(الصفحة 195)
وقال أيضاً في محكيّ الرسالة ـ المعمولة في المسألة ـ : ونحن بعد التتبّع الصادق لما وصل إلينا من كلامهم، ماعلمنا بأحد من أصحابنا ـ ممّن يعتبر قوله ، ويعوّل على فتواه ـ خالف في ذلك، فعلى مدّعي الجواز بيان القائل به ، على وجه لا يلزم منه خرق الإجماع.
ثمّ قال : ولا قائل بجواز تقليد الميّت من أصحابنا السابقين وعلمائنا الصالحين ; فإنّهم ذكروا في كتبهم الأُصوليّة والفقهيّة قاطعين بما ذكرناه(1) .
وقال صاحب المعالم في محكيّها : العمل بفتاوي الموتى مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت ، مع وجود المجتهد الحيّ(2) .
وعن الوحيد البهبهاني في فوائده : أنّ الفقهاء أجمعوا على أنّ الفقيه لو مات لايكون قوله حجّة(3) . وقال في موضع آخر : وربما جعل ذلك من المعلوم من مذهب الشيعة(4) .
وعن ابن أبي جمهور الأحسائي : لابدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله ووجب الرجوع إلى غيره ، إذ الميّت لا قول له(5) ، وعلى هذا انعقد الإجماع من الإماميّة ، وبه نطقت مصنّفاتهم الأُصوليّة ، لا أعلم فيه مخالفاً منهم .
وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مخالفة المحقّق القمّي(رحمه الله) إنّما هي مبتنية على مسلكه ، ومتفرّعة على مبناه من الانسداد الذي لا نقول به ، وكذا مخالفة الأخباريّين مبتنية
- (1) رسائل الشهيد الثاني : 1 / 44 .
-
(2) معالم الدين : 248 .
-
(3 ، 4) الفوائد الحائريّة للبهبهاني : 260 و 397 و 500 .
-
(5) الأقطاب الفقهيّة : 163 .
(الصفحة 196)
على إنكارهم للتقليد الاصطلاحي ، وعلى تقدير خلاف ذلك لا يضرّ بدعوى الإجماع ، واستكشاف رأي المعصوم(عليه السلام) من طريق الحدس ، كما هو مبنى المتأخّرين في باب الإجماع .
وقد أُورد على هذا الدليل بأنّ الإجماع المدّعى على تقدير تحقّقه ليس إجماعاً تعبّديّاً موجباً لاستكشاف قول المعصوم(عليه السلام) به ; لاحتمال أن يكون مستند المجمعين أصالة الاشتغال ، أو ظهور الأدلّة في اشتراط الحياة فيمن يجوز تقليده ، أو غير ذلك ، ومع هذا الاحتمال ينسدّ باب الحدس واستكشاف رأي المعصوم(عليه السلام) ، الذي هو الملاك في الحجّية عندنا ; ضرورة عدم ثبوت وصف الحجّية للإجماع بما هو إجماع(1) ، كما قد حقّق في محلّه .
والجواب عن هذا الإيراد : أ نّه وإن كان احتمال الاستناد إلى الدليل ، أو الأصل مانعاً عن ثبوت وصف الحجّية للإجماع ، إلاّ أ نّه لا مجال لهذا الاحتمال في المقام ، خصوصاً بعد استقرار رأي المخالفين ، واستمرار عملهم على تقليد الميّت ، والرجوع إلى أشخاص معيّنين من الأموات ، ففي الحقيقة يكون هذا من خصائص الشيعة وامتيازات الإماميّة .
والعجب من هذا المورد : أ نّه كيف يناقش في تحقّق الإجماع واستكشاف رأي المعصوم(عليه السلام) ، مع تصريحه فيما يأتي من كلامه(2) ; بأنّ ضرورة مذهب الشيعة تقتضي عدم الأخذ بفتوى المجتهد الميّت ولو فيما إذا كان أعلم ; فإنّه كيف تجتمع دعوى الضرورة والبداهة مع المناقشة في دعوى الإجماع .
- (1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 104 .
-
(2) في ص199 .
(الصفحة 197)
الثاني : اختصاص الأدلّة الدالّة على حجّية فتوى المجتهد ، وجواز الرجوع إليه والأخذ بها ، بخصوص المجتهد المتّصف بوصف الحياة ، وعدم شمولها لغير الواجد لهذا الوصف .
أمّا قوله تعالى في آية النفر : {لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}(1) فلظهوره في أنّ الإنذار ـ الذي يتعقّبه الحذر ـ إنّما هو الإنذار الحاصل من المنذر الحيّ ; لعدم معنى لإنذار الميّت ، كما أ نّه لا معنى لاتّصافه بالفقاهة فعلا ، ويُؤيّده تعليق وجوب الإنذار على الرجوع الظاهر في الحياة .
وكذا قوله تعالى : {فَسْـَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(2) ظاهر فيمن يكون متّصفاً بهذا الوصف فعلا ، خصوصاً بعد إيجاب السؤال ; فإنّه وإن لم يكن للسؤال مدخليّة في حجّية قول أهل الذكر ونظره ، إلاّ أنّ المفروض في الآية إمكان الرجوع إليه والسؤال عنه ، وهذا الوصف لا يتحقّق في الميّت بوجه .
وكذا الروايات الدالّة على حجّية فتوى المجتهد ، أعمّ ممّا يدلّ عليها بنحو العموم ، كقوله(عليه السلام) ـ فيما حكي عن تفسير العسكري(عليه السلام) ـ : فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه إلخ(3) . في الإرجاع إلى أشخاص معيّنين ; فإنّ
ظهورها في الواجد للأوصاف المذكورة فيها فعلا ، خصوصاً الطائفة الثانية منها
واضح لا ينبغي الارتياب فيه .
وكذا السيرة العقلائية ـ التي هي العمدة في أدلّة حجّية فتوى الفقيه كما
- (1) سورة التوبة : 9 / 122 .
-
(2) سورة الأنبياء : 21 / 7 .
-
(3) تقدّم في ص83 .
(الصفحة 198)
عرفت (1) ـ لا تشمل فتوى المجتهد الميّت .
توضيحه : ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ في رسالته في الاجتهاد والتقليد ، ومحصّله : أ نّه لا إشكال في عدم التفاوت في ارتكاز العقلاء ، وحكم العقل بين فتوى الحيّ والميّت ; ضرورة طريقيّة كلّ منهما إلى الواقع من غير فرق بينهما .
لكن مجرّد ارتكازهم وحكمهم العقلي بذلك لا يكفي في جواز العمل ، بل لابدّ من إثبات بنائهم على العمل على طبق فتوى الميّت كالحيّ ، وتعارفه لديهم حتّى يكون عدم ردع الشارع كاشفاً عن إمضائه ، وإلاّ فلو فرض عدم جريان العمل على طبق فتوى الميّت ـ وإن لم يكن يتفاوت في عالم ارتكازهم مع الحيّ أصلا ـ لا يكون للردع مورد حتّى يكشف عدمه عن إمضاء الشارع .
والحاصل : أنّ جواز الاتّكال على الأمارات العقلائيّة موقوف على إمضاء الشارع لفظاً ، أو استكشافه من طريق عدم الردع ، وليس في المقام ما يدلّ عليه لفظاً ، واستكشاف ذلك من طريق عدم الردع موقوف على جري العقلاء عملا على طبق ارتكازهم ، ومع عدمه لا معنى لردع الشارع ، ولا يكون سكوته كاشفاً عن رضاه .
ومن الواضح عدم تعارف الأخذ عن الميّت في الصدر الأوّل ; لعدم كون تدوين الكتب الفتوائيّة متعارفاً حتّى يقال : إنّهم كانوا يراجعون الكتب ; فإنّ الكتب الموجودة في تلك الأزمنة كانت منحصرة بكتب الأحاديث ، ثمّ بعد أزمنة متطاولة صار بناؤهم على تدوين كتب نحو متون الأخبار ، ككتب الصدوقين ، ومن في
- (1) في ص68 ـ 70 ، 117 ـ 119 .
(الصفحة 199)
طبقتهما ، أو قريب العصر بهما ، ثمّ بعد مرور الأزمنة جرت عادتهم على تدوين الكتب التفريعيّة والاستدلاليّة ، إلى أن انتهى تدوين الفتاوى خالية عن الدليل بنحو الرسالة العمليّة ، فلم يكن الأخذ من الأموات ابتداءً ممكناً في الصدر الأوّل ، ولا متعارفاً أصلا(1) .
وفي تقريرات بعض الأعلام ـ في مقام عدم جواز الاستدلال بالسيرة ـ ذكر أ نّ لازمه حصر المجتهد المقلَّد في شخص واحد في الأعصار بأجمعها ; لأنّ أعلم علمائنا من الأموات والأحياء شخص واحد لا محالة ، فإذا فرضنا أ نّه الشيخ أو غيره تعيّن على الجميع الرجوع إليه حسبما تقتضيه السيرة العقلائيّة ، وذلك للعلم الإجمالي بوجود الخلاف بين المجتهدين في الفتيا ، ومع العلم بالمخالفة يجب تقليد الأعلم فقط ، من دون فرق في ذلك بين عصر وعصر ، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به ; لأ نّه خلاف الضرورة من مذهب الشيعة ، ولا يسوغ هذا عندهم بوجه لتكون الأئـمّة ثلاثة عشر ، وبهذا تكون السيرة العقلائيّة مردوعة في الشريعة(2) .
والجواب عن هذا الدليل :
أمّا عن الآيات:فلأنّها لا تنطبق على المدّعى ; ضرورة أنّ المدّعى عبارة عن اشتراط الحياة في المفتي ، ومن يجوز الرجوع إليه ، ومقتضاه عدم جواز الرجوع إلى المجتهد الميّت ، مع أنّها ـ أي الآيات على تقدير دلالتها على جواز التقليد ، وعدم المناقشة فيها بما مرّ مفصّلا(3) ـ تكون غاية مفادها حجّية فتوى المجتهد الحيّ ،
ولا دلالة فيها على اشتراط الحياة بنحو يفيد عدم حجّية فتوى الميّت بوجه ، فلابدّ
- (1) الاجتهاد والتقليد للإمام الخميني(قدس سره) : 132 ـ 134 .
-
(2) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 107 .
-
(3) في ص71 ـ 82 .