( الصفحه 300 )
موضوعية المانع لتقيد الصلاة بعدم وقوعها فيه فكما تجري البراءة في الأوّل على ما عرفت لا ينبغي الإشكال في جريانها في الثاني .
وأورد عليه سيّدنا الاستاذ (قدس سره) بعد حمل الوجه الثاني على خلاف ظاهره والدالّ على أنّ المانع هو مجموع وجودات الموضوع لا كلّ فرد منها فيستلزم عدم تحقّق المانع في زمان أصلاً وكذا صحّة الصلاة فيما إذا صلّى في بعض أفراده وإنّ المراد منه هو كون نفس السلب الكلّي قيداً واحداً ـ بأنّ المستفاد من الأدلّة المانعة انّ المطلوب للشارع هو عدم وقوع الصلاة في شيء من أجزاء غير المأكول والعدم أمر واحد عند اعتبار العقل بخلاف الوجود فإنّ الطبيعة توجد بوجود فرد ما ولا تنعدم إلاّ بعدم جميع الافراد فالقيد أمر واحد لابدّ من العلم بتحقّقه وحصول اليقين بوجوده فلا مجال لجريان البراءة في صورة الشكّ .
أقول : قد ذكرنا انّ الاعدام تتكثّر حسب تكثّر الوجودات وان كون القيد أمراً واحداً لا يقدح في جريان البراءة العقلية أصلاً مضافاً إلى ظهور بعض الروايات في كون الحكم ثابتاً في المقام على نحو القضية الحقيقية مع أنّ حمل الوجه الثاني في كلامه (قدس سره) على خلاف ظاهره لا وجه له بعد كونه في مقام التصوير بحسب الثبوت لا مقام الاستظهار من الأدلّة والإثبات كما لا يخفى هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بجريان البراءة العقلية في المقام .
جريان البراءة الشرعية في المقام
من الأخبار الدالّة عليها حديث الرفع المعروف واشتهاره بين الأصحاب يغني عن التكلّم في سنده مع أنّه ظاهراً من الصحاح وتقريب الاستدلال به للمقام من وجوه :
الأوّل : ما احتمله الشيخ الأعظم (قدس سره) في الرسالة من أنّ قرينة السياق تقتضي أن
( الصفحه 301 )
يكون الموصول في قوله (عليه السلام) : رفع ما لا يعلمون إشارة إلى خصوص الموضوعات الخارجية التي تعلّق الجهل بها بعناوينها التي تكون بها متعلّقات للأحكام اللزومية الشرعية فيختصّ بالشبهات الموضوعية ولا يعمّ الشبهات الحكمية فكلّ موضوع كان عنوانه المتعلّق للحكم مجهولاً فهو مرفوع ، واسناد الرفع إليه مع ظهور قوله (صلى الله عليه وآله) : «رفع عن اُمّتي» في الرفع التشريعي وعدم معقولية اسناده إلى الموضوعات الخارجية إنّما هو باعتبار الأثر المترتّب على المرفوع في صورة الجهل ، وفي المقام نقول : مانعية هذا اللباس الذي لا يعلم كونه من أجزاء غير المأكول مرفوعة بلسان رفع موضوعها وهو اللباس فتصحّ الصلاة فيه لعدم كونه مانعاً ومبطلاً لها وهذا من دون فرق بين أن نقول بانحلال المانعية المجعولة في المقام إلى مانعيات متعدّدة حسب تعدّد أجزاء غير المأكول وافراده ـ كما اختاره بعض الأعلام واستظهرناه من بعض أدلّة الباب على ما مرّ ـ وبين أن نقول بعدم الانحلال بلحاظ كون بعض الروايات بصورة النهي وهو تكليف واحد له إطاعات متعدّدة وعصيانات متكثّرة من دون فرق بين أن يكون نفسياً أو غيرياً وذلك لأنّه على تقدير عدم الانحلال يكون مرجع رفع الموضوع الذي يكون عنوانه مجهولاً إلى رفع أثره وعدم كونه عصياناً لذلك النهي فتدبّر .
الثاني : تعميم الموصول لكلتا الشبهتين الموضوعية والحكمية نظراً إلى أنّ الموصولات موضوعة للإشارة إلى جميع ما ثبتت له الصلة فكلّ شيء كان مجهولاً بنفسه أو بعنوانه الموضوع للحكم فهو مرفوع برفع نفسه أو رفع آثاره وأحكامه فباعتبار شمول الموصول للشبهات الموضوعية يصحّ الاستدلال بالحديث لرفع المانعية في المقام بالتقريب المتقدّم في الوجه الأوّل ومبنى هذا الوجه عدم كون وحدة السياق مقتضية للاختصاص بالشبهات الموضوعية ، بل كون وحدته موجبة
( الصفحه 302 )
للحمل على العموم لأنّ عدم تحقّق الاضطرار في الأحكام وكذا الإكراه ومثله لا يوجب تخصيص ما لا يعلمون ، بل مقتضى السياق إرادة العموم من هذا الموصول كإرادته من اخواته ، غاية الأمر انّ عموم الموصول إنّما يكون بملاحظة سعة متعلّقه وضيقه فقوله : «ما اضطروا إليه» اُريد منه كلّ ما اضطرّ إليه في الخارج ، غاية الأمر انّه لا يتحقّق الاضطرار بالإضافة إلى الحكم بوجه فمقتضى اتحاد السياق أن يراد من قوله : «ما لا يعلمون» أيضاً كلّ فرد من أفراد هذا العنوان ألا ترى انّه لو قيل : ما يرى وما يؤكل في قضية واحدة لا يوجب انحصار أفراد الثاني في الخارج ببعض الأشياء وتضيق دائرته تخصيص الأوّل أيضاً بذلك البعض كما هو ظاهر .
الثالث : دعوى اختصاص الموصول بما إذا كان الحكم مجهولاً غاية الأمر تعميم الحكم بالإضافة إلى الأحكام الكلّية المجعولة المجهولة في الشبهات الحكمية والأحكام الجزئية المجهولة في الشبهات الموضوعية .
ومبنى هذه الدعوى ـ مضافاً إلى أنّ اسناد الرفع إلى الحكم اسناد إلى ما هو له والحديث ظاهر في الاسناد إلى نفس الموصول ـ انّ حمل الموصول على الموضوع الخارجي بلحاظ اتحاد السياق يقتضي ارتكاب خلاف ظاهر السياق من جهة اُخرى فإنّ الظاهر من الموصول فيما لا يعلمون هو ما كان بنفسه معروضاً لوصف عدم العلم كما في غيره من العناوين كعنواني الاضطرار والاكراه فإنّهما يتعلّقان بنفس الفعل ويوجبان اتصافه بوصفي المضطرّ إليه والمكره عليه مع أنّ تخصيص الموصول بالشبهات الموضوعية ينافي هذا الظهور لعدم كون الفعل بنفسه معروضاً للجهل وإنّما المعروض له هو عنوانه و ـ حينئذ ـ يدور الأمر بين حفظ السياق من هذه الجهة بحمل الموصول فيما لا يعلم على الحكم المشتبه وبين حفظه من جهة اُخرى بحمله على إرادة الفعل ولا ريب انّ الترجيح مع الأوّل بنظر العرف .
( الصفحه 303 )
وعلى هذا الوجه يصحّ الاستدلال بالحديث للمقام بلحاظ كون المانعية الجزئية الثابتة لهذا اللباس على تقديرها مرفوعة لأجل كونها بنفسها مجهولة وهذا إنّما يتمّ على تقدير الانحلال ، وامّا على تقدير عدمه فليس لنا أحكام جزئية مجهولة حتّى يتعلّق بها الرفع ، بل الثابت إنّما هو الأحكام الكلّية والمفروض في الشبهات الموضوعية كونها معلومة غير مجهولة .
وقد ناقش سيّدنا الاستاذ البروجردي (قدس سره) في شمول الحديث لمثل المقام من الشبهات الموضوعية نظراً إلى أنّ الظاهر من الحديث عرفاً هو رفع التكاليف المجهولة التي توجب تضييقاً على المكلّف إذا علم بها لا رفع الأحكام الجزئية أو الموضوعات التي يرجع رفعها إلى رفع أحكامها بعد العلم بأصل الحكم الكلّي الذي صدر من الشارع .
وبعبارة اُخرى انّ المكلّف بعدما علم بحرمة الخمر الواقعي المقتضي لوجوب الاجتناب عن الافراد المعلومة وكذا المشكوكة لعدم جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية فقد علم بما يوجب التضييق عليه فإذا فرض انّ الشارع جوّز له الاقتحام في الافراد المشكوكة فلابدّ أن يبيّن ذلك بدليل يكون كالحاكم على دليل حرمة شرب الخمر الواقعي نظير الأدلّة الدالّة على حلّية كلّ شيء فيه حلال وحرام إلى أن تعرف الحرام منه بعينه وما يدلّ على طهارة المياه أو جميع الأشياء إلى أن يعلمانّها قذر أو نجس ، وغيرهما ممّا يكون دالاًّ على جواز الاقتحام في الشبهات الموضوعية وحيث لم يبيّن ذلك بمثل ما ذكر فلا يمكن رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل على التحريم الظاهر في حرمة الفعل بعنوانه الواقعي . وبالجملة فلم يثبت ظهور حديث الرفع في رفع الأحكام الجزئية المشكوكة في الشبهات الموضوعية .
وتندفع المناقشة ـ مضافاً إلى ما مرّ من جريان البراءة العقلية وقاعدة قبح
( الصفحه 304 )
العقاب من دون حجّة ـ بأنّه ما الفرق بين قوله : رفع ما لا يعلمون وبين مثل قوله : رفع ما اضطروا إليه فكما انّ الثاني حاكم على الأدلّة الأوّلية كذلك الأوّل فإنّ مفاده عدم ثبوت الحرمة الواقعية في مورد الشكّ والجهل فالإنصاف تمامية الاستدلال بحديث الرفع للمقام .
جريان أصالة الحلّية في المقام
ومن الاُصول التي اعتمد عليها في المقام لإثبات الصحّة والجواز اصالة الحلّية التي تدلّ عليها روايات كثيرة :
منها : صحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه .
ومنها : موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سمعته يقول : كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم انّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة .
ومنها : غير ذلك من الروايات الدالّة عليها والظاهر عدم اختصاصها بالشبهات الموضوعية لشمول مثل الموثقة للشبهات الحكمية وامتيازها عن أصالة البراءة الشرعية إنّما هو في اختصاصها بالشبهات التحريمية وعدم شمولها للشبهات الوجوبية دون البراءة الشرعية ودعوى رجوع الثانية إلى الاُولى لأنّ ترك الواجب حرام مدفوعة بمنع حرمة ترك الواجب بحيث كان هناك تكليفان تعلّق أحدهما بالفعل والآخر بالترك ، بل الواجب ما تعلّق البعث بإيجاده والحرام ما تعلّق الزجر به من دون أن يرجع أحدهما إى الآخر بوجه وكذا تمتاز اصالة الحلّية بأنّ مفادها