(الصفحة 5)
ولم يتجاوز عن شيء ممّا يوجب ضعف الدين وتزلزل عقيدة المسلمين ، بل هيّأ جميع الوسائل المنتجة لذلك ، وأسّس أُصول التعليم والتربية التي هي الأساس لتمدّن كلّ قوم على مبنى الاستعمار ، والانحراف عن الدين والعقيدة الإسلاميّة ، بحيث قلّما يتّفق أن يتديّن من كان تعليمه وتربيته على منواله وأساسه .
وفي هذا الحال كان سعيه على تضعيف الروحانيين ، والفصل بينهم وبين الناس بتحقيرهم والتبليغ عليهم ، وإراءتهم على خلاف ما هم عليه من ترويج الشريعة وتبليغ الحقيقة ، وإرشاد الناس إلى كمالهم في الدنيا والآخرة ، مدّعياً للارتجاع فيهم ومضادّتهم للتمدّن والرقي والكمال والسعادة .
وبالنتيجة كان مطيعاً لدستور المستعمرين ، ومجرياً لأوامرهم ونظراتهم من دون تخلّف وعصيان ، وذلك لأجل توقّف حكومته عليه واشتراط بقائه به .
ولكن مع ذلك تفضّل الله سبحانه على الشعب بأن أيقظهم عن نومة الغفلة وعدم الالتفات التي كانوا فيها عشرات السنين ، وذلك ببركة الروحانية وإرشاداتهم في طول سنين متعدّدة بطرق مختلفة من مكتوب وبيان وغيرهما .
وكانت القيادة والزعامة في ذلك للإمام الخميني أدام الله ظلّه وأبقاه للإسلام والمسلمين ، فقد أظهر علمه بعد ظهور البدع ، وتحمّل لأجله مشاقّاً كثيراً من حبس وإقصاء من «قم» إلى «تركيا» ثمّ إلى «العراق»(1) . ثمّ إخراجه منه وسفره إلى
- (1) وفي أواخر إقامته في العراق ابتلي ببلاء عظيم تحمّله حقّ التحمّل ، وصبر عليه حقّ الصبر ; وهو وفاة قرّة عينه ونور بصره وثمرة فؤاده ، العالم المجاهد ، والفاضل الكامل ، الجامع للمعقول والمنقول ، صاحب التآليف القيّمة والتصانيف الثمينة ، صديقنا الأكبر آية الله الحاج السيد مصطفى الخميني قدّس سرّه الشريف ، وحشره مع أجداده الطاهرين ، صلوات الله عليهم أجمعين . ولم تُعلم علّة وفاته مع كونه صحيحاً سالماً عن كلّ مرض ، وقد لاقاه في ليلة وفاته جمع من أصدقائه معترفين بسلامته وعدم إحساسه للمرض بوجه . والمشهور أنّ العلّة هي دسيسة الحكومة الإيرانية الجائرة ، وأمره بعض عمّاله وأياديه بذلك ، ويؤيّده أ نّه قد لاقاه في أواسط الليلة المذكورة بعض من لم يعرف إلى الآن ، والحقّ سيظهر يوم القيامة والمحاكمة فيه أيضاً .
وكان المرحوم في رأس قائمة أصدقائي من أوّل اشتغالي بتحصيل العلوم الدينية ، وقد باحثت معه كتباً كثيراً من السطح ومباحث متعدّدة من الكتب الفقهيّة من الخارج ، ولعمري أ نّه كان في قوّة الذكاء وشدّة الاستعداد ، قليل النظير ، وفي التأليف والكتابة شديد التحمّل ، طيّب الله ثراه وأعطى الصبر الجميل والأجر الجزيل للمصابين به ، سيّما والده الإمام أبقاه الله للمسلمين والإسلام بحقّ النبيّ والأئمّة الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام .
(الصفحة 6)
«باريس» وإقامته فيها مدّة ، ولكنّه في جميع تلك المدّة التي تزيد على خمس عشرة سنة ، خصوصاً في أيّام إقامته بـ«باريس» أيقظ الأُمّة وأرشد الشعب ، وكشف عن جنايات الحكومة والقدرة الحاكمة ، وهداهم إلى طريق المبارزة والقيام في مقابلها ، الذي هو الجهاد من المسلم في مقابل الكفر والزندقة .
ونتيجة تلك الإرشادات تنبّه الاُمّة وخروجهم عن الغفلة ، وتوجّههم إلى ما يجري عليهم حال المملكة من إحاطة الاستعمار على جميع شؤونها وجوانبها ، ونهب المخازن والمعادن والمنابع بأجمعها ، وفي المقابل فقر الاُمّة من جميع الجهات السياسيّة والاقتصادية والدينيّة وغيرها .
وبعد يقظتهم وقيامهم في مقابل الحكومة ، والمظاهرات المتعدّدة المتعاقبة الموجبة للضحايا المتكثّرة ، واستشهاد الذين يبلغ عددهم عشرات الآلاف ، انهدم نظام الحكومة وانفصمت أركان السلطنة ، بحيث اضطرّ من تقمّصها إلى الخروج من المملكة خروجاً لا رجوع بعده أبداً ، وبذلك اختتم دوران الاختناق والاستعمار ، ولكنّه مع ذلك كانت بقاياه مانعة عن تشكيل الحكومة الجمهورية
(الصفحة 7)
الإسلاميّة ، وذلك لأجل منعه عن رجوع الإمام إلى الوطن وإقامته مع الشعب ، ولكنّ الممانعة قد ارتفعت بقيام الاُمّة ومظاهراتهم ، ولو تأخّر رجوعه عن الزمان الذي رجع فيه لخيف على المملكة .
وبعد رجوعه واستقبال عدد كثير خارج عن حدّ العدّ والإحصاء عنه أمر بتشكيل الحكومة المذكورة ، وأمر بمتابعة الناس وإطاعتهم لها ، وبيّن أنّ الإطاعة لها كالإطاعة لمالك الأشتر حين ولاّه الإمام علي(عليه السلام) على مصر .
والاُمّة بعد ذلك قد رأوا أنفسهم في مسير الدين الحنيف ، ومجرى الشريعة المطهّرة ، ومحلاًّ لهداية الكتاب العزيز ، وإن وقعت بعده أيضاً حوادث ناشئة من عروق الاستعمار وبقاياه ، ولكن تلك الحوادث لم تتمكّن من تغيير مسير الاُمّة ، ولم توجب خللا في طريق الحقّ الذي وجدته بعد قرون متعدّدة ، سيّما في القرن الأخير الذي بلغ فيه الاستعمار المرتبة الكاملة والاستثمار حدّاً ليس فوقه حدّ ، فنحمد الله تعالى على هذه النعمة الجارية على الاُمّة ببركة الإمام ، ونسأل منه تعالى إتمامها باستقرار الحكومة الإسلامية بجميع جوانبها وشؤونها ، وقطع بقايا الاستعمار وعروقه ، وأن تتّصل هذه الحكومة بالحكومة المهدوية المنتظرة المسيطرة على جميع أقطار العالم إن شاء الله تعالى .
وأمّا ما يتعلّق بهذا الكتاب متناً وشرحاً . أمّا المتن ، فقد ألّفه الإمام الماتن ـ دام ظلّه ـ كما أفاده في مقدّمته في مملكة تركيا حين ما أُقصي من إيران إليها ، وإن وقع تكميله في النجف الأشرف بعد انتقاله منها إليه .
وأمّا الشرح ، فقد شرعت فيه في بلدة «يزد» ـ المعروفة بدار العبادة والإيمان ـ
(الصفحة 8)
حينما كنت مقيماً فيها بالإقامة الجبرية من ناحية الحكومة الجائرة(1) ، بعدما أقمت في «بندر لنگه» من سواحل الجنوب ما يقرب من أربعة أشهر في أواسط الصيف ، الذي تكون شدّة حرارة الهواء فيها منضمّة إلى شدّة الرطوبة غير قابلة للتحمّل ، ولأجله قد خفت على نفسي مكرّراً ، وبعد الانتقال إلى البلدة المذكورة والإقامة فيها شرعت في شرح الكتاب ، واشتغلت به جميع مدّة إقامتي فيها التي هي أكثر من سنتين ونصف ، ووفّقت في تلك المدّة لتأليف مجلّدات متعدّدة منه ، واستمرّ ذلك بعد تماميّة مدّة الإقامة والرجوع إلى بلدة قم ، إلى أن بلغ إلى الآن إثنى عشر مجلّداً ، نسأل الله تبارك وتعالى التوفيق للإتمام ـ ولعلّه يبلغ أربعين مجلّداً ـ بحقّ النبيّ الصادع للشرع والأئمّة الكرام عليه وعليهم السلام ، وسمّيته بـ «تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة» .
وقد بذلت الجهد في تبيين المطالب بعبارات قريبة إلى الطباع ، وكلمات مقبولة عند السماع من دون إيجاز مخلّ ولا إطناب مملّ ، وأسأل من القرّاء أن ينظروا بعين الإغماض . وأبتهل إلى الله أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يثبّتني حين تزلّ الأقدام على الصراط المستقيم ، وأن يجعله تذكرة لي وتبصرة لغيري ، إ نّه خير مسؤول ومجيب .
قم ـ الحوزة العلميّة : محمّد الفاضل اللنكراني
شوّال المكرّم 1399 الهجرية
- (1) لأجل المعارضة معها تبعاً واقتداءً بالإمام .
(الصفحة 9)
وجوب التقليد أو الاحتياط لغير المجتهد
إعلم أنّه يجب على كلّ مكلّف غير بالغ مرتبة الاجتهاد في غير الضروريّات من عباداته ومعاملاته ولو في المستحبّات والمباحات أن يكون إمّا مقلّداً ، أو محتاطاً بشرط أن يعرف موارد الاحتياط، ولا يعرف ذلك إلاّ القليل، فعمل العامّي غير العارف بمواضع الاحتياط من غير تقليد باطل بتفصيل يأتي 1.
1 ـ في هذا المقام جهات من الكلام :
الجهة الاُولى : في بيان المراد من هذا الوجوب ، لا ينبغي الإشكال في أنّ المراد منه هو الوجوب العقلي الذي مرجعه إلى إدراك العقل وحكمه بأ نّه بعد الالتفات إلى أصل التشريع ، وحصول العلم إجمالا بثبوت أحكام إلزاميّة كثيرة في الشريعة المقدّسة ، ولزوم رعايتها والتعرّض لامتثالها ; لعدم كون الناس مهملين في أُمورهم ، مفوّضين إلى اختيارهم ، مضافاً إلى التوعيد الثابت من الشرع قطعاً على ترك التعرّض للامتثال وعدم المبالاة برعاية الأحكام ، يلزم لأجل التخلّص عن ترتّب العقوبة وحصول الأمن من العذاب أن يمشي طريقاً يؤمّنه من ذلك .
فمرجع حكم العقل إلى صحّة عقوبة المولى لتارك هذا الطريق ، وإلزامه إيّاه بالتخلّص عنها لو كان بصدد الفرار عن العقوبة والتخلّص منها ، وعليه : فليس