صفحه 136
المهمّة ، والغرض المقصود ، ورفع اليد عنه ، والبذل للناس ، كما أنّه على تقدير كون المراد به هو رفع اليدين إلى النحر في تكبير الصلاة ، أو استقبال القبلة بالنحر تكون المناسبة وصحّة التفرّع واضحة أيضاً .
وأ مّا قوله : «لا تعتمد قول ساحر» فيرد عليه ـ مضافاً إلى عدم ارتباط معناه بالجملتين الاُوليين ، بخلاف قوله ـ تعالى ـ في الكتاب العزيز : ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاَْبْتَرُ) (1); فإنّ ارتباطه مع الخير الكثير الذي من أعظم مصاديقه الصدِّيقة الكبرى سلام الله عليها ، التي منها تكثّر ذرّيّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتبقى ما بقي الدهر . وأ مّا هذا القول السخيف ، فعدم ارتباطه واضح: أ نّ المراد من «قول ساحر» ومن لفظ «ساحر» هل هو قول مخصوص من أقواله ، أو ساحر معيّن من السّحرة ، أو جميع أقوال كلّ ساحر مع تقييده بما يرجع إلى جهة سحره لا كلّ أقواله حتّى في الاُمور العادية غير المرتبطة بوصفه العنواني الذي هو السّحر ؟
فلا سبيل إلى الأوّل; لعدم قرينة على التعيين ، لا في ناحية القول ، ولا من جهة القائل .
وأمّا الثاني الذي يساعده وقوع النكرة في سياق النهي ـ وهو يدلّ على العموم كوقوعها في سياق النفي(2) ـ فلا مجال له أيضاً ; لأ نّ الساحر من حيث هو ساحر لا قول له ولا كلام ، وإنّما يسحر بأعماله وأفعاله ، فلا معنى للنهي عن الاعتماد على قوله ، كما هو غير خفيّ .
وأمّا معارضة سورة الفاتحة بمثل ما ذكر ، فيرد عليها ـ مضافاً إلى ما عرفت من بعدها عن حقيقة المعارضة ومعناها بمراحل غير عديدة ـ : أ نّه لابدّ من ملاحظة كلّ جملة منها مع آيات الفاتحة وجملها الشريفة .
(1) سورة الكوثر 108 : 3 . (2) اُنظر كتب علم الاُصول ، منها كفاية الاُصول : 217 .
صفحه 137
فنقول : أ مّا تبديل قوله ـ تعالى ـ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ) بقوله : «الحمد للرحمن» فمن الواضح أ نّه يوجب تفويت المعنى المقصود ; فإنّ لفظ الجلالة علم للذات المقدّسة الجامعة لجميع الصفات الكماليّة ; من دون فرق بين القول بكونه موضوعاً لمعنى عامّ ينحصر مصداقه في فرد خاصّ ، وبين القول بكونه علماً لشخص البارئ جلّ جلاله; ضرورة أ نّه على القول الأوّل يكون ذلك المعنى العامّ عبارة عن الذات المستجمعة لجميع تلك الصفات ، كما أ نّه على القول الثاني تكون تسميته بهذه اللفظة الجميلة إنّما هي باعتبار وصف الاستجماع ، وأين هذا من «الرحمن» الذي هي صفة واحدة من الصفات الكماليّة غير العديدة؟ فالغرض من هذه الجملة الكريمة من القرآن اختصاص الحمد بمن كان جامعاً لجميع الصفات الكماليّة ، فكيف يصحّ التبديل بكلمة «الرحمن» مدّعياً كونه وافياً بذلك الغرض ، ومفيداً فائدته كما هو غير خفيّ ؟
وأ مّا تبديل قوله ـ تعالى ـ : ( رَبِّ الْعَــلَمِينَ* الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ) بقوله : «ربّ الأكوان» فيرد عليه ـ مضافاً إلى عدم صحّة إضافة كلمة «الربّ» إلى الأكوان التي هي جمع الكون بالمعنى المصدري; من دون فرق بين أن يكون معناه الحدوث ، أو الوقوع ، أو الصيرورة ، أو الكفالة ، كما حكي عن بعض كتب اللغة المفصّلة(1); فإنّ معنى الربّ هو المالك المربّي ، ولا معنى لإضافته إلى المعنى المصدري ـ : أنّ هذا التبديل صار موجباً لتفويت الغرض ; فإنّ توصيف الله ـ تعالى ـ بكونه ربّ العالمين الرحمن الرحيم يدلّ على أنّه المالك المربّي لجميع العوالم ، وأ نّ رحمته الواسعة شاملة لها بأجمعها ، رحمة مستمرّة غير منقطعة ، وأين هذا من توصيفه بأنّه ربّ الأكوان ؟!
وكذلك تبديل قوله ـ تعالى ـ : ( مَــلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) بقول هذا القائل الذي
(1) لسان العرب: 5 / 455 ، الصحاح: 2 / 1601 .
صفحه 138
أغواه الشيطان : «الملك الديّان» .
فالجواب عنه : أ نّ قوله ـ تعالى ـ يكون المعنى المقصود منه أ نّ هنا يوماً يسمّى يوم الجزاء ، وعالماً استعدّ لمكافأة الأعمال ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ ، وأ نّ مالك ذلك اليوم والمتصرّف النافذ فيه هو الله ـ تبارك وتعالى ـ وأين هذا من قول هذا القائل ; لعدم دلالته على وجود ذلك اليوم المعدّ للجزاء والمكافأة ؟!
وكذلك تغيير قوله ـ تعالى ـ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بقوله : «لك العبادة وبك المستعان» يوجب فوات المعنى المقصود منه الراجع إلى إظهار المؤمن التوحيد في العبادة ، والافتقار إلى الاستعانة بالله فقط ، وأ نّه لا يخضع لغير الله ، ولا يعبد إلاّ إيّاه ، ولا يستعين إلاّ به ، ففي الحقيقة مرجعه إلى بيان وصف المؤمن ، وأ نّه في مقام العبادة والاستعانة لا يرى ما سوى الله مستأهلاً لذلك ، صالحاً لأن يعبد أو يستعان به ، وأين هذا المعنى اللطيف الراجع إلى التوحيد في مقام العبادة والاستعانة ـ سيّما مع ملاحظة ابتلاء عرب الجاهليّة في ذلك العصر بالشرك في مقام العبادة والاستعانة ، وخضوعهم في مقابل الأوثان وطلب الإعانة منهم ، واعتقادهم أ نّهم يقرّبونهم إلى الله زلفى ، وأ نّهم الشفعاء عند الله ـ من قول هذا القائل الراجع إلى انحصار العبادة والاستعانة به تعالى ; من دون نظر إلى حال المؤمن ، وإظهاره التوحيد ، وامتيازه عن العرب في ذلك العصر ، كما لا يخفى .
وكذلك إبدال قوله ـ تعالى ـ : ( اهْدِنَا الصِّرَ طَ الْمُسْتَقِيمَ) بقول هذا القائل الجاهل «اهدنا صراط الإيمان» ـ مضافاً إلى عدم كونه موجباً للاختصار إلاّ من ناحية الألف واللام فقط ، ومن المعلوم عدم دخالتهما في معنى الكلمة ـ يستلزم تضييق معنى وسيع ; فإنّ الصراط المستقيم الذي هو أقرب الطرق المتصوّرة إلى المعنى المقصود لا ينحصر بوجه خاصّ ، ولا يختصّ بجانب مخصوص ، بل يعمّ جميع الوجوه والجوانب من العقائد الصحيحة ، والملكات الفاضلة ، والأعمال الحسنة
صفحه 139
المطلوبة ، وأين هذا من التخصيص بصراط الإيمان الذي هو أمر قلبيّ اعتقاديّ ، ولا يشمل غيره أصلاً ، كما لا يخفى .
وقد زعم الكاتب الجاهل ، والأجير العامل ، حيث اقتصر في مقام المعارضة مع سورة الفاتحة على هذه الجمل ، ولم يعقّبها بشيء : أ نّ بقيّة السورة المباركة مستغن عنها لا حاجة إلى إضافتها أصلاً ; لعدم إفادتها شيئاً زائداً على ما هو مفاد الجملات التي ذكرها ، مع أنّها تدلّ على مطلب أساسيّ ; وهو انقسام الناس من جهة الوصول إلى السعادة المطلوبة ، وسلوك الطريق إلى الكمال المعنوي ، إلى أقسام ثلاثة :
قسم : هم الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً (1); وهم الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم ، ووصلوا إلى الغرض الأعلى والغاية القصوى ، وينبغي أن يطلب من الله الهداية إليه ، والدخول في زمرتهم ، وسلوك طريقهم ، والكون معهم .
وقسم : وقع غضب الله عليهم ، وهم الذين أنكروا الحقّ بعد وضوحه ، وعاندوه بعد ظهوره ، ونهضوا لإطفاء نوره ، وقاموا في مقابلته ، وجاهدوا في طريق الباطل .
والقسم الثالث : هم الضالّون الذين ضلّوا عن طريق الهدى ، وانحرفوا عن الصراط المستقيم بجهلهم وتشبّثهم بما لا يتشبّث به العاقل من تقليد الآباء والأجداد ، وغيره من الطرق المنحرفة غير المستقيمة .
ولعلّ اقتصار الكاتب على الجملات التي ذكرها ، وعدم تعرّضه لمعارضة بقيّة السورة كان لأجل وضوح كونه غير القسم الأوّل ، بل من القسم الثاني نعوذ
(1) اقتباس من سورة النساء: 4 / 69 .
صفحه 140
بالله من متابعة الشيطان ، والقيام في مقابل الرحمن ، مع وضوح الحقّ ، وهداية البرهان .
وهنا نختم البحث في إعجاز القرآن ، ونستمدّ منه الخروج من الظلمات إلى النور .
صفحه 141
حول القُرّاء والقراءات
* دعوى تواتر القراءات .
* حجّية القراءات .
* جواز القراءة بها في الصلاة .
صفحه 142
صفحه 143
حول القرّاء والقراءات
والكلام يقع في مقامات :
المقام الأوّل : دعوى تواتر القراءات
نسب إلى المشهور بين علماء أهل السنّة أ نّ القراءات السبع المعروفة بين الناس متواترة (1) ، ومقصودهم ظاهراً هو التواتر عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ; بمعنى أنّه قد ثبت بالتواتر عنه (صلى الله عليه وآله) أ نّه قرأ على وفق هذه القراءات ، وحكي عن بعضهم القول بتواتر القراءات العشر (2) ، بل عن بعضهم أنّ من قال : إنّ القراءات السبع لايلزم فيها التواتر ، فقوله كفر (3) .
والمعروف بين الشيعة الإماميّة أ نّها غير متواترة ، بل هي بين ما هو اجتهاد من
(1) يقول السيوطي: وبالجملة، فالقراءات السبع متواترة عند الجمهور، وقيل: بل مشهورة فيما قال الزركشي: والتحقيق أنّها متواترة عن الأ ئـمّة السبعة ، أمّا تواترها عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ففيه نظر ; فإنّ إسناد الأ ئـمّة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد . . . معترك الأقران في إعجازالقرآن للسيوطي1:121 ـ 122،البرهان في علوم القرآن للزركشي1:318 ـ 319. (2) وهو ما نقل عن السبكي وابن الجزري والنويري ، في مناهل العرفان للزرقاني 1 : 357 . (3) وقد نسب هذا إلى مفتي البلاد الأندلسية أبي سعيد فرج بن لب ، مناهل العرفان للزرقاني 1 : 353 .
صفحه 144
القارئ، وبين ما هو منقول بخبر الواحد ، واختار هذا القول جماعة من المحقّقين من العامّة، ولا يبعد دعوى كونه هو المشهور بينهم (1) ، وسيأتي(2) نقل بعض كلماتهم في هذا المقام .
وقبل الخوض في المقصود لابدّ من تقديم مقدّمة تنفع لغير المقام أيضاً; وهي : أ نّ ثبوت القرآن واتّصاف كلام بكونه كذلك ـ أي قرآناً ـ ينحصر طريقه بالتواتر ، كما أطبق عليه المسلمون بجميع نحلهم المختلفة ومذاهبهم المتفرّقة (3) .
بيان ذلك : أ نّه ربما يمكن أن يتوهّم في بادئ النظر أ نّه ما الفرق بين كلام الله الذي ادّعي عدم ثبوته إلاّ بالتواتر ، وبين كلام المعصوم (عليه السلام) نبيّاً كان أو إماماً ، حيث لاينحصر طريق ثبوته به ، بل يثبت بخبر الواحد الجامع لشرائط الاعتبار والحجّية ، فكما أنّ خبر زرارة وحكايته يثبت صدور القول الدالّ على وجوب صلاة الجمعة مثلاً من الإمام (عليه السلام) ، فما المانع من أن يكون خبر الواحد مثبتاً أيضاً لكلام الله تبارك وتعالى ؟ بل ربما يمكن أن يزاد بأنّ ثبوت القرآنيّة لا طريق له إلاّ قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإخباره بأنّه قرآن وكلام إلهيّ .
وعليه يتوجّه سؤال الفرق بين كلام النبيّ المتضمّن لثبوت حكم من الأحكام الشرعيّة ، وبين إخباره بأنّ الآية الفلانية من القرآن ، فكما أنّه يثبت الأوّل بخبر الواحد، كذلك لا مجال للمناقشة في ثبوت الثاني به أيضاً ، وعدم انحصاره بالتواتر ، هذا غاية ما يمكن أن يتوهّم في المقام .
ويدفعه ما عرفت من إطباق المسلمين بأجمعهم على ذلك ، حتّى ذكر السيوطي أ نّ القاضي أبا بكر قال في الانتصار : «ذهب قوم من الفقهاء والمتكلِّمين إلى إثبات
(1) البيان في تفسير القرآن . أضواء على القرّاء : 123 . (2) في ص 155 ـ 156 . (3) البيان في تفسير القران، اُضواء على القرّاء: 123 .
صفحه 145
القرآن حكماً لا علماً بخبر الواحد دون الاستفاضة، وكره ذلك أهل الحقّ وامتنعوامنه»(1).
وهذا الأصل الذي مرجعه إلى عدم ثبوت وصف القرآنيّة إلاّ بالتواتر كان مسلّماً عندهم ، بحيث «بني المالكيّة وغيرهم ممّن قال بإنكار البسملة قولَهم على هذا الأصل ، وقرّروه بأ نّها لم تتواتر في أوائل السور ، وما لم يتواتر فليس بقرآن .
واُجيب من قبلنا بمنع كونها لم تتواتر . . . ويكفي في تواترها إثباتها في مصاحف الصحابة ، فمن بعدهم بخطّ المصحف ، مع منعهم أن يكتب في المصحف ما ليس منه ، كأسماء السور ، وآمين ، والأعشار ، فلو لم تكن قرآناً لما استجازوا إثباتها بخطّه من غير تمييز ; لأنّ ذلك يُحمل على اعتقادها ، فيكونون مغرّرين بالمسلمين ، حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً ، وهذا ممّا لا يجوز اعتقاده في الصحابة» (2) .
ونقلوا في إثبات كون البسملة قرآناً روايات كثيرة : أخرجها أحمد وأبو داود والحاكم وغيرهم ، كلّها تدلّ على كونها من الآيات القرآنيّة ، بل في بعضها : «أعظم آية من القرآن بسم الله الرحمن الرحيم»(3) . وفي بعضها عن ابن عبّاس قال : «أغفل الناس آية من كتاب الله وما اُنزلت على أحد سوى النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلاّ أن يكون سليمان بن داود : بسم الله الرحمن الرحيم»(4) . وفي بعضها : «إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمسلمين لا يعلمون فصل السورة وانقضاءها حتّى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم ، فإذا نزلت علموا أنّ السورة قد انقضت»(5) ،(6) .
(1 ، 2) الإتقان في علوم القرآن : 1 / 267 ، النوع 22 ـ 27 ، التنبيه الأوّل . (3) السنن الكبرى للبيهقي: 2 / 348 ح2465 عن ابن عبّاس. (4) شعب الإيمان: 4 / 20 ح2124 . (5) سنن أبي داود: 128 ب125 ح788 . المستدرك على الصحيحين: 1 / 355 ـ 356 ح844 ـ 846 ، شعب الإيمان: 4 / 21 ـ 23 ح2125 ـ 2129 عن ابن عبّاس . (6) الإتقان فى علوم القرآن: 1/268 ـ 269 .
صفحه 146
ولأجل أن يسلم هذا الأصل قال السيوطي في الإتقان : «ومن المشكل على هذا الأصل ما ذكره الإمام فخر الدين ، قال : نُقل في بعض الكتب القديمة: أ نّ ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوّذتين من القرآن . وهو في غاية الصعوبة ; لأنّا إن قلنا : إنّ النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بكون سورة الفاتحة من القرآن ، فإنكاره يوجب الكفر ، وإن قلنا : لم يكن حاصلاً في ذلك الزمان ، فيلزم أنّ القرآن ليس بمتواتر في الأصل . قال : وإلاّ غلب على الظنّ أنّ نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل باطل ، وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة»(1) .
ثمّ نقل السيوطي أقوالاً مختلفة في هذه الحكاية راجعة إلى تكذيبها ، وأ نّه موضوع على ابن مسعود ، أو إلى بطلان ما ذكره وعدم صحّته بوجه ، أو إلى تأويله بحيث لا ينافي كونها من القرآن بنحو التواتر (2) .
وبالجملة : ثبوت هذا الأصل بينهم ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، وهو يكفي في مقام الجواب عن ذلك التوهّم ، والفرق بين القرآن وغيره ، مضافاً إلى أنّه لا محيص عن انحصار ثبوت القرآن بالتواتر ; وذلك لتوفّر الدواعي على نقله ; ضرورة أنّه من أوّل نزوله لم ينزل بعنوان بيان الأحكام فقط ، بل بعنوان المعجزة الخالدة ، الذي يعجز الإنس والجنّ إلى يوم القيامة عن الإتيان بمثل سورة منه ، وقد مرّ(3) في بحث الإعجاز دلالة القرآن بنفسه على كونه معجزة خالدة ، وفي مثل ذلك تتوفّر الدواعي على نقله وضبطه ; ليحفظ ويبقى ببقائه الدين الحنيف الذي هو أكمل الأديان ، وأتمّ الشرائع .
وعليه: فما نقل بطريق الآحاد لا يكون قرآناً قطعاً ، وإلاّ لكانت الدواعي على
(1) التفسير الكبير للفخر الرازي: 1 / 190 . (2) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 270 ـ 272 . (3) في ص 38 ـ 40 .
صفحه 147
نقله متوفّرة ، وبذلك يخرج عن الآحاد ، فالمشكوك كونه قرآناً يقطع بعدم كونه منه ، وخروجه عن هذا الوصف الشريف ، نظير ما ذكروه في الاُصول من أنّ الشكّ في حجّية أمارة مساوق للقطع بعدم الحجّية ، وعدم ترتّب شيء من آثار الحجّة عليه (1) .
والمقام نظير ما إذا أخبر واحد بدخول ملك عظيم في البلد ، مع كون دخوله فيه ممّا لا يخفى على أكثر أهله ; لاستلزامه عادة اطّلاعهم وتهيّئهم للاستقبال ونحوه من سائر الاُمور الملازمة لدخوله كذلك ، ففي مثل ذلك يكون إخبار واحد فقط موجباً للقطع بكذبه أو اشتباهه ; لاستحالة اطّلاعه فقط عادةً ، فكيف يكون الكتاب الذي هو الأساس للدين الإسلامي ، ولابدّ من أن يرجع إليه إلى يوم القيامة كلّ من يريد الأخذ بالعقائد الصحيحة ، والملكات الفاضلة ، والأعمال الصالحة ، والدساتير العالية ، والاطّلاع على القصص الماضية ، وحالات الاُمم السالفة ، وغير ذلك من الشؤون والجهات التي يشتمل عليها الكتاب العزيز ، ممّا لايكفي في ثبوته النقل بخبر الواحد ؟
وليس ذلك لأجل مجرّد كونه كلام الله تبارك وتعالى ، بل لأجل كونه كلام الله المتضمّن للتحدّي والإعجاز ، والهداية والإرشاد ، وإخراج جميع الناس من الظلمات إلى النور إلى يوم القيامة ، وإلاّ فمجرّد كلام الله تعالى إذا لم يكن متضمّناً لما ذكر ، كالحديث القدسي لا يلزم أن يكون متواتراً .
فقد ظهر الفرق بين مثل الكتاب الذي ليس كمثله كتاب ، وبين كلام المعصوم (عليه السلام) ـ نبيّاً كان أو إماماً ـ الذي لا ينحصر طريق ثبوته بالتواتر ; فإنّ دليل حجّية خبر الواحد الحاكي لكلام المعصوم (عليه السلام) إنّما هو ناظر إلى لزوم ترتيب الآثار
(1) كفاية الاُصول: 279 ـ 280 ، مجمع الأفكار: 2 / 169 وج4 / 443 ، محاضرات في اُصول الفقه: 3/266 ، 276 ، مباحث الاُصول: 1 / 568 و ج2 / 71 ، 78 ، سيرى كامل در اصول فقه: 10 / 187 ـ 192 .
صفحه 148
عليه ، والأخذ به في مقام العمل ، ولا يلزم فيه الاعتقاد بصدوره عنه ، وأ نّه كلامه ; لأنّ الغرض مجرّد تطبيق العمل في الخارج عليه ، لا صدوره وإسناده إليه ، وهذا بخلاف كلام الله المنزل المقرون بالتحدّي والإعجاز ، ويكون هو الأساس للدين والأصل للهداية ، والميزان للخروج من ظلمات الجهل والانحراف إلى عالم نور العلم والمعرفة ; فإنّه لابدّ في مثل ذلك من وضوح كونه كلام الله ، وظهور صدوره عنه تبارك وتعالى .
أضف إلى ذلك أنّ القرآن ـ كما مرّ(1) في بحث الإعجاز مفصّلاً ـ نزل في محيط البلاغة والفصاحة ، وكان واقعاً في المرتبة التي عجز البلغاء عن النيل إليها ، والفصحاء عن الوصول إلى مثلها ، ولأجله خضع دونه البعض ، ونسب البعض الآخر إليه السحر ، ومن هذه الجهة كان موضعاً لعناية المتخصّصين في هذا الفنّ ، الذي كان هو السبب الوحيد عندهم للفضيلة والشرف ، وبه يقع التفاخر بينهم .
ومن الواضح أنّه مع هذه الموقعيّة يكون كلّ جزء من أجزائه ملحوظاً لهم ، منظوراً عندهم ، من دون فرق في ذلك بين من آمن به ، ومن لم يؤمن ، فكيف يمكن أن ينحصر نقل مثل ذلك بخبر الواحد ، كما هو غير خفيّ على من كان بعيداً عن التعصّب والعناد ، متّبعاً لحكم العقل والنظر السَّداد ؟!
ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا : أنّ اتّصاف نقل القرآن بالتواتر ، وانحصاره به إنّما هو على سبيل الوجوب واللزوم ، بمعنى أنّ تواتره لا يكون مجرّد أمر واقع في الخارج ، من دون أن يكون وقوعه لازماً ، والاتّصاف بذلك واجباً ، بل الظاهر لزوم اتّصافه به ، وكون وقوعه في الخارج إنّما هو لأجل لزوم وقوعه فيه كذلك ; لعين ما تقدّم من أصل الدليل على تواتره .
(1) في ص 90 .
صفحه 149
ومناقشة المحقّق القمّي(قدس سره) في هذه الجهة ، حيث قال : «إنّه ـ يعني وجوب التواتر ـ إنّما يتمّ لو انحصر طريق المعجزة وإثبات النبوّة لمن سلف وغبر فيه ، ألا ترى أنّ بعض المعجزات ممّا لم يثبت تواتره ؟ وأيضاً يتمّ لو لم يمنع المكلّفون على أنفسهم اللطف ، كما صنعوه في شهود الإمام (عليه السلام) »(1) ليس في محلّها ، فإنّك عرفت(2)أنّ الكتاب هي المعجزة الخالدة الوحيدة ، وأنّ نفسه يدلّ على اتّصافه بهذا الوصف ، وأ نّه الذي لو اجتمع الإنس والجنّ إلى يوم القيامة على الإتيان بمثله لا يأتون به ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً(3) ، وهو الذي يخرج به جميع الناس إلى ذلك اليوم من الظلمات إلى النور(4) ، وأ نّه الذي يكون نذيراً للعالمين(5) .
فمثل ذلك لو لم يلزم تواتره يلزم عدم حصول الغرض المقصود ، وهو السرّ في عدم ثبوت بعض المعجزات بالتواتر ; لأنّ تواتر القرآن ولزومه كذلك يغني عن اتّصاف غيره من المعجزات بالتواتر ، ومقايسة الكتاب الذي يتّصف بما وصف بمثل شهود الإمام (عليه السلام) ، الذي منع المكلّفون على أنفسهم اللطف فيه غير صحيحة جدّاً ، فهل يمكن أن يصير منع اللطف سبباً لأن تخلو الاُمّة من الإمام رأساً ؟ فكيف يمكن أن يصير سبباً لعدم لزوم اتّصاف القرآن بالتواتر ، مع إيجابه نقض الغرض ، واستلزامه عدم تحقّق المعنى المقصود من إنزاله ؟
وممّا ذكرنا انقدح أ نّه كما لا تثبت القرآنيّة واتّصاف كلام بكونه كلام الله المنزل على الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله) بعنوان الإعجاز إلاّ بالتواتر ، كذلك اتّصافه بكونه آية لسورة فلانية دون السور الاُخرى ، فمثل اتّصاف قوله ـ تعالى ـ : (فَبِأَىِّ ءَالاَءِ
(1) قوانين الاُصول : 1 / 403 ، الباب السادس في الكتاب . (2) في ص 38 ـ 40 . (3) اقتباس من سورة الإسراء 17: 88 . (4) اقتباس من سورة إبراهيم 14: 1 ، وسورة الحديد 57: 9 ، وسورة الطلاق 65: 11 . (5) اقتباس من سورة الفرقان 25: 1 .
صفحه 150
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) (1) بكونه جزءاً لسورة «الرحمن» دون غيرها من السور القرآنيّة ، لا طريق له إلاّ التواتر ; لعين ما ذكر في أصل الاتّصاف بالقرآنيّة .
وكذا اتّصاف الآية الفلانيّة بكونها في محلّها ، وفي موضعها من السورة التي هي جزء لها ، لا يثبت إلاّ بالتواتر أيضاً ، فاتّصاف قوله ـ تعالى ـ : (اهْدِنَا الصِّرَ طَ الْمُسْتَقِيمَ) بوقوعه بعد قوله ـ تعالى ـ : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وقبل قوله ـ تعالى ـ : (صِرَ طَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) لا يثبت إلاّ بالتواتر لما ذكر ، وكذا من جهة الإعراب ، فقوله ـ تعالى ـ : ( الاَْرْحَامِ) في آية (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِوَالاَْرْحَامَ) (2) لابدّ وأن تثبت مفتوحيّته أو مجروريّته بالتواتر ; لاختلاف المعنى بمثل ذلك .
نعم ، ربما يقال : إنّ مثل الإمالة والمدّ واللين لا يلزم فيه التواتر ; لأنّ القرآن هو الكلام ، وصفات الألفاظ ليس كلاماً ، ولأنّه لا يوجب ذلك اختلافاً في المعنى ، فلا تتعلّق فائدة مهمّة بتواتره ، ولكنّه محلّ نظر بل منع ، فتأمّل .
إذا تمهّدت لك هذه المقدّمة الشريفة النافعة ; فإنّه يقع الكلام في دعوى تواتر القراءات السبع ، كما عليه جماعة من علماء أهل السنّة ، بل نسب إلى المشهور بينهم(3) ، بل قيل : إنّه الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن (4) .
ونذكر أوّلاً ترجمة هؤلاء القرّاء بنحو الإجمال(5) ، فنقول :
(1) سورة الرحمن 55 : 19 و ... . (2) سورة النساء 4 : 1 . (3) البرهان في علوم القرآن: 1 / 318 . (4) صحيح البخاري: 6 / 122 باب اُنزل القرآن على سبعة أحرف ، سنن الترمذي 5:193 ب 9 ح 2948 . (5) اُنظر تراجمهم تفصيلاً ومصادرها في طبقات القرّاء للذهبي ، والبرهان في علوم القرآن للزركشي 1 : 327 ـ 330 ، النوع الثاني والعشرون ، وتحبير التيسير في قراءات الأ ئـمّة العشرة لابن الجزري 13 ـ 17 ، والبيان في تفسير القرآن: 125 ـ 146.
صفحه 151
1ـ عبدالله بن عامر الدمشقي(1) ، ولد سنة ثمان من الهجرة وتوفّي سنة 118 ، وله راويان رويا قراءته بوسائط ، وهما : هشام ، وابن ذكوان .
2ـ عبدالله بن كثير المكّي(2) ، ولد بمكّة سنة 45 ، وتوفّي سنة 120 ، وله راويان بوسائط أيضاً ، هما : البزّي ، وقنبل .
3ـ عاصم بن بهدلة الكوفي(3) ، مات سنة 127 أو 128 ، وله راويان بغير واسطة ، هما : حفص ، وأبو بكر .
4ـ أبو عمرو البصري(4) ، ولد سنة 68 ، وقال غير واحد : مات سنة 154 ، وله راويان بواسطة يحيى بن المبارك اليزيدي ، هما : الدوري ، والسوسي .
5ـ حمزة الكوفي(5) ، ولد سنة 80 ، وتوفّي سنة 156 ، وله راويان بواسطة ، هما : خلف بن هشام ، وخلاّد بن خالد .
6ـ نافع المدني(6) ، مات سنة 169 ، وله راويان بلا واسطة ، هما : قالون ، و ورش .
(1) هو: أبو عمران عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة اليحصبي الدمشقي ، طبقات القرّاء: 1 / 59 ـ 68 ، الرقم 34 . (2) هو: أبو معبد عبدالله بن كثير بن عمرو بن عبدالله بن زاذان بن فيروز بن هرمز الكناني الداري المكّي المقرىء، طبقات القرّاء: 1 / 69 ـ 74 ، الرقم 35 . (3) هو: عاصم بن أبي النجود أبو بكر الأسدي الكوفي القارئ ، واسم أبيه بهدلة ، طبقات القرّاء: 1 / 75 ـ 80 ، الرقم 36 . (4) هو: أبو عمرو بن العلاء المازني البصري المقرئ النحوي ، اسمه زبّان ، وقيل: العريان ، طبقات القرّاء: 1 / 91 ـ 102 ، الرقم 42 . (5) هو: أبو عُمَارة حمزة بن حبيب بن عُمَارة بن إسماعيل الكوفي التيمي القارئ ، طبقات القرّاء: 1 / 112 ـ 124 ، الرقم 49 . (6) هو: أبو رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي المقرئ المدني ، طبقات القرّاء: 1 / 104 ـ 109 ، الرقم 45 .
صفحه 152
7ـ الكسائي الكوفي(1) ، واختلف في تاريخ موته ، وأرّخه غير واحد من العلماء والحفّاظ سنة 189 ، وله راويان بغير واسطة ، هما : الليث بن خالد ، وحفص بن عمر .
وأ مّا الثلاثة المتمِّمة للعشرة :
1ـ خلف بن هشام البزّار(2) ، الذي هو أحد الراويين عن حمزة الكوفي ، ولد سنة 150 ، ومات سنة 229 ، وله راويان ، هما : إسحاق ، وإدريس .
2ـ يعقوب بن إسحاق(3) ، مات في ذي الحجّة سنة 205 ، وله ثمان وثمانون سنة ، وله راويان ، هما : رويس ، وروح .
3ـ أبو جعفر يزيد بن القعقاع(4) ، مات بالمدينة سنة 130 ، وله راويان ، هما : عيسى ، وابن جماز .
إذا عرفت ما ذكرنا نقول : إنّ المراد بتواتر القراءات السبع أو العشر ، إن كان هو التواتر عن مشايخها وقرّائها ، بحيث كان إسناد كلّ قراءة إلى شيخها وقارئها ثابتاً بنحو اليقين الحاصل من إخبار جماعة يمتنع عادةً تواطؤهم على الكذب ، وتوافقهم على خلاف الواقع ، وكان هذا الوصف موجوداً في جميع الطبقات ; لوجود الوسائط المتعدّدة ، على ما عرفت من تاريخ حياتهم ومماتهم ، ومن الواضح أ نّ التواتر في مثل هذا الخبر لابدّ وأن تكون رواته في جميع الطبقات كذلك ، أي كانوا جماعة يستحيل
(1) هو: أبو الحسن عليّ بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي الكوفي المقرئ النحوي ، المشهور بـ «الكسائي» ، طبقات القرّاء: 1 / 149 ـ 157 ، الرقم 65 . (2) هو: أبو محمّد خلف بن هشام بن ثعلب ـ وقيل: ابن طالب بن غراب ـ البغدادي ، البزّار المقرئ ، طبقات القرّاء: 1 / 245 ـ 248 ، الرقم 139 . (3) هو: أبو محمّد يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبدالله بن أبي إسحاق مولى الحضرميّين ، مقرئ البصرة في عصره ، طبقات القرّاء: 1 / 175 ـ 178 ، الرقم 79 . (4) هو: أبو جعفر يزيد بن قعقاع القارئ المدني . طبقات القرّاء: 1 / 49 ـ 53 ، الرقم 29 .
صفحه 153
عادة اتّفاقهم على الكذب ، فالجواب عنه أمران :
الأوّل : أ نّك عرفت في تراجمهم أ نّ لكلّ من القرّاء السبع أو العشر راويين رويا قراءته من دون واسطة أو معها ، ومن المعلوم أ نّه لا يتحقّق التواتر بمثل ذلك ، ولو ثبتت وثاقتهما ، فضلاً عمّا إذا لم تثبت الوثاقة كما في بعض الرواة عنهم .
الثاني : أ نّه على تقدير ثبوت قراءة كلّ منهم بنحو التواتر عنهم ، فهذا لايترتّب عليه أثر ، ولا فائدة فيه بالإضافة إلينا ; ضرورة أنّهم ليسوا ممّن يكون قوله حجّة علينا ، ولا دليل على اعتبار قولهم أصلاً ، كما هو أوضح من أن يخفى .
وإن كان المراد بتواتر القراءات ، هو التواتر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، كما هو الظاهر من قولهم ; بحيث كان المراد أ نّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) بنفسه الشريفة قرأ على وفق تلك القراءات المختلفة ; بمعنى أ نّه قرأ على طبق قراءة عبدالله بن عامر مثلاً مرّة ، وعلى وفق قراءة عبدالله بن كثير تارةً اُخرى ، وهكذا ، وكان ذلك ثابتاً بنحو التواتر عنه (صلى الله عليه وآله) ، فيردّه اُمور :
الأوّل : ما عرفت من عدم ثبوت تلك القراءات عن مشايخها وقرّائها بنحو التواتر ، فضلاً عن ثبوتها عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) كذلك .
الثاني : أ نّه على تقدير ثبوتها بنحو التواتر عنهم ـ أي عن المشايخ والقرّاءـ فاتّصال أسانيد القراءات بهم أنفسهم ، أو انقطاعها مع الوصول إليهم ، بداهة انتهاء السند إلى الشيخ والقارئ في كلّ قراءة اجتهاديّة ، وعدم التجاوز عنه إلى غيره يمنع عن تحقّق التواتر ; إمّا لأجل انقطاع السند ، وعدم التجاوز عن الشيخ إلى مَن قبله ، وإمّا لأجل أ نّه يلزم في تحقّق التواتر اتّصاف الرواة في جميع الطبقات بكونهم ممّن يمتنع عادةً تواطؤهم على الكذب ، وإخبارهم خلاف الواقع ، وفي رتبة القرّاء أنفسهم لا يكون هذا الشرط بمتحقّق أصلاً ; لأ نّه في هذه الرتبة لا يكون الراوي إلاّ واحداً ، أو هو الشيخ والقارئ وحده ، فلا يبقى حينئذ مجال لاتّصاف القراءات
صفحه 154
بالتواتر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، كما هو المفروض .
الثالث : استدلال كلّ واحد منهم واحتجاجه في مقام ترجيح قراءته على قراءة غيره وإعراضه عن قراءة غيره ، مع أنّه لو كانت بأجمعها متواترة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يحتجّ إلى الاحتجاج ، ولم يكن وجه للإعراض عن قراءة غيره ، بل لم يكن وجه لترجيح قراءته على قراءة الغير ورجحانها عليها ; فإنّه بعد ثبوت أ نّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قرأ على وفقها جميعاً ، لا يكون مجال للمقايسة ، ولا يبقى موقع لاحتمال رجحان بعضها على الآخر أصلاً ، كما هو واضح لا يخفى .
الرابع : إضافة هذه القراءات إلى خصوص مشايخها وقرّائها ; فإنّه على تقدير كونها ثابتة بنحو التواتر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، الذي نزل عليه الوحي ; لما كان وجه لإضافة هذه القراءات إلى هؤلاء الأشخاص ، بل كان اللاّزم إضافة الجميع إلى الواسطة بين الخلق والخالق ، ومن نزل عليه كلام الله المجيد ، بل اللاّزم الإضافة إلى الله تبارك وتعالى ; لأنّ قراءة النبي(صلى الله عليه وآله) لم تكن من عند نفسه ، بل حكاية لما هو في الواقع ، ووحي يوحى إليه .
وبالتالي لا يكون لهؤلاء القرّاء على هذا التقدير المفروض امتياز ، وجهة اختصاص موجبة للإضافة إليهم دون غيرهم ، ومجرّد وقوعهم في طريق النقل المتواتر لا يوجب لهم مزيّة وخصوصيّة ، واختيار كلّ واحد منهم لقراءة خاصّة ـ مع أنّه لم يكن له وجه ، كما عرفت في الأمر الثالث ـ لايصحّح الإسناد والإضافة أصلاً ، فلابدّ من أن يكون لهذه الإضافة وجه وسبب ، وليس ذلك إلاّ مدخليّة اجتهادهم واستنباطهم في قراءتهم .
وبالجملة : نفس إضافة القراءات إلى مشايخها ، دون من نزل عليه الوحي ، دليل قطعيّ على عدم ثبوتها بنحو التواتر عنه (صلى الله عليه وآله) ، وإلاّ فلا مجال لهذا الإسناد وهذه الإضافة .
صفحه 155
الخامس : شهادة غير واحد من المحقّقين من أعلام أهل السنّة على عدم تواتر القراءات ، وإنكار بعضهم على جملة من القراءات والإيراد عليها ، وعلى فرض صدق التواتر وتحقّقه مع شرائطه ، لا يرى وجه للاعتراض والإيراد على شيء من القراءات ، وهل هو حينئذ إلاّ إيراد على النبيّ (صلى الله عليه وآله) واعتراض عليه ، نعوذ بالله منه ؟! .
ولا بأس بنقل كلمات بعض الأعلام ممّن صرّح بعدم تواتر القراءات :
1ـ ابن الجزري ـ الذي وصفه السيوطي في «الإتقان» بأنّه شيخ مشايخ القرّاء في زمانه ، وأ نّه أحسن من تكلّم في هذا المقام (1) ، قال ـ على ما حكي عنه ـ : «كلّ قراءة وافقت العربيّة ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً ، وصحّ سندها ، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها ، ولا يحلّ إنكارها ، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، ووجب على الناس قبولها ; سواء كانت عن الأ ئـمّة السبعة ، أم عن العشرة ، أم عن غيرهم من الأ ئـمّة المقبولين ، ومتى اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة اُطلق عليها ضعيفة ، أو شاذّة ، أو باطلة ; سواء كانت عن السبعة ، أم عمّن هو أكبر منهم .
هذا هو الصحيح عند أئمّة التحقيق من السلف والخلف ، صرّح بذلك الدانيّ ، ومكّي ، والمهدويّ ، وأبو شامة ، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه»(2) وقد نقل بقيّة كلامه الطويل أيضاً السيوطي في الإتقان ، ثمّ وصفه بأنّه «أتقن هذا الفصل جدّاً»(3) .
2 ـ أبو شامة في كتابه «المرشد الوجيز» قال ـ على ما حكاه عنه ابن الجزري في ذيل كلامه المتقدّم ـ : «فلا ينبغي أن يُغترّ بكلّ قراءة تُعزى إلى أحد الأ ئـمّة
(1 ، 2) النشر في القراءات العشر: 1 / 9 ، الإتقان في علوم القرآن : 1 / 258 ، النوع 22 ـ 27 . (3) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 264 ، النوع 22 ـ 27 .
صفحه 156
السبعة ، ويطلق عليها لفظ الصحّة ، وأ نّها هكذا اُنزلت ، إلاّ إذا دخلت في ذلك الضابط ، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنّف عن غيره ، ولا يختصّ ذلك بنقلها عنهم ، بل إن نقلت عن غيرهم من القرّاء ، فذلك لا يخرجها عن الصحّة ; فإنّ الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف ، لا عمّن تنسب إليه ; فإنّ القراءات المنسوبة إلى كلّ قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذّ ، غير أنّ هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم ، تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم»(1) .
3ـ الزركشي ، حيث قال : «إنّ التحقيق أنّ القراءات السبع متواترة عن الأ ئـمّة السبعة ، أ مّا تواترها عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ففيه نظر ; فإنّ إسناد الأئمّـة السبعة بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات ; وهي نقل الواحد عن الواحد»(2) .
ومن الغريب بعد ذلك ما وقع من بعض الاُصوليّين(3) ، وكذا بعض من أعلام فقهاء الشيعة الإماميّة كالشهيدين (قدس سرهما) في محكيّ «الذكرى»(4) و«روض الجنان»(5)من دعوى تواتر القراءات السبع .
قال في الثاني ـ بعد نقل الشهرة من المتأخّرين وشهادة الشهيد على ذلك ـ : «ولا يقصر ذلك عن ثبوت الإجماع بخبر الواحد فتجوز القراءة بها ، مع أنّ بعض محقّقي القرّاء من المتأخّرين أفرد كتاباً في أسماء الرجال الذين نقلوها في كلّ طبقة ،
(1) النشر في القراءات العشر لابن الجزريّ : 1 / 9ـ 10 ، الإتقان في علوم القرآن : 1 / 258 / 259 . النوع 22 ـ 27 . (2) البرهان في علوم القرآن للزركشي 1 : 319 ، النوع الثاني عشر . (3) قوانين الاُصول: 1 / 406 ، مفاتيح الاُصول: 322 ، مناهج الأحكام والاُصول: 153 ، المقصد الثالث في الأدلّة الشرعيّة ، الفصل الأوّل . فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم): 1 / 157 . (4) ذكرى الشيعة: 3 / 304 ـ 305 . (5) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان: 2 / 700 .
|