( الصفحه 288 )
نحو القضايا الحقيقية .
وينحلّ الحكم في هذا القسم إلى أحكام كثيرة حسب تعدّد الموضوع وكثرته فيختصّ كلّ واحد من أفراد الموضوع بحكم خاصّ كما هو الشأن في القضايا الحقيقية فانّ كلّ واحد من أشخاص موضوعاتها له حكم خاص ففي الحقيقة يصير معنى لا تشرب الخمر انّه يحرم شرب كلّ خمر موجود في الخارج أو يوجد بعد .
وبملاحظة ما ذكره المنطقيون من انحلال القضايا الحقيقية إلى قضية شرطية مقدّمها عقد الوضع فيها وتاليها عقد الحمل يصير معنى لا تشرب الخمر هكذا كلّ خمر إذا وجد في الخارج فهو بحيث إذا وجد يحرم شربه ، وهذه القضية كما ترى تكون الحرمة فيها مرتبة على وجود الخمر ، فالحرمة المجعولة للخمر قبل تحقّقه ووجوده في الخارج تكون حكماً إنشائياً ، وفعليتها وكونها زجراً للمكلّف يتوقّف على وجوده في الخارج ، ومن المعلوم انّ المنجز للتكليف إنّما هو العلم بالتكليف الفعلي لا العلم بالحكم الإنشائي وقد عرفت انّ فعليته متوقّفة على وجود موضوعه ، فتنجز الحرمة يتوقّف على العلم بالتكليف الفعلي وهو يتوقّف على وجود موضوعه فتنجّزها يتوقّف على العلم بوجود الموضوع ففي الحقيقة يكون وجود الموضوع من جملة شرائط وجود التكليف ، ومن هنا يظهر بطلان ما يترائى من كلام الشيخ (قدس سره) في الرسالة حيث إنّ الظاهر منه انّ عدم وجوب الاجتناب في الشبهات الموضوعية إنّما هو لعدم كونها مقدّمة علمية حتى تجب بوجوب ذيها وذلك لما عرفت من أنّ جواز الاقتحام وعدم جوب الاجتناب فيها إنّما هو لعدم العلم بتحقّق شرط التكليف فهو نظير ما إذا شكّ في تحقّق الاستطاعة التي يكون وجوب الحجّ مشروطاً بوجودهاً وهذا هو الفارق بين هذا القسم والأقسام الثلاثة المتقدّمة حيث إنّ الحكم فيها منجز بنفس العلم به واجتماع شرائط التكليف من
( الصفحه 289 )
القدرة وغيرها بخلاف هذا القسم الذي يتوقّف على أمر زائد أيضاً وهو العلم بوجود الموضوع كما عرفت انتهى .
أقول : محلّ البحث من هذه الأقسام الأربعة هو القسم الرابع ويظهر منه (قدس سره) انّ جريان البراءة العقلية فيه مبني على أمرين وهما الانحلال إلى التكاليف المتعدّدة حسب تعدّد الموضوع الذي يكون المتعلّق مضافاً إليه ورجوع القضية الحقيقية إلى الشرطية الظاهرة في ترتّب الجزاء على وجود الشرط .
وقد أنكر الأمر الأوّل سيّدنا الاستاذ البروجردي (قدس سره) وملخّص ما أفاده في توضيحه انّ المشهور ذهبوا إلى أنّ معنى النهي هو طلب الترك واختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) وعليه فيشترك النهي مع الأمر في أنّ معناه أيضاً هو الطلب غاية الأمر انّ الطلب في الأمر متعلّق بوجود الطبيعة وفي النهي بتركها ولازم ما ذكره المشهور سقوط النهي بالكلّية عن عهدة من خالفه وعصاه ولو مرّة فإنّ عدم الطبيعة ليس كوجودها حتّى يكون له أفراد متعدّدة ومصاديق متكثّرة لأنّه ليس شيئاً متحقّقاً وأمراً ثابتاً حتّى يكون واحداً وكثيراً ، غاية الأمر انّ العقل بعد إضافته إلى الطبيعة التي لا تكون في حدّ ذاتها واحدة ولا متكثّرة يعتبره أمراً واحداً و ـ حينئذ ـ يتحقّق اللزوم المذكور لأنّ المعصية عندهم مسقطة للتكليف كالامتثال فلا تستحق العقوبة إذا ارتكبه ثانياً وثالثاً وهكذا ، وكذا يلزم عدم الفرق بين الارتكاب قليلاً أو كثيراً وكذا عدم القدرة على الامتثال مع المخالفة ولو مرّة وبطلان اللوازم بمكان من الوضوح .
فالتحقيق أن يقال : إنّ معنى النهي ليس هو طلب الترك ، بل معناه هو الزجر عن إيجاد الفعل المنهي عنه كما انّ معنى الأمر هو إيجاد البعث إلى الفعل المأمور به ، غاية الأمر انّ للنهي عصيانات متعدّدة حسب تعدّد وجود الطبيعة المتعلّقة للنهي وتوهّم
( الصفحه 290 )
انّه لا يعقل تحقّق المعاصي المتعدّدة بالنسبة إلى تكليف واحد لأنّ المعصية إذا تحقّقت يسقط بها التكليف مدفوع بمنع ذلك إذ لا معنى لكون المعصية مسقطة للتكليف وسقوطه في بعض موارد العصيان إنّما هو لكون التكليف فيه مشروطاً وموقتاً بوقت خاص ولم يؤت به في وقته فسقوطه إنّما هو لمضي وقته وهو يوجب سلب القدرة على الامتثال وهذا بخلاف الامتثال فإنّه لكونه موجباً لحصول الغرض ولا معنى لثبوت الأمر مع حصول الغرض يوجب سقوط التكليف .
فقد ظهر انّ النهي مع كونه تكليفاً واحداً له عصيانات متعدّدة موجبة لاستحقاق عقوبات متكثرة كما انّ له أيضاً امتثالات فالقول بانحلال النهي إلى تكاليف عديدة حسب تعدّد الموضوع ممّا لا سبيل إليه انتهى .
وما أفاده (قدس سره) في الإشكال على المشهور في باب معنى النهي من عدم كون المطلوب في هذا الباب وهو عدم الطبيعة وتركها متعدّداً لأنّه ليس عدم الطبيعة كوجودها حتّى يكون له أفراد متعدّدة ومصاديق متكثّرة وإن كان محلّ نظر بل منع; لأنّه كما أنّ للطبيعة وجودات متكثّرة كذلك لها أعدام متعدّدة لأنّه كما انّ وجود فرد ما يكفي في تحقّق الطبيعة لكونه تمام تلك الطبيعة وليست النسبة بينه وبينها هي النسبة بين المركّب وأجزائه لعدم كون الفرد حصّة من الطبيعة بل تمامها كذلك يكفي عدمه في اتصاف الطبيعة بالعدم لأنّه لا يعقل أن يكون وجوده كافياً في وجودها ولا يكون عدمه موجباً لعدمها ولا مانع من اتصاف الطبيعة في أنّ واحد بالوجود والعدم بلحاظ اختلاف أفرادها كما لا مانع من اتصافها بالبياض والسواد والطول والقصر والحركة والسكون وأمثالها فوجودات الطبيعة إذا كانت متّصفة بالكثرة يكون اعدامها أيضاً كذلك إلاّ انّ ما أفاده في الإشكال على المحقّق النائيني (قدس سره) من إبطال الانحلال وعدم كون النواهي المتعلّقة بالطبايع راجعة إلى القضايا الحقيقية في
( الصفحه 291 )
كمال المتانة والسداد لأنّه لا وجه لإرجاعها إليها المستلزم للانحلال وثبوت تكاليف متعدّدة حسب تعدّد الموضوعات ، والظاهر انّ منشأ الإرجاع ملاحظة عدم ارتفاع النهي بالمخالفة وثبوته بعدها أيضاً مع أنّه لو كان تكليفاً واحداً غير منحلّ إلى تكاليف متعدّدة لكان اللاّزم سقوطه بالمرّة بالمخالفة ولو مرّة لأنّ العصيان يوجب ارتفاع التكليف فاللاّزم هو الالتزام بالانحلال حتّى تكون المخالفة في كلّ فرد من أفراد الموضوع موجبة لسقوط التكليف الخاص المتعلّق به مع بقاء التكليف بالإضافة إلى الأفراد الاُخر بحاله .
والحقّ انّ بقاء النهي بعد المخالفة لا يلازم الانحلال والإرجاع إلى القضايا الحقيقية ، بل حيث إنّ الزجر متعلّق بوجود الطبيعة يكون لازمه بقائه بعد المخالفة أيضاً لأنّه لم يقم دليل على أنّ التكليف الواحد لابدّ وأن لا يكون له إطاعات متعدّدة وعصيانات متكثّرة ، كما انّك عرفت انّه لا وجه لدعوى كون المعصية مسقطة للتكليف فالإنصاف تمامية ما أفاده الاستاذ (قدس سره) في مقام الإشكال على المحقّق المزبور .
وأمّا الأمر الثاني فقد أنكره سيّدنا الاستاذ الماتن ـ دام ظلّه العالي ـ في مباحثه الاُصولية ، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك انّ القضايا الحقيقية قضايا بتيّة كالقضايا الخارجية من دون فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً ، غاية الأمر انّ الحكم في القضايا الحقيقية إنّما يكون على الطبيعة بوجودها الساري أعمّ من الافراد المحقّقة والمقدّرة وفي القضايا الخارجية يكون مقصوراً على خصوص الأفراد الموجودة فقولنا : كلّ نار حارّة يكون الحكم بالحرارة فيه حكماً بتيّاً ثابتاً لجميع أفراد طبيعة النار ولا يكون حكماً مشروطاً بوجوده ، كيف ولو كان الحكم في مثله مشروطاً بوجود الموضوع لكان اللاّزم في مثل ما إذا كان المحمول من لوازم ماهية الموضوع كقولنا :
( الصفحه 292 )
«الأربعة زوج» أن يكون ترتّب الزوجية على الأرضعة مشروطاً بوجودها مع أنّ المفروض كونها من لوازم الماهية التي مرجعها إلى ثبوتها لنفس الماهية مع قطع النظر عن الوجودين بحيث لو فرض لها تقرّر وثبوت في غير عالم الوجودين لكانت تلزمها .
وبالجملة معنى القضية الشرطية هو كون الشرط فيها دخيلاً في ثبوت المحمول وترتّبه على الموضوع مع أنّ القضايا الحقيقية لا يكون كلّها كذلك فالحقّ انّها قضايا بتيّة غير مشروطة ولذا جعلها المنطقيون من الحمليات التي تكون قسيماً للشرطيات .
نعم لا شبهة في أنّ الحكم ما لم يتحقّق موضوعه لا يثبت وليس ذلك لأجل اشتراطه بوجود الموضوع ، بل لأنّ الموضوع ما لم يوجد لا يكون موضوعاً فإنّ النار ما لم تتحقّق في الخارج لا تكون ناراً والحكم بالحرارة معلّق على النار وـ حينئذـ فمع الشكّ في وجوده لا يكون حجّة ما لم ينضمّ إليه العلم بالصغرى لا لأجل الشكّ في وجود الشرط ، المستلزم للشكّ في المشروط وهو فعلية الحكم ، بل لأجل ما عرفت فالأمر الثاني ممنوع أيضاً .
هذا وعلى تقدير إنكار الأمر الأوّل كما عرفت انّه الحقّ فهل لازمه إنكار البراءة العقلية نظراً إلى ثبوت تكليف واحد معلوم فيجب الخروج عن عهدته وتلزم رعايته بالاجتناب عن الفرد المشكوك أيضاً أو انّه تجري بناء عليه أيضاً ، والظاهر هو الثاني; لأنّ وحدة التكليف مع ثبوت الإطاعات المتعدّدة والعصيانات المتكثّرة لا توجب تمامية الحجّة على العبد من دون العلم بموضوعه وليس المراد من البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو البيان الجائي من قبل المولى اللاّزم على عهدته حتّى يقال بأنّ البيان من قبله تام لا نقص فيه لأنّه ليس من شأنه بيان الصغريات