(الصفحة 365)كاشفيّة حسن الظاهر عن العدالة
المقام الثاني : في الكاشف عن العدالة ، والأمارة الشرعيّة التعبّديّة عليها ، والكلام فيه يقع في مرحلتين :
المرحلة الأُولى :في أصل وجود الكاشف والأمارة عليها بالخصوص
زائداً على الأمارة ، أو الأمارات الشرعيّة العامّة ، كالبيّنة وإخبار عادل واحد
أو ثقة كذلك على اختلاف في الأخيرين ، كما مرّ في مبحث اعتبار البيّنة
وحجيّتها(1) .
والظاهر كما هو المتسالم عليه بين الأصحاب وجود أماره خاصّة ، وأ نّ حسن الظاهر كاشف شرعيّ عن العدالة ، وهذا مع قيام الدليل عليه يساعده الاعتبار ;
إذ لولاه لم يمكن كشف العدالة نوعاً ، ولو مع كمال المعاشرة وطول المخالطة ; لعدم إمكان العلم نوعاً بعدم صدور المعصية منه كما هو واضح ، وقيام البيّنة لابدّ
وأن يكون مستنداً إلى العلم لا محالة ولو كانت هناك واسطة ، كبيّنة اُخرى إذا قلنا بجواز استناد البيّنة إلى مثلها .
وبالجملة : لا إشكال في عدم إمكان كشف العدالة نوعاً لو لم يكن أمارة شرعيّة خاصّة عليها ، فالاعتبار يساعد وجودها .
وأمّا الدليل ، فالعمدة كما عرفت هي صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة(2)المشتملة على أنّ الدليل الشرعي على تحقّق ملكة العدالة والقيود المعتبرة فيها ،
- (1) في ص253 ـ 260 .
-
(2) في ص313 ـ 314 .
(الصفحة 366)
هو الأمر المركّب من الستر لجميع العيوب في المعاصي الوجوديّة ، والمحافظة على الصلوات الخمس في المعاصي العدميّة ، وقد عرفت(1) النكتة في تخصيص الصلوات الخمس من بين الواجبات بالذكر . وهذا الأمر المركّب هو الذي يعبّر عنه بحسن الظاهر . وعليه : فلا ينبغي الإشكال في كونه كاشفاً عن العدالة في الجملة .
وتؤيّد الصحيحة في الدلالة على ذلك روايات اُخرى لا يخلو بعضها عن الخلل في السند ، أو المناقشة في الدلالة :
منها : رواية حريز ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا ، فعدل منهم اثنان ولم يعدل الآخران ، فقال : إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعروفون بشهادة الزور أُجيزت شهادتهم جميعاً ، الحديث(2) . ومن المعلوم أ نّه لا خصوصيّة لشهادة الزور ، بل المعتبر هو عدم المعروفيّة بارتكاب المعاصي ، ويرجع ذلك إلى حسن الظاهر .
ومنها : موثّقة أبي بصير ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً(3) .
ومنها : رواية علقمة قال : قال الصادق(عليه السلام) وقد قلت له : يا ابن رسول الله أخبرني عمّن تُقبل شهادته ومن لا تقبل؟ فقال : يا علقمة كلّ من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته . قال : فقلت له : تقبل شهادة مقترف بالذنوب؟ فقال :
يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلاّ شهادة الأنبياء
- (1) في ص322 ـ 325 .
-
(2) تهذيب الأحكام : 6 / 277 ح759 ، الاستبصار : 3 / 14 ح36 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 397 ، كتاب الشهادات ب41 ح18 .
-
(3) الفقيه : 3 / 27 ح77 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 395 ، كتاب الشهادات ب41 ح10 .
(الصفحة 367)
والأوصياء(عليهم السلام) ; لأنّهم المعصومون دون سائر الخلق ، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً ، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان ، فهو من أهل العدالة والستر ، وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنباً ، ومن اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية الله ، داخل في ولاية الشيطان(1) .
ثمّ إنّه لا مجال لدعوى اعتبار المعاشرة في كاشفيّة حسن الظاهر ، بحيث لو كان الشخص منزوياً جالساً في بيته غير مرئيّ في الاجتماع إلاّ في حال الصلاة مثلا لايكون هنا طريق إلى عدالته من جهة حسن الظاهر ، وذلك لأ نّه ـ مضافاً إلى أنّ نفس الحضور في جماعة المسلمين والجهات الملازمة لذلك لا يكاد ينفكّ عن المعاشرة كما هو واضح ـ لا دليل على اعتبارها أصلا ; فإنّ الأمارة الشرعيّة هي الساتريّة للعيوب بأجمعها ، ونفس الإنزواء وعدم المخالطة من جملة الطرق للستر .
نعم، لابدّ من تحقّق العلم بحصول الأمارة الشرعيّة أو ما يقوم مقامه ، كالبيّنة لو فرض اعتبارها في جميع الموارد ، فإذا قامت البيّنة على ثبوت حسن الظاهر يكفي ، كما إذا قامت على شهادة البيّنة بنجاسة الشيء الفلاني أو حرمته ، فتدبّر جيّداً .
المرحلة الثانية : في أنّ كاشفيّة حسن الظاهر هل تختصّ بما إذا أفاد العلم ،
أو الظنّ الشخصيّ بتحقّق ملكة العدالة والجهات المعتبرة فيها ، كما هو ظاهر عبارة العروة بل صريحها (2)، أو أ نّه كاشف مطلقاً ولو لم يفد العلم بل ولا الظنّ ،
كما استظهره سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ في ذيل المسألة السابعة والعشرين المتقدّمة ؟ والظاهر هو الوجه الثاني ; لأنّك عرفت أنّ العمدة في هذا
- (1) أمالي الصدوق : 163 ح3 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 395 ، كتاب الشهادات ب41 ح13 .
-
(2) العروة الوثقى: 1 / 10 مسألة 23 .
(الصفحة 368)
الباب هي الصحيحة المتقدّمة الدالّة على أنّ الساتريّة والحضور في جماعة المسليمن كاشف عن العدالة ودليل شرعيّ عليها ، ولم يقع فيها التقييد بما إذا أفاد العلم
أو الظنّ الشخصيّ بتحقّق الملكة وسائر الأُمور المعتبرة .
وقد استدلّ على مختار العروة بروايتين :
إحداهما : مرسلة يونس بن عبدالرحمن ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سألته عن البيّنة إذا أُقيمت على الحقّ ، أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة؟ فقال : خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم : الولايات ، والمناكح ، والذبائح ، والشهادات ، والأنساب ، فإذا كان ظاهر الرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته
ولا يُسأل عن باطنه(1) . نظراً إلى أنّ توصيف الظاهر بكونه مأموناً مرجعه إلى حصول الوثوق والاطمئنان بكونه مطابقاً للواقع .
والجواب عنه : أنّ المأمونيّة إنّما هي في مقابل الفسق والفجور ، ومعنى الرواية أنّه إذا كان ظاهر الرجل ظاهراً دينيّاً ، عاملا بالوظائف ، مجتنباً عن المعاصي ، فشهادته جائزة ، في مقابل من كان ظاهره الفسق والفجور والإخلال بالوظائف الشرعيّة .
وبعبارة اُخرى : الرواية ظاهرة في أنّ الظاهر على قسمين : أحدهما : المأمونيّة ، والاُخرى : مقابلها ، وليست فيها دلالة بوجه على أنّ من كان ظاهره القيام بالوظائف الشرعيّة ، يجب أن يحصل منه الظنّ بالمطابقة مع الواقع حتى تكون شهادته جائزة ، كما هو ظاهر .
ثانيتهما : رواية أبي علي بن راشد قال : قلت لأبي جعفر(عليه السلام) : إنّ مواليك
- (1) الفقيه : 3 / 9 ح29 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 392 ، كتاب الشهادات ب41 ح3 .
(الصفحة 369)
قد اختلفوا فأُصلّي خلفهم جميعاً؟ فقال : لا تصلّ إلاّ خلف من تثق بدينه(1) ; فإنّ ظاهره اعتبار الوثاقة الشخصيّة بالدين ، أو به والأمانة ، كما في رواية الشيخ .
والجواب : أنّ الوثاقة بالدّين ظاهرة في الوثاقة بكونه إماميّاً إثنى عشرياً
ولا كلام فيه ، وأمّا الوثاقة بالأمانة ـ كما فيما رواه الشيخ ـ فالظاهر عدم اعتبارها في جواز الاقتداء لو كان المراد بها هي الوثاقة الشخصيّة ; لوضوح جواز الاقتداء بمن قامت البيّنة على عدالته ، أو كان مقتضى الاستصحاب بقاء عدالته ، إذاً فالمراد بالوثاقة إمّا الوثاقة النوعيّة ، أو الوثاقة بكونه أميناً في الظاهر ، ومرجعه إلى الوثوق بوجود الأمارة الكاشفة عن العدالة والاطمئنان بتحقّق حسن الظاهر .
وبالجملة : فلم يقم في مقابل ما دلّ على كاشفيّة حسن الظاهر بنحو الإطلاق الشامل لصورة عدم حصول الظنّ فضلا عن العلم ، دليل على التقييد بخصوص
ما إذا أفاد العلم أو الظنّ ، كما عرفت .
هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بمبحث العدالة ، وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ العدالة لاتكون عبارة عن مجرّد الملكة الراسخة الباعثة ، كما أفاده الماتن دام ظلّه ، بل هي بضميمة الاجتناب العملي تحقّق التقوى خارجاً ، بحيث لو تحقّق ارتكاب الكبيرة لا تتحقّق العدالة بوجه ، ومنه يظهر أنّ ارتكاب الكبيرة إنّما يؤثّر في زوال صفة العدالة حقيقة ، ويمنع عن تحقّقها واقعاً ; لدخالة الاجتناب عنها في الحقيقة والماهيّة ، كما أ نّه ظهر ممّا ذكرنا أنّ ارتكاب الصغيرة من دون إصرار لا يقدح في العدالة أصلا ، وأنّ ملكة المروءة دخيلة فيها بمقتضى الرواية ، فتأمّل جيّداً .
- (1) الكافي : 3 / 374 ذ ح5 ، تهذيب الأحكام : 3 / 266 ح755 ، وفيه : بدينه وأمانته ، وعنهما وسائل الشيعة : 8 / 309 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ب10 ح2 .