، مع أنّه من المعلوم أنّ معرفة بلاغة القرآن تختصّ ببعض البشر ولاتعمّ الجميع ، من دون فرق في ذلك بين زمان النزول وسائر الأزمنة إلى يوم القيامة ، فكيف يكون القرآن معجزاً بالإضافة إلى جميع البشر ، ويكون الغرض منه هداية الناس من الظلمات إلى النور كما بيّنه نفسه ؟ والجواب عن ذلك: أنّه لا يشترط في المعجز أن يدرك إعجازه الجميع ، بل المعتبر فيه هو ثبوت المعجز عندهم ، بحيث لا يبقى لهم ارتياب في ذلك ، وأنّه قد أتى النبيّ (صلى الله عليه وآله) بما يعجز الناس عن الإتيان بمثله ، وإن لم يكن حاضراً عن الإتيان به ، أو لم يكن ممّن يحتمل في حقّه الإتيان بالمثل ; لعدم اطّلاعه على اللغة العربيّة ، أو صفحه 90 لقصور معرفة بخصائصها ، فإذا ثبت لنا بالنقل القطعي تحقّق الانشقاق للقمر بيد النبيّ (صلى الله عليه وآله) (1) تتمّ الحجّة علينا عقلاً ، وإن لم نكن حاضرين عند تحقّقه ، مشاهدين ذلك بأبصارنا ، وكذا إذا ثبت إخضرار الشجر بأمره ، أو تكلّم الحجر بإشارته(2) . وفي المقام نقول: بعدما لاحظنا أنّ القرآن نزل في محيط بلغت البلاغة فيه الغاية القصوى ، والعناية بالفصاحة وشؤونها الدرجة العليا ، بحيث لم يروا لغيرها قدراً ، ولا رتّبوا عليه فضيلةً وأجراً ، ولعلّ السرّ في ذلك واقعاً هو: أنّه عند نزول القرآن لايكاد يبقى مجال للارتياب في تفوّقه واتّصافه بأنّه السلطان والحاكم في الدولة الأدبيّة ، والحكومة العلميّة ، وبعد ملاحظة أنّ القرآن تحدّاهم إلى الإتيان بمثله(3) ، أو بعشر سور مثله(4) ، أو بسورة مثله(5) ، ولم يقع في جواب ذلك النداء إلاّ إظهار العجز ، والاعتراف بالقصور . ولذا اختاروا المبارزة بالسنان على المعارضة بالبيان ، ورجّحوا المقابلة بالسيوف على المقاومة بالحروف ، وآثروا بذل الأبدان على القلم واللسان ، مع أنّه كان من الجدير للعرب إذا كان ذلك في مقدرتهم أن يجيبوه ، ويقطعوا حجّته ، ويأتوا ولو بسورة واحدة مثل القرآن في البلاغة ، فيستريحوا بذلك عن تحمّل مشاقّ كثيرة ، وإقامة حروب مهلكة ، وبذل أموال خطيرة ، وتفدية نفوس محرّمة . (1) تفسير القمّي: 2 / 341 ، إعلام الورى: 1 / 84 ، مناقب ابن شهرآشوب: 1 / 122 ، مجمع البيان: 9/277 ـ 278 ، وعنها بحار الأنوار: 17 / 347 ـ 358 ح1 ، 11 و 13 ، ورواه البخاري في صحيحه: 6 / 62 ب1 ح4864ـ 4868 ، والترمذي في سننه: 5 / 397 ـ 398 ب54 ح3296 ـ 3300 ، ويراجع ص62 . (2) الخرائج والجرائح: 1 / 98 ح 159، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) : 1 / 37 ـ 38، العدد القويّة: 122 ، الرقم 24 ، التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمّد العسكري(عليه السلام) : 599 ، وعنها بحار الأنوار: 15/336 قطعة من ح5 وص340 ح12، و ج16 / 226 ح32، وج17 / 379 ح47 وص383 ح51 . (3) سورة البقرة 2: 23 ، وسورة الإسراء 17: 88 . (4) سورة هود 11: 13 . (5) سورة يونس 10: 38 . صفحه 91 ولكنّهم ـ مع أنّه كان فيهم الفصحاء النابغون والبلغاء المتبحِّرون ـ خضعوا عند بلاغة القرآن ، وأذعنوا بقصورهم ، بل قصور من لم يكن له ارتباط إلى مبدإ الوحي ، ومنبع الكمال من جميع أفراد البشر ، فعند ملاحظتنا ذلك تتمّ الحجّة علينا عقلاً وإن لم نكن من تلك الطبقة النابغة في الفصاحة ، والجماعة الممتازة في الفصاحة ، بل وإن لم نكن عارفين باللغة العربيّة أصلاً ، كما هو واضح من أن يخفى . شبهة التناقض والاختلاف إنّ القرآن مع أنّه قد وصف نفسه بعدم وجود الاختلاف فيه(1) ، وعدم اشتماله على المناقضة بوجه ـ ولابدّ من أن يكون كذلك ـ فإنّ الاختلاف لا يتناسب مع كونه من عند الله الذي لا يغيب عنه شيء ، والمناقضة لا تتلاءم مع كونه من عند من هو عالم بكلّ شيء ، قد وقعت فيه المناقضة في موردين: أحدهما: قوله ـ تعالى ـ : (قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَـثَةَ أَيَّام إِلاَّ رَمْزًا) (2) ; فإنّه يتناقض مع قوله ـ تعالى ـ : (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَـثَ لَيَال سَوِيًّا ) (3) . والجواب عن هذه الشبهة واضح ; فإنّ لفظ «اليوم» قد يستعمل ويراد منه النهار ، وهو ما يقابل الليل ، وقد يطلق ويراد به المجموع منهما ، وكذلك لفظ «الليل»; فإنّه أيضاً قد يطلق ويراد به ما يقابل النهار ، وقد يستعمل ويراد منه المجموع من النهار والليل ، ولا يختصّ هذا الإطلاق والاستعمال بالكتاب العزيز ، (1) سورة النساء 4: 82 . (2) سورة آل عمران 3 : 41 . (3) سورة مريم 19 : 10 . صفحه 92 بل هو استعمال شائع في لغة العرب (1) ، بل لا ينحصر بتلك اللغة ; فإنّ ما يرادف اليوم في الفارسيّة مثلاً قد يطلق ويراد به بياض النهار ، وقد يطلق ويراد به المجموع منه ومن مدّة مغيب الشمس وإشراقها على القارّة الاُخرى ، وكذلك ما يرادف الليل . ومن الموارد التي استعمل فيها لفظ «اليوم» . وكذا «الليل» واُريد بكلّ واحد ما يقابل الآخر ما جمع فيه بين اللّفظين ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَال وَ ثَمَـنِيَةَ أَيَّام حُسُومًا) (2) . وممّا استعمل فيه لفظ اليوم واُريد به المجموع قوله ـ تعالى ـ : (تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَـثَةَ أَيَّام) (3) . وكذا الآية المبحوث عنها في المقام ، المشتملة على لفظ «اليوم» . وممّا استعمل فيه لفظ الليل واُريد به المجموع قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِذْ وَ عَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (4)، وكذا الآية المبحوث عنها في المقام المشتملة على كلمة «الليل» . فانقدح أنّه لا منافاة بين الآيتين ، ولا مناقضة بين الكريمتين ، فلا موقع للشبهة في البين . ثانيهما: أنّ الكتاب كثيراً ما يسند الفعل إلى العبد واختياره ، فيدلّ ذلك على عدم كونه مجبوراً في أفعاله ، وقد يسنده إلى الله تبارك وتعالى ، وهذا ظاهر في أنّ العبد مجبور في أفعاله ، وأنّه ليس له اختيار إلاّ اختياره تعالى . (1) لسان العرب : 6 / 525 . (2) سورة الحاقة 69 : 7 . (3) سورة هود 11 : 65 . (4) سورة البقرة 2 : 51 . صفحه 93 فمن الأوّل: قوله ـ تعالى ـ : (فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَ مَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ) (1) . وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا هَدَيْنَـهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا كَفُورًا ) (2) . ومن الثاني: قوله ـ تعالى ـ : (وَ مَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ) (3) قالوا: وهذا تناقض صريح وتهافت محض . والجواب: أمّا كون الإنسان مختاراً في أفعاله الاختياريّة ، غير مجبور بالإضافة إليها ، قادراً على الفعل والترك ، فممّا يدركه الإنسان بالفطرة السليمة ، ولا يشكّ فيه عند استقامتها ، وعدم الانحراف عنها ، وهذا الأمر ـ أي كون العبد مختاراً غير مجبور ـ ممّا أطبق عليه العقلاء كافّة ، وبنوا عليه اُموراً كثيرة ; فإنّ القوانين الوضعيّة عندهم لغرض التنفيذ والموافقة لا يكاد يمكن فرض صحّتها ، وواجديّتها للشرائط المعتبرة في التقنين إلاّ مع مفروغيّة اختيار الإنسان في أفعاله وأعماله; ضرورة أنّه لا معنى لسنّ القانون بالإضافة إلى غير المختار ; فإنّ القانون إنّما يكون الغرض منه الانبعاث والموافقة ، وهو لا يعقل تحقّقه بدون الإرادة والاختيار . وكذا الأوامر والنواهي الصادرة من الموالي العرفيّة بالنسبة إلى عبيدهم ، إنّما تتفرّع على كون اتّصاف العبيد بالقدرة والاختيار أمراً ضروريّاً عند العقلاء ، ولا ارتياب فيه عندهم أصلاً . وكذا التحسين والتقبيح العقلائيّان اللّذان هما من الموضوعات المسلّمة عند العقلاء ، والأحكام الضروريّة لديهم ، إنّما يتفرّعان على هذا الأمر الذي ذكرناه ، بداهة أنّه لا وجه لاتّصاف العمل غير الاختياري بالحسن أو القبح ، ومن عدم الاتّصاف لا يبقى موقع للمدح أو الذمّ . (1) سورة الكهف 18 : 29 . (2) سورة الإنسان 76 : 3 . (3) سورة الإنسان 76 : 30 . صفحه 94 وبالجملة: لا ينبغي الارتياب في أنّ اتّصاف الإنسان بالاختيار في أفعاله الإراديّة وصحّة إسنادها إليه ـ لأنّه فاعل مختار ـ من الاُمور البديهيّة عند العقلاء الذين هم الحكّام في باب التقنين ، وجعل الأحكام ، وما يتفرّع عليه من الإطاعة والعصيان ، واستحقاق المدح أو الذمّ ، والجنان أو النيران ، وما هو بمنزلتهما من المثوبات والعقوبات الدنيويّة . ومع قطع النظر عن جميع ما ذكرنا أنّ العاقل يرى الفرق الواضح بين حركة يد المرتعش ، والحركة الاختياريّة الصادرة من غيره ، ولا يرتاب في المغايرة البيّنة بين سقوط الإنسان من شاهق إلى الأرض قهراً ، وبين إسقاطه نفسه منه إليها اختياراً ، فيرى أنّه مختار في الثانية دون الاُولى ، ويستحقّ الذمّ فيها دونها . فانقدح أنّ اتّصاف الإنسان بالاختيار ـ الذي هو المصحّح لإسناد الأفعال الاختياريّة الصادرة منه إليه ـ ممّا لا ريب فيه عند العقل والعقلاء ، ولا شكّ فيه عند الوجدان أصلاً . وأمّا صحّة إسناد هذه الأفعال ـ التي تسند إلى الإنسان حقيقة ـ إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ بالإسناد الخالي عن العناية والمسامحة ، فلأنّ واجب الوجود لم ينعزل عن خلقه بعد الإيجاد ، لما ثبت في محلّه ـ من العلم الأعلى ـ من أنّ الممكن كما يفتقر في حدوث وجوده وتلبّسه بلباس الوجود إلى العلّة ، كذلك يحتاج في البقاء والاستمرار إليها ; لأنّ الافتقار والحاجة من لوازم ذات الممكن وماهيّته ، قال الله تبارك وتعالى : (يَـأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ) (1) . وقال الشاعر الفارسي: (1) سورة فاطر 35 : 15 . صفحه 95 سيه روئى ز ممكن در دو عالم *** جدا هرگز نشد و الله أعلم(1) فمثل الموجودات الممكنة إلى خالقها وبارئها ليس كمثل البناء والكتاب إلى البنّاء والكاتب ، حيث لا حاجة في بقائهما إلى بقاء صانعهما ، أو مثل الولد إلى والده ، حيث يستغني الولد في بقائه عن بقاء والده ، بل مثلها إليه ـ تبارك وتعالى ـ مثل شعاع الشمس ونورها إليها ; فإنّه يحتاج إليها حدوثاً وبقاءً ، كما أنّ نور الوجود لايعقل بقاؤه بدون علّته الواجبة ، وكذا مثل الضوء بالإضافة إلى القوّة الكهربائيّة المؤثِّرة في إيجاده ; فإنّه لا يزال يفتقر في بقائه إلى الاستمداد من تلك القوّة ، كما أنّه كان في حدوثه محتاجاً إلى اتّصال سلكه بمصدر تلك القوّة . وبالجملة: من البديهيّات الواضحة الثابتة في العلم الأعلى ، أنّ الممكن كما أنّه يحتاج حدوثاً إلى إفاضة الوجود عليه من المبدع الأوّل ، كذلك يفتقر في بقائه إلى الاستمداد منه واتّصاله بالمبدإ الأعلى ، بل قد ثبت في ذلك العلم أنّ الممكن ليس شيئاً له الارتباط الذي مرجعه إلى وصف زائد على حقيقته ، بل ذاته عين الربط ، وحقيقته محض الاتّصال ، فكيف يعقل حينئذ غناؤه وخلوّه عن الربط الذي هو ذاته وحقيقته؟! . إذا عرفت ذلك; يظهر لك صحّة إسناد الأفعال الاختياريّة الصادرة من الممكنات إلى خالقها أيضاً ; ضرورة أنّه من جملة مبادئ الفعل الاختياري الذي هو الركن العظيم في صدوره وتحقّقه ، هو نفس وجود الفاعل ، بداهة أنّه مع عدمه لايعقل صدور فعل اختياريّ منه ، فوجوده أوّل المبادئوأساس المقدّمات . ومن المعلوم أنّ هذه المقدّمة خارجة عن دائرة قدرة الفاعل واختيار الإنسان ; ضرورة أنّه يكون باختيار العلّة المؤثِّرة التي يحتاج إليها الإنسان حدوثاً وبقاءً ، (1) الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة ، الجزء الأوّل من السفر الأوّل : 69 . صفحه 96 فالفعل الاختياري الصادر من الإنسان بما أنّ بعض مبادئه خارج عن تحت قدرته واختياره ، بل يكون باختيار العلّة الموجدة يصحّ إسناده إليها . وبما أنّ بعض مبادئه ـ كالإرادة الحاصلة بخلاّقيّة النفس وإفاضتها التي هي أيضاً عناية من العلّة صاحبة المشيئة والإرادة ، وإفاضة حاصلة من ناحيتها ، وعطيّة واصلة من جانبها ، ومظهر للخلاّقيّة الموجودة فيها ـ باختياره وإرادته يصحّ إسناده إلى نفسه ; ضرورة أنّ صحّة الإسناد لا تلازم الاستقلال ; فإنّ مرجع وصف الاستقلال ـ بمعناه الحقيقي ـ إلى أن يكون سدّ جميع الأعدام الممكنة ، حتّى العدم الجائي من قبل عدم الفاعل باختياره وإرادته ، مع أنّا فرضنا عدم ثبوت الاستقلال بهذا المعنى ; لأنّ وجود الفاعل ـ الذي قد عرفت أنّه الركن العظيم في صدور الفعل الاختياري ـ خارج عن حريم اختياره ، لكن هذا الأمر ينافي الاستقلال ، لا صحّة الإسناد إلى الفاعل المختار . والظاهر وقوع الخلط بين هذين العنوانين بحيث توهّم أنّ صحّة الإسناد إلى الفاعل ملازمة لاختصاص الإسناد به ، الذي مرجعه إلى استقلاله في صدور الفعل ، مع أنّ الغرض مجرّد صحّة الإسناد بنحو الحقيقة . وبعبارة اُخرى: المقصود إثبات الإسناد إليه فقط ، لا نفي إسناده إلى غيره أيضاً . فانقدح ممّا ذكرنا أنّ الفعل الاختياري الصادر عن الإنسان ، كما أنّه منسوب إلى فاعله ومريده ، كذلك منسوب إلى الواجب الذي هو العلّة الموجدة للفاعل ، وهو يحتاج إليها حدوثاً وبقاءً ، وهذا هو الأمر بين الأمرين (1) ، والطريقة الوسطى (1) الكافي : 1 / 155 ـ 160 ، كتاب التوحيد ، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، بحار الأنوار: 4 / 197 عن الصادق (عليه السلام) . صفحه 97 المأخوذة من إرشادات أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين ، والأمران هما: التفويض الذي مرجعه إلى استقلال الممكن في أفعاله ، والقائل به أخرج الممكن عن حدّه إلى حدّ الواجب بالذات فهو مشرك ، والجبر الذي مرجعه إلى سلب التأثير عن الممكن ، ومزاولته ـ تعالى ـ للأفعال والآثار مباشرة من دون واسطة ، والقائل به حطّ الواجب عن علوّ مقامه إلى حدود الممكن ، فهو كافر ، ولقد سمّى مولانا الرضا ـ عليه آلاف التحيّة والثناء ـ على رواية الصدوق في العيون ـ القائل بالجبر كافراً ، والقائل بالتفويض مشركاً(1) . إذن فلا محيص عن القول بالأمر بين الأمرين ، الذي هو الطريقة الوسطى لمن كان على دين الإسلام الحنيف ، وإليه يرشد قول الله ـ تبارك وتعالى ـ في بعض المواضع من كتابه العزيز : (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (2) . فأثبت الرمي من حيث نفاه ، ومرجعه إلى صدور الرمي اختياراً من النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعدم استقلاله في ذلك . وكقوله ـ تعالى ـ في الآية التي هي محلّ البحث: (وَ مَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ) (3); فإنّ مفادها ثبوت المشيئة لله من حيث كونها لهم ، فمشيئة الممكن ظهور مشيئة الله ، وعين الارتباط والتعلّق بها ، وبذلك ظهر الجواب عن إشكال المناقضة المتقدّم ، ولكن لتوضيح ما ذكرنا ينبغي إيراد أمثلة . فنقول: منها: أ نّ الأفعال الصادرة من الإنسان بسبب اليد والرجل والسمع والبصر وغيرها من الأعضاء تصحّ نسبتها إلى نفس تلك الأعضاء ، فيقال: رأت العين وسمعت الاُذن ، وضربت اليد ، وتحرّكت الرجل مثلاً ، وأيضاً تصحّ نسبتها إلى النفس الإنسانيّة التي هي المنشأ لصدور كلّ فعل ، وهي التي يعبَّر عنها بـ «أنا» (1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 124 ب 11 ح 17 ، وعنه بحار الأنوار: 25 / 328 ح3 . (2) سورة الأنفال 8 : 17 . (3) سورة الإنسان 76 : 30 . صفحه 98 فيقال: رأيت وسمعت ، وضربت ، وتحرّكت ونحوها ، ومثل الموجودات الممكنة إلى بارئها وخالقها ـ والمثال يقرب من وجه ـ مثل تلك الأعضاء إلى النفس . ومنها : النور الحاصل في الجدار ، المنعكس من المرآة الواقعة في محاذاة الشمس وإشراقها ; فإنّ هذا النور كما أنّه يرتبط بالشمس ; لأنّ المرآة ليس لها بذاتها نور ; لعدم نور لها ، كذلك ليس من الشمس المطلق; أي من دون وسط وقيد ، بل هو نور شمس المرآة ، فيصحّ انتسابه إلى كلّ واحد منهما ; لدخالته في تحقّقه ، وارتباطه بكلّ واحد . ومنها: ما فرضه بعض الأعلام من أنّه لو كان إنسان يده شلاّء لا يستطيع تحريكها بنفسه ، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إراديّة وقتيّة بواسطة قوّة الكهرباء ، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك المشتمل على تلك القوّة ، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده ومباشرة الأعمال بها ، فلا شبهة في أنّ هذا التحريك من الأمر بين الأمرين ; لأنّه لا يكون مستنداً إلى الرجل مستقلاًّ ; لعدم القدرة عليه بدون إيصال القوّة إلى يده ، ولا يكون مستنداً إلى الطبيب مستقلاًّ ; لأنّ صدوره كان من الرجل بإرادته واختياره ، فالفاعل لم يجبر على فعله ; لأنّه مريد له ، ولم يفوّض إليه الفعل بجميع مبادئه ; لأنّ المدد من غيره ، والأفعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلّها من هذا القبيل(1) . وقد انقدح ـ بحمد الله ـ ممّا ذكرنا مع إجماله واختصاره بطلان مسلكي الجبر والتفويض ، وأ نّ غاية ما يقتضيه التحقيق الفلسفي هو ما أرشدنا إليه الأ ئـمّة المعصومون ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ من ثبوت الأمر بين الأمرين ، وصحّة إسناد الأفعال الاختياريّة إلى الإنسان وإلى موجده ، والملاك في صحّة (1) البيان في تفسير القرآن : 89 ، أوهام حول إعجاز القرآن . صفحه 99 توجّه التكليف ، وترتّب المثوبة والعقوبة على الإطاعة والمعصية هو هذا المقدار ، وهو صحّة الإسناد حقيقة من دون أن يكون الاستقلال أيضاً معتبراً فيه ; ضرورة أنّ المناط هو صدور الفعل اختياراً ، ووجوده مسبوقاً بالإرادة بمبادئها ، وهو موجود . ويرشد إلى ما ذكرنا الجملة المعروفة: «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله»; فإنّها تفيد أنّ الحول والقوّة على إيجاد الأفعال إنّما ينتهي إلى الله ، ويستمدّ منه ، ولا يمكن أن يتحقّق مع قطع النظر عن الله والارتباط إليه ، فالحول والقوّة المصحّح لإيجاد الفعل والاقتداء عليه موجود ، ولكنّ الأساس هو الاتّصال به تعالى . وهذا كما إذا كان إنسان عاجزاً عن إيجاد فعل وأقدره الآخر عليه ، فأوجده بإرادته واختياره ، كما إذا كان الفعل متوقّفاً على صرف مال ، وهو لا يكون متمكِّناً منه بوجه ، فبذل الآخر إيّاه ذلك المال ، فقدر على إيجاده فأوجده ; فإنّه مع كون الفعل صادراً بإرادة الفاعل واختياره ، لا مجال لإنكار كون القدرة على إيجاده ناشئة من صاحب المال الباذل له إيّاه ، ومع ذلك لا يكون التحسين والتقبيح متوجّهاً إليه أصلاً ; لأنّ الملاك فيها هو صدور العمل الحسن أو القبيح بالمباشرة ، ولا يتعدّى عن الفاعل بالإرادة إلى غيره ممّن كان دخيلاً في صدور الفعل وتحقّق القدرة عليه ، إلاّ إذا انطبق عليه عنوان مباشريّ ، كالإعانة على الإثم ، أو على البرّ والتقوى ، فيصير ذلك العنوان لأجل كونه مباشريّاً موجباً لتوجّه التحسين أو التقبيح إليه ، فتأمّل جيّداً . شبهة وجود العجز عن الإتيان بغير القرآن أيضاً من الشبهات المتعلّقة بإعجاز القرآن: أ نّ عجز البشر عن الإتيان بمثل القرآن لا دلالة فيه على كونه معجزاً مرتبطاً بمبدإ الوحي ، خارقاً للعادة البشريّة |