( الصفحه 552 )
يكون جعل الجدي في القفا كما في الرواية أو على المنكب الأيمن كما في عبارة الشرائع موجباً للعلم بالقبلة وجهتها بالمعنى المذكور ، وعليه فلا وجه للبحث في أنّ المستفاد من الرواية الواردة فيه هل هو الاختصاص بغير المتمكّن من تحصيل العلم أو الأعمّ منه ومن المتمكّن ضرورة انّه على تقدير إفادته العلم لا مجال لهذا الكلام ، نعم لو قلنا بعدم إيجابه للعلم وعدم إفادته سوى الظنّ فللبحث المذكور مجال ، ولكن عرفت استظهار الإطلاق من الرواية وعدم الاختصاص بغير المتمكّن ، نعم لا ينبغي الإشكال بلحاظ كون الراوي عراقياً كوفياً في الاختصاص بأهل العراق أو خصوص أوساطه كالكوفة والنجف وبغداد .
ثمّ إنّه على تقدير إيجابه العلم لا مجال للبحث في كونه أمارة شرعية أصلا كما لا يخفى ، وامّا على تقدير عدم إيجابه العلم فيمكن أن يقال بأنّه من الظنون الخاصة كالبيّنة ويمكن أن يكون من مصاديق مطلق الظنّ وان ذكره ليس لأجل خصوصية فيه بل من جهة كونه مصداقاً له .
نعم على التقدير الثاني لابدّ من التخصيص بغير المتمكّن للروايات الآتية الدالّة على أنّ الرجوع إلى الظنّ إنّما هو مع عدم العلم بوجه القبلة الظاهر في عدم إمكان تحصيل العلم به وعلى التقدير الأوّل يجري فيه الاحتمالان كما عرفت .
وامّا الأمارات الكثيرة المذكورة في كلمات الفقهاء كما مرّ بعضها في كلام الشرائع فإن كان مرادهم انّها مفيدة للعلم لتوسعة دائرة القبلة فلا مانع ، وإن كان مرادهم اعتبارها ولو مع عدم إفادة العلم فلم ينهض عليه دليل لأنّ الامارة المفيدة للظنّ لابدّ من قيام الدليل على اعتبارها وبدونه لا يترتّب عليها شيء ، نعم إنّما يصحّ الرجوع إليها لتحصيل الظنّ مع عدم إمكان تحصيل العلم لما يأتي من جواز الرجوع إليه في هذه الصورة ، وعليه فلابدّ من أن تكون مفيدة للظنّ الفعلي لأنّ
( الصفحه 553 )
مقتضى الدليل اعتباره في تلك الصورة .
الثاني : انّه مع تعذّر العلم وما يقوم مقامه يجب التحرّي والعمل على طبق المظنّة ولا يجب الاحتياط بتكرير الصلاة إلى أربع جهات وفاقاً للمشهور ويدلّ عليه صحيحة زرارة قال : قال أبو جعفر (عليه السلام) : يجزي التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة .
فإنّ التحرّي بمعنى الحثّ والتفتيش لحصول الطرف الراجح لأنّ العمل على طبقه أحرى من العمل بالمرجوح ومعنى الاجزاء هو الكفاية في مقابل وجوب الاحتياط بالتكرار المذكور كما انّ مرجعه إلى لزوم التحرّي وعدم جواز الاكتفاء بالجهة التي يشاء ، نعم يمكن أن يكون المراد بالاجزاء هو الاجزاء بالنسبة إلى مقام العمل وجواز الدخول في الصلاة والشروع فيها فلا تعرّض في الرواية ـ حينئذ ـ لحال المكلّف من جهة الإعادة وعدمها بعد انكشاف الخلاف وتبين كون الجهة التي صلّى إليها غير القبلة ، ويمكن أن يكون هو الاجزاء بالإضافة إلى الواقع ومعناه الكفاية ولو بعد انكشاف الخلاف ولعلّ هذا هو الظاهر من الرواية خصوصاً مع ملاحظة كلمة «أبداً» كما لا يخفى .
وبالجملة فدلالة الرواية على اعتبار المظنّة في باب القبلة مع عدم العلم بوجهها واضحة .
ويدلّ عليه أيضاً موثقة سماعة قال : سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم يرَ الشمس ولا القمر ولا النجوم قال : اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك .
ومثلها مضمرة مهران التي رواها عنه سماعة . ونحن وإن قرّبنا في بحث المواقيت ارتباط الرواية بباب الوقت وعدم تعرّضها لمسألة التحيّر في القبلة بوجه إلاّ انّ مقتضى النظر الثانوي انّ إنكار دلالتها على التعرّض للقبلة مشكل والتوجيه
( الصفحه 554 )
المذكور هناك لقوله (عليه السلام) وتعمّد القبلة جهدك ممّا لا يقبله الذوق السليم فالإنصاف اختصاص الرواية بباب القبلة ولا أقلّ من دلالتها على حكمها أيضاً مضافاً إلى الوقت ومفادها لزوم إعمال الجهد في تشخيص القبلة وترتيب الأثر على مقتضى اجتهاده وإن كان الدليل لا ينحصر بها لما عرفت من دلالة صحيحة زرارة على ذلك .
وكيف كان ففي مقابل الروايتين خمس روايات لابدّ من ملاحظتها والتأمّل في التوفيق والجمع ولزوم الأخذ بأي الطرفين على تقدير عدمه فنقول ثلاث منها واردة في المتحيّر ودالّة على جواز الصلاة أينما توجّه أو على لزومها إلى أربع جهات ، ومن المعلوم مخالفة كلا الحكمين للزوم التحرّي وترتيب الأثر على طبق الراجح وهي :
صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه قال : يجزي المتحيّر أبداً أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة .
ومرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام)عن قبلة المتحيّر فقال : يصلّي حيث يشاء .
ومرسلة الكليني قال بعد نقل المرسلة : وروى أيضاً انّه يصلّي إلى أربع جوانب .
والمراد بالمتحيّر المذكور في هذه الروايات امّا خصوص من لا علم له كما يدلّ عليه قوله (عليه السلام) في الرواية الاُولى : إذا لم يعلم أين وجه القبلة ، وامّا من لا علم له ولا ظنّ كما هو الظاهر من عنوان المتحيّر لأنّ من كان ظانّاً بشيء لا يكون عند العقلاء والعرف متحيّراً في ذلك الشيء ، فعلى التقدير الأوّل تكون المعارضة بينها وبين الروايتين الدالّتين على لزوم التحرّي بالعموم والخصوص لأنّ موردهما من لا علم له وإن كان له ظنّ ومفادهما لزوم التحرّي فيجب تخصيصها بهما على ما هو مقتضى
( الصفحه 555 )
قاعدة الجمع .
إن قلت : إنّ مورد الروايتين إنّما هو المتحيّر أيضاً كمورد هذه الروايات ضرورة انّ إيجاب التحرّي إنّما هو على المتحيّر فلا اختلاف بين الموردين ومورد قاعدة التخصيص ما إذا كان مورد الدليل المخصّص خاصّاً بالإضافة إلى الدليل العام هذا مضافاً إلى أنّ التعبير في الطائفتين إنّما هو بالاجزاء ولا معارضة بين الاجزائين .
قلت : إنّ التأمّل في الروايتين يقضي بكون موردهما هو المتحيّر الذي يقدر على التحرّي وتحصيل المظنّة لأنّ إيجابه عليه يقتضي عدم شموله لجميع أفراد المتحيّر فالمورد هو المتحيّر القادر وهو خاص بالإضافة إلى مطلق المتحيّر الوارد في الروايات ، وامّا التعبير بالاجزاء في الروايتين فالمقصود منه عدم إيجاب تكرير الصلاة إلى أربع جهات فينافي مع المرسلة الدالّة على الوجوب كما انّ اجزاء التحرّي لا يلائم مع جواز الصلاة إلى أيّ طرف شاء لعدم إمكان الجمع بين جوازها إليه وبين التحرّي الذي مرجعه إلى الصلاة إلى جانب مخصوص فالمعارضة بين الاجزائين متحقّقة وقاعدة الجمع تقتضي ما ذكرنا من حمل هذه الروايات على المتحيّر غير القادر على التحرّي كما سيأتي الكلام فيه .
وعلى التقدير الثاني الذي يكون المراد بالمتحيّر من لا علم له ولا ظنّ كما لعلّه الظاهر بملاحظة ما ذكرنا لا ارتباط بينهما وبين هذه الروايات لأنّ موردهما المتحيّر القادر على تحصيل الظنّ وهو لا يكون بمتحيّر أصلا وموردها هو المتحيّر وهو ما لا يكون قادراً على تحصيل شيء من العلم والظنّ كما هو ظاهر .
وواحدة من تلك الروايات الخمس واردة فيمن لا يهتدي إلى القبلة وهي مرسلة الصدوق قال : روى فيمن لا يهتدي إلى القبلة في مفازة انّه يصلّي إلى أربعة جوانب . والكلام فيها هو الكلام في الروايات المتقدّمة من جريان الاحتمالين فيمن
( الصفحه 556 )
لا يهتدي وانّه هل المراد به من لا يهتدي علماً أو من لا يهتدي علماً ولا ظنّاً وكذا في نتيجة الاحتمالين .
والخامسة : رواية خراش (خداش خ ل) عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال : قلت : جعلت فداك انّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد فقال : ليس كما يقولون إذا كان ذلك فليصل لأربع وجوه . ومورد هذه الرواية وإن كان صورة المظنّة بلحاظ ظهور كلمة الاجتهاد فيها ، وعليه فالتعارض بينها وبين الروايتين بنحو لا مجال للجمع أصلا لدلالتهما على جواز الاقتصار على الصلاة إلى الجانب الذي كان مقتضى اجتهاده ثبوت القبلة فيه ودلالة هذه الرواية على عدم الجواز ولزوم التكرير إلى أربع وجوه إلاّ انّ إرسال الرواية من جانب وضعفها باعتبار خراش من جانب آخر لكونه مجهول الحال ولم يعلم استناد المشهور إلى هذه الرواية في مسألة التكرير الآتية حتى يكون جابراً لضعفها يوجب عدم صلاحيتها للمعارضة مع الروايتين مضافاً إلى ما ربما يقال : من أنّ مقتضاها انّ الشيعة لا يعمل على طبق الاجتهاد والظنّ أصلا ولو في مورد مع أنّه خلاف ما عليه علمائهم من العمل بالظنّ في موارد كثيرة كما في الركعتين الأخيرتين من الصلاة وغيره من الموارد .
فقد ظهر ممّا ذكرنا انّ الروايات الخمسة لا تعارض الروايتين بوجه وانّ اللاّزم هو الأخذ بمفادهما والحكم بلزوم التحرّي مع إمكانه .
ثمّ إنّ مقتضى أخذ كلمة «التحرّي» وكذا كلمة «الاجتهاد» أو «الجهد» في الروايتين إنّما هو عدم جواز الاقتصار على الظنّ الابتدائي بالقبلة بل اللاّزم هو استفراغ الوسع وبذل الجهد والتفتيش والبحث والفحص ولازمه اليأس عن الوصول إلى شيء آخر كما انّ مقتضى الكلمتين هو الفحص عن المعارض أيضاً