صفحه 118 السبحان ، بواسطة ملك اسمه الرّحمن ، وقد تقدّم نقل جملة منه ـ إن كان الباحث الناظر قادراً على مقايسته مع القرآن ، وتشخيص عدم كونه في مرتبته بوجه ، كما هو الظاهر لمن له أدنى اطّلاع من فنون الأدب واللغة العربيّة ، وإلاّ فالدليل على عدم اتّصافه بوصف المماثلة والمعارضة ما يستفاد ممّا ذكرنا سابقاً ; وهو أنّه لو كانت تلك الجملات المضحكة والكلمات السخيفة قابلةً لمعارضة القرآن ; لاستند بها المعاندون ـ على كثرتهم ـ وفيهم البلغاء ، والمخالفون ـ مع عدم قلّتهم ـ ، وفيهم الفصحاء ، ولما كان وجه لبقاء المسلمين على عقيدتهم ; لوضوح عدم كونها ناشئة عن التعصّب القومي ، بل كانت مستندة إلى الدليل والبرهان ، ومن المعلوم أ نّ قوام الدليل بعدم وجود المعارض ، فمع وجوده لا يبقى له مجال . فإذن: الدليل الواضح على نقصان مرتبة تلك الكلمات عدم اعتناء المخالف والمؤالف بها ، مع أنّ المعاندين كانوا يتشبّثون بكلّ حشيش لإطفاء نور النبوّه ، وسلب وصف الإعجاز عن المعجزة الباقية الوحيدة، وتضعيف الاُمّة الإسلاميّة بكلّ حيلة ، وترويج الملّة الباطلة بكلّ طريقة ، كما هو غير خفيّ على من له أدنى بصيرة . 2 ـ سجاح بنت الحارث بن سويد تنبّأت بعد موت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجزيرة في بني تغلب ، فاستجاب لها الهذيل ، وترك التنصّر ، وهؤلاء الرؤساء الذين أقبلوا معها لتغزو بهم أبا بكر ، فلمّا انتهت إلى الحزن راسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة ، فأجابها ، وفثأها عن غزوها ، وحملها على أحياء من بني تميم . قالت: نعم ، فشأنك بمن رأيت ; فإنّي إنّما أنا امرأة من بني يربوع ، وإن كان ملك فالملك ملككم(1) . (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 269 ، أحداث سنة 11 هـ ، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 2 / 210 . صفحه 119 وكانت راسخة في النصرانيّة ، قد علمت من علم نصارى تغلب ، وأمرت متابعيها بالتوجّه إلى اليمامة ، والمنازعة مع مسيلمة ، فقالوا: إنّ شوكة أهل اليمامة شديدة ، وقد غلظ أمر مسيلمة ، فقالت : «عليكم باليمامة ودفّوا دفيف الحمامة ; فإنّها غزوة صرّامة ، لا يلحقكم بعدها ملامة » ، فنهدت لبني حنيفة ، وبلغ ذلك مسيلمة فهابها ، وخاف إن هو شغل بها أن يغلبه مخالفوه ، فأهدى لها ، ثمّ أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتّى يأتيها ، فنزلت الجنود على الأمواه ، وأذنت له وآمنته ، فجاءها وافداً في أربعين من بني حنيفة(1) . وفي رواية اُخرى: أ نّ مسيلمة لمّا نزلت به سجاح أغلق الحصن دونها ، فقالت له سجاح : انزل ، قال: فنحِّي عنك أصحابك ، ففعلت ، فقال مسيلمة : اِضربوا لها قبّة ، وجمّروها لعلّها تذكر الباه ، ففعلوا ، فلمّا دخلت القبّة نزل مسيلمة فقال: ليقف هاهنا عشرة ، وهاهنا عشرة ، ثمّ دارسها ، فقال: ما اُوحي إليك؟ فقالت: هل تكون النساء يبتدئن ، ولكن أنت قُل ما اُوحي إليك ؟ قال : «ألم تر إلى ربّك كيف فعل بالحُبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى؟» . قالت : وماذا أيضاً؟ قال: «أوحي إليّ : أنّ الله خلق النساء أفراجاً ، وجعل الرجال لهنّ أزواجاً ، فنولج فيها قُعساً إيلاجاً ، ثمّ نخرجها إذا نشاء إخراجاً ، فيُنتَجن لنا سخالاً إنتاجاً» ، قالت: أشهد أنّك نبيّ ، قال: هل لك أن أتزوّجك فآكل بقومي وقومك العرب؟ قالت: نعم ، ـ إلى أن قال : ـ بذلك اُوحي إليّ ، فأقامت عنده ثلاثاً ثمّ انصرفت إلى قومها ، فقالوا: ما عندك؟ قالت: كان على الحقّ فاتّبعته فتزوّجته ، قالوا: فهل أصدَقَك شيئاً؟ قالت: لا ، قالوا: ارجعي إليه فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق ، فرجعت ، فلمّا رآها مسيلمة أغلق الحصن ، وقال: ما لكِ؟ قالت: اصدقني صداقاً ، قال: من مؤذِّنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي ، قال: عليَّ به ، فجاء (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 271 ـ 272 ، أحداث سنة 11 هـ ، الكامل في التأريخ: 2 / 210 . صفحه 120 فقال: ناد في أصحابك أنّ مسيلمة بن حبيب رسول الله ، قد وضع عنكم صلاتين ممّا أتاكم به محمّد: صلاة العشاء الآخرة ، وصلاة الفجر . وعن الكلبي أ نّ مشيخة بني تميم حدّثوه: أنّ عامّة بني تميم بالرمل لايصلّونهما فانصرفت ومعها أصحابها(1) . وفي رواية : صالحها على أن يحمل إليها النصف من غلاّت اليمامة ، وأبت إلاّ السنة المقبلة يُسلقها، فباح لها بذلك ، وقال: خلّفي على السلف من يجمعه لك ، وانصرفي أنت بنصف العام ، فرجع فحمل إليها النصف ، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة ، وخلّفت الهذيل وعُقّة وزياداً لينجز النصف الباقي (2) . وكان من جملة ما تدّعي أ نّه الوحي ، قولها: «يا أيّها المؤمنون المتّقون لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ، ولكنّ قريشاً قوم يعتدون»(3) . ولكنّها أسلمت آخر الأمر (4) ، وارتدّت عن دعواها النبوّة ، وأثبتت أنّ دعواها كانت لغرض الزواج من مسيلمة الكذّاب(5) . والإنصاف: أ نّ اجتماع الكذّابين ، وازدواج المنحرفين فيه من الكفاءة في البين ما لا يخفى ، وحال الثمرة الحاصلة أوضح . 3 ـ عبهلة بن كعب، المعروف بالأسود، كذّاب العنسي ذو الخمار لأ نّه كان يدّعي الوحي إليه بسبب ملك له خمار (6) ، كان كاهناً شعباذاً ، وكان (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 273 ـ 274 ، الكامل في التأريخ لابن الأثير: 2 / 211 . (2) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 275 ، الكامل في التاريخ لابن الأثير: 2 / 212 . (3) وهي كلمة مسيلمة ، تاريخ الطبري: 3 / 146 . (4) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 275 ، الكامل في التأريخ لابن الأثير: 2 / 212 . (5) اُنظر في ترجمتها إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة ، مصطفى صادق الرافعي: 123 ـ 124 . (6) كان يلقّب ذا الخمار ; لأ نّه كان معتمّاً متخمّراً أبداً ، هذا ما ذكره ابن الأثير في الكامل : 2 / 196 . وفيما قال مصطفى صادق الرافعي في إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة ص122: «يلقّب ذا الخمار ; لأنّه كان يقول: يأتيني ذو خمار» . صفحه 121 يريهم الأعاجيب ، ويسبي قلوب من سمع منطقه ، وهو الذي عبّر عنه النبيّ (صلى الله عليه وآله) في قصّة الرؤيا المتقدّمة بصاحب اليمن (1). كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) جمع لباذام ـ حين أسلم وأسلمت اليمن ـ عمل اليمن كلّها ، وأمّره على جميع مخالفيها ، فلم يزل عامل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيّام حياته ، فلم يعزله عنها ولا عن شيء منها ، ولا أشرك معه فيها شريكاً حتّى مات باذام ، فلمّا مات فرّق عملها بين جماعة من أصحابه ، وكان من تلك الجماعة ابن باذام المسمّى بـ «شهر» إلى أن توجّه الأسود نحو صنعاء اليمن ، وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهراً سوى الركبان . . . وقد خرج إليه شهر بن باذام الذي كان عاملاً على صنعاء ، وقاتله وقتل ابن باذام ، وغلب الأسود على صنعاء ، وتزوّج امرأة شهر، وهي ابنة عمّ فيروز الذي أسند الأسود أمر الأبناء إليه وإلى داذويه . وفي هذا الزمان كتب إليهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) بكتاب يأمرهم فيه بالقيام على دينهم ، والنهوض في الحرب ، والعمل في الأسود ، إمّا غيلة وإمّا مصادمة . فعزموا على قتله . . . وأخبروا بعزيمتهم امرأته ، ووافقتهم على ذلك ، وهدتهم على كيفيّة الوصول إليه بقولها : هو متحرّز متحرّس ، وليس من القصر شيء إلاّ والحرس محيطون به غير هذا البيت . . . فإذا أمسيتم فانقبوا عليه ، فإنّكم من دون الحرس ، وليس دون قتله شيء ، وقالت: إنّكم ستجدون فيه سراجاً وسلاحاً . . . قالوا: ففعلنا مثل ما قالت . . . فنقبنا البيت من خارج ، ثمّ دخلنا وفيه سراج تحت جفنة . . . ، وإذا المرأة جالسة . . . فعاجله [ فيروز] فخالطه وهو مثل الجمل ، فأخذ برأسه فقتله فدقّ عنقه ، ووضع ركبته في ظهره فدقّه ، ثمّ قام ليخرج ، (1) فى ص 115 . صفحه 122 فأخذت المرأة بثوبه ، وهي ترى أ نّه لم يقتله . فقالت: أين تَدَعُني؟ قال: أخبر أصحابي بمقتله ، فأتانا فقمنا معه ، فأردنا حزّ رأسه ، فحرّكه الشيطان فاضطرب ، فلم يضبطه ، فقلت: اجلسوا على صدره ، فجلس اثنان على صدره ، وأخذت المرأة بشعره وسمعنا بربرة ، فألجمتهُ بمئلاة ، وأمرَّ الشفرة على حلقه ، فخار كأشدّ خوار ثور سمعته قطّ ، فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة ، فقالوا : ما هذا ما هذا ؟! فقالت المرأة: النبيّ يوحى إليه فخمد ، ثمّ سمرنا ليلتنا ونحن نأتمر كيف نخبر أشياعنا . . . فاجتمعنا على النداء بشعارنا الذي بيننا وبين أشياعنا ، ثمّ يُنادى بالأذان ، فلمّا طلع الفجر نادى داذويه بالشعار ، ففزع المسلمون والكافرون ، وتجمّع الحرس فأحاطوا بنا ، ثمّ ناديت بالأذان ، وتوافت خيولهم إلى الحرس فناديتهم: أشهد أنّ محمّداً رسول الله وأ نّ عبهلة كذّاب وألقينا إليهم رأسه(1) . 4 ـ طليحة بن خويلد الأسدي وقد نزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) في السنة التاسعة مع وفد أسد بن خزيمة ، وأسلم ثمّ رجع وارتدّ ، فادّعى النبوّة ، فوجّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) ضرار بن الأزور إلى عمّاله على بني أسد في ذلك ، وأمرهم بالقيام في ذلك على كلّ من ارتدّ ، فأشجوا طليحة وأخافوه ، ونزل المسلمون بواردات(2) ، ونزل المشركون بسَمِيراء(3) ، فما زال المسلمون في نماء ، والمشركون في نقصان ، حتّى همَّ ضرار بالمسير إلى طليحة ، فلم يبقَ أحد إلاّ أخذه سلماً ، إلاّ ضربة كان ضربها بالجُراز (4) ، فنبا عنه ، فشاعت في الناس ، فأتى (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 227 ـ 235 ، حوادث سنة 11 هـ . (2) واردات: موضع عن يسار طريق مكة ، وأنت قاصدها . معجم البلدان: 5 / 399 ، الرقم 12357 . (3) سميراء ، بالمدّ: منزل بطريق مكة . معجم البلدان: 3 / 290 ، الرقم 6625 . (4) الجُراز من السيوف: الماضي النافذ . لسان العرب: 1 / 407 (جرز) . صفحه 123 المسلمون ـ وهم على ذلك ـ بخبر موت نبيّهم (صلى الله عليه وآله) ، وقال ناس من الناس لتلك الضربة : إنّ السلاح لا يحيك(1) في طليحة ، فما أمسى المسلمون من ذلك اليوم حتّى عرفوا النقصان ، وارفضّ الناس إلى طليحة واستطار أمره . فلمّا مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام عيينة بن حِصن في غطفان ، فقال: ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد ، وإنّي لمجدّد الحلف الذي كان بيننا في القديم ، ومتابع طليحة ، والله لأن نتّبع نبيّاً من الحليفين أحبّ إلينا من أن نتّبع نبيّاً من قريش ، وقد مات محمّد وبقي طليحة ، فطابقوه على رأيه ، ففعل وفعلوا(2) . ثمّ إنّ أبا بكر لمّا رجع إليه اُسامة ومن كان معه من الجيش ، أمر خالداً أن يصمد لطليحة وعيينة بن حصن ، وهما على بُزاحة ماء من مياه بني أسد(3) ، وخرج إليه عيينة مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة ، ووقع بينهم قتال شديد ، وطليحة متلفّف في كساء له بفناء بيت له من شَعر ، يتنبّأ لهم والناس يقتتلون ، فلمّا هزّت عيينة الحرب ، وضرس القتال ، كرّ على طليحة فقال: أجاءك جبريل بعد؟ قال: لا ، فرجع فقاتل حتّى إذا ضرس القتال وهزّته الحرب ، كرّ عليه فقال: لا أبا لك ! أجاءك جبريل بعد؟ قال: لا والله ، ثمّ رجع فقاتل حتّى إذا بلغ كرّ عليه ، فقال: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: نعم ، قال: فماذا قال لك؟ قال: قال لي: إنّ لك رحاً كرحاه ، وحديثاً لا تنساه . قال: يقول عيينة : أظنّ أن قد علم الله أ نّه سيكون حديث لا تنساه ، يابني فزارة هكذا فانصرفوا ، فهذا والله كذّاب ، فانصرفوا وانهزم الناس ، فغشوا طليحة يقولون: ماذا تأمرنا ؟ وقد كان أعدَّ فرسه عنده ، فلمّا أن غشوه يقولون : ماذا (1) يقال: ضربه بالسيف فما حاك فيه وما أحاك إذا لم يعمل فيه ، أساس البلاغة: 150 (حيك) . (2) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 256 ـ 257 . (3) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 254 . صفحه 124 تأمرنا ؟ قام فوثب على فرسه وحمل امرأته ثمّ نجا بها ، وقال : من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت ، وينجو بأهله فليفعل ، فلمّا أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع ، أقبل أولئك يقولون: ندخل فيما خرجنا منه ، ونؤمن بالله ورسوله ، ونسلّم لحكمه في أموالنا وأنفسنا(1) . وقد أسلم طليحة بعد ذلك حين بلغه أنّ أسداً وغطفان وعامراً قد أسلموا ، ثمّ خرج نحو مكّة معتمراً في إمارة أبي بكر ، ومرّ بجنبات المدينة ، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة ، فقال: ما أصنع به ؟ خلّوا عنه ، فقد هداه الله للإسلام ، ومضى طليحة نحو مكّة فقضى عمرته ، ثمّ أتى عمر إلى البيعة حين استخلف ، فقال له عمر: أنت قاتلُ عُكاشة وثابت ، والله لا أحبّك أبداً ، فقال: ما تهمّ من رجلين أكرمهما الله بيدي ، ولم يهنّئ بأيديهما ، فبايعه عمر ثمّ قال له: يا خدع ما بقي من كهانتك؟ قال: نفخة أو نفختان بالكير ، ثمّ رجع إلى دار قومه ، فأقام بها حتّى خرج إلى العراق(2) . وبالجملة: فيزعم في زمان ادّعائه للنبوّة أ نّ ملكاً ينزل الوحي عليه واسمه «ذوالنون» أو «جبرائيل» ولكنّه لم يدّع كتاباً لنفسه ، وكان من جملة ما يدّعي الوحي عليه ما حكاه عنه في معجم البلدان من قوله: «إنّ الله لا يصنع بتعفير وجوهكم وقبح أدباركم شيئاً ، فاذكروا الله قُيّاماً ، فإنّ الرغوة فوق الصريح»(3) . وما حكاه الطبري عن رجل من بني أسد حين أُتي به خالداً ، وسأله عمّا يقول (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 256 . (2) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 261 ، حوادث سنة 11 هـ ، ويلاحظ شرح حاله مختصر تاريخ دمشق: 11 / 214 ـ 219 ، ترجمة 122 وغيره . (3) معجم البلدان: 1 / 485 ، الرقم 1851، إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة ، مصطفى صادق الرافعي: 122 ، عن معجم البلدان . الرغوة (مثلثة الراء): زبد اللبن ، رغا اللبن يرغو رغواً وأرغى: صارت له رَغوة . وارتغى فلان: أخذ الرغوة بيده، فأهوى بها إلى فمه. الإفصاح في فقه اللغة، حسين يوسف موسى وعبدالفتاح الصعيدي 1: 457. صفحه 125 طليحة لهم : «والحمام واليمام ، والصرد الصوّام ، قد صمُن قبلكم بأعوام ، ليبلغنّ ملكُنا العراق والشام»(1) واليمام الحمام البرّي . 5 ـ النضر بن الحارث بن كلدة هو ، وعقبة بن أبي معيط ، وعاص بن وائل السهمي ; هم الذين بعثتهم قريش إلى نجران ; ليتعلّموا مسائل يسألونها رسول الله (صلى الله عليه وآله) . وعن المناقب ، عن الكلبي: كان النضر بن الحارث يتّجر فيخرج إلى فارس ، ويشتري أخبار الأعاجم ، فيرويها ويحدِّث بها قريشاً ، ويقول لهم: «إنّ محمّداً عليه الصلاة والسلام يحدّثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا اُحدّثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة» فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن ، فنزلت فيه هذه الآية (وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم وَ يَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَـئـِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (2) . ونقل أ نّ في أيّام الشعب كان من دخل من العرب مكّة لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ومن ابتاع منهم شيئاً انتهبوا ماله ، وكان النضر ورفيقاه وأبو جهل يخرجون من مكّة إلى الطرقات التي تدخل مكّة ، فمن رأوه معه ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ويحذِّروه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله(3) . هذا ، ولكنّ الرجل لم يكن له داعية النبوّة ، ولكنّه يزعم إمكان معارضته للقرآن ، وبسبب حماقته لم يعتن به المؤرِّخون والاُدباء ، ولم يقع شيء ممّا أتى به بهذا العنوان مورداً لتوجّه من له أدنى خبرة بالبلاغة والفصاحة ، فضلاً عن غيرهما (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 260 ، حوادث سنة 11 هـ ، الكامل في التاريخ: 2 / 205 ـ 206 . (2) أسباب النزول: 200 ، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب : 1 / 52 . والآية في سورة لقمان 31: 6 . (3) إعلام الورى: 1 / 125 . صفحه 126 من الشؤون المختلفة الموجودة في القرآن المثبتة لإعجازه ، كما عرفت شطراً منها فيما تقدّم (1). 6 ـ أبو الحسن عبدالله بن المقفّع الفارسي الفاضل المشهور الماهر في صنعة الإنشاء والأدب ، كان مجوسيّاً أسلم على يد عيسى بن عليّ عمّ المنصور بحسب الظاهر ، وكان كابن أبي العوجاء ، وابن طالوت ، وابن الأعمى على طريق الزندقة ، وهو الذي عرّب كتاب «كليلة ودمنة» وصنّف الدرّة اليتيمة ، وكان كاتباً لعيسى المذكور(2) . وقد زعم بعض أ نّه عارض القرآن مدّة ، ثمّ ندم على ذلك ومزّق ما كتبه في هذه الجهة ، ونقل أ نّ السبب في ندامته ، ورجوعه عن عزيمته أ نّه حينما كان يعارض القرآن وصل إلى هذه الآية الشريفة: (وَ قِيلَ يَـأَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ وَ يَـسَمَآءُ أَقْلِعِى) (3) إلخ فقال: إنّ المعارضة مع هذه الآية خارجة عن الاستطاعة البشريّة ، فرفع اليد عنها ومزّق ما كتبه في ذلك(4) . قال الرافعي صاحب كتاب «إعجاز القرآن» في تعريف الرجل: «زعموا أ نّه اشتغل بمعارضة القرآن مدّة ، ثمّ مزّق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره» ثمّ قال: «وهذا عندنا إنّما هو تصحيح من بعض العلماء ، ولما تزعمه الملحدة من أنّ كتاب «الدرّة اليتيمة»(5) لابن المقفّع ، هو في معارضة القرآن ، فكأنّ الكذب لا يدفع إلاّ (1) فى ص 27 ـ 86 . (2) الأعلام للزركلي: 4 / 140 . (3) سورة هود 11 : 44 . (4) راجع البرهان في علوم القرآن: 2 / 95 ، وإعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: 124 والاحتجاج: 2 / 307 . (5) كتب في هامش إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: 124 في شأن الكتاب: «طبع هذا الكتاب مراراً، وهو من الرسائل الممتعة ، يعدّ طبقة من طبقات البلاغة العربيّة ، ولكنّه في المعارضة ليس هناك لا قصداً ولا مقاربة ، ونحن لا نرى فيه شيئاً لا يمكن أن يؤتى بأحسن منه ، وما كلّ ممتع ممتنع . وقال الباقلاني: إنّه منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة ، وهذا هو الرأي ; فإنّ ابن المقفّع لم يكن إلاّ مترجماً ، وكان ينحط إذا كتب ، ويعلو إذا ترجم ; لأنّ له في الاُولى عقله ، وفي الثانية كلّ العقول ، وفي «اليتيمة» عبارات وأساليب مسروقة من كلام الإمام علي(عليه السلام) . صفحه 127 بالكذب ، وإذا قال هؤلاء : إنّ الرجل قد عارض وأظهر كلامه ثقة منه بقوّته وفصاحته ، وإنّه في ذلك من وزن القرآن وطبقته ، وابن المقفّع هو من هو في هذا الأمر ، قال أولئك: بل عارض ومزّق واستحيا لنفسه . . .! أ مّا نحن فنقول: إنّ الروايتين مكذوبتان جميعاً ، وإنّ ابن المقفّع من أبصر الناس باستحالة المعارضة ; لا لشيء من الأشياء ، إلاّ لأنّه من أبلغ الناس ، وإذا قيل لك: إنّ فلاناً يزعم إمكان المعارضة ، ويحتجّ لذلك ، وينازع فيه ، فاعلم أنّ فلاناً هذا في الصناعة أحد رجلين اثنين : إمّا جاهل يصدق في نفسه ، وإمّا عالم يكذب على الناس ، ولن يكون (فلان) ثالث ثلاثة ! وإنّما نسبت المعارضة لابن المقفّع دون غيره من بلغاء الناس ; لأنّ فتنة الفرق الملحدة إنّما كانت بعده ، وكان البلغاء كافّة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه ، ثمّ كان ابن المقفّع متّهماً عند الناس في دينه ، فدفع بعض ذلك إلى بعض ، وتهيّأت النسبة من الجملة . ولو كانت الزندقة فاشية أيّام عبد الحميد الكاتب (1) ، وكان متّهماً بها ، أو كان له عرق في المجوسيّة ، لما أخلته إحدى الروايات من زعم المعارضة ، لا لأ نّه زنديق ، ولكن لأنّه بليغ يصلح دليلاً للزنادقة . (1) عبد الحميد بن يحيى بن سعد العامري ، المعروف بالكاتب ، توفّي سنة 132 هـ عالم كاتب أديب بليغ ، له رسائل تقع في نحو ألف ورقة ، فهو أوّل من أطال الرسائل ، واستعمل التحميدات في فصول الكتب ، كان كاتباً في ديوان مروان بن محمد آخر ملوك بني اُميّة في المشرق ، وأبى مفارقته حتى قتل معه بمصر من قبل العباسيّين (الأعلام للزركلي 3: 289 ـ 290 ) . صفحه 128 وزعم هؤلاء الملحدة أيضاً أ نّ حكم قابوس بن وشمكير(1) وقصصه هي من بعض المعارضة للقرآن ، فكأنّهم يحسبون أنّ كلّ ما فيه أدب وحكمة وتاريخ وأخبار ، فتلك سبيله ، وما ندري لمن كانوا يزعمون مثل هذا ؟ ومثل قولهم : إنّ القصائد السبع المسمّـاة بالمعلّقات هي عندهم معارضة للقرآن بفصاحتها ؟»(2) . انتهى كلامه، وحديث قتله معروف مذكور في التواريخ والسير (3). 7 ـ أبو الحسين أحمد بن يحيى، المعروف بابن الراوندي وقد وقع الخلاف في ترجمة الرجل بين العامّة والخاصّة ، بحيث إذا قصرنا النظر على خصوص الطائفة الاُولى وما ترجموا به الرجل ، لكان اللاّزم الحكم عليه بأنّه من الملاحدة ، والطاعنين على الإسلام ، بل على جميع الأديان ، وإذا لاحظنا ما قاله الخاصّة في شأنه ـ ولا سيّما بعض الأعلام الأقدمين ـ لكان اللاّزم الرجوع عن ذلك ، والحكم بخلافه ، بل بأنّه من خواصّ الشيعة وأعلامهم ، ولا بأس بإيراد كلام الفريقين ، ونقتصر ممّا قاله العامّة على ما أورده الرافعي في كتابه «إعجاز القرآن» متناً وهامشاً بعين ألفاظه ، قال بعد العنوان المذكور : «كان رجلاً غلبت عليه شقوة الكلام ، فبسط لسانه في مناقضة الشريعة ، وذهب يزعم ويفتري ، وليس أدلّ على جهله ، وفساد قياسه ، وأ نّه يمضي في قضيّة لا برهان له بها من قوله في كتاب «الفريد» : إنّ المسلمين احتجّوا لنبوّة نبيّهم بالقرآن الذي تحدّى به النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، فلم تقدر على معارضته ، فيقال لهم : أخبرونا: (1) قابوس بن وشمكير ، توفّي سنة 403 هـ ، كنيته أبو الحسن ولقبه شمس المعالي ، كان نابغةً في الأدب والإنشاء ، جمعت رسائله في كتاب واحد سمّي (كمال البلاغة) وله شعر جيّد بالعربيّة والفارسيّة (الأعلام للزركلي 5 : 170 .) (2) إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: 124 ـ 125 . (3) مثل وفيات الأعيان 2: 152 ـ 153، وسير أعلام النبلاء 6: 406، الرقم 935 . صفحه 129 لو ادّعى مدّع لمن تقدّم من الفلاسفة . . . مثل دعواكم في القرآن ، فقال : الدليل على صدق بطليموس أو إقليدس ، إ نّ إقليدس ادّعى أنّ الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه ، أكانت نبوّته تثبت؟»(1) . ثمّ أجاب الرافعي عنه بما ليس بجواب ، بل الجواب عنه ما ذكرناه في ردّ بعض الأوهام السابقة (2). ثمّ قال : «وقد قيل : إنّ هذا الرجل عارض القرآن بكتاب سمـّاه «التاج» ولم نقف على شيء منه في كتاب من الكتب ، مع أنّ أبا الفداء نقل في تاريخه أ نّ العلماء قد أجابوا عن كلّ ما قاله من معارضة القرآن وغيرها من كفرياته ، وبيّنوا وجه فساد ذلك بالحجج البالغة ، والذي نظنّه أنّ كتاب «ابن الراوندي» إنّما هو في الاعتراض على القرآن ، ومعارضته على هذا الوجه من المناقضة ، كما صنع في سائر كتبه كـ «الفريد» ، و«الزمرّدة» ، و«قضيب الذهب» ، و«المرجان»(3); فإنّها فيما وصفت به ظلمات بعضها فوق بعض ، وكلّها اعتراض على الشريعة والنبوّة بمثل تلك السخافة التي لا يبعث عليها عقل صحيح ، ولا يقيم وزنها علم راجح(4) . (1) إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة : 125 ـ 126 . (2) فى ص 99 ـ 101 . (3) في هامش الإعجاز : «يخيّل إلينا أنّ ابن الراوندي كان ذا خيال ، وكان فاسد التخيّل ، وإلاّ فما هذه الأسماء ؟ وأين هي ممّا وضعت له؟ والخيال الفاسد أشدّ خطراً على صاحبه من الجنون ; لأ نّه فساد في الدماغ ، ولأنّه حديث متوثّب ، فما يملك معه الدين ولا العقل شيئاً ، وأظهر الصفات في صاحبه الغرور» . (4) فيه أيضاً : «كتبنا هذا للطبعة الاُولى ، ثمّ وقفنا بعد ذلك على أنّ كتاب «التاج» يحتجّ فيه صاحبه لقدم العالم ، وأ نّه ليس للعالم صانع ولا مدبِّر ولا محدث ولا خالق . أمّا كتابه الذي يطعن فيه على القرآن فاسمه «الدامغ» ، قالوا : إنّه وضعه لابن لاوي اليهودي ، وطعن فيه على نظم القرآن ، وقد نقضه عليه أبو الحسين الخيّاط وأبو علي الجبائي ، قالوا : ونقضه على نفسه ، والسبب في ذلك أ نّه كان يؤلّف لليهود والنصارى الثنوية وأهل التعطيل ، بأثمان يعيش منها ، فيضع لهم الكتاب بثمن يتهدّدهم بنقضه وإفساده إذا لم يدفعوا له ثمن سكوته . قال أبو عبّاس الطبري : إنّه صنّف لليهود كتاب «البصيرة» ردّاً على الإسلام ، لأربعمائة درهم أخذها من يهود سامراء ، فلمّا قبض المال رام نقضه حتّى اُعطوه مائة درهم اُخرى ، فأمسك عن النقض ! أ مّا ما قيل من معارضته للقرآن فلم يعلم منها إلاّ ما نقله صاحب «معاهد التخصيص» قال : اجتمع ابن الراوندي هو ، وأبو علي الجبائي يوماً على جسر بغداد ، فقال له : يا أبا علي ، ألا تسمع شيئاً من معارضتي للقرآن ونقضي له؟ قال الجبائي : أنا أعلم بمخازي علومك ، وعلوم أهل دهرك ، ولكن اُحاكمك إلى نفسك ، فهل تجد في معارضتك له عذوبة وهشاشة ، وتشاكلاً وتلاؤماً ، ونظماً كنظمه ، وحلاوة كحلاوته؟ قال : لا والله . قال : قد كفيتني ، فانصرف حيث شئت . ويقال : إنّ ابن الراوندي كان أبوه يهوديّاً وأسلم ، والخلاف في أمره كثير ، وبلغت مصنّفاته مائة كتاب وأربعة عشر كتاباً» . صفحه 130 وقد ذكر المعرّي هذه الكتب في رسالة الغفران ، ووفى الرجل حسابه عليها ، وبصق على كتبه مقدار دلو من السجع ! وناهيك من سجع المعرّي الذي يلعن باللفظ قبل أن يلعن بالمعنى ! وممّا قاله في «التاج» : «وأ مّا تاجه فلا يصلح أن يكون نعلاً . . وهل تاجه إلاّ كما قالت الكاهنة : «أفٍّ وتفّ (1) ، وجورب وخفّ ؟ قيل : وما جورب وخفّ؟ قالت : واديان بجهنّم»(2) . وهذا يشير إلى أنّ الكتاب كذب واختلاق ، وصرف لحقائق الكلام كما فعلت الكاهنة ، وإلاّ فلو كانت معارضته لنقض التحدّي ـ وقد زعم أ نّه جاء بمثله ـ لما خلت كتب التاريخ والأدب والكلام من الإشارة إلى بعض كلامه في المعارضة ، كما أصبنا من ذلك لغيره(3) (انتهى ما في كتاب الإعجاز)(4) . ونقل أ نّ الكتب التي صنّفها هي : (1) الأفّ: وسخ الاُذن ، والتفّ: وسخ الأنف . هامش إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: 127 . (2) رسالة الغفران ، لأبي العلاء المعرّي: 324 ـ 325 . (3) في هامش إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة : في ص111 ج2 من هامش الكامل: أسماء الذين كانوا يطعنون على القرآن ، ويصنعون الأخبار ويبثّونها في الأمصار ، ويضعون الكتب على أهله . (4) إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: 126 ـ 127 . صفحه 131 1 ـ التاج في قدم العالم . 2 ـ الزمرّدة في إبطال الرسالة . 3 ـ نعت الحكمة في الاعتراض بالبارئ ـ تبارك وتعالى ـ من جهة تكليفه للعباد . 4 ـ الدامغ في الطعن على نظم القرآن . 5 ـ قضيب الذهب في حدوث علم البارئ . 6 ـ الفريد في الطعن على النبيّ . 7 ـ المرجان في اختلاف أهل الإسلام(1) . وحكي أنّه قد نقض على أكثر كتبه ، وردّه أبو الحسين الخيّاط وأبو علي الجبائي ، هذا حال الرجل في محيط العامّة (2) . وأمّا أصحابنا ، فقد ذكر المحدِّث القمّي(قدس سره) في كتاب «الكنى والألقاب» الرجل ، ووصفه بالعالم المقدّم المشهور ، له مقالة في علم الكلام ، وله مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام ، وله من الكتب المصنّفة نحو من مائة وأربعة عشر كتاباً . قال : «وكان عند الجمهور يرمى بالزندقة والإلحاد» ، وحكى عن الروضات أ نّه قال : وعن ابن شهرآشوب في كتابه «المعالم» : أنّ ابن الراوندي هذا مطعون عليه جدّاً ، ولكنّه ذكر السيِّد الأجلّ المرتضى في كتابه «الشافي في الإمامة» أ نّه إنّما عمل الكتب التي قد شنع بها عليه مغالطة للمعتزلة ; ليبيّن لهم عن استقصاء نقصانها ، وكان يتبرّأ منها تبرّأ ظاهراً ، وينتحي من علمها وتصنيفها إلى غيره ، وله كتب سداد ، مثل كتاب الإمامة ، والعروس ، ثمّ قال : ساق صاحب الروضات الكلام في ترجمته ، وفي آخره أ نّ صاحب رياض العلماء قال : ظنّي أنّ السيّد المرتضى نصّ (1 ، 2) رسالة الغفران : 232 ، المنتظم: 13 / 108 ، الوافي بالوفيات: 8 / 233ـ 234 . صفحه 132 على تشيّعه وحسن عقيدته في مطاوي الشافي أو غيره»(1) انتهى . ومن ذلك يظهر أنّ رمي الجمهور له بالزندقة والإلحاد إنّما كان لأجل استبصاره واتّباعه لمذهب الحقّ ، واختياره التشيّع والعقيدة الصحيحة ; ولذا طعنوا عليه بأنّ اختياره لذلك إنّما هو لأجل أ نّه لم يجد فرقة من فرق الاُمّة تقبله ، تلويحاً بأنّه ليست الشيعة من فرق الاُمّة الإسلاميّة ، والحكم هو العقل والوجدان ، والحاكم هو الدليل والبرهان . 8 ـ كاتب رسالة «حسن الإيجاز»(2) وهو كُتيِّب صدر من المطبعة الانجليزيّة الأمريكيّة ببولاق مصر سنة 1912 الميلاديّة ; فإنّه ذكر في رسالته أ نّه يمكن معارضة القرآن بمثله ، وأتى بهذا العنوان جملاً اقتبسها من القرآن ، مع تغيير بعض ألفاظه ، وحذف بعض آخر ، مثل ما ذكر في معارضة سورة الكوثر من قوله : «إنّا أعطيناك الجواهر ، فصلِّ لربِّك وجاهر ، ولا تعتمد قول ساحر»، وما ذكر في معارضة سورة الفاتحة من قوله : «الحمد للرحمن ، ربّ الأكوان ، الملك الديّان ، لك العبادة وبك المستعان ، إهدنا صراط الإيمان» وزعم أنّ هذا القول واف لجميع مقاصد سورة الفاتحة ، ويمتاز عنها بكونه أخصر منها . أقول : لابدّ قبل المقايسة بين جمله ـ التي أتعب بها نفسه ، مع كونها مقتبسة من الكتاب ـ وبين السورتين من بيان معنى المعارضة ، وتعليم هذا الكاتب الجاهل وهدايته إلى حقيقة هذه اللفظة ، وتوضيح مفهومها ، وأ نّ المألوف في معارضة كلام (1) الكنى والألقاب : 1 / 287 ـ 288 ، روضات الجنات: 1 / 193 ـ 195 ، معالم العلماء : 144 ، الرقم 1007 ، الشافي: 1 / 87 . (2) لم نعثر عليها. نعم، ذكر بعض ما جاء فيها في البيان في تفسير القران: 95 ـ 101 وأجاب عنه. صفحه 133 من نثر أو نظم ماذا؟ أفيصدق معنى معارضة الشعر مثلاً ، بأن يأتي المعارض بذلك الشعر ، مع تغيير في بعض ألفاظه بوضع لفظ آخر يتّحد معناه معه مكانه ، فإذا كانت حقيقة المعارضة متحقّقة بذلك ، فلا يكون من له أدنى اطّلاع من لغة ذلك الشعر عاجزاً عن الشعر والإتيان بالمعارض ، وإن لم يكن له القريحة الخاصّة الشعريّة الباعثة له على ذلك بوجه أصلاً ، بحيث لا يكاد يقدر على الإتيان ببيت من عند نفسه . وهل تكون المعارضة مع الكاتب بتبديل بعض الألفاظ ، وحذف البعض الآخر ؟! فإذن تكون معارضة كلّ كلام بهذه المثابة ممكنة جدّاً ، أكانت المعارضة بهذا النحو غير مقدورة لمعاصري نزول الكتاب من الفصحاء البارعين ، والبلغاء المتبحِّرين ؟! وكان مضيّ أكثر من ثلاثة عشر قرناً من حين النزول لازماً لأن يعلو مستوى العلم ويدرج البشر مراتب الكمال ; ليظهر كاتب هذه الرسالة ، ويقدر على الإتيان بالمعارض بمثل ما ذكر ، بعدما لم يكن في تلك القرون من كان قادراً على الإتيان بمثله ، وإذا كان الأمر كذلك فكان ينبغي له ادّعاء النبوّة والتحدّي بما أتى به من الكلمات ; لأ نّ المفروض عدم قدرة غيره على الإتيان بمثله ، وإلاّ لأتى به . فمتى ينزل البشر عن مركب الهوى والعصبيّة المهلكة ؟! ومتى يُلقي زمام اُمور عقائده وأفعاله على العقل السليم ؟! ومتى ينكشف له أ نّ إضلال الناس بما لا يعتقد به من أشدّ المعاصي وأعظم الجرائم ؟! وممّا لا يعفى عنه ، ويغضّ منه ، ولكنّ الأسف ـ كماله ـ من جهل الناس ، وبعدهم عن الحقائق ، وتخيّلهم أنّ مثل كاتب الرسالة ممّن له حظّ وافر من العلم ، ولا يقصد من نشر رسالته إلاّ نشر العلم ، وكشف الحقيقة ، مع أنّه من الواضح كون مثله أجيراً لعمّال الاستعمار ، ناشراً لأفكارهم السخيفة ، ونواياهم السيّئة التي لا تنتهي إلاّ إلى خذلان المسلمين ، صفحه 134 وتضعيف عقائدهم ، ونهب أموالهم ، والتسلّط عليهم ، كما هو ظاهر . ولعمري ، أ نّ مثل ذلك ممّا يوجب الطمأنينة للنفس بأنّ البشر مع ادّعائه السير الكمالي والرقى العلمي ، لا يكون إلاّ في القوس النزولي ، والسير الانحطاطي ، فإنّ العرب في الجاهليّة ـ مع شدّة تعصّبهم ، وبعدهم عن الحقائق والمدنيّة ـ قد عرفوا حقيقة المعارضة ، واعترفوا بعجزهم عن الإتيان بما يماثل القرآن ، مع كون امتيازهم في ذلك العصر من حيث البلاغة والفصاحة فقط ; فلذا آمن به بعض ، وقال غيره : ( إِنْ هَـذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (1) . وأ مّا في هذا العصر ، فلا معرفة لمثل الكاتب بهذه الحقيقة ، فتراه يأتي بمثل ما ذكر بعنوان المعارضة ، ويفتخر بهذا المبلغ العلمي ، وهذه الدرجة من الإدراك . وبالجملة : فمعنى المعارضة الراجعة إلى الإتيان بما في عرض الكلام الأوّل ، وفي رتبته ودرجته عبارة عن الإتيان بكلام مستقلّ في جهاته الراجعة إلى ألفاظه وتركيبه واُسلوبه ، ومع ذلك كان متّحداً مع الكلام الأوّل في جهة من الجهات ، أو غرض من الأغراض ، وهذا المعنى لا يكون موجوداً في الجمل المذكورة . مع أنّه سرق قوله في معارضة سورة الكوثر من مسيلمة الكذّاب الذي يقول : «إنّا أعطيناك الجواهر ، فصلِّ لربّك وهاجر ، إنّ شانئك هو الكافر»(2) وكم من المماثلة والسنخية بين السارق والمسروق منه ، من جهة اعتقاد كليهما ببطلان مدّعاهما ، ووقوعهما مغلوبين لهوى النفس وحبّ الجاه ، والطمع في مطامع الدنيا الزائلة غير الباقية ، والغفلة عن عالم الآخرة ، والعقوبات المعدّة لمضلّي النّاس . وأ مّا المقايسة بين ما ذكره ، وبين الكتاب الذي لا يقايس عليه شيء ، وليس كمثله كتاب . (1) سورة المدّثر 74 : 24 . (2) البرهان في علوم القرآن: 2 / 93 . صفحه 135 فنقول : إنّ تبديل كلمة ( الكوثر) بلفظ «الجواهر» ممّا لا مسوّغ له ; فإنّ إعطاء الجواهر التي هي من شؤون هذه الدنيا الدنيّة وزخرفها ، ومن الاُمور المادّية المحضة لا يتناسب مع التأكيد والإتيان بكلمة «إنّ» ثمّ الإسناد إلى ضمير الجمع ; فإنّ العطيّة الإلهيّة والعناية الربّانيّة لا تلائم هذا النحو من الذكر ، والتعبير الكاشف عن العظمة والأهمّية إذا كانت من الاُمور المادّية الفانية غير الباقية ، وهذا بخلاف لفظ «الكوثر» الذي معناه هو الخير الكثير العامّ الشامل للجهات الدنيويّة والأخرويّة معاً ، أ مّا في الدنيا ، فشرف الرسالة والهداية والزعامة وكثرة الذرّيّة من البضعة الطاهرة (عليها السلام) إلى يوم القيامة ، الموجبة لبقاء الاسم ، وعدم النسيان ما دامت الدنيا باقية . وأ مّا في الآخرة ، فلا تعدّ ولا تحصى من الشفاعة والجنان وحوض الكوثر ، وغيرها من نعم الله تعالى . ثمّ ما المناسبة بين إعطاء الجواهر وبين إيجاب الصلاة المتفرّع عليه ؟ فإنّ الصلاة ـ التي هي معراج المؤمن ، وعمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردَّ ما سواها ، وهي التي أثرها النهي عن الفحشاء والمنكر ، وهي التي تناسب مقام التقوى ، وتكون قربان كلّ تقيّ ، وهي التي خير موضوع من شاء استقلّ ، ومن شاء استكثر(1) ـ لا ملاءمة بينها وبين إعطاء الجواهر التي هي من النعم الدنيّة الفانية ، وهذا بخلاف ترتّب الصلاة على الكوثر بالمعنى الذي عرفت ; فإنّ شدّة الملاءمة بين الأمرين ، وكمال المناسبة بين المعنيين غير خفيّ ، كما أنّ ترتّب النحر بناءً على أن يكون المراد به هو النحر بمنى ، أو نحر الأضحية في الأضحى واضحة . ضرورة أنّ ذلك إنّما هو لأجل كون الكمال النفساني كما يتوقّف على الخضوع في مقابل الرب ، والخشوع دونه ، كذلك يتوقّف على صرف المال الذي هو الغاية (1) اُنظر وسائل الشيعة: 4 / 33 ، كتاب الصلاة ، أبواب أعداد الفرائض ، ب 8 ح 6 و ص 43 ـ 44 ب 12 ح 1 و 2 ، و ج 5 / 247 ، أبواب أحكام المساجد ب 42 ح 1 وغيرها . |