(الصفحة 205)
كليهما ; لسكوتها عن الدلالة على النفي ، أو الإثبات فيما هو محلّ الكلام ومورد النقض والإبرام . نعم ، قد عرفت أنّ هنا رواية واحدة عامّة ظاهرة في اشتراط الحياة ، ضعيفة من حيث السند .
الثاني : جريان السيرة المستمرّة العمليّة من العقلاء على الرجوع إلى آراء العلماء وأنظار المطّلعين ، من دون فرق بين الأحياء والأموات (1)، ولا مجال للإشكال فيه ، كما عرفت(2) .
والجواب عنه : أنّ حجّية السيرة موقوفة على إمضاء الشارع وعدم ردعه عنها ، وقد مرّ(3) أنّ الإجماع الكاشف عن موافقة المعصوم(عليه السلام) لرأي المجمعين ، وحكمهم بعدم جواز تقليد الميّت ابتداءً كاف في مقام الردع ، وعدم اتّصاف السيرة بوصف الحجّية ، كما هو ظاهر .
الثالث : استصحاب حجّية فتوى المجتهد الميّت ; لأنّها كانت مقطوعة قبل موته ، وبعده يشكّ في بقائها ، فلا مانع عن استصحابها أصلا ، ويكفي هذا الاستصحاب الذي لازمه جواز الأخذ بفتوى الميّت في الخروج عن الأصل الأوّلي ، الذي كان مرجعه إلى أنّ الشكّ في الحجّية مساوق للقطع بعدمها ; لأ نّه مع جريانه لا يبقى شك في الحجّية ، كما لا يخفى (4).
وقد أُورد على جريان هذا الاستصحاب بوجوه متعدّدة :
منها : أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب مجعولا شرعيّاً ، أو موضوعاً لأثر شرعيّ ، وهذا الشرط متحقّق في المقام على تقدير كون الحجّية
- (1) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 101 .
-
(2، 3) في ص200 ـ 202 .
-
(4) درر الفوائد للشيخ عبد الكريم الحائريّ : 2/703 ـ 705 ; بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 21 ـ 24 .
(الصفحة 206)
المستصحبة متأصّلة في الجعل ، بحيث يصحّ اعتبارها من مجرّد جعلها ، وتترتّب عليها آثارها عقلا من صحّة اعتذار كلّ من المولى والعبد بها ، مع أ نّه غير ظاهر ، بل الظاهر أنّها منتزعة عن الحكم الظاهريّ الراجع إلى الأمر بالعمل بالواقع ـ على تقدير المصادفة ـ نظير الأمر بالاحتياط في بعض موارد الشكّ ، وإلى الترخيص على تقدير المخالفة ; فإنّ ذلك هو منشأ صحّة الاعتذار والاحتجاج (1).
والجواب عنه : أنّ الحجّية ـ كما قد حقّق في محلّه ـ من الأحكام الوضعيّة القابلة لتعلّق الجعل بها مستقلاًّ (2)، ويصحّ انتزاعها من مجرّد جعلها ، فهو مجعول شرعيّ لامانع من جريان الاستصحاب فيها بوجه .
ومنها : ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) في الكفاية ، وحاصلة : أنّ جريان الاستصحاب يتوقّف على بقاء موضوع المستصحب عرفاً ، والموضوع في المقام غير باق ; لأنّ الرأي متقوّم بالحياة بنظر العرف ، والموت عند أهل العرف موجب لانعدام الميّت ورأيه ، وإن لم يكن كذلك واقعاً ; لتقوّم الرأي بالنفس الناطقة غير الزائلة بالموت لتجرّدها ، لكنّ المدار في الاستصحاب من جهة بقاء الموضوع وعدمه هو العرف ، فلا يجدي بقاء النفس عقلا في صحّة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف .
ودعوى أنّ الاعتقاد والرأي وإن كان يزول بالموت لانعدام موضوعه ، إلاّ أ نّه لا حاجة إلى بقاء الرأي ، بل مجرّد حدوثه في حال الحياة يكفي في جواز تقليده بعد موته ، كما هو الحال في الرواية ، حيث لا مدخليّة لبقاء حياة الراوي في حجّية
- (1) مستمسك العروة الوثقى: 1 / 15 ـ 16 .
-
(2) سيرى كامل در اصول فقه: 14 / 326 وما بعدها .
(الصفحة 207)
روايته وجواز الأخذ بها .
مدفوعة بأ نّه لا شبهة في أ نّه لابدّ في جواز التقليد من بقاء الرأي ، ولا يكفي مجرّد الحدوث ، ولذا لو زال بجنون وتبدلّ ، أو مرض أو هرم لما جاز قطعاً(1) .
ويؤيّده أنّ حجّية الرأي بالإضافة إلى العامّي ليست بأعظم منها بالإضافة إليه نفسه ، ومن المعلوم أنّ حجّية الرأي بالإضافة إلى نفسه لا يكفي فيها مجرّد الحدوث ; ضرورة أنّ الحجّية الثابتة لرأي المجتهد بالإضافة إلى نفسه ، موضوعها في كلّ زمان ، الرأي في ذلك الزمان ، لا صرف الحدوث ; ضرورة أ نّه لو زال رأيه بشبهة ونحوها لزالت الحجّية عنه قطعاً ، مضافاً إلى أنّ الموت ملازم لارتفاع الرأي غالباً قبله ولو آناً مّا ، فلا مجال لاستصحابه .
وأجيب عن هذا الإيراد بوجهين :
أحدهما : ما في المستمسك من أنّ الإجماع على عدم حجّية رأي المجتهد مع اختلال الشرائط ـ لو تمّ ـ لا يقتضي عدم الحجّية مع ارتفاع الحياة إذا كان محلاًّ للخلاف ، وارتفاع الحجّية بتبدّل الرأي إنّما هو لكون الحجّية مشروطة بعدم ظهور الخطأ له في المستند ، لا لكونها منوطة بالرأي حدوثاً وبقاءً ، ولذا ترى الشهادة تسقط عن مقام الحجّية إذا ظهر للشاهد الخطأ في المستند ، مع أنّها حجّة بحدوثها إلى الأبد ، ولا ترتفع حجّيتها بموت الشاهد أو نسيانه ، وارتفاع الرأي قبل الموت غالباً إن قام إجماع على قدحه فهو خارج عن محلّ الكلام ـ والكلام في غيره من الفروض ـ وإن لم يقم إجماع على ذلك لم يقدح في جريان الاستصحاب .
وبالجملة : احتمال حجّية الرأي بحدوثه إلى الأبد لا رافع له ، فلا مانع
- (1) كفاية الاُصول : 545 ـ 546 .
(الصفحة 208)
من الاستصحاب(1) .
ثانيهما : ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ من أنّ مناط عمل العقلاء على رأي كلّ ذي صنعة في صنعته هو أماريّته وطريقيّته إلى الواقع ، وهو المناط في فتوى الفقهاء ; سواء كان دليل اعتباره بناء العقلاء الممضى ، أو الأدلّة اللفظيّة ; فإنّ مفادها أيضاً كذلك ، ففتوى الفقيه بأنّ صلاة الجمعة واجبة ، طريق إلى الحكم الشرعي وحجّة عليه ، وإنّما تتقوّم طريقيّتها وطريقيّة كلّ رأي خبير إلى الواقع إذا أفتى وأخبر بنحو الجزم ، لكنّ الوجود الحدوثي للفتوى بنحو الجزم يوجب كونها طريقاً إلى الواقع أبداً ، ولا ينسلخ عنها ذلك إلاّ بتجدّد رأيه ، أو الترديد فيه ، وإلاّ فهو طريق إلى الواقع ، كان صاحب الرأي حيّاً أو ميّتاً .
فإذا شككنا في جواز العمل به ; من حيث احتمال دخالة الحياة شرعاً في جوازه ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ، فرأي العلاّمة وقوله وكتاب قواعده كلّ كاشف عن الأحكام الواقعيّة ، ووجوده الحدوثي كاف في كونه طريقاً ، وهو المناط في جواز العمل شرعاً ، ولدى العقلاء .
وإن شئت قلت : جزم العلاّمة أو إظهار فتواه جزماً ، جعل كتابه حجّة وطريقاً إلى الواقع ، وجائزَ العمل في زمان حياته ، ويشكّ في جواز العمل على طبقه بعد موته فيستصحب(2) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه دام ظلّه .
أقول : وفي كلا الوجهين نظر :
أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ التفكيك بين المقامين من جهة قيام الإجماع هناك وعدمه
- (1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 17 .
-
(2) الاجتهاد والتقليد للإمام الخميني: 122 ـ 123 .
(الصفحة 209)
هنا ممنوع ; لِما عرفت من قيام الإجماع هنا أيضاً على عدم الجواز(1) ، فلا فرق بينهما ، ولو فرض عدم تحقّق الإجماع في المقام ، فأيّ مانع من استفادة حكمه من تلك الموارد التي يكون الرأي فيها باقياً ، ولا يجوز للمقلّد الرجوع إليه والأخذ به ، مع أ نّه في حال الحدوث كان جائز الأخذ ، كما إذا عرض له الفسق مثلا ، بل لا فرق ظاهراً بين المقام ، وبين الموارد التي لا يكون الرأي باقياً لأجل جنون ، أو مرض ، أو هرم .
نعم ، في خصوص صورة التبدّل أو الترديد لا مجال لاستفادة حكم المقام منه ; لِما أفاده صاحب الوجه . وبالجملة : فالموارد مختلفة ، والملاك في أكثرها موجود
في المقام .
وأمّا الوجه الثاني : فلأنّه لو استندنا في المقام إلى علم العقلاء واستمرار سيرتهم على الرجوع إلى الخبير في كلّ فنّ وصنعة ، واستكشفنا أنّ المناط في عملهم هو الأماريّة والطريقيّة إلى الواقع ، وهي متقوّمة بالوجود الحدوثي وأصل تحقّق النظر والفتوى بنحو الجزم ، فلا حاجة لنا إلى الاستصحاب ، ولا يبقى شكّ في بقاء حجّية الرأي بعد موت صاحبه . غاية الأمر أنّ عدم الردع على فرض تماميّته يكشف عن الرضا والإمضاء ، فالحاجة إلى الاستصحاب إنّما هو مع قطع النظر عن السيرة العقلائيّة واستكشاف مناط عملهم ، وبهذه الملاحظة لا دليل على بقاء الموضوع عرفاً ، بعد ما يكون الموت عند أهل العرف موجباً لانعدام الشخص ورأيه رأساً ، كما هو غير خفيّ .
ومنها : أنّ الحجّية المجعولة الراجعة إلى جواز العمل على طبق فتوى المجتهد إن