قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
(الصفحة481)
الواقع، فالإتيان على مقتضى فتاويهم ليس إلاّ بملاحظـة طريقيتها إلى الواقع وكاشفيتها عن أحكام اللّه الواقعيّـة كعملهم على طبق رأي كلّ خبرة فيما يرجع إليـه، من دون تفاوت في نظرهم، وليس استـتباع فتاويهم للحكم الظاهري في ذهنهم بوجـه حتّى يكون الجزم باعتباره. فالحكم الظاهري على فرض وجوده ليس محصّلا للجزم; ضرورة كون هذا الاستـتباع مغفولا عنـه لدى العقلاء العاملين على قول الفقهاء بما أنّهم عالمون بالأحكام وفتاويهم طريق إلى الواقع.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الاستصحاب غير جار، لفقدان المستصحب، أي الحكم أو الموضوع الذي لـه حكم.
وغايـة ما يمكن أن يقال في التفصّي عن هذا الإشكال: أنّ احتياج الفقيـه للفتوى بجواز البقاء على تقليد الميّت إلى الاستصحاب إنّما يكون في مورد اختلاف رأيـه لرأي الميّت، وأمّا مع توافقهما فيجوز لـه الإفتاء بالأخـذ برأي الميّت، لقيام الدليل عنده عليـه، وعدم الموضوعيّـة للفتوى والأخذ برأي الحي، فلو فرض موافقـة رأي فقيـه حي لجميع ما في رسالـة فقيـه ميّت يجوز لـه الإرجاع إلى رسالتـه من غير احتياج إلى الاستصحاب، بل لقيام الأمارة على صحّتـه، فما يحتاج فـي الحكم بجـواز البقاء إلى الاستصحـاب هـو موارد اختلافهما.
فحينئذ نقول: لو أدرك مكلّف في زمان بلوغـه مجتهدين حيّين متساويـين في العلم مختلفين في الفتوى، يكون مخيّراً في الأخذ بأيّهما شاء، وهذا حكم مسلّم بين الفقهاء وأرسلوه إرسال المسلّمات من غير احتمال إشكال فيـه، مع أنّـه خلاف القاعدة، فإنّها تقتضي تساقطهما، فالحكم بالتخيـير بنحو التسلّم في هذا المورد المخالف للقاعدة لا يكون إلاّ بدليل شرعي وصل إليهم، أو للسيرة
(الصفحة482)
المستمرّة إلى زمن الأئمّـة (عليهم السلام) كما هي ليست ببعيدة، فإذا مات أحد المجتهدين يستصحب هذا الحكم التخيـيري، وهذا الاستصحاب جار في الابتدائي والاستمراري.
نعم جريانـه في الابتدائي الذي لم يدركـه المكلّف حيّاً محلّ إشكال، لعدم دليل يثبت الحكم للعنوان حتّى يستصحب، فما ذكرنا في التفصّي عن الإشكال الأوّل في الباب من استصحاب الحكم الثابت للعنوان إنّما هو على فرض ثبوت الحكم لـه، وهو فرض محض.
فتحصّل ممّا ذكرنا تفصيل آخر: وهو التفصيل بين الابتدائي الذي لم يدرك المكلّف مجتهده حال بلوغـه وبين الابتدائي المدرك كذلك والاستمراري.
هذا مقتضى الاستصحاب، فلو قام الإجماع على عدم جواز الابتدائي مطلقاً تصير النتيجـة التفصيل بين الابتدائي والاستمراري، هذا كلّـه حال الاستصحاب.
حال بناء القعلاء في تقليد الميّت
وأمّا بناء العقلاء فمحصّل الكلام فيـه: أنّـه لا إشكال في عدم التفاوت في ارتكاز العقلاء وحكم العقل بين فتوى الحي والميّت، ضرورة طريقيّـة كلّ منهما إلى الواقع من غير فرق بينهما، لكن مجرّد ارتكازهم وحكمهم العقلي بعدم الفرق بينهما لا يكفي في جواز العمل، بل لابدّ من إثبات بنائهم على العمل على طبق فتوى الميّت كالحي، وتعارفه لديهم حتّى يكون عدم ردع الشارع كاشفاً عن إمضائـه، وإلاّ فلو فرض عدم جريان العمل على طبق فتوى الميّت وإن لم يتفاوت في ارتكازهم مع الحي لا يكون للردع مورد حتّى يكشف عدمه عن إمضاءالشارع.
(الصفحة483)
والحاصل: أنّ جواز الاتّكال على الأمارات العقلائيّـة موقوف على إمضاء الشارع لفظاً أو كشفـه عن عدم الردع، وليس ما يدلّ لفظاً عليـه، والكشف عن عدم الردع موقوف على جري العقلاء عملا على طبق ارتكازهم، ومع عدمـه لا محلّ لردع الشارع ولا يكون سكوتـه كاشفاً عن رضاه.
فحينئذ نقول: لا إشكال في بناء العقلاء على العمل برأي الحي، ويمكن دعوى بنائهم على العمل بما أخذوا من الحي في زمان حياتـه ثمّ مات، ضرورة أنّ الجاهل بعد تعلّم ما يحتاج إليـه من الحي، يرى نفسـه عالماً، فلا داعي لـه من الرجوع إلى الآخر، بل يمكن إثبات ذلك من الروايات كروايـة علي بن المسيّب المتقدّمـة(1).
فإنّ إرجاعـه إلى زكريّا بن آدم ـ من غير ذكر حال حياتـه وأنّ ما يأخذه منـه في حال الحياة لا يجوز العمل بـه بعد موتـه، مع أنّ في ارتكازه وارتكاز كلّ عاقل عدم الفرق بينهما ـ دلالـة على جواز العمل بما تعلّم منـه مطلقاً، فإنّ كون شقّتـه بعيدة بحيث إنّـه بعد رجوعـه إلى شقّتـه كان يصير منقطعاً عن الإمام (عليه السلام)في مثل تلك الأزمنـة، كان يوجب عليـه بيان الاشتراط لو كانت الحياة شرطاً. واحتمال أنّ رجوع علي بن المسيّب إليـه كان في نقل الروايـة، يدفعـه ظهور الروايـة، ومثلها مكاتبـة أحمد بن حاتم وأخيـه(2).
وبالجملـة: إرجاع الأئمّـة (عليهم السلام) في الروايات الكثيرة، شيعتهم إلى العلماء عموماً وخصوصاً ـ مع خلوّها عن اشتراط الحياة ـ كاشف عن ارتضائهم بذلك.
1 ـ تقدّمت في الصفحة 462.
2 ـ تقدّمت في الصفحـة 461.
(الصفحة484)
نعم لا يكشف عن الأخذ الابتدائي بفتوى الميّت، فإنّ الدواعي منصرفـة عن الرجوع إلى الميّت مع وجود الحي، ولم يكن في تلك الأزمنـة تدوين الكتب الفتوائيـة متعارفاً، حتّى يقال: إنّهم كانوا يراجعون الكتب، فإنّ الكتب الموجودة في تلك الأزمنـة كانت منحصرة بكتب الأحاديث، ثمّ بعد أزمنـة متطاولـة صار بنائهم على تدوين كتب بنحو متون الأخبار ككتب الصدوقين ومن في طبقتهما أو قريب العصر بهما، ثمّ بعد مرور الأزمنـة جرت عادتهم على تدوين الكتب التفريعيّـة والاستدلاليّـة، فلم يكن الأخذ من الأموات ابتداءً ممكناً في الصدر الأوّل ولا متعارفاً أصلا.
نعم من أخذ فتوى حي في زمان حياتـه، فقد كان يعمل بـه على الظاهر; ضرورة عدم الفرق في ارتكازه بين الحي والميّت، ولم يرد ردع عن ارتكازهم وبنائهم العملي، بل إطلاق الأدلّـة يقتضي الجواز أيضاً.
فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّـه لو كان مبنى جواز البقاء على تقليد الميّت هو بناء العقلاء، فلابدّ من التفصيل بين ما إذا أخذ فتوى الميّت في زمان حياتـه وغيره، والإنصاف: أنّ جواز البقاء على فتوى الميّت بعد الأخذ منـه في الجملـة هو الأقوى، وأمّا الأخذ الابتدائي ففيـه إشكال، بل الأقوى عدم جوازه.
وأمّا التمسّك بالأدلّـة اللفظيـة كالكتاب والسنّـة فقد عرفت في المبحث السالف عدم دلالتهما على تأسيس حكم شرعي في هذا الباب فراجع.
(الصفحة485)
فصل
في تبدّل الاجتهاد
إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق وتبدّل رأي المجتهد فلا يخلو إمّـا أن يتبدّل مـن القطع إلى القطع أو إلـى الظـنّ المعتبر، أو مـن الظـنّ المعتبر إلى القطع أو إلى الظنّ المعتبر.
حال الفتوى المستندة إلى القطع
فإن تبدّل مـن القطع إلى غيره فلا مجـال للقول بالإجـزاء; ضرورة أنّ الواقع لا يتغيّر عمّا هو عليـه بحسب العلم والجهل، فإذا قطع بعدم كون السورة جزءً للصلاة، ثمّ قطع بجزئيتها أو قامت الأمـارة عليها، أو تبدّل قطعـه، يتبيّن لـه في الحال الثاني وجداناً أو تعبّداً عدم كون المأتي بـه مصـداقاً للمأمـور بـه، ومعـه لا وجـه للإجزاء. ولا يتعلّق بالقطـع جعل حتّى يتكلّم في دلالـة دليلـه على إجزائـه عن الواقع أو بدليّتـه عنـه، وإنّما هو عذر في صورة ترك المأمور بـه، فإذا ارتفـع العـذر يجب عليـه الإتيان بالمأمـور بـه في الوقت وخـارجـه إن كان لـه القضاء.
(الصفحة486)
حال الفتوى المستندة إلى الأمارات
وإن تبدّل من الظنّ المعتبر فإن كان مستنده الأمارات كخبر الثقـة وغيره، فكذلك إذا كانت الأمارة عقلائيّـة أمضاها الشارع، ضرورة أنّ العقلاء إنّما يعملون على ما عندهم كخبر الثقـة والظواهر بما أنّها كاشفـة عن الواقع وطريق إليـه ومن حيث عدم اعتنائهم باحتمال الخلاف، وإمضاء الشارع هذه الطريقـة لا يدلّ على رفع اليد عن الواقعيّات، وتبديل المصاديق الأوّليـة بالمصاديق الثانويّـة أو جعل المصاديق الناقصـة منزلـة التامّـة.
وربّما يقال: إنّ الشارع إذا أمـر بطبيعـة كالصلاة، ثمّ أمـر بالعمل بقول الثقـة أو أجاز المأمور بالعمل بـه، يكون لازمـه الأمر أو الإجازة بإتيان المأمور بـه على طبق ما أدّى إليـه قول الثقـة، ولازم ذلك هو الإجزاء، ففي مثل قولـه: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَمسِ إِلى غَسَقِ اللَّيلِ )(1) يكون أمر بصلاتين إلى غسق الليل لا غير، فإذا أمر بالعمل على قول الثقـة فقد أمر بإتيان المأمور بـه بالكيفيـة التي أدّى إليها الأمارة، فلا محالـة يكون المأتي بـه مصداقاً للمأمور بـه عنده، وإلاّ لمّا أمر بإتيانـه كذلك فلا محيص عن الإجزاء، لتحقّق مصداق المأمور بـه وسقوط الأمر.
ولكنّك خبير بأنّ إمضاء طريقـة العقلاء ليس إلاّ لأجل تحصيل الواقعيّات، لمطابقـة الأمارات العقلائيـة نوعاً للواقع، وضعف احتمال تخلّفها عنـه، وفي مثل ذلك لا وجـه لسقوط الأمر إذا تخلّف عن الواقع، كما أنّ الأمر كذلك عند العقلاء،
1 ـ الإسراء (17): 78.
(الصفحة487)
والفرض أنّ الشارع لم يأمر تأسيساً. بل وكذا الحال لو أمر الشارع على أمارة تأسيساً وكان لسان الدليل هو التحفّظ على الواقع، فإنّ العرف لا يفهم منـه إلاّ تحصيل الواقع لا تبديلـه بمؤدّى الأمارة.
وأنت إذا راجعت الأدلّـة المستدلّ بها على حجّيـة خبر الثقـة، لترى أنّ مفادها ليس إلاّ إيجاب العمل بـه لأجل الوصول إلى الواقعيات، كالآيات على فرض دلالتها وكالروايات، فإنّها تنادي بأعلى صوتها بأنّ إيجاب العمل على قول الثقـة إنّما هو لكونـه ثقـة وغير كاذب وأنّـه موصل إلى الواقع، وفي مثلـه لا يفهم العرف أنّ الشارع يتصرّف في الواقعيّات على نحو أداء الأمارة.
هذا مع أنّ احتمال التأسيس في باب الأمارات العقلائيـة مجرّد فرض، وإلاّ فالناظر فيها يقطع بأنّ الشارع لم يكن في مقام تأسيس وتحكيم، بل في مقام إرشاد وإمضاء ما لدى العقلاء، والضرورة قاضيـة بأنّ العقلاء لا يعملون على طبقها إلاّ لتحصيل الواقع، وحديث تبديل الواقع بما يكون مؤدّى الأمارة ممّا لا أصل لـه في طريقتهم، فالقول بالإجزاء فيها ضعيف غايتـه.
وأضعف منـه التفصيل بين تبدّل الاجتهاد الأوّل بالقطع فلا يجزي، وبين تبدّلـه باجتهاد آخر فيجزي، بدعوى عدم الفرق بين الاجتهادين الظنّيـين وعدم ترجيح الثاني حتّى يبطل الأوّل، وذلك لأنّ تبدّل الاجتهاد لا يمكن إلاّ مع اضمحلال الاجتهاد الأوّل بالعثور على دليل أقوى أو بالتخطئـة للاجتهاد الأوّل، ومعـه لا وجـه لاعتباره فضلا عن مصادمتـه للثاني.
هذا حـال الفتوى المستند إلى الأمارات.
(الصفحة488)
حال الفتوى المستندة إلى الاُصول
وأمّا إذا استند إلى الاُصول كأصالتي الطهارة والحلّيـة في الشبهات الحكميّـة، وكالاستصحاب فيها، وكحديث الرفع، فالظاهر هو الإجزاء مع اضمحلال الاجتهاد.
أمّا في أصالتي الطهارة والحلّيـة، فلأنّ الظاهر من دليلهما هو جعل الوظيفـة الظاهريّـة لدى الشكّ في الواقع، فإنّ معنى قولـه: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّـه قذر»(1) و«كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّـه حرام بعينـه»(2) ليس أنّـه طاهر وحلال واقعاً حتّى تكون النجاسـة والحرمـة متقيّدتين بحال العلم بهما، ضرورة أنّـه التصويب الباطل، ولا معنى لجعل المحرزيّـة والكاشفيـة للشكّ مع كونـه خلاف أدلّتهما، ولا لجعلهما لأجل التحفّظ على الواقع، بل الظاهر من أدلّتهما هو جعل الطهارة والحلّيـة الظاهريتين، ولا معنى لهما إلاّ تجويز ترتيب آثار الطهارة والحلّيـة على المشكوك فيـه، ومعنى تجويز ترتيب الآثار تجويز إتيان ما اشترط فيـه الطهارة والحلّيـة مع المشكوك فيـه، فيصير المأتي بـه معهما مصداق المأمور بـه تعبّداً، فيسقط أمره.
فإذا دلّ الدليل على لزوم إتيان الصلاة مع طهارة الثوب، ثمّ شكّ في طهارة
1 ـ تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعـة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب37، الحديث4.
2 ـ الكافي 5: 313 / 40، وسائل الشيعـة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب بـه، الباب4، الحديث4، مع اختلاف يسير.
(الصفحة489)
ثوبـه، دلّ قولـه: «كلّ شيء طاهر» ـ الذي يرجع إلى جواز ترتيب الطهارة على الثوب المشكوك فيـه ـ على جواز إتيان الصلاة معـه وتحقّق مصداق الصلاة بـه، فإذا تبدّل شكّـه بالعلم لا يكون من قبيل كشف الخلاف كما ذكرنا في الأمارات(1)، لأنّها كواشف عن الواقع، فلها واقع تطابقـه أو لا تطابقـه، بخلاف مؤدّى الأصلين، فإنّ مفاد أدلّتهما ترتيب آثار الطهارة أو الحلّيـة بلسان جعلهما، فتبديل الشكّ بالعلم من قبيل تبديل الموضوع لا التخلّف عن الواقع، فأدلّتهما حاكمـة على أدلّـة جعل الشروط والموانع في المركّبات المأمور بها.
وبالجملـة: إذا أمر المولى بإتيان الصلاة مع الطهارة وأجاز الإتيان بها في ظرف الشكّ مع الثوب المشكوك فيـه بلسان جعل الطهارة، وأجاز ترتيب آثار الطهارة الواقعيّـة عليـه، ينتج جواز إتيان الصلاة المأمور بها مع الطهارة الظاهريّـة ومعاملـة المكلّف معها معاملـة الطهارة الواقعيّـة، فيفهم العرف من ذلك حصول مصداق المأمور بـه معها، فيسقط الأمر، وبعد العلم بالنجاسـة لا يكون من قبيل كشف الخلاف كما في الأمارات الكاشفـة عن الواقع.
ولا يبعد أن يكون الأمر كذلك في الاستصحاب، فإنّ الكبرى المجعولـة فيـه وهي قولـه: «لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»(2) ليس مفادها جعل اليقين أمارة بالنسبـة إلى زمان الشكّ، ضرورة عدم كاشفيّتـه بالنسبـة إليـه عقلا، لامتناع كونـه طريقاً إلى غير متعلّقـه، ولا معنى لجعلـه طريقاً إلى غيره، فلا يكون
1 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 422 ـ 423.
2 ـ تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعـة 3: 466، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب37، الحديث1.
(الصفحة490)
الاستصحاب من الأمارات، بل ولا يكون جعلـه للتحفّظ على الواقع كإيجاب الاحتياط في الشبهـة البدويّـة في الأعراض والدماء، فإنّـه أيضاً خلاف مفادها وإن احتملناه بل رجّحناه سابقاً، بل الظاهر منها أنّـه لا ينبغي للشاكّ الذي كان على يقين رفع اليد عن آثاره، فيجب عليـه ترتيب آثاره، فيرجع إلى وجوب معاملـة بقاء اليقين الطريقي معـه في زمان الشكّ، وهو مساوق عرفاً لتجويز إتيان المأمور بـه المشروط بالطهارة الواقعيّـة مثلا مع الطهارة المستصحبـة، ولازم ذلك صيرورة المأتي بـه معها مصداقاً للمأمور بـه، فيسقط الأمر المتعلّق بـه.
وبالجملـة: يكون حالـه في هذا الأثر كحال أصالتي الطهارة والحلّ; من حيث كونـه أصلا عمليّاً ووظيفةً في زمان الشكّ، لا أمارة على الواقع، ولا أصلا للتحفّظ عليـه حتّى يأتي فيـه كشف الخلاف، ويدلّ على ذلك صحيحـة زرارة الثانيـة(1) حيث حكم فيها بغسل الثوب وعدم إعادة الصلاة، معلّلا بأنّـه كان على يقين في طهارتـه فشكّ، وليس ينبغي لـه أن ينقض اليقين بالشكّ.
وكذا الحال فيما إذا كان المستند حديث الرفع، فإنّ قولـه: «رفع ما لايعلمون»(2) ـ بناءً على شمولـه للشبهات الحكميّـة والموضوعيّـة ـ لسانـه رفع الحكم والموضوع باعتبار الحكم، لكن لابدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر حتّى بالنسبـة إلى الشبهات الموضوعيـة، لأنّ لازمـه طهارة ما شكّ في نجاستـه
1 ـ تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعـة 3: 466، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب37، الحديث1.
2 ـ الخصال: 417 / 9، التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب56، الحديث1.
(الصفحة491)
موضوعاً واقعاً، ولا يمكن الالتزام بطهارة ملاقيـه في زمان الشكّ بعد كشف الخلاف، فلابدّ من الحمل على البناء العملي على الرفع وترتيب آثار الرفع الواقعي، فإذا شكّ في جزئيـة شيء في الصلاة أو شرطيّتـه لها أو مانعيّتـه فحديث الرفع يدلّ على رفع الجزئيّـة والشرطيّـة والمانعيّـة، فحيث لا يمكن الالتزام بالرفع الحقيقي لا مانع من الالتزام بالرفع الظاهري، نظير الوضع الظاهري في أصالتي الطهارة والحلّيـة، فيرجع إلى معاملـة الرفع في الظاهر وجواز إتيان المأمور بـه كذلك، وصيرورة المأتي بـه مصداقاً للمأمور بـه بواسطـة حكومـة دليل الرفع على أدلّـة الأحكام.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ التحقيق هو التفصيل بين الأمارات والاُصول كما عليـه المحقّق الخراساني (رحمه الله)(1).
هذا كلّـه بحسب مقام الإثبات وظهور الأدلّـة، وأمّا بحسب مقام الثبوت فلابدّ من توجيهـه بوجـه لا يرجع إلى التصويب الباطل.
ثمّ إنّـه ظهر ممّا ذكرنا أنّ القائل بالإجزاء لا يلتزم بالتصرّف في أحكام المحرّمات والنجاسات، ولا يقول بحكومـة أدلّـة الاُصول على أدلّـة الأحكام الواقعيّـة التي هي في طولها، وليس محطّ البحث في باب الإجزاء بأدلّـة اُصول الطهارة والحلّيـة والاستصحاب هو التضيـيق أو التوسعـة في أدلّـة النجاسات والمحرّمات حتّى يقال: إنّ الأمارات والاُصول وقعت في رتبـة إحراز الأحكام الواقعيّـة، والحكومـة فيها غير الحكومـة بين الأدلّـة الواقعيّـة بعضها مع بعض، وإنّ لازم ذلك هو الحكم بطهارة ملاقي النجس الواقعي إذا لاقى في زمان الشكّ...
1 ـ كفايـة الاُصول: 110.
(الصفحة492)
وغير ذلك ممّا وقع من بعض الأعاظم على ما في تقريرات بحثـه(1)، بل محطّ البحث هو أنّ أدلّـة الاُصول الثلاثـة هل تدلّ بحكومتها على أدلّـة الأحكام على تقحّق مصداق المأمور بـه تعبّداً حتّى يقال بالإجزاء أم لا؟
هذا مع بقاء النجاسات والمحرّمات على ما هي عليها من غير تصرّف في أدلّتها، فالشكّ في الطهاره والحلّيـة بحسب الشبهـة الحكميّـة إنّما هو في طول جعل النجاسات والمحرّمات، لا في طول جعل الصلاة مشروطةً بطهارة ثوب المصلّي وبكونـه من المأكول، والخلط بين المقامين أوقعـه فيما أوقعـه، وفي كلامـه محالّ أنظار تركناها مخافـة التطويل.
ثمّ إنّ هذا كلّـه حال المجتهد بالنسبـة إلى تكاليف نفسـه.
تكليف المقلّد مع تبدّل رأي مجتهده
وأمّا تكاليف مقلّديـه فهل هو كالمجتهد في التفصيل بين كون رأي المقلّد مستنداً إلى الأمارات، وبين كونـه مستنداً إلى الاُصول، بأن يقال: إنّ المجتهد يعيّن وظائف العباد مطلقاً واقعاً وظاهراً، فكما أنّ في وظائفـه الظاهريّـة تحكم بالإجزاء بواسطـة أدلّـة الاُصول وحكومتها على الأدلّـة، فكذا في تكاليف مقلّديـه طابق النعل بالنعل أو لا؟ بأن يقال: إنّ المقلّد مستنده في الأحكام مطلقاً هو رأي المجتهد، وهو أمارة إلى تكاليفـه بحسب ارتكازه العقلائي، والشرع أيضاً أمضى هذا الارتكاز والبناء العملي العقلائي، وليس مستند المقلّدين في العمل هو
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 249 ـ 251.
(الصفحة493)
أصالـة الطهارة أو الحلّيـة أو الاستصحاب أو حديث الرفع في الشبهات الحكميّـة التي هي مورد بحثنا هاهنا; لأنّ العامّي لا يكون مورداً لجريان الاُصول الحكميّـة، فإنّ موضوعها الشكّ بعد الفحص واليأس من الأدلّـة الاجتهاديّـة، والعامّي لا يكون كذلك، فلا يجري في حقّـه الاُصول حتّى تحرز مصداق المأمور بـه، ومجرّد كون مستند المجتهد هو الاُصول ومقتضاها الإجزاء، لا يوجب الإجزاء بالنسبـة إلى من لم يكن مستنده إيّاها; فإنّ المقلّد ليس مستنده في العمل هي الاُصول الحكميّـة، بل مستنده الأمارة ـ وهي رأي المجتهد ـ على حكم اللّه تعالى، فإذا تبدّل رأيـه فلا دليل على الإجزاء.
أمّا دليل وجوب اتّباع المجتهد، فلأنّـه ليس إلاّ بناء العقلاء الممضى، كما يظهر للناظر في الأدلّـة، وإنّما يعمل العقلاء على رأيـه لإلغاء احتمال الخلاف، وإمضاء الشارع لذلك لا يوجب الإجزاء كما تقدّم(1).
وأمّا أدلّـة الاُصول فهي ليست مستنده ولا هو مورد جريانها، لعدم كونـه شاكّاً بعد الفحص واليأس عن الأدلّـة، فلا وجـه للإجزاء، وهذا هو الأقوى.
فإن قلت: إذا لم يكن المقلّد موضوعاً للأصل ولا يجري في حقّـه، فلم يجوز للمجتهد أن يفتي مستنداً إلى الأصـل بالنسبـة إلى مقلّديـه، مـع أنّ أدلّـة الاُصول لا تجري إلاّ للشاكّ بعد الفحص واليأس وهو المجتهد فقط لا المقلّد؟! ولو قيل: إنّ المجتهد نائب عـن مقلّديـه، فمـع أنّـه لا محصّل لـه، لازمـه الإجزاء.
1 ـ تقدّم في الصفحـة 486 ـ 487.
(الصفحة494)
قلت: قد ذكرنا سابقاً(1) أنّ المجتهد إذا كان عالماً بثبوت الحكم الكلّي المشترك بين العباد ثمّ شكّ في نسخـه مثلا يصير شاكّاً في ثبوت هذا الحكم بينهم، فيجوز لـه الإفتاء بـه كما لـه العمل بـه، فكما أنّ الأمارة إذا قامت على حكم مشترك كلّي يجوز لـه الإفتاء بمقتضاها، كذلك إذا كان مقتضى الاستصحاب فلـه العمل بـه والفتوى بمقتضاه، فإذا أفتى يعمل المقلّدين على طبق فتواه، لبناء العقلاء على رجوع الجاهل بالعالم.
فتحصّل من ذلك: أنّ المجتهد لـه الإفتاء بمقتضى الاُصول الحكميّـة، ومقتضى القاعدة هو الإجزاء بالنسبـة إليـه دون مقلّديـه، لاستناده إلى الاُصول المقتضيـة للإجزاء واستنادهم إلى رأيـه الغير المقتضي لذلك.
1 ـ تقدّم في الصفحـة 479.
(الصفحة495)
فصل
في أنّ تخيير العامّي في الرجوع
إلى مجتهدين متساويين بدوي أو استمراري
بعد البناء على تخيـير العامّي في الرجوع إلى مجتهدين متساويـين هل يجوز لـه العدول بعد تقليد أحدهما؟
اختار شيخنا العلاّمـة التفصيل بين العدول في شخص واقعـة بعد الأخذ والعمل فيـه، كما لو صلّى بلا سورة بفتوى أحدهما، فأراد تكرار الصلاة مع السورة بفتوى الآخر، وبين العدول في الوقائع المستقبلـة التي لم تعمل، أو العدول قبل العمل بعد الالتزام والأخذ، فذهب إلى عدم الجواز مطلقاً في الأوّل، وعدم الجواز في الأخيرين إن قلنا بأنّ التقليد هو الالتزام والأخذ، والجواز إن قلنا بأنّـه نفس العمل مستنداً إلى الفتوى.
ووجّهـه في الأوّل بأنّـه لا مجال لـه للعدول بعد العمل بالواجب المخيّر، لعدم إمكان تكرار صرف الوجود وامتناع تحصيل الحاصل، وليس كلّ زمان قيداً للأخذ بالفتوى، حتّى يقال: إنّـه ليس باعتبار الزمان المتأخّر تحصيلا للحاصل، بل الأخذ بالمضمون أمر واحد ممتدّ يكون الزمان ظرفاً لـه بحسب الأدلّـة.
(الصفحة496)
نعم يمكن إفادة التخيـير في الأزمنـة المتأخّرة بدليل آخر يفيد التخيـير في الاستدامـة على العمل الموجود ورفع اليد عنـه والأخذ بالآخر، وإذ هو ليس فليس. وإفادتـه بأدلّـة التخيـير في إحداث الأخذ بهذا أو ذاك ممتنع، للزوم الجمع بين لحاظين متنافيـين، نظير الجمع بين الاستصحاب والقاعدة بدليل واحد. ولا يجري الاستصحاب; لأنّ التخيـير بين الإحداثين غير ممكن الجرّ إلى الزمان الثاني، وبالنحو الثاني لا حالـة سابقـة لـه، والاستصحاب التعليقي لفتوى الآخر غير جار; لأنّ الحجّيـة المبهمـة السابقـة صارت معيّنـة في المأخوذ، وزالت قطعاً، كالملكيّـة المشاعـة إذا صارت مفروزة. ووجـه الأخيرين بهذا البيان بعينـه إن قلنا: إنّ المأمور بـه في مثل قولـه: «فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا»(1) وغيره هو العمل الجوانحي، أي الالتزام والبناء العقلي، وإن قلنا: بأنّـه العمل، فلا إشكال في بقاء الأمر التخيـيري في كلا القسمين بلا محذور، ومع فقد الإطلاق لا مانع من الاستصحاب(2)، انتهى ملخّصاً من تقرير بحثـه.
أقول: ما يمكن البحث عنـه في الصورة الاُولى هو جواز تكرار العمل بعد الإتيان بـه مطابقاً لفتوى الأوّل، وأمّا البحث عن بقاء التخيـير وكذا جواز العدول بعنوانهما، فأمر غير صحيح; ضرورة أنّ التخيـير بين الإتيان بما أتى بـه والعمل بقول الآخـر ممّا لا معنى لـه، وطرح العمل الأوّل وإعدامـه غير معقول بعد
1 ـ كمال الدين: 484 / 4، وسائل الشيعـة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث9.
2 ـ درر الفوائـد، المحقّـق الحائـري: 716 ـ 717، كتـاب البيع، المحقّق الأراكـي2: 471 ـ 475.
(الصفحة497)
الوجود حتّى يتحقّق ثانياً موضوع التخيـير، وكذا لا يعقل العدول بحقيقتـه بعد العمل، فلابدّ وأن يكون البحث ممحّضاً في جواز العمل بقول الثاني بعد العمل بقول الأوّل.
قد يقال بعدم الجواز; لأنّ الإتيان بأحد شقّي الواجب التخيـيري موجب لسقوط التكليف جزماً، فالإتيان بعده بداعويّـة الأمر الأوّل، أو باحتمال داعويّتـه، أو بداعويّـة المحتمل، غير معقول، ومع العلم بالسقوط لا معنى لإجراء الاستصحاب، لا استصحاب الواجب التخيـيري، وهو واضح، ولا جواز العمل على طبق الثاني، لفرض عدم احتمال أمر آخر غير التخيـيري الساقط، وكان الظاهر من تقريرات بحث شيخنا ذلك.
وفيـه: إنّ ذلك ناش من الخلط بين التخيـير في المسألـة الفرعيّـة والمسألـة الاُصوليّـة فإنّ ما ذكر وجيـه في الأوّل دون الثاني، لأنّ الأمر التخيـيري في الثاني لا نفسيّـة لـه، بل لتحصيل الواقع بحسب الإمكان بعد عدم الإلزام بالاحتياط، فمع الإتيان بأحد شقّي التخيـير فيـه، يبقى للعمل بالآخر مجال واسع وإن لم يكن المكلّف ملزماً بـه، تخفيفاً عليـه.
نعم لو قلنا بحرمـة الاحتياط أو بالإجزاء في باب الطرق ولو مع عدم المطابقـة، لكان الوجـه ما ذكر، لكنّهما خلاف التحقيق.
وبهـذا يظهر: أنّ استصحاب جـواز الإتيان بمـا لم يأت بـه، لا مانـع منـه لـو شكّ فيـه.
نعم لا يجري الاستصحاب التعليقي; لأنّ التعليق ليس بشرعي.
وأمّا الصورتان الأخيرتان بناءً على كون التقليد الالتزام والعقد القلبي، فقياسهما على الصورة الاُولى مع الفارق، لإمكان إبطال الموضوع وإعدامـه
(الصفحة498)
بالرجوع عن الالتزام وعقد القلب، فصار حينئذ موضوعاً للأمر بإحداث الأخذ بأحدهما من غير ورود الإشكال المتقدّم ـ من لزوم الجمع بين اللحاظين ـ عليـه، وليس الكلام هاهنا في إطلاق الدليل وإهمالـه، بل في إمكانـه بعد الفراغ عن فرض الإطلاق.
وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما أفاده (رحمه الله) من أنّ الالتزام وعقد القلب أمر وجداني ممتدّ، إذا حصل في زمان لا يعقل حدوثـه ثانياً، غير وجيـه; لأنّ الالتزام بعد انعدام الالتزام الأوّل إحداث لا إبقاء، لامتناع إعادة المعدوم.
هذا مع قطع النظر عن حال الأدلّـة إثباتاً، وإلاّ فقد مرّ(1) أنّـه لا دليل لفظي في باب التقليد يمكن الاتّكال عليـه فضلا عن الإطلاق بالنسبـة إلى حال التعارض بين فتويـين، وإنّما قلنا بالتخيـير للشهرة والإجماع المنقولين وهما معتبران في مثل تلك المسألـة المخالفـة للقواعد، والمتيقّن منهما هو التخيـير الابتدائي; أي التخيـير قبل الالتزام.
والتحقيق: عدم جريان استصحاب التخيـير ولا الجواز، لاختلاف التخيـير الابتدائي والاستمراري موضوعاً وجعلا، فلا يجري استصحاب شخص الحكم، وكذا استصحاب الكلّي، لفقدان الأركان في الأوّل، ولكون الجامع أمراً انتزاعيّاً لا حكماً شرعياً ولا موضوعاً ذا أثر شرعي، وترتيب أثر المصداق على استصحاب الجامع مثبت، ولا فرق في ذلك بين استصحاب جامع التخيـيرين أو جامع الجوازين الآتيـين من قبلهما.
1 ـ تقدّم في الصفحـة 469.
(الصفحة499)
فصل
في اختلاف الحي والميّت في مسألة البقاء
إذا قلّد مجتهداً كان يقول بوجوب الرجوع إلى الحي فمات، فإن غفل المقلّد عن الواقعـة ولوازمها ورجع عنـه بتوهّم جواز تقليده في الرجوع فلا كلام إلاّ في صحّـة أعمالـه وعدمها. وإن تذكّر بعدم جواز تقليده في ذلك، فإنّـه أيضاً تقليد للميّت، أو تحيّر ورجع إلى الحي في هذه المسألـة وكان هو قائلا بوجوب البقاء، فمع تقليده من الحي فيها يجب عليـه البقاء في سائر المسائل.
وأمّا في هذه المسألـة الاُصوليـة، فلا يجوز لـه البقاء; لأنّـه قلّد فيها الحي ولا تحيّر لـه فيها حتّى قلّد عن الميّت، ولا يجوز للمفتي الحي الإفتاء بالبقاء فيها; لكون الميّت على خطأ عنده، فلا يشكّ حتّى يجري الاستصحاب.
وكذا لا يجوز لـه إجراء الاستصحاب للمقلّد، لكونـه غير شاكّ فيها، لقيام الأمارة لديـه، وهي فتوى الحي، بل لا يجري بالنسبـة إليـه ولو مع قطع النظر عن فتوى الحي، لأنّ المجتهد في الشبهات الحكميّـة يكون مشخصاً لمجاري الاُصول، وأمّا الأحكام ـ اُصوليّةً أو فرعيّة ـ فلا اختصاص لها بالمجتهد، بل هي مشتركـة بين العالم والجاهل، فحينئذ لو رأى خطأ الميّت وقيام الدليل على
(الصفحة500)
خلافـه فلا محالـة يرى عدم جريان الاستصحاب، لاختلال أركانـه، وهو أمر مشترك بينـه وبين جميع المكلّفين.
وبما ذكرناه تظهر مسألـة اُخرى، وهي أنّـه: لو قلّد مجتهداً في الفروع، فمات، فقلّد مجتهداً يرى وجوب الرجوع فرجع إليـه فمات، فقلّد مجتهداً يرى وجوب البقاء يجب عليـه الرجوع إلى فتوى المجتهد الأوّل، لقيام الأمارة الفعليّـة على بطلان فتوى الثاني بالرجوع، فيرى أنّ رجوعـه عن الميّت الأوّل كان باطلا، فالميزان على الحجّـة الفعليّـة; وهي فتوى الحي.
والقول بجواز البقاء على رأي الثاني برأي الثالث غير صحيح; لأنّ الثالث يرى بطلان رأي الثاني في المسألـة الاُصوليّـة، وعدم صحّـة رجوع المقلّد عن تقليد الأوّل، فقامت عند المقلّد فعلا أمارة على بطلانـه، فلا معنى لبقائـه فيها.
وأمّا شيخنا العلاّمـة أعلى اللّه مقامـه ـ بعد نقل كلام شيخنا الأعظم (قدس سره)
من كون المقام إشكالا وجواباً نظير ما قيل في شمول أدلّـة حجّيـة خبر الثقـة لخبر السيّد بعدم حجّيتـه، وأجاب عنـه بمثل ما أجاب في ذلك المقام، وبعد بيان الفرق بين المقامين بأنّـه لم يلزم في المقام التخصيص المستهجن واللغز والمعمّا; لعدم عموم صادر عن المعصوم فيـه ـ قال ما ملخّصـه:
المحقّق في المقام فتوى: أنّـه لا يمكن الأخذ بكليهما، لأنّ المجتهد بعدما نزّل نفسـه منزلـة المقلّد في كونـه شاكّاً رأى هنا طائفتين من الأحكام ثابتـتين للمقلّد، إحداهما: فتوى الميّت في الفروع، وثانيتهما: الفتوى في الاُصول الناظرة إلى الفتاوى في الفروع والمسقطـة لها عن الحجّيـة، فيرى أركان الاستصحاب فيهما تامّـة.
ثمّ قال: لا محيص من الأخذ بالفتوى الاُصوليّـة، فإنّـه لو اُريد في
(الصفحة501)
الفرعيّـة استصحاب الأحكام الواقعيّـة فالشكّ في اللاحق موجود دون اليقين السابق; أمّا الوجداني فواضح، وأمّا التعبّدي فلارتفاعـه بموت المفتي، فصار كالشكّ الساري، وإن اُريد استصحاب الحكم الظاهري الجائي من قبل دليل اتّباع الميّت، فإن اُريد استصحابـه مقيّداً بفتوى الميّت فالاستصحاب في الاُصوليّـة حاكم عليـه، لأنّ الشكّ في الفروعيّـة مسبّب عن الشكّ فيها، وإن اُريد استصحاب ذات الحكم الظاهري وجعل كونـه مقول قول الميّت جهـة تعليليـة فاحتمال ثبوتـه إمّا بسبب سابق، فقد سدّ بابـه الاستصحاب الحاكم، أو بسبب لاحق فهو مقطوع العدم، إذ مفروض الكلام صورة مخالفـة فتوى الميّت للحي.
نعم، يحتمل بقاء الحكم الواقعي، لكن لا يكفي ذلك في الاستصحاب، لأنّـه مع الحكم الظاهري في رتبتين وموضوعين، فلا يكون أحدهما بقاءً للآخر، لكن يجري استصحاب الكلّي بناءً على جريانـه في القسم الثالث.
وإن اُريد استصحاب حجّيـة فتاوى الفرعيّـة فاستصحاب الحجّيـة في الاُصوليّـة حاكم عليـه، لأنّ شكّـه مسبّب عنـه، لأنّ عدم حجّيـة تلك الفتاوى أثر لحجّيـة هذه، وليس الأصل مثبتاً، لأنّ هذا من الآثار الثابتـة لذات الحجّـة الأعمّ من الظاهريّـة والواقعيّـة.
ثمّ رجع عمّا تقدّم واختار عدم جريان الاستصحاب في الاُصوليّـة، فإنّ مقتضى جريانـه الأخذ بخلاف مدلولـه، ومثلـه غير مشمول لأدلّـة الاستصحاب، فإنّ مقتضى الأخذ باستصحاب هذا الفتوى، سقوط فتاويـه عن الحجّيـة، ومقتضى سقوطها الرجوع إلى الحي، وهو يفتي بوجوب البقاء، فالأخذ بالاستصحاب في الاُصوليّـة ـ التي مفادها عدم الأخذ بفتاويـه في الفرعيّات ـ لازمـه الأخذ في الفرعيّات بها.
(الصفحة502)
وهذا باطل، وإن كان اللزوم لأجل الرجوع إلى الحي لا لكون مفاد الاستصحاب ذلك; إذ لا فرق في الفساد بين الاحتمالين.
هذا مضافاً إلى أنّ المسؤول عنـه في الفرعيّات المسألـة الاُصوليـة; أعني من المرجع فيها، فلاينافي مخالفـة الحي للميّت في نفس الفروع مع إفتائـه بالبقاء في المسألـة الاُصوليّـة، وأمّا الفتوى الاُصوليّـة فنفسها مسؤول عنها ويكون الحي هو المرجع فيها، وفي هذه المسألـة لا معنى للاستصحاب بعد أن يرى الحي خطأ الميّت، فلا حالـة سابقـة حتّى تستصحب(1)، انتهى.
وفيـه محالّ للنظر:
منها: أنّ الاستصحاب في الأحكام الواقعيـة في المقام لا يجري ولو فرض وجود اليقين السابق، لعدم الشكّ في البقاء، فإنّ الشكّ فيـه إمّا ناش من احتمال النسخ أو احتمال فقدان شرط أو وجدان مانع، والكلّ مفقود. بل الشكّ فيـه ممحّض في حجّيـة الفتوى وجواز العمل بها، وإنّما يتصوّر الشكّ في البقاء إذا قلنا بالسببيّـة والتصويب.
ومنها: أنّ حكومـة الأصل في المسألـة الاُصوليّـة عليـه في الفرعيّـة ممنوعـة; لأنّ المجتهد إذا قام مقام المقلّد ـ كما هو مفروض الكلام ـ يكون شكّـه في جواز العمل على فتاوى الميّت في الاُصول والفروع، ناشئاً من الشكّ في اعتبار الحياة في المفتي، وجواز العمل في كلّ من الطائفتين مضادّ للآخر ومقتضى جواز كلٍّ، عدم جواز الآخر.
ولو قيل: إنّ مقتضى إرجاع الحي إيّاه إلى الميّت سببيّة شكّه في الاُصوليّـة.
1 ـ كتاب البيع، المحقّق الأراكي 2: 488 ـ 493.
(الصفحة503)
قلنا: هذا خلاف المفروض، وإلاّ فلا يبقى مجال للشكّ لـه في هذه المسألـة، ففرض الشكّ فيما لم يقلد عن الحي فيها.
هذا مضافاً إلى أنّ مطلق كون الشكّ مسبّباً عن الآخر، لا يوجب التحكيم، كما قرّرنا في محلّـه(1) مستقصى، وملخّصـه: أنّ وجـه تقدّم الأصل السببي أنّ الأصل في السبب منقّح لموضوع دليل اجتهادي ينطبق عليـه بعد التنقيح، والدليل الاجتهادي بلسانـه حاكم على الأصل المسبّبي، فإذا شكّ في طهارة ثوب غسل بماء شكّ في كرّيتـه فاستصحاب الكرّيـة ينقّح موضوع الدليل الاجتهادي الدالّ على أنّ ما غسل بالكرّ يطهر، وهو حاكم على الأصل المسبّبي بلسانـه.
وإن شئت قلت: إنّـه لا مناقضـة بين الأصل السببي والمسبّبي، لأنّ موضوعهما مختلفان، والمناقض للأصل المسبّبي إنّما هو الدليل الاجتهادي بعد تنقيح موضوعـه حيث دلّ بضمّ الوجدان وتطبيقـه على الخارج «أنّ هذا الثوب المغسول بهذا الماء طاهر» والاستصحاب في المسبّبي مفاده «أنّ هذا الثوب المشكوك في نجاستـه وطهارتـه نجس» ومعلوم أنّ لسان الأوّل حاكم على الثاني.
وتوهّم: أنّ مقتضى الأصل السببي هو ترتيب جميع آثار الكرّيـة على الماء، ومنها ترتيب آثار طهارة الثوب.
مدفوع أوّلا: بأنّ مفاد الاستصحاب ليس إلاّ عدم نقض اليقين بالشكّ، فإذا شكّ في كرّيـة ماء كان كرّاً لا يكون مقتضى دليل الاستصحاب إلاّ التعبّد بكون الماء كرّاً، وأمّا لزوم ترتيب الآثار فبدليل آخر وهو الدليل الاجتهادي.
1 ـ الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 243 ـ 246.
(الصفحة504)
والشاهد عليـه ـ مضافاً إلى ظهور أدلّتـه ـ أنّ لسان أدلّتـه في استصحاب الأحكام والموضوعات واحد، فكما أنّ استصحاب الأحكام ليس إلاّ البناء على تحقّقها لا ترتيب الآثار، فكذلك استصحاب الموضوعات. نعم لابدّ في استصحابها من دليل اجتهادي ينقّح موضوعـه بالاستصحاب.
وثانياً: بأنّ لازم ذلك عدم تقدّم السببي على المسبّبي، فإنّ قولـه: «كلّما شككت في بقاء الكرّ فابنِ على طهارة الثوب المغسول بـه» لا يقدّم على قولـه: «إذا شككت في طهارة الثوب الكذائي فابنِ على نجاستـه» ولا يراد باستصحاب نجاسـة الثوب سلب الكرّيـة، حتّى يقال: إنّ استصحاب النجاسـة لا يسلبها إلاّ بالأصل المثبت، بل يراد إبقاء النجاسـة في الثوب فقط، ولا يضرّ في مقام الحكم الظاهري التفكيك بين الآثار، فيحكم ببقاء كرّيـة الماء وبقاء نجاسـة الثوب المغسول بـه.
إذا عرفت ذلك اتّضح لك عدم تقدّم الأصل في المسألـة الاُصوليّـة على الفرعيـة، لعدم دليل اجتهادي موجب للتحكيم، ومجرّد كون مفاد المستصحب في الاُصوليّـة «أنّـه لا يجوز العمل بفتاواي عند الشكّ» لا يوجب التقدّم على ما كان مفاده «يجوز العمل بفتاواي الفرعيـة لدى الشكّ» فإنّ كلاّ منهما يدفع الآخر وينافيـه.
وممّا ذكرناه يظهر النظر في ما أفاده من حكومـة استصحاب حجّيـة الفتوى في المسألـة الاُصوليّـة على استصحاب حجّيتها في المسائل الفرعيّـة، فإنّ البيان والإيراد فيهما واحد لدى التأمّل. هذا مضافاً إلى ما تقدّم(1) من عدم جريان
1 ـ تقدّم في الصفحـة 478.
(الصفحة505)
استصحاب الحجّيـة; لا العقلائيّـة منها ولا الشرعيّـة.
ومنها: أنّ ما أفاده من تقديم الأصل في الفتوى الاُصوليّـة ولو اُريد استصحاب الحكم الظاهري بجهـة تعليليّـة، غير وجيـه وإن قلنا بتقديم الأصل السببي في الفرض المتقدّم على الأصل المسبّبي; لأنّ نفي المعلول باستصحاب نفي العلّـة مثبت وإن كانت العلّـة شرعيّـة، فإنّ ترتّب المسبّب على السبب عقلي ولو كان السبب شرعيّاً.
نعم لو ورد دليل على «أنّـه إذا وجد ذا وجد ذاك» لا يكون الأصل مثبتاً، كقولـه: «إذا غلى العصير أو نشّ حرم» وهو في المقام مفقود.
ومنها: أنّ بنائـه على جريان استصحاب الكلّي الجامع بين الحكم الظاهري والواقعي غير وجيـه:
أمّا أوّلا: فلما مرّ من عدم الشكّ في بقاء الحكم الواقعي.
وثانياً: أنّـه بعـد فرض حكومـة الأصل السببي على المسبّبي يسقط الحكم الظاهري، وبسقوطـه لا دليل فعلا على ثبوت الحكم الواقعي، لسرايـة الشكّ إلى السابق كما مرّ منـه (قدس سره)
فلا يقين فعلا على الجامع بينهما، فاستصحاب الكلّي إنّما يجري إذا علم بالجامع فعلا وشكّ في بقائـه، وهـو غير نظير المقام الذي بانعدام أحد الفردين ينعدم الآخر مـن الأوّل، إذ ينعدم الدليل على ثبوتـه مـن الأوّل، هذا مع الغضّ عن الإشكال في استصحاب الجامع في الأحكام كما مرّ منّا كراراً.
ومنها: أنّ إنكـاره جريـان الاستصحاب فـي المسألـة الاُصوليّـة، معلّلا بأنّـه يلزم من جريانـه الأخذ بخلاف مفاده، ومثلـه غير مشمول لأدلّتـه، غير وجيـه; لأنّ مفاد الاستصحاب هو سقوط حجّيـة الفتاوى الفرعيّـة، وهو غير
(الصفحة506)
اعتبار فتاواه ولا لازمـه ذلك ولا الأخذ بفتوى الحي، لإمكان العمل بالاحتياط بعد سقوطها عن الحجّيـة.
وبالجملـة: سقوط الفتاوى عن الحجّيـة أمر جاء من قبل الاستصحاب، والرجوع إلى الحي أمر آخر غير مربوط بـه وإن كان لازم الرجوع إليـه البقاء على قول الميّت. والعجب أنّـه (قدس سره)
تنبّـه على هذا الإشكال ولم يأت بجواب مقنع.
ولو ادّعى انصراف أدلّـة الاستصحاب من مثل المقام لكان انصرافها عن الأصل السببي وعـن الأصليـن المتعـارضين أولى، لأنّ إجـراء الاستصحـاب للسقوط أسوء حـالا من إجرائـه في مـورد كـان المكلّف ملـزماً بالأخـذ بدليل آخـر مقابـل لـه فـي المفاد. والحـلّ في الكـلّ أنّـه لا فـرق بين ورود دليل لخصوص مورد من تلك الموارد وبين ما شملها بإطلاقـه، والإشكال متّجـه فيها على الأوّل لا الثاني.
ومنها: أنّ ما ذكره أخيراً في وجـه عدم جريان الاستصحاب في المسألـة الاُصوليّـة من أنّ المفتي الحي كان يرى خطأ الميّت، إنّما يصحّ لو كان المفتي أراد إجراء الاستصحاب لنفسـه، وقد فرض في صدر المبحث أنّـه نزّل نفسـه منزلـة العامّي في الشكّ في الواقعـة، والتحقيق هـو مـا عرفت مـن عـدم جريان الأصل ـ لا بالنسبـة إلى المفتي ولا بالنسبـة إلى العامّي ـ في المسألـة الاُصوليّـة.
|
|