صفحه 100 والنواميس الطبيعيّة ; فإنّ مثل كتاب «اقليدس»(1) وكتاب الشاعر والأديب الفارسي المعروف: «سعدي» يكون البشر عاجزاً عن الإتيان بمثله ، فلا محيص حينئذ عن اتّصافه بكونه معجزاً ; لعدم الفرق بينه وبين القرآن ، فلا وجه لاتّصافه بكونه كذلك ، كما هو ظاهر . والجواب: أنّا قد ذكرنا(2) في بحث حقيقة المعجزة أ نّ للمعجز الاصطلاحي شروطاً متعدّدة ، وكثير منها مفقود في مثل الكتابين المذكورين ، فإنّا قد حقّقنا فيما تقدّم(3) أ نّه يعتبر في المعجز أن يكون مقروناً بدعوى منصب إلهيّ ، وأن يكون الإتيان به في مقام التحدّي الراجع إلى دعوة الناس إلى الإتيان بالمثل ; نظراً إلى أنّ توصيف البشر بالعجز الذي هو من النقائص التي يتنفّر عن الاتّصاف بها ، وينزجر عن الاقتران به ، يوجب صرف جميع ما باختيارهم من القوى والإمكانات في الإتيان بالمثل لرفع هذه النقيصة وإبطال هذه التّهمة ، مضافاً إلى أنّ البشر يأبى بالطبع عن أن يلقي طوق إطاعة الغير ـ الذي هو من جنسه ـ على عنقه ، وأن يعتقد بتفوّقه عليه ، ولزوم إطاعته له ، فيسعى في إبطال دعوى المدّعي لذلك إذا كان الإبطال في مقدرته وإمكانه . وكذا ذكرنا فيما تقدّم(4) أ نّه يعتبر في المعجز أن يكون خارجاً عن نواميس الطبيعة ، وخارقاً للعادة البشريّة ، ومن المعلوم عدم ثبوت هذه الاُمور في الكتابين وأمثالهما . أ مّا عدم ثبوت الأمرين الأوّلين فواضح ; ضرورة عدم ثبوت دعوى (1) اقليدس ، عالم يوناني ورياضي ومنجم وفيلسوف مشهور ومتبحّر في علم الهندسة ، زندگينامه علمى دانشوران: 2/1 ـ 47، دائرة المعارف، دانشمندان علم و صنعت: 1/64ـ67، دائرة المعارف فارسى: 1/184. (2) في ص 13 ـ 22 . (3) في ص13 . (4) في ص15 . صفحه 101 منصب إلهيّ ، وعدم وقوع التحدّي بالإضافة إلى الكتابين . وأ مّا عدم ثبوت الأمر الأخير ; فلأنّ الإتيان بمثل الكتابين لا يكون بممتنع عادةً أصلاً ، خصوصاً لو اُريد الامتناع ولو اجتمع أزيد من واحد ، كما هو ظاهر . شبهة العجز عن المعارضة بسبب الخوف والتطبّع على القرآن إنّ ما نراه ونقطع به هو: أنّ العرب لم تعارض القرآن ، ولم تأت بما هو مثله ولو سورة منه ، إلاّ أ نّه لم يعلم أنّ عدم الإتيان كان مسبّباً عن عدم القدرة ، وعدم الاستطاعة على الإتيان بمثله حتّى يتّصف القرآن معه بالإعجاز ، فلعلّ عدم الإتيان كان معلولاً لجهات اُخرى لا تعود إلى الإعجاز ، ولا ترتبط به ، بل الاعتبار والتاريخ يساعدان على ذلك ; نظراً إلى أنّ العرب الذين كانوا معاصرين للدعوة ، أو متأخّرين عنها بقليل ، كان يمنعهم عن التصدّي لذلك والورود في هذا المجال ، الخوف الناشئ من سيطرة المسلمين واقتدارهم ، المانع عن تجرّي العرب على القيام بمعارضة القرآن الذي هو الأساس في الإسلام ، وصدق النبوّة ، وبعد انقراض الخلفاء الأربعة ، وتصدّي الأمويّين للزعامة الإسلاميّة صار القرآن مأنوساً لجميع الأذهان ، راسخاً في القلوب ، ولم يبقَ معه للقيام بالمعارضة مجال . والجواب: أ نّ عدم الإتيان بمثل القرآن في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وحياته لا يتصوّر له وجه ، ولا يعقل له سبب غير العجز وفقدان القدرة ; من دون فرق بين الزمان الذي عاشه (صلى الله عليه وآله) في مكّة المكرّمة ، والزمان الذي عاشه (صلى الله عليه وآله) في المدينة المشرّفة: أمّا البرهة الاُولى مع وقوع التحدّي فيها ، فواضح من أنّه لم يظهر للإسلام في تلك البرهة شوكة ، ولا للمسلمين مع قلّة عددهم اقتدار وسيطرة ، بل كان الخوف ثابتاً لهم كما يشهد به التاريخ ويساعده الاعتبار ، فما الذي منع الكفّار من العرب في هذه البرهة من الزمن عن الإتيان بمثل القرآن ، مع أنّهم تشبّثوا بكلّ طريق إلى صفحه 102 إطفاء نور النبوّه ، وإرضاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) برفع اليد عن الدعوة ، والإغماض عن الكلمة ، ولو بتفويضهم إليه الزعامة والحكومة ، وتمكينه من الأموال والثروة ، والأبكار من النساء الجميلات ؟ ومن المعلوم أنّه لو كان فيهم من يقدر على الإتيان بسورة مثل القرآن لما احتاجوا إلى الخضوع في مقابله بمثل ذلك الخضوع ، الكاشف عن الاضطرار والعجز الذي يتنفّر كلّ إنسان بطبعه عن الاتّصاف به . ويدلّ على ما ذكرنا ما قاله الوليد بن المغيرة حينما سأله أبو جهل ، وأصرَّ عليه أن يقول في القرآن قولاً ممّا هذا لفظه المحكيّ: «وماذا أقول! فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي ، ولا أعلم برجَزِه ولا بقصيدة ، ولا بأشعار الجنّ ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ، ووالله إنَّ لقوله الذي يقول حلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنّه ليعلو ولا يُعلى عليه ، وإنّه ليحطّم ما تحته» . قال(1) : لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه ، قال : دعني حتّى أفكّر ، فلمّا فكّر قال: هذا «سحر يؤثر» بأثره عن غيره(2) . اُنظر إلى هذا الاعتراف الصادر عمّن يدّعي الأعلميّة في الجهات الأدبيّة ، الراجعة إلى الفصاحة والبلاغة ، ويصدّقه فيه المخاطب ، ولأجله تشبّث به ، ورجع إليه ، وأصرّ عليه أن يقول في القرآن قولاً ، فمع مثل هذا الاعتراف ، هل يتوهّم عاقل أن تكون العلّة لعدم الإتيان بمثل القرآن غير العجز ، وعدم القدرة ، خصوصاً مع تصريحه بأ نّه يحطّم ما تحته ، وأ نّه يعلو ولا يُعلى عليه؟ وأ مّا البرهة الثانية التي كان الرسول (صلى الله عليه وآله) فيها مقيماً بالمدينة المشرّفة ، فالدليل (1) أي قال أبو جهل لوليد بن المغيرة . (2) المستدرك على الصحيحين 2: 550 ح3782 ، الإتقان في علوم القرآن ، للسيوطي 4 : 5 ، أسباب النزول: 252 ـ 253 ، باختلاف . صفحه 103 على عجزهم عن الإتيان بما يماثل القرآن في تلك البرهة، ما أشرنا إليه من اختيارهم المبارزة بالسنان ، والمقابلة بالسيوف على المعارضة بالبيان، والمقابلة بالحروف ، مع أنّه ليس من شأن العاقل ـ مع القدرة والاستطاعة ـ على إسقاط دعوى المدّعي والتحفّظ على عقيدته ومرامه ، وصون جاهه ومقامه ، من طريق البيان ، وتلفيق الحروف ، وتأليف الكلمات أن يدخل من باب المحاربة ، ويعدّ نفسه للمنازعة المستلزمة للخطر والمهلكة ، وصرف أموال كثيرة ، وتحمّل مشاقّ غير عديدة . وإذن فالدليل الظاهر على عجزهم في تلك المدّة وقوع الغزوات الكثيرة بينهم ، وبين المسلمين! . وأمّا بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وزمن الخلفاء ، وسيطرة المسلمين ، فقد كان أهل الكتاب يعيشون بين المسلمين في جزيرة العرب وغيرها ، وكانوا لا يخافون من إظهار مرامهم ، وإنكارهم لدين الإسلام ، وعدم اعتقادهم به ، فكيف يحتمل خوفهم من الإتيان بما يعارض القرآن ويماثله ، لو كانوا قادرين على ذلك ؟ وأمّا ما ذكره المتوهّم أخيراً من أنّه بعد انقراض عهد الخلفاء الأربعة ، ووصول النوبة إلى الأمويّين صار القرآن مأنوساً لجميع أذهان المسلمين ، بحيث لم يبق مجال لمعارضته بعد رسوخه وتكرّره . فالجواب عنه: أنّ مقتضى الطباع البشريّة أن يكون التكرار للكلام ـ وإن بلغ ما بلغ من البلاغة وارتفع مقامه من الفصاحة ـ موجباً لنزوله وهبوطه عن ذلك المقام المرتفع ، بحيث ربما يبلغ إلى حدّ التنفّر والاشمئزاز ، هذا لا يختصّ بالكلام ، بل يجري في جميع ما يوجب ا لتذاذ الإنسان من المحسوسات ; فإنّ اللّذة الحاصلة منها في الإدراك الأوّل لا ينبغي أن تقاس مع ما يحصل منها في الثاني والثالث وهكذا ، بل تنقص في كلّ مرّة إلى حدٍّ تبلغ العدم ، بل تتبدّل إلى الضدّ . وأمّا القرآن ، فلو لم يكن معجزاً صادراً من مبدإ الوحي ومعدن العلم ، صفحه 104 لكان اللاّزم جريان ما لسائر الكلمات فيه أيضاً ، مع أنّا نرى بالوجدان أنّ القرآن على كثرة تكراره وترديده لا يزداد إلاّ حسناً وبهجةً ، ويحصل للإنسان من العرفان واليقين والإيمان والتصديق واللذّة الروحانيّة ما لم يكن يحصل له من قبل . قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) في وصف القرآن وشأنه: «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم ، فعليكم بالقرآن ; فإنّه شافع مشفّع ، وماحل(1) مصدّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدلّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم ، وباطنه علم ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه . فيه مصابيح الهدى ، ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ، ويتخلّص من نشب ; فإنّ التفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلّص وقلّة التربّص»(2) . ولعمري ، أنّ هذا لا يفتقر إلى توصيف من النبيّ والأ ئـمّة المعصومين ـ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ـ بل نفس الملاحظة الخالية عن التعصّب والعناد تهدي الباحث المنصف إلى ذلك ، من دون حاجة إلى بيان وتوضيح وتبيان . كما أنّ الإنصاف أنّ هذا وجه مستقلّ من وجوه إعجاز القرآن ; فإنّ الكلام (1) ماحل يماحل أي يُدافع ويُجادل ، وماحل مصدَّق أي خصم مجادل مصدّق ، وقيل: ساع مصدّق . النهاية في غريب الحديث والأثر : 4 / 303 . (2) الكافي : 2 / 599 ، كتاب فضل القرآن ذ ح 2 ، وعنه وسائل الشيعة 6 : 171 ، أبواب قراءة القرآن ب3ح3 . صفحه 105 الآدمي ولو وصل إلى مراتب الفصاحة والبلاغة ، يكون تكرّره موجباً لنزوله وسقوطه وهبوطه عن تلك المرتبة . وأمّا القرآن ، فكما يشهد به الوجدان لا يؤثِّر فيه التكرار إلاّ ا لتذاذاً ، ولا يوجب ترديده إلاّ بهجةً وحسناً ، وليس ذلك إلاّ لأجل كونه كلام الله النازل لهداية البشر إلى يوم القيامة ، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، فنفس هذه الجهة ينبغي أن تعدّ من وجوه الإعجاز ، كما لا يخفى . شبهة الخلط والتداخل بين الموضوعات القرآنيّة إنّ اُسلوب القرآن يغاير اُسلوب الكتب البليغة المعروفة ; لأنّه قد وقع فيه الخلط بين المواضيع المتعدّدة ، والمطالب المتنوّعة ، فبينا هو يتكلّم في اُصول العقائد والمعارف الحقّة إذا به ينتقل إلى الوعد والوعيد ، أو إلى الحِكم والأمثال ، أو إلى بيان بعض الأحكام الفرعيّة ، وهكذا ، كما أنّه في أثناء نقل التاريخ مثلاً ينتقل إلى المعارف ، ولو كان القرآن مشتملاً على أبواب وفصول ، وكان كلّ باب متعرّضاً لجهة خاصّة وناحية معيّنة ; لكانت الفائدة أعظم والاستفادة أسهل ; ضرورة أ نّ المُراجع إليه لغرض المعارف فقط يلاحظ الباب المخصوص به ، والفصل المعقود له ، والناظر فيه لغرض الأحكام لم يكن متحيّراً ، بل كان يراجع إلى خصوص ما عقد له من الفصل أو الباب ، وهكذا . ففي الحقيقة أ نّ القرآن مع أُسلوبه الموجود المغاير لأُسلوب الكتب المنظّمة المشتملة على فصول متعدّدة حسب تعدّد مطالبها ، وأبواب متنوّعة حسب تنوّع أغراضها ، وإن لم يكن البشر العادي قادراً على الإتيان بمثله والقيام بمعارضته ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يكون حائزاً للمرتبة العليا من البلاغة ، والدرجة القصوى من المتانة والتنسيق ; لعدم كونه مبوّباً كما عرفت . والجواب: أنّه لابدّ من ملاحظة أنّ الغرض الأصلي من القرآن ونزوله ماذا؟ صفحه 106 فنقول: ممّا لا يرتاب فيه كلّ باحث وناظر أنّ القرآن اُنزل لهداية البشر، وسوقهم إلى السعادة في الدارين ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّـلُمَـتِ إِلَى النُّورِ) (1) . وليس هو كتاب فقه ، أو تاريخ ، أو أخلاق ، أو كلام ، أو فلسفة ، أو نحوها ، ومن المعلوم أ نّ الاُسلوب الموجود أقرب إلى حصول ذلك الغرض من التبويب ، وجعل كلّ من تلك المطالب في باب مستقلّ ; فإنّ الناظر في القرآن ـ مع الوصف الفعلي ـ يطّلع على كثير من أغراضه ، ويحيط بجلٍّ من مطالبه الدخيلة في حصول الغرض المقصود في زمان قصير ، فبينما يتوجّه إلى المبدإ والمعاد مثلاً يطّلع على أحوال الماضين المذكورة للتأييد والاستشهاد ، ويستفيد من أخلاقه ، وتقع عينه على جانب من أحكامه ، كلّ ذلك في وقت قليل . ففي الحقيقة يقرب قدماً بل أقداماً إلى ذلك الهدف ، ويرتقي درجة إلى تلك الغاية ، فهو ـ أي القرآن ـ كالخطيب الذي يكون الغرض من خطابته دعوة المستمعين وهدايتهم ، وسوقهم إلى السعادة المطلوبة في الدنيا والآخرة ; فإنّه يفتقر في الوصول لغرضه إلى الخلط بين المطالب المتنوّعة ، وإيراد فنون متعدّدة ; لئلاّ يملّ المستمع أوّلاً ، ويقع في طريق السعادة من جهة تأييد المطلب بقصّة تاريخيّة ، أو حِكَم أخلاقيّة ، أو مثلهما ثانياً . فانقدح أ نّ الاُسلوب الموجود إحدى الجهات المحسّنة ، والفضائل المختصّة بالقرآن الكريم، ولا يوجد مثله في كتاب، والسرّ فيه ما عرفت من امتيازه من حيث الغرض ، وخصوصيّته من جهة المقصود الذي يكون اُسلوبه هذا أقرب إلى الوصول إليه . (1) سورة إبراهيم 14 : 1 . صفحه 107 شبهة احتقار المعارضة وعدم الإعلان عنها إنّه قد مرّ(1) في بيان حقيقة المعجزة والاُمور المعتبرة في تحقّقها : أنّ من جملتها السلامة من المعارضة ، وهذا الأمر لم يحرز في القرآن ; فإنّه من الممكن أنّه كان مبتلى بالمعارضة ، وأ نّه قد أُتي بما يماثل القرآن ، وقد اختفى علينا ذلك المماثل ، ولعلَّ سيطرة المسلمين واقتدارهم اقتضت خفاءه وفناءه ، ولولا ذلك لكان إلى الآن ظاهراً . والجواب عنه أمّا أوّلاً : فقد أثبتنا في مقام الجواب عن بعض الشبهات السابقة(2) عجزهم وعدم اقتدارهم على الإتيان بمثل القرآن ، ومعلوم أ نّه مع ثبوت عجزهم لا يبقى موقع لهذا الوهم ; لأنّه يتفرّع على عدم الثبوت ، كما هو واضح . وأمّا ثانياً : فالدليل على عدم الإتيان بالمعارض ، أ نّ المعارضة لو كانت حاصلة ، لكانت واضحة ظاهرة ، غير قابلة للاختفاء ولو طال الزمان كثيراً; ضرورة أ نّ المخالفين لهذا الدين القويم ، والمعاندين لهذه الشريعة المستقيمة ، كانوا من أوّل اليوم كثيرين ـ كثرة عظيمة ـ وكانوا مترصّدين لما يوجب ضعف الدين ، وسلب القوّة عن المسلمين ، فلو كانت المعارضة ولو بسورة واحدة مثل القرآن موجودة ، لكانت تلك لهم حجّةً قويّةً ليس فوقها حجّة ، وسلاحاً مؤثّراً ليس فوقه سلاح ، وسيفاً قاطعاً لا يتصوّر أقطع منه ، فكيف يمكن أن يرفعوا أيديهم عن مثل ذلك ؟ بل المناسبة تقتضي شهرتها وظهورها بحيث لا يخفى على أحد . مع أنّه لم يكن حينئذ وجه لبقاء المسلمين على إسلامهم ; فإنّهم لم يكونوا ليتديّنوا بالدين الحنيف تعبّداً ، ولم يخضعوا دون النبيّ الصادع للشرع تعصّباً ، بل كان ذلك لاجتماع شروط المعجزة في القرآن الكريم ، وعدم اقتدار أحد على (1) في ص 18 . (2) في ص101 ـ 105 . صفحه 108 معارضة الكتاب المجيد ، كما هو ظاهر . فانقدح أ نّ المعارض لو كان لبان ، ولم يبقَ تحت سترة الخفاء والكمون ، فاحتمال وجود المانع عن تحقّق الإعجاز ممّا لا يتحقّق من الباحث غير المتعصّب ، والطالب غير العنود أصلاً . شبهة وقوع المعارضة وتعداد من عارض بلاغة القرآن إنّ التاريخ قد ضبط جماعة تصدّوا إلى الإتيان بما يماثل القرآن ، وأتوا بسورة أو أزيد ، بل بكتاب يزعمون أنّه لا فرق بينه وبين الفرقان ، ولعلّ ملاحظة ظاهره تقضي بصحّة ما يقولون . إذن فلا يبقى موقع لاتّصاف القرآن بالإعجاز ; لوجود المعارض ، بل المعارضات المتعدّدة . وقد مرّ(1) أنّ من شروط الإعجاز سلامة المعجزة عن المعارضة . والجواب: أنّه لابدّ من ملاحظة حالات تلك الجماعة ، وخصوصيّات حياتهم ، والنظر فيما أتوا به ـ بعنوان المماثلة ـ ليظهر الحال ، وأ نّ ما أُتي به هل كان لائقاً بأن يتّصف بهذا العنوان ، وصالحاً لأن تنطبق عليه المعارضة للقرآن ، أو أنّ ذلك مجرّد تخيّل وحسبان ؟ فنقول: ـ وعلى الله التكلان ـ إنّ هذه الجماعة القليلة ، والطائفة اليسيرة بين من كانت له داعية النبوّة والسفارة ، وكان كتابه الذي جاء به بعنوان المعجزة ، وبين من لم يكن له تلك الداعية ، بل كان يزعم أ نّه يقدر على الإتيان بالمعارض من جهة اطّلاعه على الجهات الراجعة إلى البلاغة ، والمميّزات الأدبيّة ، وبين من لم يكن له هذه العقيدة أيضاً ، بل كان له كتاب قد استفاد منه المعاندون ، زعماً منهم أ نّه في رتبة (1) في ص 18 . صفحه 109 القرآن من حيث البلاغة والفصاحة ، أو إغراءً وإضلالاً من دون زعم واعتقاد . ولابدّ من النظر في حالاتهم وإن كانت نفس مخالفة مثل هؤلاء ، وقيامهم في مقام المعارضة ممّا يؤيّد إعجاز القرآن ، ويثبت تفوّقه ووقوعه في المرتبة التي لاتكاد تصل إليها أيدي البشر ، بداهة أنّ الكتاب الذي اعترف بالعجز في مقابله البلغاء المشهورون ، والفصحاء المعروفون ، والاُدباء الممتازون ، وخضع دونه المحقّقون والمتبحِّرون ، تكون مخالفة أمثال تلك الجماعة له دليلاً على قصور باعهم ، أو انحرافهم وضلالهم ، وهذا شأن كلّ حقيقة وآية كلّ واقعيّة ; فإنّ عدم خضوع أفراد قليلة غير ممتازة في مقابلها ، وعدم تسليمهم لها يؤيّد صدقها ، ويدلّ على النقص فيهم ، ولكن مع ذلك لا بأس بالنظر في حالات تلك الجماعة ، وفيما أتوا به بعنوان المعارضة . فنقول: كان من أهل اليمامة ، وقد ادّعى النبوّة في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) في اليمامة في طائفة بني حنيفة ، وكان ذلك بعد تشرّفه بمحضر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقبوله للإسلام(1) ، وكان يصانع كلّ أحد ويتألّفه ، ولا يبالي أن يطّلع الناس منه على قبيح ; لأنّه لم يكن له غرض إلاّ الزعامة والرئاسة ، وكان يرى أ نّ ادّعاء النبوّة طريق إلى الوصول إليها ، وإلاّ فليس لها حقيقة وواقعيّة ، بل هي نوع من الكهانة الرائجة في تلك الأعصار ; ولذا طلب من النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يشركه في النبوّة ، أو يجعله خليفة له بعده ، وقد كتب إليه (صلى الله عليه وآله) في العام العاشر من الهجرة : «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك ، أمّا بعد ; فإنّي قد أُشركت في الأمر معك ، وإنّ لنا نصف الأرض ، ولقريش (1) السيرة النبويّة لابن هشام 4: 222 ـ 223 ، تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 137ـ 138 ، السنة 10 ، الكامل في التأريخ لابن الأثير 2 : 162 . صفحه 110 نصف الأرض ، ولكنّ قريشاً قوم يعتدون» . فقدم عليه رسولان له بهذا الكتاب ، فقال لهما حين قرأ كتاب مسيلمة: فما تقولان أنتما؟ قالا : نقول كما قال . فقال: أما والله لولا أ نّ الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما . ثمّ كتب إلى مسيلمة : «بسم الله الرحمن الرحيم ; من محمّد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب ، السلام على من اتّبع الهدى . أ مّا بعد ; فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين»(1) . وكان معه نهار الرَّجَّال بن عُنفُوَة ، وكان قد هاجر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وقرأ القرآن وفقِّه في الدين ، فبعثه معلِّماً لأهل اليمامة ، وليشغب على مسيلمة ، وليَشدد من أمر المسلمين ، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة ، شهد له أ نّه سمع محمّداً (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّه قد أشرك معه ، فصدَّقوه واستجابوا له ، وأمروه بمكاتبة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ووعدوه إن هو لم يقبل أن يُعينوه عليه ، فكان نهار الرّجَّال بن عنفوة لايقول شيئاً إلاّ تابعه عليه ، وكان ينتهي إلى أمره ، وكان يؤذّن للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ويشهد في الأذان أ نّ محمّداً رسول الله ، وكان الذي يؤذِّن له عبدالله بن النَّوّاحة ، وكان الذي يقيم له حُجَير بن عمير ويشهد له ، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة قال : صَرّح حجير ، فيزيد في صوته ، ويبالغ لتصديق نفسه وتصديق نهار ، وتضليل من كان قد أسلم ، فعظم وَقاره في أنفسهم(2) . وكان له باعتقاده معجزات وخوارق عادات شبيهة بمعجزات النبيّ (صلى الله عليه وآله) وكراماته. ومن جملة ذلك أ نّه أتته امرأة من بني حنيفة تكنّى باُمّ الهيثم ، فقالت: إنّ نخلنا (1) السيرة النبويّة لابن هشام : 4 / 247 ، تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 146 ، أحداث سنة 10 هـ . (2) تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 282 ـ 283 ، أحداث سنة 11 هـ . صفحه 111 لسُحُق ، وإنّ آبارَنا لجُزُر (1)، فادع الله لمائنا ولنخلنا ، كما دعا محمّد لأهل هَزمان ، فقال: يا نَهار ما تقول هذه؟ فقال: إنّ أهل هزمان أتوا محمّداً (صلى الله عليه وآله) فشكوا بُعد مائهم ، وكانت آبارهم جُزراً(2) ، ونخلهم أ نّها سُحق ، فدعا لهم فجاشت آبارهم ، وانحَنَت كلّ نخلة قد انتهت حتّى وضعت جرانها لانتهائها ، فحكّت به الأرض حتّى أنشبت عروقاً ، ثمّ قُطعت من دون ذلك ، فعادت فسيلاً مكمّماً ينمى صاعداً . قال: وكيف صنع بالآبار ؟ قال: دعا بسجل، فدعا لهم فيه ، ثمّ تمضمض بفمه منه ، ثمّ مجّه فيه ، فانطلقوا به حتّى فرّغوه في تلك الآبار ، ثمّ سَقَوه نخلهم ، ففعل النبيّ ما حدّثتك ، وبقي الآخر إلى انتهائه . فدعا مسيلمة بدلو من ماء ، فدعا لهم فيه ، ثمّ تمضمض منه ، ثمّ مجّ فيه ، فنقلوه فأفرغوه في آبارهم ، فغارت مياه تلك الآبار ، وخوَى نخلُهم ، وإنّما استبان ذلك بعد مهلكه(3) . ومن جملة ذلك أ نّه قال له نهار: برِّك على مولودي بني حنيفة ، فقال له: وما التبريك؟ قال: كان أهل الحجاز إذا ولد فيهم المولود أتوا به محمّداً (صلى الله عليه وآله) فحنّكه ، ومسح رأسه ، فلم يؤتَ مسيلمة بصبيّ فحنّكه ومسح رأسه إلاّ قَرع ولَثِغ ، واستبان ذلك بعد مهلكة(4) . ومنها: أ نّه دخل يوماً حائطاً من حوائط اليمامة فتوضّأ ، فقال نهار لصاحب الحائط: ما يمنعك من وضوء الرحمن فتسقي به حائطك حتّى يَروى ويبتل ، كما صنع بنو المهريّة ; أهل بيت من بني حنيفة ـ وكان رجل من المهريّة قدم على النبيّ (صلى الله عليه وآله) فأخذ وضوءه ، فنقله معه إلى اليمامة ، فأفرغه في بئره ، ثمّ نزع وسقى ، وكانت أرضه تهوم ، فرويت وجَزَأت ، فلم تُلفَ إلاّ خضراء مهتزّة ـ ففعل فعادت (1 ، 2) كذا فى الأصل، وفي تاريخ الطبرى والكامل: لجُرُز، وجُرُزاً. (3 و 4) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 284 ـ 285 ، الكامل فى التاريخ 2 / 215 ـ 216 . صفحه 112 يباباً لا ينبت مرعاها(1) . ومنها: ما في كتاب «آثار البلاد وأخبار العباد» من أنّهم طلبوا منه المعجزة ، فأخرج قارورة ضيّقة الرأس فيها بيضة ، فآمن به بعضهم ، وهم بنو حنيفة أقلّ الناس عقلاً ، فاستخفّ قومه فأطاعوه ! وبنو حنيفة اتّخذوا في الجاهلية صنماً من العسل والسمن يعبدونه ، فأصابتهم في بعض السنين مجاعة فأكلوه ، فضحك على عقولهم الناس وقالوا فيهم: أكلت حنيفةُ ربَّها *** زمنَ التقحّم والمجاعه لم يحذروا من ربّهم *** سوء العواقب والتباعه(2) وحكي أ نّه رأى حمامة مقصوصة الجناح ، فقال: لِمَ تُعذِّبون خلق الله ؟ لو أراد الله من الطير غير الطيران ما خلق لها جناحاً ، وإنّي حرّمت عليكم قصّ جناح الطائر ، فقال بعضهم: سلِ الله الذي أعطاك آية البيض أن ينبت له جناحاً ، فقال: إن سألت فأنبت له جناحاً فطار تؤمنون بي؟ قالوا: نعم ، فقال: إنّي اُريد أن اُناجي ربِّي ، فأدخلوه معي هذا البيت حتّى أخرجه وافي الجناح حتّى يطير ، فلمّا خلا بالطائر أخرج ريشاً كان معه ، وأدخل في قصبة كلّ ريشة مقطوعة ريشة ممّا كان معه ، فأخرجه وأرسله فطار وآمن به جمع كثير(3) . وحكي أ نّه قال في ليلة منكرة الرياح مظلمة: إنّ الملك ينزل إليَّ الليلة ، ولأجنحة الملائكة صلصلة وخشخشة ، فلا يخرجن أحدكم ; فإنّ من تأمّلهم اختطف بصره ، ثمّ اتّخذ صورة من الكاغذ لها جناحان وذنب ، وشدّ فيها الجلاجل والخيوط الطوال ، فأرسل تلك الصورة وحملتها الريح ، والناس بالليل يرون (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 285 ، أحداث سنة 11هـ . (2 ، 3) آثار البلاد وأخبار العباد : 134 ـ 135 . صفحه 113 الصورة ويستمعون صوت الجلاجل ولا يرون الخيط ، فلمّا رأوا ذلك دخلوا منازلهم خوفاً من أن تختطف أبصارهم ، فصاح بهم صائح : من دخل منزله فهو آمن ! فأصبحوا مطبقين على تصديقه(1) . ومنها: غير ذلك ممّا هو مذكور في كتب التواريخ كالطبري وغيره . وقد ورد في شأن الرجّال بن عُنفُوة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ما رواه أبو هريرة : أ نّه قال: جلست مع النبيّ (صلى الله عليه وآله) يوماً في رهط معنا الرَّجَّال بن عنفوة ، فقال: «إنّ فيكم لرجلاً ضرسه في النار أعظم من اُحد » فهلك القوم ، وبقيت أنا والرّجال . فكنت متخوّفاً لها حتّى خرج الرّجال مع مسيلمة ، فشهد له بالنبوّة ، فكانت فتنة الرّجال أعظم من فتنة مسيلمة(2) . وبالجملة : كان مسيلمة يزعم أنّ له قرآناً ينزل عليه بسبب ملك اسمه «الرحمن» وكان كتابه مشتملاً على فصول وجملات ، بعضها مرتّب ، وبعضها مشتمل على الحوادث الواقعة له ، والقضايا المتضمّنة لأحواله وأوضاعه ، وبعضها جواب عن الأسئلة ، ولكنّ الجميع مشترك في أمر واحد ; وهو الدلالة على قصور عقل صاحبه ، وضعف مرتبته العلميّة ، وجهله بحقيقة النبوّة ، وعدم اعتقاده بعالم الآخرة وما وراء الطبيعة . ولذا ورد فى حقّه: أنّه قيل للأحنف ـ وكان من زفّ سجاح بنت الحارث الى مسيلمة الكذّاب ـ : كيف وجدته؟ قال: ما هو بنبيّ صادق ولابمتنبّئ حاذق(3). وحكي عن عمير بن طلحة النمري ، عن أبيه ، أنّه جاء اليمامة ، فقال: أين مسيلمة؟ فقالوا: مه رسول الله ! فقال: لا ، حتّى أراه ، فلمّا جاءه قال: أنت مسيلمة؟ (1) آثار البلاد وأخبار العباد: 135 ـ 136 . (2) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 287 ، أحداث سنة 11 ، البداية والنهاية: 6 / 317 . (3) محاضرات الاُدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء: 4 / 162 . صفحه 114 قال: نعم ، قال: من يأتيك؟ قال: رحمن ، قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة ، فقال: أشهد أنّك كذّاب ، وأ نّ محمّداً صادق ، ولكن كذّاب ربيعة أحبّ إليّ من صادق مُضَر ، فقتل معه يوم عقرباء(1) . ومن جملة قرآنه: «والمبذّرات زرعاً ، والحاصدات حصداً ، والذاريات قمحاً ، والطاحنات طحناً ، والخابزات خُبزاً ، والثاردات ثرداً ، واللاقمات لقماً ، إهالةً وسمناً ، لقد فُضّلتم على أهل الوبر ، وما سبقكم أهل المدر ، ريفكم فامنعوه ، والمعترّ فآووه ، والباغي فناوئوه»(2) . وكان يقول: يا ضفدع ابنة ضفدع ، نُقِّي ما تُنقِّين ، أعلاك في الماء ، وأسفلك في الطين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدّرين(3) . وحكي عن كتاب «الحيوان» للجاحظ أ نّه قال: ولا أدري ما هيّج مسيلمة على ذكرها (أي الضفدع) ولم ساءرأيه فيها، حيث جعل بزعمه فيمانزل عليه من قرآنه...(4). وكان يقول: «والشاء وألوانها ، وأعجُبها السود وألبانها ، والشاة السوداء ، واللبن الأبيض ، إنّه لعجب محض ، وقد حرِّم المذق(5) فما لكم لا تمجعون»(6) . وكان يقول: «الفيل وما الفيل ، وما أدريك ما الفيل ، له ذنبٌ وبيل ، وخرطومٌ طويل»(7) . وأيضاً يقول: «لقد أنعم الله على الحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 286 ، البداية والنهاية 6 : 320 . (2 ، 3) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 284 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 2 / 215 ، البداية والنهاية 6 : / 319 ، آثار البلاد وأخبار العباد: 136 . (4) كتاب الحيوان ، لأبي عثمان الجاحظ: 5 / 530 ، إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: 122 . (5) المذق: مزج اللبن بالماء . والمَجع: اللبن يشرب على التمر . هامش إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة للرافعي: 122 . (6) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 284 ، أحداث سنة 11 . (7) البداية والنهاية 6 : 320 ، آثار البلاد وأخبار العباد : 136 . صفحه 115 صفاق وحشى»(1) ،(2) . وغير ذلك من الكلمات التي دلالتها على قصور صاحبها أقوى من دلالتها على معنى مقصود ، وحكايتها عن صدورها عن المبتلى بمرض حبّ الجاه والرئاسة أوضح من حكايتها عن صدورها عمّن يريد كشف الحقيقة ، وبيان الواقعيّة ، كما هو ظاهر لمن يطلب الهداية ، ويجتنب طريق الضلالة . وبالجملة: فقد حكي عن ابن عبّاس أ نّه قال: «كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد ضرب بعث اُسامة ، فلم يستتبّ لوجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولخلع مسيلمة والأسود ، وقد أكثر المنافقون في تأمير اُسامة حتّى بلغه ، فخرج النبي (صلى الله عليه وآله) على الناس عاصباً رأسه من الصُّداع لذلك الشأن وانتشاره ، لرؤيا رآها في بيت عائشة ، فقال: إنّي رأيت البارحة ـ فيما يرى النائم ـ أنّ في عضديّ سوارين من ذهب ، فكرهُتهما فنفختُهما فطارا ، فأوّلتُهما هذين الكذّابين: صاحب اليمامة ، وصاحب اليمن ، وقد بلغني أنّ أقواماً يقولون في إمارة اُسامة ، ولعمري لئن قالوا في إمارته ، لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله ! وإن كان أبوه لخليقاً للإمارة ، وإنّه لخليق لها ، فأنفذوا بعث اُسامة»(3) إلى آخر الحكاية . وفي تاريخ الطبري نقلاً عن أبي هريرة : «أ نّه بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعث إلى أهل اليمامة أبو بكر خالداً ، فسار حتّى إذا بلغ ثنيّة اليمامة ، استقبل مَجَّاعة بن مرارة ـ وكان سيِّد بني حنيفة ـ في جِبلّ من قومه ، يريد الغارة على بني عامر ، (1) الصِفاق: جلد البطن الأسفل الذي إذا سُلخت الشاة فنُزع منها مَسَكُها الأعلى بقي منه ما يمسك البطن ، فإذا انشقّ الصِفاق كان منه الفتق . الحشى: ما دون الحجاب ممّا في البطن من كبد وطحال وكرش وما تبعه . الإفصاح في فقه اللغة ، حسين يوسف موسى وعبد الفتاح الصعيدي 1 : 85 ، 86 . (2) تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 138 ، أحداث سنة 10 . (3) تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 186 ، أحداث سنة 11 . صفحه 116 ويطلب دماً ، وهم ثلاثة وعشرون فارساً ركباناً قد عرّسوا ، فبيّتهم خالد في معرَّسهم ، فقال: متى سمعتم بنا؟ فقالوا: ما سمعنا بكم ، إنّما خرجنا لنَثَّئِرَ بدم لنا في بني عامر ، فأمر بهم خالد فضربت أعناقهم ، واستحيا مجّاعة ، ثمّ سار إلى اليمامة ، فخرج مسيلمة وبنو حنيفة حين سمعوا بخالد ، فنزلوا بعقرباء ، فحلّ بها عليهم ـ وهي طرف اليمامة دون الأموال ـ وريف اليمامة وراء ظهورهم . وقال شرحبيل بن مسيلمة: يا بني حنيفة ، اليوم يوم الغَيرة ، اليوم إن هزمتم تستردف النساء سبيَّات ، ويُنكحن غير خطيبات ، فقاتلوا عن أحسابكم ، وامنعوا نساءكم ، فاقتتلوا بعقرباء ، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة ، فقالوا : تخشى علينا من نفسك شيئاً ! فقال: بئس حامل القرآن أنا إذاً ، وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شمَّـاس ، وكانت العرب على راياتها ، ومجَّاعة أسير مع اُمّ تميم ـ امرأة خالد ـ في فسطاطها ، فجال المسلمون جولة ، ودخل اُناس من بني حنيفة على اُمّ تميم ، فأرادوا قتلها ، فمنعها مجَّاعة . قال: أنا لها جارٌ ، فنعمت الحرّة هي ! فدفعهم عنها ، وترادّ المسلمون ، فكرّوا عليهم ، فانهزمت بنو حنيفة . فقال المحكّم بن الطفيل: يا بني حنيفة ادخلوا الحديقة ; فإنّي سأمنع أدباركم ، فقاتل دونهم ساعة ثمّ قتله الله ، قتله عبد الرحمن بن أبي بكر ، ودخل الكفّار الحديقة ، وقتل وحشيّ مسيلمة ، وضربه رجل من الأنصار فشاركه فيه(1) . إذا عرفت ما حكيناه من قصّة مسيلمة ، وما جاء به مضاهياً للقرآن بزعمه ، يظهر لك أنّ النكات الواردة في تلك القصّة ، الماسّة بما نحن بصدده من إبطال ما يدّعيه ، وعدم لياقة ما أتى به بذلك العنوان; بأن يتّصف بالمعارضة والمماثلة للقرآن ، وإن كان وضوح ذلك بمكان لا يفتقر معه إلى التوضيح والبيان لاُمور تالية : (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 287 ـ 288 ، أحداث سنة 11 هـ . صفحه 117 أحدها : أ نّه كان يزعم أ نّ النبوّة متقوّمة بالادّعاء ، وأ نّه ليس لها حقيقة وواقعيّة ، راجعة إلى الارتباط الخاصّ بمبدإ الوحي والبعث من قبله ، وذلك لاستدعاء مسيلمة التشريك من النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وجعله دخيلاً في نبوّته سهيماً فيها ، ويدلّ عليه أيضاً خلوّ كتابه عن التحدّي الذي هو الركن في باب تحقّق المعجزة . ثانيها : اعترافه في مكتوبه الذي أرسله إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) في العام العاشر من الهجرة ; بأ نّه أيضاً مثله نبيّ ورسول ، حيث يقول فيه: «من مسيلمة رسول الله إلى محمّد رسول الله ، أمّا بعد; فإنّي قد اُشركت إلخ»(1) مع أنّ من الواضح أنّ رسالة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم تكن محدودة من حيث الزمان والمكان ، بل كانت رسالة مطلقة عامّة ثابتة إلى يوم القيامة ; ولذا أخبر بأنّه مع اجتماع الإنس والجنّ على الإتيان بمثل القرآن لا يكاد يتحقّق ذلك ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً(2) . وحينئذ فإمّا أن يكون مسيلمة مصدّقاً لهذه الداعية ومعتقداً لها ، فلازمه التصديق بعدم وجود رسول آخر ، وبعجزه عن الإتيان بما يماثل القرآن ، وأ نّ ما أتى به لا ينطبق عليه هذا العنوان ، فكيف يدّعي النبوّة لنفسه أيضاً مع اعترافه بالقصور والعجز ؟ وإ مّا أن يكون مكذِّباً لتلك الداعية ، ومعتقداً بجواز الإتيان بمثله وأ نّه قد أتى به ، فلِمَ صدّق النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالرسالة ، ووصفه بأنّه أيضاً نبيّ مثله في مكتوبه الذي أرسل إليه ؟ ولعمري ، أنّ هذا أيضاً دليل واضح على أنّه كان يزعم أنّ النبوّة نوع من السلطنة الظاهريّة ، والزعامة الدنيويّة ، وليس لها حقيقة وواقعيّة . ثالثها : أ نّ ما أتى به بعنوان الوحي ـ الذي قد اُوحي به إليه بزعمه من الله (1) تقدّم في ص109 . (2) اقتباس من سورة الإسراء 17: 88 . |