(الصفحة 12)
رواية مثلا على وجوبها كذلك ، فأيّ مانع يمنع عنه ويوجب التصرّف في دلالته أو سنده مثلا ـ : أنّه ناشئ من عدم حمل العبارة على ما هو مقصود الماتن(قدس سره) ; فإنّ الظاهر أنّ متعلّق الوجوب في جميع الأُمور الثلاثة إنّما هو العمل ; يعني أنّ المكلّف يجب عليه في مقام العمل إمّا أن يعمل على طبق اجتهاده أو تقليده ، أو يراعي الاحتياط في هذا المقام .
وعليه : فالتفكيك بين هذه الأُمور من جهة كون الاحتياط عنواناً لنفس العمل ـ وكذا التقليد على مختاره ، والاجتهاد طريق لمعرفة الأحكام ولا يكون عنواناً لنفس العمل ـ ممّا لا وجه له من جهة ما هو المقصود من العبارة ، بل لا محيص عن الحمل على العمل .
ضرورة أنّ العقل الحاكم بالوجوب لا يحكم بكفاية الاجتهاد بمجرّده ; لعدم تأثيره كذلك في امتثال التكاليف المعلومة بالإجمال ، بل المؤثّر إنّما هو العمل على طبق الاجتهاد ، فلا مناص من حمل العبارة على العمل ، وإن كان الجمود على الظاهر يأباه كما هو ظاهر .
ثمّ التمسّك في مقام الاستدلال على إثبات الاستحالة وعدم الإمكان بعدم وجوب الاحتياط شرعاً فيه ما لا يخفى من الغرابة ، كما أنّ دعوى استلزام الوجوب الشرعي للتسلسل ـ نظراً إلى أ نّه على تقدير كون الوجوب شرعيّاً لابدّ وأن يكون المكلّف في هذا التكليف أيضاً غير خال عن إحدى الحالات الثلاث ، بخلاف ما إذا كان الوجوب عقلياً ـ واضحة الدفع ; ضرورة أنّ اللابدّية المذكورة لا توجب الانتهاء إلى التسلسل ، فأيّ مانع من أن تجري هذه الحالات الثلاث في هذا التكليف أيضاً ، كما هو ظاهر .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أ نّه لا مانع من تعلّق الوجوب الشرعي بهذه الأُمور
(الصفحة 13)
الثلاثة . نعم ، لا ينبغي الإشكال في أنّه على تقدير الوقوع يكون كسائر الأحكام الشرعيّة ، فلابدّ من أن يكون الوصول إليه إمّا بطريق الاجتهاد، أو التقليد، أو الاحتياط ، فتدبّر .
الجهة الثانية : أنّه بناءً على كون المراد بالوجوب هو الوجوب العقلي ـ الذي مرجعه كما عرفت(1) إلى إدراك العقل لزوم طيّ أحد هذه الطرق في مقام التخلّص عن عقوبة المولى والفرار عنها كما هو الظاهر ; لعدم الدليل شرعاً على ذلك ، أو لاستحالة الوجوب الشرعي على الخلاف المتقدّم ـ هل هنا طريق رابع ، أو أنّ الطرق منحصرة بهذه الاُمور الثلاثة؟ لا ينبغي الإشكال في عدم الانحصار . ضرورة أنّ المكلّف لو حصل له العلم بالتكليف وبخصوصيّاته من أيّ طريق حصل يكون حجّة عليه ، ويلزم عقلا متابعته واقتفاء أثره ، ولأجل ذلك لا يكون المعصوم(عليه السلام) خارجاً عن هذا الحكم العقلي ، وإلاّ فعلى ما هو ظاهر العبارة يكون خروج المعصوم(عليه السلام) ممّا لا ينبغي الارتياب فيه .
وبالجملة : فمع حصول العلم الوجداني الذي هو أقوى الطرق لا وجه للزوم سلوك طريق آخر . نعم ، هنا كلام في أنّ حجّيّة العلم هل يمكن أن تنالها يد الجعل إثباتاً أو نفياً أم لا؟ والتحقيق في محلّه . كما أ نّه وقع الكلام أيضاً في إمكان عدم اجتزاء الشارع بالعلم الحاصل من طريق خاصّ كالجفر والرمل وأمثالهما وعدمه ، والتحقيق أيضاً في محلّه .
هذا ، ويمكن أن يقال بثبوت طريق خامس ; وهو الاكتفاء بالامتثال
الاحتمالي في بعض الموارد ; وهو ما لا يكون للمكلّف أيّة حجّة ولا يمكن له
(الصفحة 14)
الاحتياط ، فتدبّر .
الجهة الثالثة : هل هذه الأُمور الثلاثة التي يتطرّق بها في مقام التخلّص عن تبعة مخالفة تكليف المولى طوليّة مترتّبة ، أو أ نّه في رتبة واحدة؟ ربما يُقال بتقدّم الأخير ـ أعني الاحتياط ـ على الأوّلين ; نظراً إلى أنّ الاحتياط طريق عقليّ يترتّب عليه الأثر المترقّب قطعاً ، وأمّا عدلاه فيحتاج إلى الجعل الشرعي وحكم الشارع بحجّية منشأ الاستنباط وكونه معتبراً عنده كما في الاجتهاد ، والتقليد يتفرّع عليه ، ضرورة أنّ المقلَّد ـ بالفتح ـ لا يكون عالماً بالأحكام الإلهية بالعلم الوجداني إلاّ نادراً ، وعليه : فمرتبة الاحتياط متقدّمة عليهما .
كما أ نّه ربما يقال بتقدّم مرتبة الأوّلين على الاحتياط ، نظراً إلى أنّ جواز الاحتياط حيث يكون محلّ الخلاف فلابدّ من أن يكون المكلّف مجتهداً فيه أو مقلّداً ، ففي الحقيقة الواجب على المكلّف إمّا الاجتهاد وإمّا التقليد ، وعلى التقديرين فإن أدّى نظره أو نظر مقلَّده إلى جواز الاحتياط يجوز ، وإلاّ فلا .
والظاهر فساد كلا القولين :
أمّا الأوّل : فلأنّ الاحتياج إلى حكم الشارع في باب الاجتهاد إنّما هو لتحقّق موضوع الاجتهاد وصغريه . وأمّا الاكتفاء في مقام الامتثال بموافقة الطريق الذي حكم الشارع بجواز التطرّق به ، وعدم المنع من انسلاكه ، فهو حكم عقليّ يترتّب على الحجيّة الشرعيّة ، والكلام إنّما هو في هذا الحكم لا في تحقّق الموضوع . وكذلك التقليد المتفرّع على هذا النحو من الاجتهاد ; فإنّ الاجتزاء به من باب رجوع الجاهل في كلّ فنّ وصنعة إلى العالم به لا يكاد يكون الحاكم به إلاّ العقل ، كما هو غير خفيّ .
وأمّا الثاني : فقد ذكر المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في رسالة الاجتهاد والتقليد أنّ كون
(الصفحة 15)
المسألة خلافية نظرية لا يقتضي جريان التقليد فيه ، قال : ألا ترى أنّ أصل التقليد خلافيّ جوازاً ومنعاً ، ومع ذلك لا يقتضي أن يكون تقليدياً ، وكذلك تقليد الأعلم خلافيّ ومع ذلك ليس بتقليديّ ، إلى غير ذلك من النظريات والخلافيات ، بل كونه تقليدياً يتبع أن يكون على طبق المورد حكم مماثل يمكن أن يكون العامي متعبّداً به ومنشأً لحركته على طبقه ، فلو لم يكن هناك حكم مماثل ، أو كان ولكن لم يمكن منشئيّته لحركة العامّي للزوم المحال ، فلا محالة لا يكون تقليدياً .
ثمّ قال ما ملخّصه : إنّ للاحتياط حيثيّتين :
إحداهما : الحيثيّة العارضة للاحتياط بعنوانه من وجوب شرعيّ حقيقي أو طريقي ، أو حرمة نفسية بملاحظة انطباق عنوان مبغوض عليه .
ثانيتهما : الحيثية المخرجة للاحتياط عن كونه احتياطاً ; لأنّ الشارع لو تصرّف في مورده بنفي أو إثبات تعيّن أحد الطرفين شرعاً ، فلا مورد للاحتياط عقلا .
أمّا بلحاظ الحيثيّة الأُولى ، فالمسألة تقليديّة بلحاظ العارض لا المعروض ، فترتّب الأثر المترقّب من العمل الاحتياطي غير منوط بالتقليد ، وإن كان كونه فاعلا للواجب أو تاركاً للحرام قابلا للاستناد إلى فتوى المجتهد .
وأمّا بلحاظ الحيثيّة الثانية ، فالمسألة تقليدية من حيث نفس عنوان الاحتياط ; لعدم تمكّن العامي من استنباط تمحّض المورد للاحتياط إلاّ بالرجوع إلى المجتهد ، ولذا ذكرنا أنّ إجراء الأُصول العقلية منوط بنظر المجتهد .
ثمّ قال : والتحقيق أ نّ حرمة الاحتياط نفسيّاً وعدمها ليست مهمّة في مقام حصر طريق الامتثال في الاجتهاد والتقليد وعدمه ، بل المهم ترتّب الأثر المترقّب من المعاملة والعبادة على الاحتياط، وحيث إنّ فرض الاحتياط حقيقة هو فرض ترتّب أثر الواقع، فلا محالة يؤول البحث إلى البحث عن تحقّق العبادة ـ كالمعاملة ـ
(الصفحة 16)
بالاحتياط وعدمه; لأجل خصوصيّة مأخوذة في العبادة بحيث لا تتحقّق إلاّ بالامتثال التفصيلي عن اجتهاد أو تقليد ، كقصد الوجه على القول بأ نّه كذلك ، فهو في الحقيقة بحث عن قبول العبادة للاحتياط وعن التمكّن منه في العبادة ، وكونه كذلك لا يعلم إلاّ بالاجتهاد والتقليد .
فمعنى التقليد حينئذ التعبّد بعدم اعتبار تلك الخصوصيّة شرعاً ، ولازمه إمكان الاحتياط ، لا التعبّد بإمكانه ولا التعبّد بجوازه شرعاً في قبال حرمته نفساً ، كما أنّ معنى التقليد في مقام إجراء قاعدة الاحتياط اللازم بحكم العقل هو التعبّد بعدم الحكم شرعاً نفياً أو إثباتاً ، بحيث لا يكون مجرى للقاعدة الملزمة بالاحتياط عقلا لا التعبّد به شرعاً(1) .
وما أفاده(قدس سره) وإن لم يكن بخال عن مناقشة بل مناقشات ـ من حيث عدم نهوض دليل على ما جعله ضابطاً لكون المسألة تقليدية ، من لزوم ثبوت حكم مماثل على طبق المورد يمكن أن يكون العامي متعبّداً به ومنشأً لحركته على طبقه .
ومن جهة تخصيصه الوجه في تعلّق الحرمة النفسية العارضة للاحتياط بعنوانه بانطباق عنوان مبغوض عليه بعد احتمال كون الوجه مبغوضيته بعنوانه ، كما لا يخفى .
ومن جهة جعل الحيثيّة المخرجة للاحتياط عن كونه احتياطاً حيثيّة ثانية للاحتياط مع عدم معقولية ذلك ; ضرورة أنّ الحيثيّة المعدمة للشيء لا تكون حيثيّة لنفس ذلك الشيء ، مضافاً إلى أنّ تصرّف الشارع في مورد الاحتياط بنفي أو إثبات إن كان معلوماً بالعلم الوجداني ، فهو يوجب خروج الاحتياط عن كونه
- (1) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 181 ـ 182 .