( الصفحه 294 )
تقدير فلو كان لزومه كذلك موجباً لعدم تنجّز التكليف إلاّ على تقدير تعلّقه بالأقلّ يلزم الخلف .
وامّا استلزام وجوده للعدم فلأنّ لزوم الأقلّ على الفرض يستلزم عدم تنجّز التكليف على كلّ حال وهو يستلزم عدم لزوم الأقلّ مطلقاً وهو يستلزم عدم الانحلال فلزم من وجود الانحلال عدمه وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال .
أقول : وهنا تقريب ثالث زائد على التقريبين المذكورين وهو انّ العلم التفصيلي لو تولّد من العلم الإجمالي بحيث كان معلولاً له ومسبّباً عنه لا يعقل أن يؤثّر في انحلال ذاك العلم الإجمالي لأنّه لا يمكن أن يؤثّر المعلول في رفع علّته واعدامها مع بقائه ، والمقام من هذا القبيل فإنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ امّا لنفسه أو لغيره إنّما نشأ من العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر نظير ما إذا تردّد أمر الوضوء ـ مثلاً ـ بين أن يكون وجوبه نفسياً أو غيرياً ناشئاً من الوجوب المتعلّق بما هو مقدّمة له ولكن كان وجوب ذي المقدّمة مشكوكاً فإنّه لا يعقل أن يصير العلم التفصيلي بوجوب الوضوء على أي تقدير موجباً لانحلال العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفساً أو بوجوب ما يكون هو مقدّمة له لأنّه مع الانحلال واجراء اصالة البراءة بالإضافة إلى وجوب ذي المقدّمة لا يكون العلم التفصيلي باقياً بحاله ، فالعلم التفصيلي المسبّب عن العلم الإجمالي يستحيل أن يؤثّر في انحلاله واضمحلاله كما هو ظاهر .
هذا والاستدلال والإشكال بتقريباته الثلاثة كلاهما مبتنيان على أمرين : ثبوت المقدّمية للاجزاء واتصافها بالوجوب الغيري كالمقدّمات الخارجية والأوّل وإن كان يمكن توجيهه كما قرّر في محلّه إلاّ انّ الثاني لا مجال له بوجه لأنّ الوجوب الغيري ـ على تقدير القول به وثبوت الملازمة العقلية بينه وبين الوجوب النفسي
( الصفحه 295 )
المتعلّق بذي المقدّمة ـ إنّما هو لأجل انّ الوجوب المتعلّق بذي المقدّمة لا يكاد يدعو إلى المقدّمة لأنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه فالالتزام بالوجوب الغيري إنّما هو لأن يدعو إلى الإتيان بالمقدّمة لأجل تحقّق ذيها وبدونه لا يكون هنا ما يدعو إليه بعد عدم كون الأمر بذي المقدّمة صالحاً للدعوة إلى غير المتعلّق ومن الواضح انّ هذا المناط موجود في المقدّمات الخارجية لكونها مغايرة لذي المقدّمة ماهية ووجوداً فالأمر الداعي إليها لابدّ وأن يكون غير الأمر المتعلّق بذيها ، وامّا المقدّمات الداخلية فلا حاجة فيها إلى الأمر الغيري بعد كون الأمر المتعلّق بذيها داعياً إليها لعدم كون المركّب مغايراً لها لأنّه إجمالها وصورتها الوحدانية وتلك تفصيله وتحليله وهو لا ينافي مقدّمية الاجزاء لأنّ المقدّمة إنّما هو كلّ جزء مستقلاًّ لا مجموع الأجزاء ،فالأمر المتعلّق بالمركّب يدعو بعينه إلى الاجزاء ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر داعياً إلى غير متعلّقه لأنّ الاجزاء هي نفس المركّب والفرق إنّما هو بالإجمال والتفصيل ، والبساطة والتحليل .
وتقريب البراءة على ما ذكرنا انّ الأمر يدعو إلى الاجزاء بعين دعوته إلى المركّب ويترتّب على ذلك انّ الحجّة على الاجزاء إنّما هي بعينها الحجّة على المركّب لكن مع قيام الحجّة على الاجزاء التي ينحلّ إليها ، وامّا مع عدم قيامها على جزئية بعض ما تحتمل الجزئية فيه فلا يكون الأمر بالمركّب داعياً إلى ذلك الجزء المشكوك أيضاً لعدم العلم بتعلّق الأمر بما ينحلّ إليه ، ومن المعلوم انّ تمامية الحجّة تتوقّف على إحراز الصغرى والكبرى معاً ومع الشكّ في إحداهما لا معنى لتماميتها المصحّحة للعقاب لعدم كونه عقاباً من دون بيان ومؤاخذة بلا برهان ، فاللاّزم العلم بتعلّق الأمر بالمركّب وبأجزائه التحليلية أيضاً وبدون ذلك تجري البراءة العقلية الراجعة إلى قبح العقاب المذكور وثبوت الارتباط بين الاجزاء على ما هو
( الصفحه 296 )
المفروض لا يقدح في جريان البراءة عقلاً بعد عدم تمامية الحجّة بالإضافة إلى مشكوك الجزئية .
ولا يتفاوت في جريان البراءة بين القول بكون مدلول ألفاظ العبادات خصوص الصحيح منها وبين القول بالأعمّ من الفاسد لما حقّقناه في الاُصول من أنّ مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيين مسألة مستقلّة لا يبتنى جريان البراءة فيها وعدمه على مسألة الصحيح والأعمّ وإن ذهب جماعة كالمحقّق النائيني (قدس سره) إلى أنّ الصحيحي لابدّ وأن يقول بجريان قاعدة الاشتغال في مسألة الأقلّ والأكثر ولكنّه ممنوع ، نعم على تقدير تصوير الجامع على بعض الوجوه كالتصوير على النحو الذي اختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) في الكفاية لا محيص عن الالتزام بقاعدة الاشتغال كما أوضحناه في محلّه .
ثمّ إنّه لسيّدنا الاستاذ البروجردي (قدس سره) تقريب آخر لجريان البراءة تبعاً لبعض الأعلام وهو انّ الأمر مع كونه واحداً حقيقة له أبعاض كثيرة يتعلّق كلّ بعض منها بجزء من أجزاء متعلّقه وذلك لأنّ المركّبات الشرعية مركّبات اعتبارية والمراد بها هي الأشياء المتغايرة في الحقيقة المتكثّرة في الوجود ، غاية الأمر اعتبار الوحدة فيها باعتبار ترتّب حكم واحد عليها وكونها معنونة بعنوان حسن بخلاف المركّبات الحقيقية وـ حينئذ ـ فإذا تعلّق أمر واحد بتلك الأشياء فقد تعلّق بكلّ واحد منها بعض ذلك الأمر الواحد فإذا شكّ في متعلّقه من حيث القلّة والكثرة فقد شكّ بعد العلم بتعلّق أبعاضه المعلومة إلى الأجزاء المعلومة في تعلّق بعضه بالجزء المشكوك فيحكم العقل بالبراءة وعدم تنجّز ذلك الأمر بالإضافة إلى البعض المشكوك على تقدير تعلّقه بالأكثر واقعاً ولا ينافي ذلك تنجّزه بالنسبة إلى أبعاضه المعلومة ، ولا منافاة بين كون الأمر واحداً حقيقة وكونه ذا أبعاض كثيرة إذ هو نظير بعض الاُمور
( الصفحه 297 )
الخارجية الذي يكون واحداً حقيقة مع كونه ذا أبعاض كثيرة كالماء الواقع في الحوض ـ مثلاً ـ فإنّه مع كونه واحداً لمساوقة الاتصال مع الوحدة على ما قرّر في محلّه يعدله أبعاض ، بل قد يكون بعضه معروضاً لعرض كالحمرة وبعضه الآخر معروضاً لضدّ ذلك العرض كالصفرة ـ مثلاً ـ فلا منافاة بينهما أصلاً .
فانقدح من البحث في المقامين انّ الأقوى جريان البراءة العقلية في كليهما وهل يكفي ذلك في الذهاب إلى جريانها في مسألة اللباس المشكوك أو انّه لا يكفي ذلك لوجود عنوان ثالث في المقام مانع عن التمسّك بالبراءة وهو الشكّ في المحصل كما اختاره سيّدنا الاستاذ المذكور (قدس سره) حيث إنّه بعد الحكاية عن الشيخ الأعظم (قدس سره) القول بالبطلان في المقام مع ذهابه إلى البراءة في المسألتين المذكورتين وبعد نقل اعتراض بعض من أجلاّء تلامذة الميرزا الشيرازي (قدس سره) عليه بأنّه لا مجال للبطلان مع اختيار البراءة فيهما قال ما ملخّصه : «إنّ ظاهر الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول انّ المعتبر في الصلاة أن لا تقع في شيء من أجزاء كلّ فرد من أفراد ما لا يؤكل لحمه . وبعبارة اُخرى : المعتبر هو عدم تحقّق هذه الطبيعة المتوقّف على عدم وجود شيء من أفراده وينتزع منه مانعية كلّ فرد لا بنحو يكون كلّ فرد مانعاً مستقلاًّ حتّى يلازم ذلك كون القيد هو عدمه بنحو الاستقلال بحيث كانت هناك قيود متعدّدة حسب تعدّد الوجودات المانعة بل بمعنى انّه حيث كان القيد هو عدم تحقّق الطبيعة فوجودها مانع عنه ، ومن المعلوم انّ تحقّق الطبيعة إنّما يكون بوجود كلّ فرد منها فمانعية وبر الأرانب إنّما هي لتحقّق الطبيعة به وكذا مانعية وبر الثعالب وغيره ممّا لا يؤكل لحمه وهذا بخلاف عدم الطبيعة إذ هو ليس شيئاً حتّى يكون له مصاديق وأفراد ، بل هو أمر واحد باعتبار من العقل بعد إضافته إلى طبيعة خاصّة . ومن الواضح لزوم إحراز هذا القيد وهو عدم تحقّق الطبيعة المذكورة ومع الإتيان
( الصفحه 298 )
بالصلاة في اللباس المشكوك لا يعلم بحصول الشرط فلا يعلم بتحقّق المشروط وهذا من دون فرق بين أن نقول برجوع الشرائط الشرعية إلى شرائط العقلية كما اختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) وبين أن نقول بأنّ الشرطية والمانعية إنّما تنتزعان من تقييد المأمور به بوجود شيء أو بعدمه فإنّه على كلا المذهبين لابدّ من إحراز وجود القيد بعد كونه أمراً واحداً مبيّناً مفهوماً» .
ويرد عليه مضافاً إلى ما عرفت من أنّ عدم الطبيعة لا يكون إلاّ كوجودها ، فكما انّ وجودات الطبيعة متعدّدة متكثّرة كذلك اعدام الطبيعة فإنّها أيضاً متعدّدة فعدم الطبيعة بعدم زيد يغاير عدمها بعدم عمرو وهكذا ولا مانع من اتصاف الطبيعة في أنّ واحد بالوجود والعدم معاً كاتصافها بالسواد والبياض وبالطول والقصر وغيرهما من المتضادين وإلى أنّ التقيّد بالعدم الراجع إلى شرطية العدم غير معقول فإنّ الشرطية من الأوصاف الوجودية المفتقرة إلى موصوف متحقّق والعدم ليس بشيء حتّى يتصف بالشرطية ويؤثّر في تأثير السبب والمقتضى ، انّه على تقدير إمكانه خلاف ظاهر الأدلّة الواردة في الصلاة في أجزاء غير المأكول فإنّ ظاهرها كما عرفت في بعض الجهات المتقدّمة ثبوت المانعية التي هي أيضاً أمر وجودي معروضها وجود المانع ومرجعها إلى كونه حائلاً بين الطبيعة المأمور بها وبين وجودها ويمنع عن تحقّقها في الخارج ، والتعبيرات التي يستفاد منها المانعية بين ما ظاهره النهي عن الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه وبين ما ظاهره الحكم بالفساد في الصلاة في أجزائه وبين ما ظاهره نفي الجواز الظاهر في الحكم الوضعي الراجع إلى الفساد .
امّا ما يدلّ على النهي فحكمه حكم النواهي الواردة في التكاليف النفسية من جهة جريان البراءة في الشبهات الموضوعية فكما انّ قوله : «لا تشرب الخمر» مع