(الصفحة 135)
القطعيّة إجمالا أو تفصيلا .
فلقائل أن يقول بلزوم إعادة أعماله السابقة على طبق فتوى المجتهد الثاني
حتى لا يلزم ذلك التالي الفاسد ، كما أنّ القاعدة أيضاً تقتضي ذلك ، إلاّ أن
يقوم دليل على صحّته وجواز الاجتزاء به ، كحديث لا تعاد(1) في خصوص
باب الصلاة ، حيث يدلّ على عدم وجوب إعادتها في غير الخمس المستثناة
فيه ، بناءً على عدم اختصاصه بالناسي ، والتحقيق في محلّه كالتحقيق في
باب القضاء من جهة كونه بأمر جديد ، ومن جهة موضوعه .
وبالجملة : فبطلان جملة من الأعمال ، وعدم جواز الاقتصار عليها لا يرتبط بمسألة جواز العدول وعدمه أصلا .
ومنها : دعوى الإجماع من المحقّق القمّي(قدس سره) ـ على ما حكي عنه ـ على عدم الجواز (2).
والجواب عنها واضح .
ومنها : قاعدة الاشتغال ; لحكم العقل بالتعيين في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مثل المقام ، وهي مسألة الحجّية ، فإنّ فتوى المجتهد الأوّل حجّة قطعاً ، وفتوى الثاني مشكوكة الحجّية . وقد اشتهر أنّ الشكّ في الحجّية مساوق للقطع بعدمها .
والجواب : أنّ هذه القاعدة إنّما تجري فيما إذا لم يكن هناك أصل شرعيّ مثبت للتخيير دالّ على ثبوت الحجّية لمشكوكها ، وقد عرفت جريان استصحاب التخيير
- (1) الفقيه : 1 / 181 ح857 ، وعنه وسائل الشيعة : 4 / 312 ، كتاب الصلاة : أبواب القبلة ب9 ح1 .
-
(2) قوانين الاُصول: 2 / 264 .
(الصفحة 136)
وخلوّه عن جميع المناقشات(1) ، ولأجل هذه الجهة يفترق المقام عن المسألة الآتية ; وهي جواز الرجوع عن الميّت على تقدير جواز البقاء على تقليده ، حيث إ نّه لا يجري هناك استصحاب التخيير إلاّ في بعض فروضه ، كما إذا كان المجتهد الحيّ الذي يريد الرجوع إليه موجوداً في حياة المجتهد الميّت ، حينما أراد المكلّف
الرجوع إليه والأخذ بفتواه ، ومع عدم جريانه ـ كما في غير مثل هذا الفرض ـ لا محيص عن الرجوع إلى قاعدة الاشتغال وحكم العقل بأصالة التعيين . وأمّا في مثل المقام من موارد جريان استصحاب التخيير ، فلا يبقى مجال لتلك القاعدة العقلية ، كما هو واضح .
فانقدح من جميع ما ذكرنا جواز العدول إلى المجتهد الثاني ، وإن كان
مساوياً للأوّل في الفضيلة والعلم ، وأنّ الحكم بعدم الجواز بنحو الاحتياط الوجوبي ـ كما في المتن ـ مبنيّ على قاعدة الاشتغال ، وحكم العقل بأصالة التعيين
في موارد دوران الأمر بين التخيير والتعيين ، إمّا مطلقاً ، أو في خصوص باب الحجّية كما عرفت ، وقد ظهر لك أ نّه لا مجال للقاعدة إلاّ في موارد عدم جريان
استصحاب التخيير ، وأ نّه لا مانع من جريانه في المقام أصلا . هذا كلّه في العدول
إلى المجتهد المساوي .
ولو كان الثاني أعلم ، فإن قلنا بقيام الدليل على تعيّن تقليد الأعلم ، فالظّاهر وجوب العدول إلى الأعلم ، وإن قلنا بلزومه من باب قاعدة الاحتياط وحكم العقل بأصالة التعيين عند دوران الأمر بينه وبين التخيير ، فالظاهر جواز العدول دون وجوبه ، ولأجله يجتمع الحكم بجواز العدول إلى الأعلم مع الحكم بلزوم تقليد
(الصفحة 137)
الأعلم من باب الاحتياط ، كما في «العروة»(1) . وأمّا سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ فيمكن الإيراد عليه بأ نّه لا يكاد يجتمع الحكم بعدم جواز العدول إلى المساوي بنحو الاحتياط اللزومي ، مع الحكم بوجوب العدول إلى الأعلم كذلك ، وكون أصل اللزوم أيضاً من باب الاحتياط اللزومي ، كما سيصرّح به في المسألة الآتية .
توضيح الإيراد : أنّ هنا تجري قاعدتا الاشتغال والاحتياط ، إحداهما في مسألة العدول ; وهي تقتضي عدم الجواز احتياطاً ، والأُخرى في مسألة تقليد الأعلم ; وهي تقتضي تعيّنه كذلك ، فإذا أراد العدول إلى خصوص الأعلم يكون مقتضى القاعدة الأُولى العدم ، ومقتضى القاعدة الثانية لزوم العدول ، وحيث لا مرجّح لإحداهما على الأُخرى ، فلا محيص عن الحكم بجواز العدول ، ولا يبقى مجال لوجوبه كما في المتن ، فتأمّل جيّداً .
- (1) العروة الوثقى : 1 / 7 مسألة 12 .
(الصفحة 138)[تقليد الأعلم والفحص عنه]
مسألة5: يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط، ويجب الفحص عنه، وإذا تساوى المجتهدان في العلم ، أو لم يعلم الأعلم منهما ، تخيّر بينهما. وإذا كان أحدهما المعيّن أورع ، أو أعدل ، فالأولى الأحوط اختياره، وإذا تردّد بين شخصين يحتمل أعلميّة أحدهماالمعيّن دون الآخر ، تعيّن تقليده على الأحوط 1.
1 ـ الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات :
المقام الأوّل : في تعيّن تقليد الأعلم وعدمه .
فنقول : لاخفاء في أنّ هذه المسألة ـ كأصل مسألة التقليد ـ لا تكون تقليديّة ; بمعنى أنّ الذي يحمل العامّي على الرجوع إلى الأعلم حينما يريد التقليد والرجوع إلى الغير ، ليس إلاّ حكم عقله وإدراكه ، وإلاّ فالحامل له عليه ليس فتوى المجتهد بلزوم الرجوع إلى الأعلم ; للزوم الدور ، فتأمّل . فإذا تعيّن عليه الرجوع إلى حكم عقله ، فإن احتمل تعيّن تقليد الأعلم واختصاص جواز الرجوع به ، فلا مناص له عن الرجوع إليه ; لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وحكم العقل بلزوم الاحتياط فيه والأخذ بالذي يحتمل فيه التعيّن ; لأ نّه بالأخذ به لا يكون الضرر والعقاب محتملا أصلا .
وأمّا مع الرجوع إلى غير الأعلم ، يكون احتمال العقاب الذي هو الموضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل موجوداً ، فهذه القاعدة العقليّة تحكم عليه بلزوم الرجوع إلى الأعلم .
(الصفحة 139)
وإن لم يحتمل تعيّن تقليد الأعلم ، ولم يقع في ذهنه هذا الاحتمال أصلا ، بل حكم عقله بالتساوي ، فلا يكون هنا أيّ ملزم على الرجوع إلى الأعلم ، بل يسوغ له أخذ فتوى غيره والرجوع إليه ، فإن حكم بلزوم تقليد الأعلم فالواجب حينئذ بمقتضى فتواه العدول عنه إلى الأعلم ، وإن لم تكن فتواه تعيّنه ، بل كان الرجوع إلى الغير جائزاً عنده ، وبقي العامي على تقليده للتالي ، فلا مجال لمؤاخذته بوجه أصلا ، كما لا يخفى . هذا بالنسبة إلى ما هو المستند للعامي والحامل له .
وأمّا بالنسبة إلى ما يستنبطه المجتهد من الأدلّة الاجتهاديّة ، فتارة: يظهر له منها أحد طرفي المسألة من التعيّن وعدمه ،وأُخرى:لا يظهر له ذلك ،بل يبقى متردّداً شاكّاً .
فإن بقي متردّداً فاللازم الحكم بالتعيّن من باب الاحتياط اللازم ، الذي يحكم به العقل عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب الحجّية ; ضرورة أ نّه مع وجود الأعلم واحتمال تعيّنه ، تكون فتوى غير الأعلم مشكوكة الحجّية ، والشكّ فيها يساوق القطع بعدمها .
ومنه يظهر أ نّه لا مجال لقياس المقام على الدوران بين التعيين والتخيير في باب التكاليف ، كما إذا دار الأمر بين عتق خصوص الرقبة المؤمنة ، والتخيير بينه وبين عتق الرقبة الكافرة ، حيث إنّه مجرى البراءة ; نظراً إلى أنّ أصل التكليف بالإعتاق معلوم ،والشكّ في كلفة زائدةوضيق آخر ;وهوعتق خصوص الرقبة المؤمنة ، فتجري البراءة العقليّة الناشئة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والمؤاخذة بلا برهان .
وذلك ، أي وجه بطلان القياس ما عرفت من أنّ الشكّ في مثل المقام إنّما هو في اتّصاف فتوى غير الأعلم بالحجّية ، وما لم يقم دليل عليها في هذا الحال نقطع بعدمها ، وعدم ترتّب شيء من آثار الحجّية عليها ، فالقياس مع الفارق . هذا حكم صورة الشكّ والتردّد .