صفحه 177
8 ـ وغير ذلك من الموارد الكثيرة المتفرّقة في أبواب الفقه ، التي قد استدلّ فيها الإمام (عليه السلام) بالكتاب ، سيّما في قبال المخالفين المنكرين لإمامتهم ; فإنّه لو كان مذاقهم عدم حجّية ظاهر الكتاب لغيرهم لما كان للاستدلال به في مقابلهم وجه أصلاً .
وأ مّا المنكرون لحجّية ظواهر الكتاب الذين هم جماعة من المحدِّثين ، فاستندوا في ذلك إلى اُمور :
أحدها : أ نّه قد ورد في الروايات المتواترة بين الفريقين ، النهي عن تفسير القرآن بالرأي ، وفي بعضها : من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار(1); أي فليتّخذ مكاناً من النار لأجل القعود ولا محيص له عنها ، والأخذ بظواهر القرآن من مصاديق التفسير بالرأي ; فإنّه وإن لم يكن مصداقه منحصراً بذلك ; لشموله قطعاً لحمل المتشابه والمبهم على أحد معنييه أو معانيه مستنداً إلى الظنّ أو الاستحسان ، إلاّ أنّ الظاهر شموله لحمل الظواهر على ظاهرها والعمل بما تقتضيه .
والجواب أوّلاً : أنّ التفسير بحسب اللغة والعرف بمعنى : كشف القناع وإظهار أمر مستور ، ومن المعلوم أ نّ الأخذ بظاهر اللفظ لا يكون من التفسير بهذا المعنى ، فلا يقال لمن أخذ بظاهر كلام من يقول مثلاً : رأيت أسداً ، وأخبر بأنّ فلاناً قد رأى الحيوان المفترس : أ نّه فسّر كلامه ، وقد شاع في العرف أ نّ الواقعة أمر ، وتفسير الواقعة أمر آخر .
وبالجملة : لا ينبغي الارتياب في أنّ «التفسير» لا يشمل حمل اللفظ على
(1) عوالي اللئالي : 4 / 104 ح 154 عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، تفسير الصافي: 1 / 32 ، المقدّمة الخامسة. وفي التوحيد: 91، والمسند لابن حنبل: 1 / 501 ح2069، وسنن الترمذي: 5 / 199 ح2955، ومجمع البيان: 1 / 7 ، وعنه وسائل الشيعة: 27 / 204 ح76 هكذا: من قال في القرآن بغير علم إلخ ، وفي سنن الترمذي : 5 / 199 ح2956: من قال في القرآن برأيه إلخ .
صفحه 178
ظاهره ، فالمقام خارج عن مورد تلك الروايات موضوعاً .
وثانياً : أ نّه على فرض كون الأخذ بالظاهر تفسيراً ، فلا يكون تفسيراً بالرأي حتّى تشمله الروايات المتواترة الناهية عن التفسير بالرأي .
وبعبارة اُخرى : يستفاد من تلك الروايات أ نّ التفسير يتنوّع إلى نوعين وينقسم إلى قسمين : تفسير بالرأي ، وتفسير بغيره ، ولابدّ للمستدلّ بها للمقام من إثبات أنّ الأخذ بظاهر اللفظ من مصاديق القسم الأوّل ، ومع عدمه يكفي مجرّد الشكّ; لعدم صلاحيّة الروايات الناهية للشمول للمقام ; لعدم إحراز موضوعها ، وعدم ثبوت عنوان «التفسير بالرأي» .
مع أنّه من الواضح عدم كونه من مصاديقه على فرض كونه تفسيراً; فإنّ من يترجم خطبة من خطب «نهج البلاغة» مثلاً بحسب ما يظهر من عباراتها ، وعلى طبق ما يفهمه العرف العارف باللغة العربيّة ، مع مراعاة القرائن الداخليّة والخارجيّة ، لا يعدّ عمله هذا تفسيراً بالرأي بوجه من الوجوه أصلاً .
فالتفسير بالرأي معناه الاستقلال في المراجعة إلى الكتاب ، من دون السؤال من الأوصياء الذين هم قرناء الكتاب في وجوب التمسّك ولزوم المراجعة إليهم :
إمّا بحمل المتشابه على التأويل الذي تقتضيه آراؤهم ، كما يشير إلى ذلك قول الصادق (عليه السلام) : وإنّما هلك الناس في المتشابه ; لأنّهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء...(1). (1) رسالة المحكم والمتشابه نقلاً من تفسير النعماني، المطبوع بتمامه في جامع الأخبار والآثار: 3 / 90 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 201 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب 13 ذ ح 62 ، وبحار الأنوار : 93 / 12 ب 128 .
صفحه 179
وإمّا بحمل اللفظ على ظاهره من العموم أو الإطلاق أو غيرهما ، من دون الأخذ بالتخصيص ، أو التقييد ، أو القرينة الواردة عن الأ ئـمّة (عليهم السلام) ، وقد عرفت(1)أ نّ محلّ النزاع في حجّية ظواهر الكتاب غير ذلك .
وثالثاً : أ نّه على فرض كون الأخذ بظاهر القرآن من مصاديق التفسير بالرأي لتشمله الروايات الناهية عنه نقول :
لابدّ من الجمع بين هذه الطائفة والروايات المتقدّمة الظاهرة بل الصريحة في حجّية ظواهر الكتاب ، بحمل التفسير بالرأي الوارد في الروايات الناهية على غير هذا المصداق من المصاديق الظاهرة الواضحة ، كحمل المتشابه على التأويل الذي يقتضيه الرأي ، أو حمل الظاهر عليه من دون المراجعة إلى القرينة على الخلاف ، ولا مجال لغير هذا النحو من الجمع بعد ظهور الروايات المتقدّمة ، بل صراحتها في حجّية ظواهر الكتاب كما هو غير خفيّ .
ثانيها : دعوى اختصاص فهم القرآن بأهل الكتاب الذين اُنزل عليهم ; وهم الأ ئـمّة المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين ، ومنشأ هذه الدعوى الروايات الظاهرة في ذلك ، مثل :
مرسلة شبيب بن أنس ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أ نّه قال لأبي حنيفة : أنت فقيه أهل العراق ؟ قال : نعم ، قال (عليه السلام) : فبم تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) ، قال : يا أبا حنيفة ! تعرف كتاب الله حقّ معرفته ، وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : نعم ، قال : يا أبا حنيفة ! لقد ادّعيت علماً ، ويلك ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين اُنزل عليهم ! ويلك ولا هو إلاّ عند الخاصّ من ذرّية نبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله) ،
(1) في ص170 ـ 171 .
صفحه 180
وما ورَّثك الله من كتابه حرفاً» (1) .
ورواية زيد الشحّام قال : «دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر (عليه السلام) فقال : ياقتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : بلغني أنّك تفسِّر القرآن؟ فقال له قتادة : نعم ، ـ إلى أن قال : ـ ويحك يا قتادة ! إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة ! إنّما يعرف القرآن من خُوطِبَ به»(2).
وغيرهما من الروايات الدالّة على هذا النحو من المضامين .
والجواب: أ نّه إن كان المدّعى اختصاص معرفة القرآن حقّ معرفته ـ الراجع إلى معرفة القرآن بجميع شؤونها وخصوصيّاتها من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والظاهر والباطن ، وغير ذلك من الجهات ـ بالأئمّة الذين اُنزل عليهم الكتاب ، فهو حقّ ، ولكن ذلك لا ينافي حجّية الظواهر بالنحو الذي عرفت(3) أ نّه محلّ البحث ومورد النزاع على سائر الناس .
وإن كان المدّعى عدم استفادة سائر الناس من القرآن ولو كلمة ، حتّى يكون القرآن بالإضافة إلى من عدا الأ ئـمّة المعصومين (عليهم السلام) من الألغاز ، وغير قابل للفهم والمعرفة بوجه ، فالدعوى ممنوعة ، والروايتان قاصرتان عن إثبات ذلك .
(1) علل الشرائع: 89 ـ 90 ب81 قطعة من ح5 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 47 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب 6 صدر ح 27 ، وبحار الأنوار: 2 / 293 قطعة من ح113 ، وتفسير الصافي: 1 / 22 ، المقدّمة الثانية مع اختلاف يسير . (2) الكافي: 8 / 311 ح485 ، وعنه تفسير الصافي: 1 / 21 ، المقدّمة الثانية ، و وسائل الشيعة : 27 / 185 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب 13 ح25 ، وبحار الأنوار: 24 / 237 ح6 و ج46 / 349 ح2، وحلية الأبرار: 3 / 388 ب5 ح6، والبرهان في تفسير القرآن: 1 / 40 ح123 ، وج4 / 513ـ 514 ح8766 ، وعوالم العلوم والمعارف والأحوال: 19 / 310 ح1 ، وفي تأويل الآيات: 1 / 246 ح9 مختصراً . (3) في ص170 ـ 171 .
صفحه 181
أ مّا الرواية الاُولى : فظاهرة في أنّ اعتراض الإمام (عليه السلام) على أبي حنيفة إنّما هو لأجل ادّعائه معرفة القرآن حقّ معرفته ، وتشخيص الناسخ من المنسوخ وغيره ممّا يتعلّق بالقرآن ، وليس معنى قوله (عليه السلام) : «وما ورّثك الله من كتابه حرفاً» أ نّه لاتفهم شيئاً من القرآن ، ولا تعرف مثلاً معنى قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ) (1) ; ضرورة أ نّه لو كان المراد ذلك ، لكان لأبي حنيفة ـ مضافاً إلى وضوح بطلانه ـ الاعتراض على الإمام (عليه السلام) ، وأن لا يخضع لدى هذا الكلام ، مع أنّ الظاهر من الرواية خضوعه لديه وتسليمه دونه .
فالمراد منه : أ نّ الله ـ تعالى ـ قد خصّ أوصياء نبيّه (صلى الله عليه وآله) بإرث الكتاب ، وعلم القرآن بجميع خصوصيّاته ، وليس لمثل أبي حنيفة حظّ من ذلك ، ولو بالإضافة إلى حرف واحد ، فهذا القول مرجعه إلى قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (2) .
فالرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه من البحث والنزاع .
وأمّا الرواية الثانية : فالتوبيخ فيها إنّما هو على تصدّي قتادة لتفسير القرآن ، وقد عرفت أنّ الأخذ بظاهر القرآن لا يعدّ تفسيراً أصلاً ، ولا تشمله هذه الكلمة بوجه ، وعلى تقديره فمن الواضح أ نّ قتادة إنّما كان يفسّر القرآن بالرأي أو الآراء غير المعتبرة ، والتوبيخ إنّما هو على مثل ذلك . وقد مرّ(3) أنّ حمل اللفظ على ظاهره لايكون من مصاديق التفسير بالرأي قطعاً ، وعلى فرض احتماله لابدّ للمستدلّ من الإثبات وإقامة الدليل على الشمول ، ويكفي في إبطاله مجرّد احتمال العدم ، وقد شاع وثبت أ نّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال .
(1) سورة البقرة 2 : 20 . (2) سورة فاطر 35 : 32 . (3) في ص177 ـ 178 .
صفحه 182
ثالثها : أ نّ القرآن مشتمل على المعاني الشامخة ، والمطالب الغامضة ، والعلوم المتنوّعة ، والأغراض الكثيرة ، التي تقصر أفهام البشر عن الوصول إليها ودركها ، كيف؟ ولا يكاد تصل أفهامهم إلى درك جميع معاني «نهج البلاغة» الذي هو كلام البشر ـ ولكنّه كيف بشر ! ـ بل وبعض كتب العلماء الأقدمين إلاّ الشاذّ من المطّلعين ، فكيف بالكتاب المبين الذي فيه علم الأوّلين والآخرين ، وهو تنزيل من ربّ العالمين ، نزل به الروح الأمين على من هو سيِّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الطيّبين المعصومين ، على مرور الأيّام وكرور الدهور ، وبقاء السماوات والأرضين ؟!
والجواب : أنّ اشتمال القرآن على مثل ذلك وإن كان ممّا لا ينكر ، واختصاص المعرفة بذلك بأوصياء نبيّه تبعاً له وإن كان أيضاً كذلك ، إلاّ أنّه لا يمنع عن اعتبار خصوص الظواهر التي هي محلّ البحث على ما عرفت(1) بالإضافة إلى سائر الناس ، فهذا الدليل أيضاً لا ينطبق على المدّعى .
رابعها : أ نّا نعلم إجمالاً بورود مخصّصات كثيرة ومقيّدات غير قليلة لعمومات الكتاب وإطلاقاته ، وكذلك نعلم إجمالاً بأنّ الظواهر التي يفهمها العارف باللغة العربيّة الفصيحة بعضها غير مراد قطعاً ، وحيث إنّه لا تكون العمومات والإطلاقات وهذه الظواهر معلومة بعينها لفرض العلم الإجمالي ، فاللاّزم عدم جواز العمل بشيء منها قضيّة للعلم الإجمالي ، وحذراً عن الوقوع في مخالفة الواقع ، كالعلم الإجمالي في سائر الموارد ، بناءً على كونه منجّزاً كما هو مقتضى التحقيق .
والجواب أمّا أوّلاً : فبالنقض بالروايات ; ضرورة وجود هذا العلم الإجمالي بالإضافة إليها أيضاً ; لأنّه يعلم بورود مخصّصات كثيرة لعموماتها ، ومقيّدات
(1) في ص170 ـ 171 .
صفحه 183
متعدّدة لمطلقاتها ، فاللاّزم بناءً عليه خروج ظواهرها أيضاً عن الحجّية ، مع أنّ المستدلّ لا يقول به .
وأمّا ثانياً : فبالحلّ ، بأنّ هذا العلم الإجمالي إن كان متعلّقاً بورود مخصّصات كثيرة ، ومقيّدات متعدّدة ، وقرائن متكثّرة على إرادة خلاف بعض الظواهر ووقوعها في الروايات ، بحيث لو فحصنا عنها لظفرنا بها ، فوجود هذا العلم الإجمالي وإن كان ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، إلاّ أنّه لا يمنع عن حجّية الظاهر الذي لم يظفر على دليل بخلافه بعد الفحص التامّ ، والتتبّع الكامل ; لخروجه عن دائرة العلم الإجمالي حينئذ على ما هو المفروض ، وقد عرفت(1) أنّ محلّ البحث في باب حجّية الظواهر إنّما هو هذا القسم منها .
وإن كان متعلّقاً بورودها مطلقاً ، بحيث كانت دائرة المعلوم أوسع من هذه الاُمور الواقعة في الروايات ، فنمنع وجود هذا النحو من العلم الإجمالي ; فإنّ المسلّم منه هو النحو الأوّل الذي لا ينافي حجّية الظواهر بوجه أصلاً .
خامسها : أ نّ الكتاب بنفسه قد منع عن العمل بالمتشابه ، فقد قال الله ـ تعالى ـ : (مِنْهُ ءَايَـتٌ مُّحْكَمَـتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَـبِ وَأُخَرُ مُتَشَـبِهَـتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـبَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ) (2) .
وحمل اللفظ على ظاهره من مصاديق اتّباع المتشابه ، ولا أقلّ من احتمال شموله للظاهر ، فيسقط عن الحجّية رأساً .
والجواب : أ نّه إن كان المدّعى صراحة لفظ «المتشابه» في الشمول لحمل الظاهر على معناه الظاهر فيه ; بمعنى كون الظواهر من مصاديق المتشابه قطعاً ، فبطلان هذه الدعوى بمكان من الوضوح ، بداهة أنّه كيف يمكن ادّعاء كون أكثر
(1) في ص170 ـ 171 . (2) سورة آل عمران 3 : 7 .
صفحه 184
الاستعمالات المتداولة المتعارفة في مقام إفهام الأغراض وإفادة المقاصد من مصاديق المتشابهات ، نظراً إلى كون دلالتها على المرادات بنحو الظهور دون الصراحة؟
وإن كان المدّعى ظهور لفظ «المتشابه» في الشمول للظواهر ، فيرد عليه ـ مضافاً إلى منع ذلك لما ذكرنا من عدم كون الظواهر لدى العرف واللغة من مصاديق المتشابه ـ : أ نّه كيف يجوز الاستناد إلى ظاهر القرآن لإثبات عدم حجّية ظاهره ؟ فإنّه يلزم من فرض وجوده العدم ، ولا يلزم على القائل بحجّية الظواهر رفع اليد عن مدّعاه ; نظراً إلى ظهور الآية في المنع عن اتّباع المتشابه الشامل للظواهر أيضاً ، فإنّك عرفت عدم ظهوره عنده في الشمول لغةً ولا عرفاً بوجه أصلاً .
وإن كان المدّعى احتمال شمول «المتشابه» للظواهر الموجب للشكّ في الحجّية ، المساوق لعدم الحجّية رأساً ; لما تقرّر في علم الاُصول(1) من أنّ الشكّ في حجّية الظنّ يستلزم القطع بعدمها ، وعدم ترتّب شيء من آثار الحجّية عليها .
فيرد عليه ـ مضافاً إلى منع الاحتمال أيضاً ـ : أ نّه لو فرض تحقّق هذا الاحتمال لما كان موجباً لخروج الظواهر عن الحجّية ، بداهة أ نّه مع قيام السيرة القطعيّة العقلائيّة على العمل بالظواهر والتمسّك بها ، واحتجاج كلّ من الموالي والعبيد على الآخر بها ، لا يكون مجرّد احتمال شمول لفظ «المتشابه» للظواهر موجباً لرفع اليد عن السيرة .
بل لو كان العمل بظواهر الكتاب غير جائز لدى الشارع ، وكانت طريقته في المحاورة في الكتاب مخالفة لما عليه العقلاء في مقام المحاورات ، وإبراز المقاصد والأغراض ، لكان عليه الردع الصريح عن إعمال السيرة في مورد الكتاب ، والبيان
(1) كفاية الاُصول: 279 ـ 280 ، مجمع الأفكار: 2 / 169 و ج4 / 443 ، محاضرات في اُصول الفقه: 3 / 266 ، 276 ، مباحث الاُصول: 1 / 568 وج2 / 71 ، 78 ، سيرى كامل در اصول فقه: 10 / 178ـ 192 .
صفحه 185
الواضح الموجب للفرق البيّن بين الكتاب ، وبين الروايات ، وأ نّه لا يجوز في الأوّل الاتّكال على الظواهر دون الثاني ، ومجرّد احتمال شمول لفظ المتشابه لا يجدي في ذلك .
وبعبارة اُخرى: لو كان للكتاب من هذه الجهة الراجعة إلى مقام الإفهام والإفادة خصوصيّة ومزيّة لدى الشارع ، مخالفة لما استمرّت عليه السيرة العقلائيّة في محاوراتهم ، هل يكفي في بيانه مجرّد احتمال شمول لفظ «المتشابه» الذي نهى عن اتّباعه ، أو أ نّه لابدّ من البيان الصريح ؟ وحيث إنّ الثاني منتف ، والأوّل غير كاف قطعاً، فلامحيص عن الذهاب إلى نفي الخصوصيّة وعدم ثبوت المزيّة ، كما هو واضح.
سادسها : وقوع التحريف بالنقيصة في الكتاب العزيز المانع عن حجّية الظواهر واتّباعها ; لاحتمال كونها مقرونة بما يدلّ من القرائن على إرادة خلافها ، وقد سقطت من الكتاب ، فالتحريف الموجب لتحقّق هذا الاحتمال يستلزم المنع عن الأخذ بظواهر الكتاب ، كما هو ظاهر .
والجواب : منع وقوع التحريف المدّعى في الكتاب وعدم تحقّقه بوجه . وسيأتي البحث عنه مفصّلاً في حقل مستقلّ نختتم به أبحاث الكتاب بإذن الله تعالى بعنوان : عدم تحريف الكتاب وشبهات القائلين بالتحريف .
الأمر الثاني : قول المعصوم (عليه السلام)
لا إشكال في أنّ قول المعصوم (عليه السلام) ـ نبيّاً كان أو إماماً ـ حجّة في مقام كشف مراد الله ـ تبارك وتعالى ـ من ألفاظ كتابه العزيز ، وآيات قرآنه المجيد ; لما ثبت في محلّه من حجّية قوله ، أ مّا النبيّ (صلى الله عليه وآله) فواضح ، وأ مّا الإمام ; فلأنّه أحد الثقلين(1)
(1) يلاحظ بحار الأنوار: 23 / 104 ـ 166 ب7 وغيره ، وقد تقدّم في ص 172 .
صفحه 186
اللذين اُمرنا بالتمسّك بهما ، والاعتصام بحبلهما ، فراراً عن الجهالة ، واجتناباً عن الضلالة . فمع ثبوت قوله في مقام التفسير ، ووضوح صدوره عنه (عليه السلام) لا شبهة في لزوم الأخذ به ، وإن كان مخالفاً لظاهر الكتاب ; لأنّ قوله (عليه السلام) ـ في الحقيقة ـ بمنزلة قرينة صارفة ، ولكن ذلك مع ثبوت قوله (عليه السلام) إمّا بالتواتر ، أو بالخبر المحفوف بالقرينة القطعيّة .
وقد وقع الإشكال والخلاف في أنّه هل يثبت قوله (عليه السلام) من طريق خبر الواحد ، الجامع للشرائط المعتبر ، فيما إذا أخبر عن المعصوم (عليه السلام) بحكم شرعيّ عمليّ ; لقيام الدليل القاطع على حجّيته واعتباره ، أم لا؟
ربما يقال بعدم الثبوت في مقام التفسير ، وإن كان يثبت به في مقام بيان الأحكام الفقهيّة والفروع العمليّة ، ففي الحقيقة إذا كان قوله (عليه السلام) المنقول بخبر الواحد في تفسير آية متعلّقة بالحكم يكون حجّة معتبرة ، وأمّا إذا كان مورد التفسير آية لاتتعلّق بحكم من الأحكام العمليّة ، فلا يكون خبر الواحد الحاكي له بحجّة أصلاً ; وذلك لأنّ معنى حجّية خبر الواحد ، وكذا كلّ أمارة ظنّية ، يرجع إلى وجوب ترتيب الآثار عليه في مقام العمل .
وبعبارة اُخرى : الحجّية عبارة عن المنجّزيّة في صورة الموافقة ، والمعذّريّة في فرض المخالفة ، وهما ـ أي المنجّزيّة والمعذّريّة ـ لا تثبتان إلاّ في باب التكاليف المتعلّقة بالأعمال فعلاً أو تركاً ، فإذا كان مفاد الخبر حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لحكم شرعيّ يكون الخبر حجّة ; لاتّصافه في هذه الصورة بوصف المنجّزيّة والمعذّريّة . وأ مّا إذا لم يكن كذلك ـ كما في المقام ـ فهذا المعنى غير متحقّق ; لعدم تعقّل هذا الوصف في غير باب الأحكام ، إذن فلا محيص عن الالتزام بعدم حجّية خبر الواحد في تفسير آية لا تتعلّق بحكم عمليّ أصلاً .
والتحقيق : أ نّه لا فرق في الحجّية والاعتبار بين القسمين ; لوجود الملاك في
صفحه 187
كلتا الصورتين .
توضيح ذلك : أ نّه تارةً: يستند في باب حجّية خبر الواحد إلى بناء العقلاء واستمرار سيرتهم على ذلك ، كما هو العمدة من أدلّة الحجّية على ما حقّق وثبت في محلّه(1) ، واُخرى: إلى الأدلّة الشرعيّة التعبّدية من الكتاب والسنّة والإجماع ، لو فرض دلالتها على بيان حكم تعبّديّ تأسيسيّ .
فعلى الأوّل: ـ أي بناء العقلاء ـ لابدّ من ملاحظة أ نّ اعتماد العقلاء على خبر الواحد والاستناد إليه ، هل يكون في خصوص مورد يترتّب عليه أثر عمليّ ، أو أ نّهم يتعاملون معه معاملة القطع في جميع ما يترتّب عليه؟
الظاهر هو الثاني ، فكما أنّهم إذا قطعوا بمجيء زيد من السفر يصحّ الإخبار به عندهم ، وإن لم يكن موضوعاً لأثر عمليّ ولم يترتّب على مجيئه ما يتعلّق بهم في مقام العمل ; لعدم الفرق من هذه الجهة بين ثبوت المجيء وعدمه ، فكذلك إذا أخبرهم ثقة واحد بمجيء زيد يصحّ الإخبار به عندهم ، استناداً إلى خبر الواحد ، ويجري هذا الأمر في جميع الأمارات التي استمرّت سيرة العقلاء عليها ; فإنّ اليد مثلاً أمارة لديهم على ملكيّة صاحبها ، فيحكمون معها بوجودها ، كما إذا كانوا قاطعين بها ، فكما أنّهم يرتّبون آثار الملكيّة في مقام العمل فيشترون منه مثلاً ، فكذلك يخبرون بالملكيّة استناداً إلى اليد .
وبالجملة : إذا كان المستند في باب حجّية خبر الواحد هو بناء العقلاء ، لا يبقى فرق معه بين ما إذا أخبر عادل بأنّ المعصوم (عليه السلام) فسّر الآية الفلانية بما هو خلاف ظاهرها ، وبين نفس ظواهر الكتاب التي لا دليل على اعتبارها إلاّ بناء العقلاء على العمل بظواهر الكلمات ، وتشخيص المرادات من طريق الألفاظ والمكتوبات ، فكما
(1) سيرى كامل در اصول فقه: 10 / 576 ـ 589 .
صفحه 188
أنّه لا مجال لدعوى اختصاص حجّية الظواهر من باب بناء العقلاء ، بما إذا كان الظاهر مشتملاً على إفادة حكم من الأحكام العمليّة ، بل الظواهر مطلقاً حجّة .
فكذلك لا ينبغي توهّم اختصاص اعتبار الرواية الحاكية لقول المعصوم (عليه السلام) في باب التفسير ، بما إذا كان في مقام بيان المراد من آية متعلّقة بحكم من الأحكام العمليّة ، بل الظاهر أ نّه لا فرق من هذه الجهة بين هذه الصورة ، وبين ما إذا كان في مقام بيان المراد من آية غير مرتبطة بالأحكام أصلاً . وعليه: فلا خفاء في حجّية الرواية المعتبرة في باب التفسير مطلقاً .
وعلى الثاني: الذي يكون المستند هي الأدلّة الشرعيّة التعبّديّة ، فالظاهر أيضاً عدم الاختصاص ; فإنّه ليس في شيء منها عنوان «الحجّية» وما يشابهه حتّى يفسّر بالمنجّزيّة والمعذّريّة الثابتتين في باب التكاليف المتعلّقة بالعمل ; فإنّ مثل مفهوم آية النبأ على تقدير ثبوته ودلالته على حجّية خبر الواحد إذا كان المخبر عادلاً ، يكون مرجعه إلى جواز الاستناد إليه ، وعدم لزوم التبيّن عن قوله ، والتفحّص عن صدقه ، وليس فيه ما يختصّ بباب الأعمال .
نعم ، لا محيص عن الالتزام بالاختصاص بما إذا كان له ارتباط بالشارع ، وإضافة إليه بما أ نّه شارع ، ولكن ذلك لا يستلزم خروج المقام ; فإنّ الإسناد إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ وتشخيص مراده من الكتاب العزيز ، ولو لم يكن متعلّقاً بآية الحكم ، بل بالمواعظ والنصائح أو القصص والحكايات أو غيرهما من الشؤون التي يدلّ عليها الكتاب أمر يرتبط بالشارع لا محالة ، فيجوز الإسناد إلى الله ـ تعالى ـ بأنّه أخبر بعدم كون عيسى (عليه السلام) مقتولاً ، ولا مصلوباً وإن لم يكن لهذا الخبر ارتباط بباب التكاليف أصلاً .
وبالجملة : لا مجال للإشكال في حجّية خبر الواحد في باب التفسير مطلقاً .
نعم ، قد وقع النزاع في جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ـ بعد
صفحه 189
الاتّفاق على عدم جواز نسخه به ـ على أقوال ، وحيث إنّ المسألة محرّرة في الاُصول(1) لا حاجة إلى التعرّض لها هنا ، مضافاً إلى أنّ القائل بالعدم فريق من علماء السنّة على اختلاف بينهم أيضاً (2) ، وأدلّتهم على ذلك واضحة البطلان ، فراجع .
الأمر الثالث : حكم العقل
لا إشكال في أنّ حكم العقل القطعي وإدراكه الجزمي من الاُمور التي هي اُصول التفسير ، ويبتني هو عليها ، فإذا حكم العقل كذلك ، بخلاف ظاهر الكتاب في مورد لا محيص عن الالتزام به ، وعدم الأخذ بذلك الظاهر ; ضرورة أنّ أساس حجّية الكتاب ، وكونه معجزة كاشفة عن صدق الآتي به ، إنّما هو العقل الحاكم بكونه معجزة خارقة للعادة البشريّة ، ولم يؤت ولن يؤتى بمثلها ; فإنّه الرسول الباطني الذي لا مجال لمخالفة حكمه ووحيه .
ففي الحقيقة يكون حكمه بخلاف الظاهر وإدراكه الجزمي لذلك ، بمنزلة قرينة لفظيّة متّصلة موجبة للصرف عن المعنى الحقيقي ، وانعقاد الظهور في المعنى المجازي ; فإنّ الظهور الذي هو حجّة ليس المراد منه ما يختصّ بالمعنى الحقيقي ; ضرورة أنّ أصالة الحقيقة قسم من أصالة الظهور ، الجارية في جميع موارد انعقاد الظهور ; سواء كان ظهوراً في المعنى الحقيقي ، كما فيما إذا كان اللفظ الموضوع خالياً عن القرينة على الخلاف مطلقاً ، أو ظهوراً في المعنى المجازي ، كما فيما إذا كان مقروناً بقرينة على خلاف المعنى الحقيقي .
(1) سيرى كامل در اصول فقه: 8 / 505 وما بعدها . (2) اُنظر الإحكام في اُصول الأحكام للآمدي : 2 / 347 ـ 352 ، المسألة الخامسة .
صفحه 190
فكما أنّ قوله : «رأيت أسداً» ظاهر في المعنى الحقيقي ، فكذلك قوله : «رأيت أسداً يرمي» ظاهر في المعنى المجازي ; ضرورة أنّ المتفاهم العرفي منه هو الرجل الشجاع ، من دون فرق بين أن نقول بأنّه ليس له إلاّ ظهور واحد ينعقد للجملة بعد تمامها ; نظراً إلى أنّ ظهور «أسد» في معناه الحقيقي متوقّف على تماميّة الجملة ، وخلوّها عن القرينة على الخلاف ، وفي صورة وجود تلك القرينة لا ظهور له أصلاً ، بل الظهور ينعقد ابتداءً في خصوص المعنى المجازي .
أو نقول بوجود ظهورين : ظهور لفظ «الأسد» في معناه الحقيقي ، وظهور «يرمي» في المعنى المجازي ، غاية الأمر كون الثاني أقوى ، ولأجله يتقدّم على الظهور الأوّل ، وفي الحقيقة كلّ من اللّفظين ظاهر في معناه الحقيقي ، لكن يكون ظهور القرينة فيه ، الذي يكون معنى مجازيّاً بالإضافة إلى المعنى الأوّل أقوى وأتمّ ; فإنّه على كلا القولين تكون الجملة ظاهرة في المعنى المجازي الذي هو عبارة عن الرجل الشجاع .
وبالجملة : أصالة الظهور الراجعة إلى أصالة تطابق الإرادة الجدّية ، مع الإرادة الاستعمالية ، وكون المقصود الواقعي من الكلام هو ما يدلّ عليه ظاهر اللفظ جارية في كلا الصورتين ; من دون أن يكون هناك تفاوت في البين ، وحينئذ فإذا حكم العقل في مورد بخلاف ما هو ظاهر لفظ الكتاب ، يكون حكمه بمنزلة قرينة قطعيّة متّصلة موجبة لعدم انعقاد ظهور له واقعاً ، إلاّ فيما حكم به العقل .
فقوله ـ تعالى ـ : (وَ جَآءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (1) وإن كان ظهوره الابتدائي في كون الجائي هو الربّ بنفسه ، وهو يستلزم الجسميّة الممتنعة في حقّه تعالى ، إلاّ أنّ حكم العقل القطعي باستحالة ذلك ـ لاستلزامه التجسّم للافتقار
(1) سورة الفجر 89 : 22 .
صفحه 191
والاحتياج المنافي لوجوب الوجود ; لأنّ المتّصف به غنيّ بالذات ـ يوجب عدم انعقاد ظهور له في هذا المعنى ، وهو اتّصاف الرّبّ بالمجيء .
وهكذا قوله ـ تعالى ـ : (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (1) ومثله الآيات الظاهرة على خلاف حكم العقل .
فانقدح أنّ حكم العقل ـ مع كونه من الاُمور التي هي اُصول التفسير ، ولا مجال للإغماض عنه في استكشاف مراد الله ـ تعالى ـ من كتابه العزيز ـ يكون مقدّماً على الأمرين الآخرين ، ولا موقع لهما معه . أ مّا تقدّمه على الظهور فلِما عرفت من عدم انعقاده مع حكم العقل على الخلاف ; لأنّه بمنزلة قرينة متّصلة . وأ مّا تقدّمه على الأمر الآخر; فلأنّ حجّية قوله إنّما تنتهي إلى حكم العقل وتستند إليه ، فكيف يمكن أن يكون مخالفاً له ؟ فالمخالفة تكشف عن عدم صدوره عن المعصوم (عليه السلام) ، أو عدم كون ظاهر كلامه مراداً له ، فكما أنّه يصير صارفاً لظاهر الكتاب ، يوجب التصرّف في ظاهر الرواية بطريق أولى ، كما لا يخفى .
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الذي يبتني عليه التفسير إنّما هو خصوص الاُمور الثلاثة المتقدّمة : الظاهر ، وقول المعصوم ، وحكم العقل ، ولا يسوغ الاستناد في باب التفسير إلى شيء آخر .
نعم ، في باب الظواهر لابدّ من إحراز الصغرى ; وهي الظهور الذي مرجعه إلى الإرادة الاستعماليّة ; ضرورة أنّ التطابق بين الإرادتين لا يتحقّق بدون تشخيص الإرادة الاستعماليّة ، وإحراز مدلول اللفظ . ويقع الكلام حينئذ في طريق هذا التشخيص لمن لا يكون عارفاً بلغة العرب ، ولا يكون من أهل اللّسان ، ولا يجوز الاتّكال في ذلك على قول المفسّر ، أو اللّغوي ، مع عدم إفادة قولهما اليقين ،
(1) سورة طه 20 : 5 .
صفحه 192
أو الاطمئنان الذي هو علم عرفيّ ; وذلك لعدم الدليل على حجّية قولهما أصلاً ، فالرجوع إلى التفسير لا يكاد يترتّب عليه فائدة إلاّ إذا حصل منه اليقين ، أو ما يقوم مقامه بظهور اللفظ في المعنى الفلاني ، وكونه مراداً بالإرادة الاستعماليّة ، كما هو غير خفيّ .
صفحه 193
عدم تحريف الكتاب
* عرض لمعاني التحريف والردّ عليه .
* مذهب الإماميّة في عدم التحريف المتسالم عليه .
* أدلّة عدم التحريف ، ومناقشة القائلين به .
صفحه 194
صفحه 195
عدم تحريف الكتاب
تمهيد
حيث إنّ مسألة التحريف من المسائل المهمّة المتعلّقة بالكتاب ، لابدّ من التعرّض لها والورود فيها مفصّلاً ليزول الشكّ والارتياب فيها إن شاء الله تعالى ، وتنقدح صيانة الكتاب في أنّه المعجزة الخالدة الوحيدة للنبوّة والرسالة ، والبرنامج الفذّ لهداية الناس إلى صلاح اُمورهم الدنيويّة والدينيّة ، وخروجهم من الظلمات إلى النور إلى يوم القيامة ، وإرشادهم إلى الطريق المستقيم ، والشريعة السمحة السهلة ، وإراءتهم لما يتضمّن سعادة الدارين التي هي السعادة المطلوبة والغاية المنشودة لكلّ عاقل .
ويظهر بطلان ما زعمه القائل بالتحريف ، جهلاً منه بما يترتّب على هذا القول السخيف من التوالي الفاسدة ، والآثار السيّئة ، ونقض الغرض ، وتطاول المخالفين المعاندين للإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى ، وغيرهما من الذين لا يطيقون عظمة هذا الدين القويم ، وشوكة المسلمين ، ويتشبّثون بكلّ ما يمكن أن ينتهي إلى خذلانهم وضعف عقيدتهم .
ومن العجب إصرار بعض من ينتحل العلم ، ويظهر التعصّب في الدين ، ويرى لنفسه الفضيلة والمزيّة على غيره ، على القول بالتحريف الذي يتبرّأ منه من له أدنى
صفحه 196
حظّ ونصيب من الشعور والعقل ، الذي هو الرسول الباطني والحجّة الداخليّة .
والظاهر أنّ الأيادي الخفيّة المشبوهة والسياسات المعادية للإسلام هي التي تؤيّد هذه العقيدة الباطلة لاُمور غير خفيّة على أهلها ، فاللاّزم على الواعي ـ ولابدّ أن تكون له هذه المسؤوليّة ـ الواقف على هذه الخصوصيّات أن لا يقع من حيث لا يشعر فيما يعود نفعه على المغرضين ، ويرجع إلى ضعف الدين ، ويستلزم خذلان المسلمين ، ويستوجب أن تكون الفرقة المحقّة الإماميّة الاثنا عشريّة مورداً للتهمة والافتراء عليهم; بأنّ من خصائص عقائدهم ومبتدعاتهم القول بتحريف الكتاب ، ووقوع النقص فيه ، حتّى أ نّ من كان منهم أشدّ إصراراً على هذا القول يكون تعظيمه أكثر من غيره ، وإكرامه أوجب .
وقد نشرت في هذه الأزمنة قبل سنين رسالة(1) ـ عذّب الله كاتبها ـ في موسم الحجّ في الردّ على الشيعة والنقض عليهم ، وكان عمدة ما اعتمد عليه كاتبها في إثبات غرضه الفاسد هو القول بالتحريف الذي ذهب إليه بعض العلماء منهم ، قائلاً : إنّه قول جميعهم ، وإنّه من امتيازاتهم ، وإنّ غرضهم من ذلك الفرار من التمسّك بالكتاب الذي هو الثقل الأكبر ، ويجب التمسّك به إلى يوم القيامة .
فهل مع مثل ذلك يسوغ للعاقل التفوّه بهذا الأمر الباطل ، فضلاً عن أن يؤلّف فيه الكتاب ، ويستند فيه إلى الآيات غير الدالّة والروايات الموضوعة ؟ عصمنا الله من الزلل والعثرة .
وكيف كان ، فنقول ـ وبالله الاستعانة ـ : إنّه لابدّ قبل الورود في أدلّة محلّ البحث وموضع النزاع من تقديم أمرين :
(1) (الشيعة والقرآن) ، إحسان إلهي ظهير من الهند ، إدارة ترجمان السنة ، لاهور ، باكستان ، الطبعة الاُولى سنة 1403 هـ . وقد توسّع في ذكر هذه المسألة في كتابه هذا أكثر من الذي ذكره في كتابه الأوّل (الشيعة والسنة) . وعلى منواله «الشيعة وتحريف القرآن» المطبوع سنة 1405 هـ ، محمد مال الله .
صفحه 197
عرض لمعاني التحريف والردّ عليه
الأمر الأوّل : فيما يستعمل فيه لفظ «التحريف» وبيان أنّ محلّ البحث ومورد النزاع ماذا؟
فنقول : قال بعض الأعلام ما لفظه :
«يطلق لفظ التحريف ويراد منه عدّة معان على سبيل الاشتراك ، فبعض منها واقع في القرآن باتّفاق من المسلمين ، وبعض منها لم يقع فيه باتّفاق منهم أيضاً ، وبعض منها وقع فيه الخلاف بينهم . وإليك تفصيل ذلك :
الأوّل : نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) (1) ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب الله ; فإنّ كلّ من فسّر القرآن بغير حقيقته ، وحمله على غير معناه فقد حرّفه . وترى كثيراً من أهل البدع والمذاهب الفاسدة قد حرّفوا القرآن بتأويلهم آياته على [ طبق] آرائهم وأهوائهم ، وقد ورد المنع عن التحريف بهذا المعنى ، وذمّ فاعله في عدّة من الروايات :
منها : رواية الكافي بإسناده عن الباقر (عليه السلام) أنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير : «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية(2) .
الثاني : النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات ، مع حفظ القرآن وعدم ضياعه ، وإن لم يكن في الخارج متميّزاً عن غيره .
والتحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعاً ، فقد أثبتنا لك فيما تقدّم(3) عدم
(1) سورة النساء 4 : 46 . (2) الكافي : 8 / 53 قطعة من ح16 ، وعنه بحار الأنوار: 78 / 359 قطعة من ح2 . (3) في ص 150 ـ 162 .
|